مَنْ هيَ؟
مَن هي سارة؟
مَن هي الفتاة التي مشينا معها هذا الشوط ولا نعرفها، والتي رأينا منها خطوطًا ولم نرَ منها صورة، والتي قرأنا عنها كلمات كثيرة ولكنها كلمات بينها كثير من الفواصل، وحروفًا كثيرة ولكنها يعوزها كثير من الإعجام؟
هي شيء يُعرَف ولا يُعرَف …
أنتكلم بلسان الصوفية؟ كلا، بل بلسان العُرف المقرر والمشاهدات اليومية، فإن سارة بنت من بنات الواقع الحي الملموس … وبنات الواقع هن اللواتي نعرفهن جيدًا ولا نعرفهن جيدًا، ولو كانت من بنات الخيال لما بقي منها شيء مجهول.
وليس بالنافع أن نصفها كما كان يراها همام في أيام صفوه وهيامه، أو نصفها كما كان يراها في أيام نفوره واشمئزازه، أو نصفها كما كان يراها وهو على القرب سائم، أو كما يراها وهو على البعد مشوق، ولكننا قد نصفها مزيجًا من جميع هؤلاء فنخلص من وصفها إلى صورة تشبه «سارة» التي خلقها الله، وتشبه سارة التي يذكرها همام بعد زوال الغاشية وانقضاء السنوات.
هي جميلة؛ جميلة لا مراء، ليست أجمل مَن رأى همام في حياته ولا أجمل مَن رأى في أيام فتنته وشغفه، ولكنها جميلة جمالًا لا يختلط بغيره في ملامح النساء، فلو عمدتَ إلى ترتيب ألف امرأة هي منهن لنظمتهن واحدة بعد واحدة في مراتب الجمال المألوف، ونحيَّت سارة عن الصف وحدها … وإن كنت لا تنكر — ولا تبالي أن تنكر — أنها تأتي بعد مئات.
لونها كلون الشهد المُصفَّى، يأخذ من محاسن الألوان البيضاء والسمراء والحمراء والصفراء في مسحةٍ واحدةٍ.
وعيناها نجلاوان وطفاوان، تخفيان الأسرار ولا تخفيان النزعات، فيهما خطفة الصقر ودعة الحمامة.
وفمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسقٍ وانتظامٍ، ولها ذقن كطرف الكمثرى الصغيرة، واستدارة وجه وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر، وبين وجهها النضير وجسمها الغضير جِيدٌ كأنه الحلية الفنية سُبِكَت لتنسجم بينهما وفاقًا لتمام الحُسن من كليهما، فليس هو جِيدًا كأي جِيد، ولكنه الجِيد الذي يوائم بين ذلك الوجه وذلك القوام.
يتخطاها مَن يراها على عجل، ثم يعود مدركًا أنه قد تخطى شيئًا لا يُفَات، فليست من الروعة بحيث تقسرك على التحديق إليها، وليست من سهولة المرأى بحيث ترسلك ناجيًا في سبيلك … قوام بين هذا وذاك، أو طراز آخر غير هذا وذاك.
لو تكفَّل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفَّف شيئًا من قوامها الرداح بين الربعة والطويل، قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة.
ولو تكفَّل بها قهرمان القصر عند كسرى أو عبد الحميد لما ضاره أن يزيد فيها حيث ينقص زميله الحديث، قبل أن يزفها إلى الشاهنشاه.
حزمة من أعصاب تُسمَّى امرأة.
وهيهات أن تُسمَّى شيئًا غير امرأة.
استغرقتها الأنوثة فليس فيها إلا أنوثة، ولعلها أنثى ونصف أنثى؛ لأنها أكثر من امرأةٍ واحدةٍ في فضائل الجنس وعيوبه، لا لأنها أضعف من امرأةٍ واحدةٍ.
ولقد يُخيَّل إلى الإنسان في أحايين أن يتمم مخلوقًا ببضعة من مخلوقٍ، وأن يسوِّي تكوينًا بتكوين، ويمزج عنصرًا من الأبدان بعنصر، فامرأة يتممها رجل، وآدمي يتممه حيوان، وطلعة فتاة يتممها قوام وأبوة أحرى أن تنتقل إلى أمومة، وأشباه ذلك من أخيلة المزج والتركيب.
أما هذه المخلوقة فلو انتقل عصب منها إلى تكوين ليث غضنفر ليبقى هنالك عصب أنثى بين جميع ما حوله من ألواحٍ وأمشاجٍ، ولو بقي ألف سنة.
ولو أنها تفرقت بين أجسامٍ شتى لكانت فيها خميرة أنوثة يوشك أن تطغى على جميع تلك الأجسام.
شغلتها جواذب الجسد قبل أن تفقه معناها وتسمع باسمها ومسماها، فلما كانت بُنيَّة درَّاجة في المدرسة ذهبت يومًا إلى كرسي الاعتراف تستغفر الكاهن عن مخالفة وصية من الوصايا العشر التي حفظتها، وتتوب من مقارفة الخطيئة التي دعوها في المدرسة «ترفًا» على سبيل الكناية! فذعر الكاهن ولم يصدق ما يسمع، واستعادها مرةً بعد مرةٍ وهي آخذة في ذعرٍ كذعر الكاهن من مس العدوى ورهبة الصوت … ماذا؟ فيما دون العاشرة وبين جدران مدرسة ليس فيها إلا البنات تزل بُنَيَّة لَمْ يكعب ثدياها وتقترف أم الخطايا التي يقترفها النساء والرجال.
وما سكنت بلابل الكاهن المذعور حتى بدا له من لهجتها أنها لا تفقه ما تقول، وأنها بمحاكاة المعترفات لأنها أَحَبَّت أن تصنع مثل ما يصنعن، وبحثت عما تعترف به فلم تجد غير هذه الخطيئة التي تجهلها، وقد نجت الخاطئة الصغيرة بعركة أذن وجيعة، ثم ذهبت تسائل الزميلات ما هذا الذي ذعر منه الكاهن ذلك الذعر الشديد؟ فلا تفوز بغير ضحكات وغمزات.
قال لها همام وهي تحكي له حكايتها: لقد حسب لك اعترافك قبل أوانه … ولئن اعترفتِ بالأمس وما أخطأتِ فلأنتِ اليوم تخطئين وما تعترفين.
وعاشت بعد ذلك تنظر إلى خطايا الأديان نظرة المرأة الوثنية التي نشأت قبل أن ينشأ الأنبياء، فهي ليست كالمتدينة التي خامرها الشك في دينها، ولكنها كالمرأة التي لَمْ تتدين قط ولا قِبَل لها بالتدين، عن نزعةٍ طبيعيةٍ فيها لا عن بحثٍ ونقاشٍ واطلاعٍ، ومثلها كمثل الطفل يأكل الحلوى خلسةً إن لَمْ يأكلها جهرةً، وآباؤه مع ذلك هم الملومون لأنهم منعوه، وليس بالملوم لأنه اختلس مالًا بدَّله من اختلاسه!
ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولا كضجر المدمن يخدره العقار، ولكنها كرعدة الحمى وصرعة الفرح الجموح يتبعها النشاط والمراح كما يتبعها الإعياء والبكاء.
لها فراسة نفَّاذة في كل ما بين الجنسين من علاقةٍ، لو حصَّلتها بالتعليم والتلقين لاستغرقت أعمارًا إلى جانب عمرها في القراءة، ولكنها تفطن لما في نفس المرأة لأنها امرأة، وتفطن لما في نفس الرجل لأنها امرأة، وبعينها ذكاء موصول بالفطرة وتعبير يتضح في ذهنها وإن يتضح بعض الأحايين على لسانها.
والحق أن هذه الفتاة كانت في معرفتها بطبيعتها الأنثوية أعجوبة، وكان همام يسمع منها ما قل أن تفهمه امرأة وإن شعرت به، وقل أن تقوله وإن فهمته، وقل أن تحسن التعبير عنه وإن أرادت أن تقوله؛ إذ المعهود في المرأة أنها تشعر ولا تفهم شعورها، أو أنها تفهمه ولا تعمد إلى الصراحة فيه، أو أنها تعمد إلى الصراحة فيه ولكن لا تحسن التعبير، أما هذه الفتاة فعلم الأنوثة عندها كعلم الحساب عند بعض الأطفال الذين يجمعون ويضربون عشرات الأرقام بغير تدوينٍ ولا مراجعة، مسألة بداهة سهلة لا إجهاد فيها للفكر ولا اعتساف ولا تعليم!
في سهرةٍ من سهرات الصور المتحركة شاهدا رواية من روايات الغرام بين الكهول بطلها «أدولف منجو» الممثل المشهور بتمثيل هذه الأدوار، أو المشهور بقدرته على غزو قلوب النساء الناضجات.
وكان «منجو» بغيضًا إلى همام كما هو بغيض إلى كثير من النظارة في دور الصور، فأراد همام أن يناوئ صاحبته وقال لها: أما والله إن النساء لسخيفات إن كان لمثل هذا الرجل هذه الحظوة عندهن.
فأجابته متحدية: ولِمَ لا تكون له هذه الحظوة عند النساء؟ ألَا تعجب المرأة إلا بفتى صبوح أو بفتى متين الأركان؟ هذا خطؤكم معشر الرجال، إن الفتيان الحِسَان الأشداء قد يفتنون المرأة، وقد يخلبونها، وقد يهيجون نفسها، ولكنهم لا يقربونها إليهم ولا إلى نفسها، إن أحدهم لينظر إليها كأنه غريب يمشي في بلدٍ غريبٍ يخشى أن يتقدم أو يتأخر، متهيبًا يعديها بالتهيب فتقوم بينهما الحواجز والسدود ولا يسهل التقريب بينهما بعد ذلك.
أو ينظر إليها نظرة القانص الفاتك فيربكها ويزعزع شعورها ويوقع الهزيمة في سريرتها.
أما الرجل الخبير بالنساء من أمثال «أدولف منجو» فإنه ينظر إليها بعد أن نظر إلى مئاتٍ من قبلها، فإذا به يعرفها مكشوفة مُعرَّاة من كل سترٍ ومن كل طلاء، وإذا بها تحس كل الإحساس أنه يعرفها كما تعرف نفسها في مخدعها، وإذا هي قريبة منه لا تحتاج إلى تقريب، بل قريبة منه بوحي لا تدركه ولا تلتفت إليه، قريبة منه كما يكون الرجل والمرأة في الخلوة بعد عشرة أعوام.
والرجل الخبير بالنساء يشبع منهن فيزهد فيهن ولا يتهالك عليهن، فإذا أحست المرأة بالفتور منه في الطلب والمغازلة خشيت أن تكون هي المعيبة المجفوة في نظره بالقياس إلى مَن عرف من النساء، ولم تتهمه في ذوقه بل اتهمت نفسها في جمالها و«جاذبيتها» كما هو دأب المرأة من سوء الظن بنفسها أمام هؤلاء الرجال، ونشأت عندها الرغبة في اجتذابه واستطلاع رأيه، واستسلمت له في سهولةٍ وطواعيةٍ، لعلمها أن الحيلة معه لا تخفى عليه، بعدما شهد الكثير من حيل النساء.
هل بحثت سارة في هذا الموضوع بحث الفلاسفة؟ هل قرأته في كتابٍ من كتب الصور المتحركة؟ يجوز! ولكن فطنتها وحسن روايتها لما قرأت لا تزالان عجيبتين بين شبيهاتها من الفتيات.
وتمييزها لملامح الرجولة ومظاهرها تمييز لا يخطئ؛ لأنه أشبه بالغريزة التي لَمْ تعرف غير الصواب، لأنها لَمْ تعرف غير صوابٍ واحدٍ، كصواب النحلة في بناء الخلايا.
فالرجال الذين يشبهون النساء لا يستحقون منها حتى نظرة الزراية؛ لأنها لا تشعر لهم بوجود، وما عدا هؤلاء من رجال فهم نماذج عدة تبلغ المئات ولكنهم مشمولون جميعًا في رجولةٍ واحدةٍ خلاصتها القوة والثقة والبروز، والطغيان القابل للرحمة والحنان، وقبس من أريحية الخيال، ونفحة من حماسة الروح تحسبان في الزينة عرضًا ولا تضمنان الرجحان في الميزان.
ولهذا تضل بعض الطريق الذي تسلكه مع مَن تهواه ولو سلكته مرات في النهار؛ لأنها تلقي كل اعتمادها على صاحبها حتى لتكاد تنظر بعينيه وتمشي بقديمه، وأبغض مَن تبغض — وهي قارئة حصيفة — أولئك النسوة الثائرات على الرجال المطالبات بما يسمينه حقوق الحرية، فهي تقول إنها لو سُئِلَت أن تكون رجلًا ما قبلت، وأنها لو كانت تثور لثارت على الرجال لأنهم يستمعون إلى هذا الهراء.
ومن لوازمها التي لا تفارقها أنها ما حضرت قط رواية فيها نزاع بين رجلٍ وامرأة وعاشقٍ وعاشقة إلا كان عطفها في جانب الرجل وإن غدر وإن خان، ويشق عليها منظر العاشق الموله المغموم فتهتف من قلبها لا من لسانها وحده: ما من امرأةٍ تستحق هذا العذاب!
تحب التدليل كما تحبه كل بنت من بنات حواء، ولكنها تكره التدليل السخي الفيَّاض كما تكره التدليل المعسول الناصع الحلاوة، وإنما تحب أن يقطر لها التدليل تقطيرًا، وأن يُشَاب أبدًا ببعض التوابل والأفاويه.
سألت صديقها وقد صفت واستسلمت لعطفه عليها: أتحزن عليَّ إذا مت؟
فلم يدرِ كيف يجيبها، ولكنه قال: هذا سؤال سابق لأوانه يا بنية.
قالت: ستبكي ولا شك لا أسألك في ذلك … ولكن كم عَبرة يا ترى تميزني بها على مَن بكيتهم؟
قال وهو لا يُظهِر المزح ولا يحاول أن يكتمه: أراجع ما عندي من «رصيد» العَبرات وأجيبكِ قبل الوقت المناسب بقليل!
قالت: أنت لا تريح.
قال: ولكني أراكِ مرتاحة … أأنتِ تموتين؟ ومَن الذي يأذن لكِ أن تموتي؟
وكانت مرتاحة حقًّا لما سمعت. ولو أنه أسمعها غير ذلك حسرات التفجع والتعوذ ومواعيد الحزن القاتل وعهود الوفاء الدائم لفترت وملَّت وانقلبت عليه، ولكنه إذا ضمها وربت عليها وضن بعد ذلك بالكلام فقد وفَّاها من التدليل غاية مناها، وضمن ألَّا تفسد عليه صفاء الساعة التي هي فيها.
وكان همام يمتحن معارفها الغرامية كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر مرة على أبعد تقدير، ويرشحها على أثر كل امتحان لوظيفةٍ من الوظائف التي «تؤهلها» لها تلك المعارف الكثيرة … إلا أنه استقر آخر الأمر على أنها أصلح ما تكون مديرة للإضاءة في مسرح تمثيل.
لأنها تعلم مواقع الرؤية علمًا لا خطأ فيه، وربما وقفت في المكان المكشوف والنوافذ مطلة عليه من جوانبٍ شتى، ثم لا تبالي أن تمازح صاحبها وتغريه بمزاحها وتجميشها، فإذا أحجم وتردد ضحكت منه ساخرة، وأولعت بتعييره والتهكم عليه؛ لأنه لَمْ يفهم لأول وهلة كما فهمت هي أن الأشعة المردودة عن زجاج النوافذ هناك تحجب النظر من ورائها!
تعلمت وهامت بأوروبا، فأوروبا عندها نبيٌّ معصوم؛ كل شيء فيها خير من كل شيء في غيرها، وهذه التي تغفل عن الأديان حتى يخيل إليك أنها لَمْ تسمع قط بمكة وبيت المقدس وطور سيناء، هذه الوثنية في عالم الدين تراها في عالم الأزياء، فتعلم لأول وهلة أنها لا تغفل لحظةً واحدةً عن وحي باريس ومناسك الأزياء في العالم الأوروبي بأسره؛ لأنها تتحرج من وضع شريطٍ في غير موضعه أو لبس زيٍّ في غير موعده تحرج الزاهد الصالح من ذنبٍ ينفيه عن رحمة الله ويخلده في جحيم عذابه.
وكان صاحبها همام على نقيضها؛ يهزأ بالعُرف وقد يتعمد الخروج عليه ولو في المجامع العامة، لحق بها ليلة بدار الأوبرا وهو في ملابسه الصباحية فكادت حين رأته إلى جانبها تجنُّ من الغيظ وتتجاهل معرفتها به ومصاحبتها إياه، وجعلت تنظر إليه نظرات فيها من الاستغراب والاستهوال والإكبار لهذه الجرأة أو لهذا التهور بمقدار ما فيها من الأسف والحنق والاستنكار، ومالت إليه تقول: ماذا يظن هؤلاء الناس؟ إنهم لن يقولوا إلا أن هذه الفتاة مسكينة مع هذا الرجل! قال متظاهرًا بالاعتذار وقد علم أن المعابثة أنفع أساليب الاعتذار معها في هذه الحالة: لا عليكِ أيتها الفتاة المسكينة، في المرة التالية سأحمل في يدي كسوة السهرة لأدفع عنكِ هذه المسبَّة … إلا أنهما — حين خرجا من الدار — غلب عليها حب التحدي على الرغم من رغبتها في التستر والمداراة، فخرجت وهي آخذة بذراعه كأنما تغيظه هو أو تغيظ المتفرجين!
وتقرأ أوروبا كما تعبد أزياءها، ولكن ماذا تقرأ؟ إن شئت فلا مانع من بيرون وشوبنهور، على شريطة أن يوصيها بقراءتهما رجل يفهمها وتفهمه، وأن تقرأ في ديوان بيرون قصة دون جوان، وأن تقرأ في القصة أنباء خلاعته وعيثه بين مَخَادِع الجواري الحِسَان في قصر السلطان، أما شوبنهور فيجب أن يكون كله على وتيرة مقاله في الحب والشهوة بين الذكر والأنثى وليتشاءم بعد ذلك ما استطاع!
عاطفتها حية غير أنها مشغولة بشاغلٍ واحدٍ، فلا تهمها الشفقة على المظلومين والمنكوبين ولا تهمها المظالم والنكبات، لا لأنها قاسية ولا لأنها مغلقة جاسية، ولكن لأن مكان الشفقة مشغول مستغرق، فلو خلا جانب منه برهة لما استعصى على الشفقة أن تنفذ إليه أو تطغى عليه.
وكأنها الطيارة المحلقة، وكأن نزواتها هي القوة الدافعة لها في الفضاء، فإذا دفعتها فهي ناهيك من حركةٍ وصعودٍ وهبوطٍ، وإن وقفت لحظة فهي حجر ملقى على التراب، ولسان حالها في العواطف الإنسانية أن تقول لرجلها: أشفق أنت وتمرد على الظالم واعن بما تشاء، وأنا وراءك إلى حيث تقودك قدماك.
وهي وثنية في مقاييس الأخلاق كما هي وثنية في التدين، لا تؤمن بالعصمة الإنسانية في أحد ولا في صفة، وشديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات … استطرد الحديث يومًا إلى جان دارك فقالت هازئة: كم رجلًا يا ترى عرف أنها عذراء؟!
فقال لها همام: إنها عذراء بشهادة الطب وشهادة الخواتين الموقرات.
فقالت: لقد شهد لها أضعاف هؤلاء بالمعجزات، فهل تصدق معجزاتها؟
وكان من دأبها أن تحب الغلبة في المناقشة على طريقة كل أنثى مع تنوع الأسلوب والعبارة، فإذا عزَّ عليها الجواب راغت منه وغيَّرت مجرى الحديث، أو تقول حينًا: أسكتَّني وما أقنعتني! وحينًا آخر: ناقشني يا أخي ناقشني ولكن بحق السماء والأرض عليك لا تكتفني، دع لي يا أخي حرية الكلام! … فهي تريد جوابًا يروقها ويترك لها باب الكلام مفتوحًا بغير انتهاء.
فلما سألتْه: هل تصدق معجزاتها؟ قال: نعم … أصدق أنها صنعت المعجزات، وجاءت بخوارق العادات، ولكنها معجزات إنسانية لها أسباب إنسانية، وإن تضاربت فيها أقوال المفسرين من المؤمنين وغير المؤمنين.
ثم قال: والفرق بعيد مع هذا بين شاهد يقص ما تراه العين وشاهد يقص ما يخيله له الإيمان … فشاهد العين مصدق، وشاهد الإيمان لا يلزمنا تصديقه إلا إذا جاريناه في إيمانه.
قالت: هذا قميص الكتاف يا أخي! هذا قميص الكتاف!
•••
ومن الصعب أن تفهم ما يرضيها إذا اتهمت أمامك أخلاق الناس جميعها وراحت تقدح في دعاوي الصداقة والوفاء والفداء، فليس يرضيها أن تكون على رأيها لأنها تحب الرجل أريحيًّا ذا نخوة وحماسة وطموح إلى عظائم الآمال والرغائب، وتصديق بالوفاء والفداء.
وليس يرضيها أن تناقضها وتضطرها إلى التسليم؛ لأن الإكراه مكروه على كل حال.
ولكنها إذا كانت تجاري طبيعة المرأة في حب الجدل والثرثرة والعناد فهي تجاري طبيعة المرأة أيضًا في إعجابها بطموح الرجل وصلابته وأحلامه، وربما استراحت إلى الشعور بقوة عقله كما تستريح إلى الشعور بكل بأس فيه، فما كان يدري همام هل يناقضها أو يجاريها فيما تقول … وتلك حيرة يعالجها كل مَن عالج النساء.
قصَّت عليه مرة قصة صديق لزوجها أرسله إليها «وسطاء الخير» ليسفر في الصلح بينها وبينه.
قالت: فهل تدري ما صنع؟ إنه جاء يغازلني ينفخ في جمرة الغضب بيني وبين زوجي!
ثم قالت: ما أكذب الصداقة في هذه الدنيا!
قال همام وقد أراد أن يعابثها ويسليها: إن صاحبنا لمعذور، وإن الإغراء بالخيانة لعظيم … فليت جميع الأصدقاء لا يخونون إلا بإغراءٍ كهذا الإغراء.
ثم ضحك وضحكت، وتماجنت في الضحك وراحت تقول له: أراك ضننتَ عليَّ بقميص الكتاف اليوم؟ لا، لا، إنني أريد اليوم قميص الكتاف … قل، قل أليست كل صداقة في هذه الدنيا لغرضٍ؟ هل يصادق الناس أحدًا إلا لمالٍ أو جمالٍ أو سلطانٍ أو نحو ذلك من الذرائع واللبانات؟
قال همام: ومَن لَمْ يكن له مال ولا جمال ولا سلطان ولا مزية من المزايا، فهل هو إنسان يستحق صداقة إنسان؟
فوثبت وصفقت كما يصفق الطفل الأرعن قد ظفر بالأمنية الممنوعة، وجعلت تقول: ها هو ذا قميص الكتاف، ها أنت إذن أخيرًا يا بني! وأقبلت عليه تُقبِّله وتناوشه، وتبذل له ذخيرة من السرور، كأنها فاكهة مترعة برحيقها ليس لها قشر ولا بذور.
وهي على ولعها بحديث الأكاذيب الشائعة في أخلاق الناس وعودتها إليه آونة بعد آونة لَمْ تنعِ على الناس أكاذيبهم قط بمرارة الناقم واستخفاف المتشائم، وإنما تتحدث بها كما تتحدث بصفحةٍ من الطعام الشهي لَمْ يتقنها الطاهي … ولا حرج أن تمضي في حديث انتقادها بعد ازدرادها.
فهي لهذا يصح أن تُسمَّى «وثنية» في تقويم مقاييس الأخلاق، ولا يصح أن تُسمَّى متشائمة أو ناقمة على الناس.
•••
أما مذهبها في «الكرامة» فمذهبٌ خليقٌ أن يخيف مَن يحب لها الكرامة، ويود أن يأوي من كرامتها إلى حصنٍ منيعٍ على الطراق.
وأحسن ما توصف به الكرامة على مذهبها أنها «كسوة اجتماعية» لا يخلعها المرء في المجالس ولا يلبسها ممزقة أو مرقعة أو موصومة، فعيوب الكرامة وعيوب الكساء سواء في هذا القياس!
إذا قيل أمامها إن فلانة أباحت نفسها لخادمها قالت — وهي تزعم المناقشة حُبًّا للمناقشة: إن المرأة قد تهفو هذه الهفوة وهي لا تنظر إلى مثل ذلك الرجل إلا كما تنظر إلى حذاء، وليس كل رجل يصل إلى فراش المرأة يسودها، بل هو قد يكون خادمها في ذلك الفراش.
وإذا قيل لها إن فلانًا ضرب حبيبته قالت: وهل ضربها إلا لأنه يحبها؟ إن المرء ليضرب نفسه في الحائط إذا بلغ به الغيظ ذلك المبلغ، لو كان ضرب النفس يشفي غلة المغيظ!
وإذا قيل لها إن امرأة في التاريخ أو في قيد الحياة تهالكت على اللذات قالت: إن المرأة لا تتهالك على اللذات إلا أن تفقد الرجل الذي يفوق اللذة في روعها، فتحب الرجل لأجل اللذة بدلًا من أن تحب اللذة لأجل الرجل الذي تهواه وتستكين إليه.
وما نفرت قط من مذمة خبيثة عن مبدأ وعقيدة، وإنما تنفر من جميع الأشياء التي تأباها كما ينفر المرء من طعام يعافه؛ فهي مسألة ذوق ورغبة وليست مسألة شرف واعتقاد.
ومثل هذه الكرامة لن تعصم صاحبها أن يقارف أخبث المنكرات كلما حلت له وغفلت عنه عين الرقيب.
ويحار طبيب الأخلاق كما يحار طبيب الأبدان في إيواء هذا المزاج إلى مأواه من الصحة والداء، أفمَن كانت كذلك في نزغاتها وخلجاتها أتكون في رأي الطب امرأة سليمة مستقيمة على سواء الطبيعة؟ إن الإغراق يستلزم الزيغ والاختلال في التركيب … ولكن أي اختلال عسى أن يكون في تركيب الجسم الذي يندمل جرحه بعد يومٍ ويقضي النهار والليل في صبارة الشتاء بلباس الصيف ولا يدري ما الزكام؟ كل اختلالٍ يجاور هذه المناعة هو اختلال عجيب الجوار عميق القرار.
أكبر الظن أن الفتاة على ما بها من جموحٍ وشططٍ كانت وشيكة أن تستقيم وتتزن لو رُزِقَت زوجًا يوائم شوقها إلى الرجولة ويغلق عليها منافذ الغواية، ولكنها خابت في الزواج فشقيت، ولجت بها الشقاوة حين كفرت بصداقة الصديقات ومواساة الشقيقات، فعاشت في عالمٍ قد أقفر من جنس حواء إلا أن تكون منافسة مريبة أو عاذلة رقيبة، ولم يبقَ فيه إلا رجال!