التخريف١
كنت أقرأ في كتاب «لين» (مصر الحديثة — عاداتها وتقاليدها)، فراعني منه قوله: «إن العرب شعب مليء ذهنه بالخرافات، وليس في أمم العرب من يباري المصريين في هذا الباب».
ثم عَدَّدَ مناحي تخريفهم، فالعفاريت تحتل جزءًا كبيرًا من تفكيرهم، وهي تسكن الأنهار والمنازل والكهوف والآبار والمقابر، وللموتى عفاريت، وللقتلى عفاريت، وفي كل جُحْر عفريت.
والعقيدة في المغفلين والمجانين الهادئين أنهم أولياء مقربون فاشية بينهم، حتى ليتبركون بهم، ويتقربون إلى الله بالإحسان إليهم، وطلب الدعاء منهم.
ومشايخ الطرق وكراماتهم، والصوفية وأعاجيبهم، والأقطاب وسلطانهم، وقصص الأولياء وغرائبهم، ولعبهم بقوانين الطبيعة وتفننهم، كل أولئك تملأ حياتهم، وتستولي على عقولهم، وتلون سلوكهم.
والأضرحة وزياراتها، والتوسل بها وبساكنيها، والتذلل في طلب قضاء حوائجهم منها، والموالد وما يجري فيها.
والبكرية والعنانية والسادات ونقابة الأشراف ومشايخ السجادة، وما إلى ذلك من طرقٍ وشعائرَ ومراسمَ وأعمالٍ وأذكارٍ.
وثم ضروب أخر من هذا الباب، كالأحجبة وأنواعها، والأحراز لدفع العين على اختلاف أشكالها، والتعاويذ لشفاء الأمراض وجلب الأزواج وبث العداء واسترضاء النافر وتحنين القلوب، ثم طب الركة وأفانينه وأعاجيبه، والاعتقاد في ساعات النحس وساعات الوفق، ثم السحر والطوالع والتنجيم.
لقد وصف «لين» هذا الوصف منذ مائة عام، ومن غير شك قد قل التخريف في زماننا عما كان عليه في أيام «لين» بفضل انتشار الثقافة ورقي العقل، فالاعتقاد في العفاريت لم يبقَ إلا في أوساط العوام وأشباههم، وكذلك الشأن في كثير مما ذكر من ضروب التخريف، ومع هذا فلا يزال التخريف أكثر مما يلزم، ولا يزال وصف «لين» حافظًا لشيء من جدته، نعم لم تخلُ الشعوب الممدنة كلها من ضروب من التخريف، ولكنه في مصر كثير كثرة تستحق بذل الجهد في محاربته والقضاء عليه.
من الكثير على أمة أن تتحمل هذه الأنواع كلها بأعبائها وتكاليفها، ولكل نوع ضحاياه وآثامه، فكم نفوس ضاعت بطب الركة! وكم بيوت خربت بالعفاريت التي ليست إلا في أذهاننا! وكم أموال ذهبت هدرًا، فخرجت من مستحقيها إلى غير مستحقيها بصندوق النذور، ودجل مدعي الصوفية، وحيل فاتحي الكنوز والمتظاهرين بالورع! وكم أسر تهدمت بقارئي الكف وفاتحي البخت وشيخات الزار وصانعي التعاويذ! وفوق هذا كله خراب العقل بهذه العقائد.
أساس التخريف «الخوف من القوى الغيبية ورجاء النفع منها» والاعتقاد بأنها قادرة على النفع والضرر، فهو يتملقها بالتوسل والقرابين والعزائم، ويدفع شرها بالنذور والتعاويذ، ويستجلب خيرها بالزيارة وتقبيل الأيدي والأحجار والخضوع التام وطلب البركة وما إلى ذلك، وعجيب أن يفشو هذا كله في قوم أساس دينهم «لا إله إلا الله» وأن الله وحده القادر، وأنه النافع الضار، وأن لا واسطة بين العبد وربه، وأن الخير والشر كله بيد الله، وأنه خلق الكون ووضع له قوانين لا تتخلف، فلا مبدل لكلمات الله، ونحو ذلك من المبادئ!
كيف يلتئم مع هذه العقائد عفاريت تتصرف، ومشايخ طرق تتحكم، وأولياء تنفع وتضر على هواها، يرضيها الملق ويغضبها الهجران، ونجوم تسعد وتشقى، ومغفلون ومجانين بيدهم الخير والشر، ومعتوهون تنازل الله تعالى لهم عن سلطانه، وكون لا نظام له ولا قانون، فالولي يلعب به كما يشاء، ويجعل الماء جمدًا، والهواء ماء، والزجاج غذاء، وبركة الشيخ تقتل دودة القطن في الحقل إذا رضي، وتحييها إذا غضب.
ليس من الممكن أن تجتمع عقائد الدين الصحيح وهذه العقائد الخرافية، فإذا دخل أحدهما من باب خرج الآخر من باب، والحق أن الإسلام يوم كان يعتقد اعتقادًا صحيحًا لم نكن نرى شيئًا من هذا، وحين رأينا هذا لم نرَ الدين الصحيح.
التخريف يشل العقل ويجعله غير صالح لمواجهة الحياة الواقعية، ويجعل حياة من يستولي عليه خيالًا مضطربًا كخيال الحشاشين، ليس له ضابط ولا يخضع لقانون، وكخيال السكير يحسب الديك حمارًا، والقرد غزالًا، وإذا كان «متعاطي» الحشيش ومدمن الخمر يصلح للحياة صلح لها المخرف.
التخريف يلازم الجهل، ويلازم ضعف العقل، فالعقل القوي يرفض أي تخريف، والعلم بالكون وأسبابه ومسبباته وقوانينه ومسلكه يبدد التخريف كما يبدد النور الظلام.
اعتبر ذلك في الطفل والرجل، فالطفل لضعف عقله قابل للتصديق بالخرافات، يعتقد حكايات العفاريت صحيحة، ويعتقد قصص الحيوانات صادقة، فإذا نما شيئًا فشيئًا زال هذا الاعتقاد شيئًا فشيئًا، وحل محله إدراك الواقع، وفرق بين القصص الخيالية والسير التاريخية، فكذلك الشأن في الأمم، إذا كان عقلها عقل طفل آمنت بكل ما عددنا، وكانت حياتها مستغرقة بالمشايخ والأولياء والعفاريت والنذور والنجوم وما إليها، فإذا رقيت تبخر كل ذلك وحل محله الإيمان بالكون المعقول يدبره إله معقول.
لقد كانت أمم أوربا منذ أقل من ثلاثة قرون غارقة في مثل هذا التخريف، وكانت تعتقد في السحر والسحرة إلى حد بعيد، وكم سبب هذا من مصائبَ وضحايا ومظالمَ لا عدادَ لها، ثم أخذ يقل شيئًا فشيئًا بانتشار التعليم وترقية العقل، حتى قلت دائرته وجعل زمام الحياة لسلطان العقل، وانكمش سلطان التخريف.
أخطر ما في التخريف أنه يزلزل الإيمان بقوانين الطبيعة وقوانين السببية! فتكفي دعوة شيخ لقلب كل قوانين الاقتصاد وقوانين النبات، وتكفي تعزيمة رجل لتزيل أسباب الفقر الطبيعية، ويكفي وجود الأضرحة لتتقى بها الأعداء في الحروب، ويكفي عقد الزواج في ساعة من ساعات السعد، لتصبح الحياة الزوجية سعيدة رغم كل عوامل الشقاء الطبيعية، وهكذا.
ولا تشقى أمة شقاءها بهذا التخريف، ولا يضعفها في حياتها ما تضعفها هذه المعتقدات.
لقد قطع العالم هذا الشوط، وتحرر مما سببه هذا التخريف من تعاسة وشقاء، وأحل المصلحين المعقولين محل الأولياء والقديسين، وأحل قوانين الصحة والمرض محل طب الركة، وأحل علم الزارعة مكان الزراعة بالبركة، وأحل قوانين الاجتماع محل الاعتماد على القدر وحده، وليس في كل هذا ما يمنع من إيمان صحيح يعتقد فيه بأن للعالم إلهًا قادرًا عادلًا لم يتنازل عن سلطانه لمخلوق يعبث به، قد خلق خلقه، وحاطه بقوانين لم يسمح لأحد أن يتلاعب بها، ويستخدمها في أغراضه مهما كانت هذه الأغراض.
نعود إلى صدر الإسلام، فنرى عمر بن الخطاب يرى ناسًا يأتون الشجرة التي بايع رسول الله ﷺ تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فيأمر بقطعها حتى تكون العبادة لله وحده.
وننظر اليوم فنرى باب زويلة — وهو ليس إلا بابًا من أبواب سور القاهرة القديمة — قد اتخذ معبدًا يزعمون أنه مسكن لقطب من الأقطاب الأربعة؛ ومن أجل هذا سمي «باب المتولي» والناس يتمسحون به، ويربطون في مساميره قصة من شعورهم أو خيطًا من ملابسهم، ويشتفون به من وجع أسنانهم أو صداع رءوسهم.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى في سيرة عمر أنه خرج في حجة فمر بمسجد فبادره الناس بالصلاة فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض. ثم نرى الناس اليوم وقد تهافتوا على أمكنة وقف عندها ولي مزعوم، أو لمستها يد صالحة مباركة كما يقولون، أو رأى مدله رؤيا شاهد فيها قديسًا من القديسين.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى عمر ينظر إلى شاب قد نكس رأسه فيقول له: «يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقًا على نفاق»، ونرى اليوم تصنعًا في التدين والصلاح، بعمة حمراء وعمة خضراء وسبحة طويلة، وانكسار وتقشف، وغيبوبة عقل، فيخدع الناس بمظاهرهم، وينسبون الولاية إليهم، ويستمدون البركة منهم.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى علي بن أبي طالب يعين عاملًا من عماله ويقول له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، ألا أدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته».
ونرى اليوم الأضرحة والمزارات منتشرة في كل مكان للصالحين وأشباه الصالحين، بل لمن لو رجعت إلى تاريخه لوجدت أن لا منقبة له إلا مظالم ارتكبها، وظن أن بناء المسجد والضريح يكفر عنها.
لا لا أيها الناس، ليس في الإسلام وثنية، وليس في الإسلام الصحيح تخريف، ولكن دخل فيه أقوام وفي رءوسهم خرافات الوثنيات الأولى! فوثنية العرب الجاهليين، ووثنية مصر القديمة، ووثنية المجوس، ووثنية الرومان، كل هذه اندست بين المسلمين، واصطبغت بصبغة الإسلام، والإسلام بريء منها، وذهب الماء الصافي ولم يبق إلا عكره، وامتلأ الإناء بالدُّرْدي.