الديمقراطية الأرستقراطية
أليس عجيبًا هذا الوصف؟
إنه كما تصف الحلو بالمر، والأبيض بالأسود، والطويل بالقصير، والكبير بالصغير — وإن هذا لا يجوز إلا في عرف المجانين.
ولكن دنيا الواقع غير دنيا النظريات، فمثل هذا يحدث تحت سمعنا وبصرنا وذوقنا كل يوم.
أفليس الليل الواحد طويلًا قصيرًا؟ طويلًا في الهجر، قصيرًا في الوصل، طويلًا في الشقاء، قصيرًا في الرخاء؟
أوليس ألف دينار عند الغني الواسع الثراء شيئًا تافهًا حقيرًا صغيرًا، وفي نظر الفقير البائس شيئًا عظيمًا كبيرًا.
أولم يقل الله — تعالى —: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا؟
أولم يقل الشاعر:
إن أمثال ذلك كثير، فلا عجب — إذًا — أن نرى أرستقراطية ديمقراطية، وديمقراطية أرستقراطية.
فأما الأولى فتشاهدها كل يوم، في الفتاة من «بنات الذوات»، تُصوَّر في زي فلاحة؟ تلبس لباسها، وتحمل ماعونها، وتتحلى بحليها، وتتظاهر بوشمها.
وتراها في السيارة الفخمة الضخمة تعطب في الطريق فيجرها إلى «مقرها» حمار هزيل، وتراها في السيد العظيم والغني الكبير يتواضع فيؤاكل الفلاحين جبنهم وبصلهم وعدسهم، وتراها في الأسر العريقة في المجد، أو ورثة بيت الخلافة والملك، يعدو عليهم الزمن الغادر فيضيع ملكهم، ويبدد مالهم وثروتهم، فيعيشون في بيت صغير وبإحسان قليل، ويحتفظون بحسن مظاهرهم ولامع طلائهم، وتراها وتراها، في كثير من أمثال ذلك.
وأما النوع الثاني، وهو «موضوع العنوان» فمثله قوم يتغنون بالديمقراطية ومزاياها وخيراتها، فيقول الناس: آمنا. فإذا جاء دور التطبيق رأيت الساسة الجامدين يفزعون إلى أن مبادئ الديمقراطية إنما تطبق على أمم خاصة وأجناس خاصة، وليست هي لكل شعب ولا كل جنس، فأما في أوربا وأمريكا فديمقراطية حقة، وأما في غيرهم من الشعوب فشيء يصعب وصفه ويدق بيانه، ولعل أصدق وصف له أنه ديمقراطية أرستقراطية؛ لأنها ذات لونين متباينين في مظهرها ومخبرها، واسمها ومسماها.
فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، لا تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
إن المعاملة على أساس الديمقراطية كالصدق والعدل، والوفاء بالعهد، حق لكل إنسان على كل إنسان، وواجب على كل إنسان لكل إنسان، وليست كالعملة، إنما تروج في بلدها، ولا كالعرف والمواضعات، لكل أمة عرفها ومواضعاتها.
ما معنى الديمقراطية؟ إنها حكم الشعب بالشعب لخير الشعب، إنها القضاء على تحكم طبقة ممتازة — في الشعب بأجمعه، إنها نشر التعليم ونشر المساواة والحرية والإخاء بين أفراد الشعب، إنها هدم العوائق في سبيل رقي الشعب، إنها حد للغنى الواسع وقضاء على الفقر المدقع، إنها حرب على الامتيازات السياسية والاقتصادية، إنها إفساح للفرد أن ينمي ملكاته وقواه حسب استعداده، إنها تربية للرأي العام وتعويده الرقابة على الحكومة وعلى توجيه الحكام للخير العام، إنها روح عامة تسيطر على الشعب فتوجهه لخير الجميع، إنها قضاء على رق الأفراد ورق الأمم، وما يستعبد الأفراد من جهل وشهوات، وما يستعبد الأمم من استغلال واستعمار، إنها ثورة على استعباد الأقليات للأكثريات، والأفراد للأمم، والأمم للأمم.
إن كانت كذلك وهي خير للغرب، فهي خير للشرق، فأي معنى من هذه المعاني محلي لا يصلح إلا في مكان خاص وزمان خاص؟ هي نظام يمتحن كما يمتحن الذهب، فإن كان ذهبًا حقًّا فهو ذهب في مصر والشام وأمريكا واليابان والسند والهند وفرنسا وإنجلترا، وإن كان ذهبًا مزيفًا لم يصلح في أي مكان، ولم تكن له قيمة في أي قطر، قد تختلف أعراضه في الأقاليم بحسب اختلاف بيئتها، ولكن الجوهر في كل البيئات واحد.
إن كان هذا معنى الديمقراطية فهو يتنافى مع الانتداب والاحتلال ومع سائر هذه المترادفات، ولماذا يظهر ظهورًا بينًا أن الديمقراطية لا توافق أن تحكم فرنسا إنجلترا أو إنجلترا فرنسا، ولا يكون مثل هذا الظهور في حكم الغرب للشرق؟ إن الديمقراطية عدو للاستبداد في كل شكل من أشكاله، وتحت أي اسم من أسمائه.
لقد وصلت الديمقراطية في الأيام الأخيرة من الأجيال المتعاقبة إلى مبادئَ قويمةٍ ظهرت على لساني زعيميها روزفلت وتشرشل، فقررا مبدأ احترام رغبة الشعوب في اختيار نظام حكومتها وحكمها كما تشاء، ومبدأ حرية الحصول على المواد الأولية اللازمة لها وتصريف محصولها كما تشاء، ومبدأ التعاون الاقتصادي بين جميع الأمم، ومبدأ حرية البحار وحرية التجارة، وهي مبادئ في غاية الأهمية لخير الإنسانية.
ولكن هل يحق للشرقيين أن يفهموا أن هذه المبادئ تنطبق على الشرق كما تنطبق على الغرب، وأن سيكون لبلاد المغرب وفلسطين وسوريا والعراق ومصر والسودان رأيها في حكومتها ونظام حكمها وحرياتها السياسية والاقتصادية؟
إني ألمح شبه تناقض بين هذه المبادئ السامية وبين الخطابات المتبادلة بين القائدين «ليتلتون» و«ديجول» في امتيازات الدول الأوربية وحقوق الدول الأوربية في سوريا، كما ألمح شبه تناقض بين هذه المبادئ السامية والاعتراف القريب في البرلمان البريطاني بأن موقف الحكومة البريطانية نحو اليهود في فلسطين لم يتغير.
وإني آمل ويأمل الشرق معي أن تكون هناك التزامات صريحة من قادة الديمقرطية أمثال روزفلت وتشرشل بأن هذه المبادئ إنسانية عامة لا محلية خاصة، وأنها وضعت لخير الشرق كما وضعت لخير الغرب.
إن الديمقراطية في نظام الحكم كالعلم في نظام العقل، كلاهما صالح كل الصلاحية، بل واجب كل الوجوب، للإنسان من حيث هو إنسان، ولا فرق بين بدوي وحضري، وشرقي وغربي، وليس هناك قواعد من العلم صحيحة بالنسبة للحضري غير صحيحة بالنسبة للبدوي، وصحيحة بالنسبة للشرقي غير صحيحة بالنسبة للغربي، فقاعدة العلم إما أن تكون صحيحة للشرق والغرب أو فاسدة للشرق والغرب، قد يحدث الاختلاف في مناهج التعليم، وفي طرق البيداجوجيا بين أمة وأمة، أما العلم ذاته فلا خلاف فيه، كذلك الشأن في الديمقراطية، أن تحكم أمة نفسها بنفسها، وأن تكون الأمة مصدر حكمها، بمنزلة قواعد العلم، فإن كان خلاف بين أمة وأمة ففي الشكل دون الجوهر.
بل إن الشرق عرف الديمقراطية قبل أن تعرفها أوربا، وحاربت دياناته الشرقية الاستبدادَ، ودعت إلى أن الناس سواسية لا تفاضل بينهم إلا بالأعمال، وحاربت الجهل ودعت للعلم، وألزمت الخضوع للقانون العادل، وطالبت بالثورة على الظالم، قبل أن تدعو إلى ذلك الثورة الفرنسية، نعم إنها لم تسم ذلك كله ديمقراطية، بل سمته أسماء مختلفة، ولكن ما قيمة الألفاظ بجانب المعاني؟ ولولا عوادٍ عدت على الشرق فأفسدت عليه سيره، وحرمته نظمه العادلة، لكان هو القائد، وهو المشرع، وهو رافع لواء الحضارة، فمن الظلم أن يقال له: إنك لا تصلح للديمقراطية، وإن تاريخك سلسلة استعباد.
إني أربأ بدعاة الديمقراطية أن يكونوا يدعون باسمها ومعناها ومبادئها السامية في الغرب وباسمها فقط في الشرق، كما أربأ بالشرق أن يتلهى بالألفاظ ويتعلل بالمظاهر، فمن الحق أن الديمقراطية خير للشرق كما هي خير للغرب، ولكنها الديمقراطية التي في ذهن الإنجليزي أو الأمريكي لبلاده، وعلى أساس وحدة المعنى ووحدة التطبيق، وإلا كانت ديمقراطية أرستقراطية.
كما أرجو أن تسفر هذه الحرب عن انتصار الديمقراطية الصادقة، ويكون من نتائجها أن يتعمق الشرقي في معناها، وأن يوسع الغربي مداها، وأن يطبق الجميع ما تدعو إليه من إخاء.
بل أن يتخذ كلٌّ من اليوم عدته، ويرسم للغد خطته، وأن نتصارح، فالصراحة خير للجميع.