دُمْيَة في دِمْنَة١
الشيخ يوسف الشربيني أديب مغمور، لم أرَ من ترجم له، احتقارًا لشأنه، وازدراءً بتآليفه؛ لأنها تآليف شعبية، وليست تآليف أرستقراطية — وقديمًا غَبن الأدباء الأدب الشعبي — ولأنه كذلك ماجن إلى أقصى حدود المجانة، لا يتحرج من استعمال كلمات الفحش عارية صريحة في غير كناية ولا إيماء، ولا يخضع لمواضعات الناس في الوقار والاحتشام، وإذا تزاحم في فكره كلمتان إحداهما مؤدبة والأخرى داعرة، اختار الثانية وهجر الأولى عن قصد وتعمد، فالقارئ المهذب يشمئز من قراءتها ويكره عري كلماتها وفحش تعبيراتها، ولكنها مع ذلك تحوي صورًا جميلة، وترسم أشكالًا بديعة قد تعجز الكتب الأرستقراطية عن رسمها وتصويرها.
بين أيدينا من كتبه كتاب اسمه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، وقد ذكر في أثناء الكتاب أنه ألف كتبًا أخرى، ولكني لم أرها.
ويدل هذا الكتاب على أن المؤلف من بلدة «شربين» وأنه طلب العلم بالأزهر، وحضر على أستاذه الشيخ القليوبي الذي كان عالمًا جليلًا كثير التأليف، ومات سنة ١٠٦٩ﻫ، وأنه ألف هذا الكتاب بإشارة من الشيخ السندوبي، وكان من أكابر علماء الأزهر وأدبائه ومؤلفيه، ومات سنة ١٠٩٧ﻫ.
فصاحبنا إذًا عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وقد حدثنا أنه حج سنة ١٠٧٤ﻫ ولم يتحرج من أن يذكر عن نفسه أنه كان متهتكًا يحب الغلمان ويتتبعهم، ولست أدري أكان ذلك حقيقة يذكرها أم مزاحًا يمزحه.
أما الصورة الحسناء التي يستطيع القارئ أن يخرج بها من هذه الدمن، فهي وصف الفلاحين وبؤسهم في القرن الحادي عشر.
قصيدة أبي شادوف هذه قصيدة عامية، لست أدري من نظمها، ولعله هو ناظمها، وموضوعها فقر الفلاح وتعاسته، فجاء الشربيني هذا وشرحها في جزء كبير يقع في نحو ٢٣٠ صفحة كبيرة شرحًا هزليًّا استطراديًّا، فلا تأتي كلمة حتى يتلاعب بها ويهزئ نحوها وصرفها واشتقاقها، وفي أثناء ذلك يذكر معلومات تاريخية طريفة تصور في جملتها الصورة التي أشرنا إليها.
يصف الفلاح وبؤسه، وطول معاشرته للبهائم، وحمله للطين والسماد، وملازمته للمحراث والجرافة، ودورانه حول الزرع والجرن، وجهله إلا بما يتصل بزراعته، كالساقية والليف والحزام والنبوت، وقد نشأ عن هذا كله غلظ في ذوقه، فأفراحه وأعراسه ليست إلا صراخًا وصياحًا، وورده عند الأسحار ليس إلا التفكير في الغنم والأبقار، و«حط العلف وهات الكلف»، وأسماؤهم دالة على ذوقهم، فجنيجل وجليجل، وزعيط ومعيط، وأسماء نسائهم شباره وشراره، وعليوه وحليوه، وخطيطه وعويطه، وأولادهم مكشوفو الرأس، غارقون في الأدناس، وفقهاؤهم جهل مركب وخلط في الدين، وقلة عقل، وأدبهم وأشعارهم وقصصهم من نوع سخيف، ونظم خسيس، وتشابيه باردة، وخرافات باطلة.
وقد أطال في كل باب من هذه الأبواب، وذكر الشواهد والقصص والأمثال بإسهاب.
والكتاب خصب جدًّا من الناحية الاجتماعية في هذا العصر، فهو يصور لنا الفلاحين السذج، وكيف يستغفلون إذا دخلوا القاهرة، وكيف ينظرون إلى مشاهدها ومرافقها نظرة بلهاء، وكيف يفسرونها تفسيرًا مضحكًا، ويقارن بين حياة المدن وحياة الريف، وعلم المدن وجهل الريف، وذوق المدن وذوق الريف، في المأكل والمشرب والملبس وما إلى ذلك.
ويصور لنا تصويرًا رائعًا بؤس الفلاح عند تحصيل الأموال الأميرية، فهذه مشكلة المشاكل ومصيبة المصائب، فيقول: إنه — دائمًا — معرض للهلاك من ضرب وحبس وفقدان لذة الأكل والشراب، وهو دائم التفكير في المال الذي عليه آناء الليل وأطراف النهار، والمؤلف يحمد الله على أنه ليس له أرض، ولا يشتغل بالفلاحة، ويتمثل بقول البهلول:
ويقص علينا أن النصراني (وهو الصراف) إذا حضر القرية أو الكفر لأخذ المال، كثر الخوف والحبس والضرب لمن لم يقدر على الدفع، فمن الفلاحين من يقترض الدراهم بالربا، أو يبيع زرعه أوان طلوعه بما ينقص عن بيعه في ذلك الزمن، أو يبيع بهيمته التي يحلبها لعياله، أو يرهن مصاغ زوجته أو يبيعه كرهًا، وإن لم يجد شيئًا أعطى ابنه رهينة حتى يدفع، وقد يحبس ويعذب حتى يدفع، وقد يهرب ليلًا فلا يعود إلى بلده قط، ويترك أهله ووطنه وعياله من همِّ المال وضيق المعيشة، وروى لنا في ذلك أمثالًا مشهورة عندهم نحو: «مال السلطان يخرج من بين الظفر واللحم» و«يوم السداد عيد» إلخ، ويصف لنا «السُّخرة والعونة» وصفًا دقيقًا، فالملتزم يأخذ القرية أو الكفر يزرعه على حسابه ويسمي هذا «زرع الوسية»، فإذا احتاج الأمر لتطهير الترع، أو حفر القنوات، أو نقل الطين، أو ضم الزرع، نادى الغفير: «يا فلاحين العونة يا بطالين» فيخرجون في صبيحة اليوم جميعهم ويعملون ما يؤمرون به من غير أجر، وثم نظام آخر: وهو أن يفرض على كل بيت عدد معين للعمل في العونة، فيقولون: يخرج من بيت فلان شخص، وبيت فلان شخصان، وهكذا، وفي كلتا الحالتين من تأخر أو تكاسل أخذه «المشد» وعاقبه وضربه وغرمه دراهم معلومة، ومن الناس من يختبئ في الفرن إذا نودي على العونة أو نحو ذلك.
وإذا نزل النصراني والمشد والملتزم بلدة فأكلهم وشربهم على الفلاحين يقسمونه عليهم، ويسمى «وجبة»، كل على حسب أرضه وقراريطه وأفدنته، وربما رهنت المرأة شيئًا من «مصاغها» أو ملبوسها على دراهم، واشترت بها الدجاج لطعامهم، وربما حرمت أولادها الدجاج والسمن والدقيق وقدمته إلى هؤلاء، و«النصراني إذا نزل قرية لقبض مالها يحضر إليه الفلاحون، ويكرمونه ويرسلون له الوجبة، ويتذللون بين يديه، ويطيعون أمره ونهيه، بل يكون غالبهم في خدمته، وبعض الملتزمين يولي النصراني أمر القرية فيحكم فيها بالضرب والحبس وغير ذلك، فلا يأتيه الفلاح إلا وهو يرتعد من شدة الخوف».
وأما «الكاشف» فهو رئيس الإقليم، وإذا أقبل على بلدة يقرع له الطبل، فيخاف منه أهل البدع وأرباب المفاسد، ويأتي إليه مشايخها، ويقفون بين يديه في أشد ما يكون من الرعب والخوف، ويستخبرهم عن أحوالهم ثم بعد ذلك يسرعون له في الأكل والشرب والتقاديم على ما جرت به العادة، وإذا وقع في قرية فتنة أو خرج أهلها عن طاعة «أستاذهم» أو «قائم مقام القرية» هجم الكاشف عليهم بعساكره وأخرب القرية وقتل منهم من قتل، وقد يحصل منه ومن أتباعه نهب القرية، وتكليفهم في المأكل والمشرب فوق طاقتهم، وفي ذلك يقول أبو شادوف من قصيدته:
وفي الكتاب صورة لنظر الفلاحين والمصريين للمماليك والأمراء الأتراك وأتباعهم، فهي نظرة تعظيم وتبجيل وإعظام يبلغ حد التقديس، فهم يتطلعون إلى معيشتهم، وقصارى أملهم أن يقلدوهم في شيء من تصرفاتهم، فهذا فلاح ذهب يؤدي المال إلى الملتزم التركي، فرأى كيف يعيش وكيف يعامل زوجته، فلما عاد إلى بلده أراد أن يسلك مع زوجته «أم معيكة» سلوك الأمير مع زوجته الأميرة، فانتهت بكارثة، وهؤلاء ثلاثة من الفلاحين يريدون أن يزوروا مصر فقالوا: «إن مدينة مصر كلها جنادي وعسكر يقطعون الرءوس، ونحن فلاحون إن لم نعمل عملهم ونرطن معهم بالتركي وإلا قطعوا رءوسنا» وتعاقدوا فيما تعاقدوا عليه أن يتعلموا بعض الألفاظ التركية، ثم يدخلون الحمام، فإذا طالبهم صاحبه بالأجر صاحوا في وجهه بالكلمات التركية فأخلى سبيلهم، وإذا رجعوا إلى بلدهم رطنوا بالتركي فخافهم مشايخ الكَفْر وأجلوهم وأعظموهم — إلى كثير من أمثال ذلك من الصور البديعة.
والكتاب بعد ذلك معجم غير مرتب في بيان مصطلحات الفلاحين في ملبسهم وأنواع مأكولاتهم، ومرافقتهم ومواويلهم، وكل ما يتصل بهم.
•••
إن أخذ عليه شيء فهو هذا الفحش المنتشر فيه، والبذاءة في كل نواحيه، وأنه عرض لأمر الفلاح وبؤسه عرض الزاري الناقم، لا عرض العاطف الراحم، وكان أولى — وقد رأى هذا البؤس الذي هو فيه، والظلم الواقع عليه — أن يصرخ في وجه من ظلمه وأن يستغيث لإنقاذه مما هو فيه، وألا يزيد تعاسته بالزراية به، وألا يعيبه على ما وصل إليه اضطرارًا، بل يعيب من أنزله هذه المنزلة الوضيعة اختيارًا، فإن لم يستطع أن يصل ذلك لقسوة الزمان وظلم الحكام، فلا أقل من أن يلون صوره بالعطف الجميل على حاله، والرثاء الباكي لبؤسه وشقائه.
وأخشى أن تكون الخطوط التي رسمها «الشربيني» ليبين الفواصل بين حياة المدن في نعيمها ورخائها، وحياة الريف في بؤسه وشقائه، لا تزال حافظة لنسبتها إلى اليوم، وقد مضى منذ تصويرها ثلاثة قرون، بل أخشى أن تكون الفروق قد زادت، والفواصل قد تباعدت، فالمدنية الحديثة غزت المدن كثيرًا ولم تغز الريف إلا قليلًا، هذه الكهرباء تفتن أفانينها في المدن، والريف لما ينعم بماء نظيف؟ وهذه القصور الشامخة في المدن والحدائق الغناء، والشوارع النظيفة، والنساء السافرات، والكاسيات العاريات، ودور التعليم المختلفة الألوان، ودور الملاهي المتعددة الأشكال، إلى ما لا يحصى من ضروب الترف والنعيم، والفلاح في مأكله ومشربه ومسكنه ونظام حياته ونوع أحاديثه ومجال علمه وعلاقته بأرضه وأدوات زرعه، لم تختلف كثيرًا عما كانت أيام الشربيني، بل أيام عمرو بن العاص، بل أيام رمسيس، بل أيام منا أومنيس، والأجيال المتعاقبة، وميزانيات الدول المتعاقبة، والحكومات المتعاقبة، أعجبتها المدن فزادت في الإنفاق عليها، ولم يعجبها الريف فضيقت عليه، وعيب «الشربيني» أنه رأى بؤس الفلاح تقع تبعته عليه، ولم يدرك أن بؤسه نتيجة عوامل اجتماعية كثيرة ليس هو مسئولًا عن أكثرها، لقد رأى المصب ولم يرَ المنبع، ورأى النار تشتعل في البيت ولم ير من أشعلها، ورأى النتيجة ولم ير مقدماتها.
فأما ناحيته الفنية فالشربيني إذا جد فهو أديب واسع الاطلاع في الأدب، حافظ للشعر الكثير مستحضر له في مناسباته المختلفة، قارئ للكثير من الكتب الأدبية والتاريخية المجهولة، كانت في زمانه، عارف بكتب المحاضرات والمسامرات، مقتبس منها، محكم لوضعها في مواضعها، دارس لحالة الناس في عصره دراسة تفصيلية، ولا يستحيي أن يضرب مثلًا بنفسه وبما حدث له، كما لا يستحيي أن يروي عن أمه لغزًا في البرغوث، ولا عن الحشاشين أحاديثهم في مجالسهم، على الطريقة التي سلكها الجاحظ في كتبه؛ وإذا هزل ففنه في الهزل غريب حقًّا، قيم حقًّا، لولا فحشه وعريه، له خيال واسع في المجون، وقد هزأ النحو والصرف والاشتقاق بأسلوب جديد، ولأسق لك مثلًا في هذا عند تصريفه لكلمة «أبو» فهو يقول: إنه «مشتق من آب إذا رجع، قال ابن زريق:
وكذلك الأب؛ لأنه كل ساعة يرجع إلى ولده ويفتقده وينظر إليه … وقيل: إن «أبو» فعل ماض ناقص، وأصله «أبوس» ويدل على ذلك قول الشاعر:
أي أبوس، وإنما حذفت السين لقصد حصول اللبس على السامع، إذ هو اللائق بهذا عند الأدباء، والأقرب إلى السلامة من الواشين والرقباء، وقيل: لأن السين في الجمل بستين والستون في البوس إسراف عند البعض إلخ.
ويقول في «مَتْرَد»: وهو إناء من فخار أحمر، وهو غالب أواني الريف، وأصله مركب من فعلين مات ورد؛ لأنه لما عمل أولًا وكسر عملوا بدله فقالوا: مات ثم رد، ثم حذفوا الألف وجعلوها علمًا، وقيل: إنه في الأصل عمل بمدينة تسمى ما تريد التي ينسب إليها الشيخ الماتريدي نفعنا الله به، وهكذا.
فهو في هزله، ولعبه بالنحو والاشتقاق، واستطراده الغريب وخياله الماجن البعيد، من أوائل الكتاب الهزليين في الأدب المصري الحديث، ثم تُفْقَدُ بعض الحلقات، ويظهر بعدُ «أبو نضارة» في صحيفته، والشيخ حسن الآلاتي في كتابه «ترويح النفوس ومضحك العبوس» ثم عبد الله النديم في صحيفة «الأستاذ» ثم «حمارة منيتي»، ثم الكشكول، ثم آخر ساعة، فهي مدرسة كلها واحدة فكاهية متتابعة، خليقة بالدرس اللطيف، والبحث الطريف.