الأغاني المصرية
بالأمس وقع في يدي كتاب من طريق المصادفة البحتة عنوانه «مجموعة الأغاني الشرقية» وهي الأغاني التي سجلت على «الأسطوانات» من شركة «بيضافون» و«جرامفون» و«أوديون» و«بوليفون»، وكنت في ذلك اليوم ضيق الصدر، لا تتفتح نفسي لتفكير، ولا قراءة ولا كتابة، فحمدت الأقدار التي رمت بهذا الكتاب إليَّ، أو التي رمتني على هذا الكتاب، فلديَّ ساعات فراغ لا أعرف كيف أقضيها، فلا أنا صالح لجد ولا لعب.
أخذت أقلب فيه، وأقرأ وأقرأ، ثم قلت: اجتهد أن تسلط عليه البحث الجامعي، أوَليست الدراسة الجامعية تجعل من الحبة قبة، ومن الهزل جدًّا، وإن شاءت فمن الجد هزلًا؟ وقد وصفتها مرة بأنها تميت الحي وتحيي الميت، فهي تحيي اللاتينية واليونانية والحبشية والأكادية وقد ماتت، وتنبش الأحجار وقد دفنت، وتبعث ما في القبور وقد طويت، وهي تميت الحي، فتدرس اللغات الحية دراسة تميتها وتفقدها روحها، وتبعد عن تذوقها، ولذلك قَلَّ أن تخرج الجامعة أديبًا شاعرًا أو كاتبًا، وإنما تخرج أديبًا ناقدًا أو أديبًا عالمًا، ومن كان أديبًا من رجال الجامعة فمن طبعه ومن نفسه، لا من الدراسات الجامعية، وإن شئت فقل: إنه أديب على الرغم من الدراسات الجامعية، لا أديب بفضل الدراسات الجامعية!
ما لنا ولهذا؟ فقد أنفقت أمس في كتاب «الأغاني» هذا، فقلت — أولًا — أحصر عدد ما فيه من أغانٍ، وأعرف موضوعاتها، فرأيت أن الكتاب ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بالأدوار والمواويل والمذاهب والتواشيح والطقاطيق، والقسم الثاني «للقصائد»، ووجدت أن في الكتاب بقسميه ١١٩٩ أغنية، بين دور وموال وتوشيح وطقطوقة وقصيدة، ووجدت أنها كلها في الحب، ما عدا خمس عشرة أغنية في موضوعات غير الحب، أي إن نسبة ما قيل في غير الحب للحب كنسبة واحد إلى مائة تقريبًا.
ثم موضوعات غير الحب بعضها أيضًا يتعلق بالحب، فامرأة تشكو من أن زوجها تزوج عليها أربعًا في أغنية «جوزي اتجوز علي أربعه»، وامرأة تشكو حماتها في أغنية «حماتي عليّ قوية وأنا ما اقدرش على العيشة ديه»، ورجل يشكو العزوبة في أغنية «العزوبيه طالت عليّ، قومي اخطبي لي حلوه وغنيه» ثم ماذا؟
وطقطوقة في شكوى الحشاشين من عدم الإنصاف، إذ تصادر الحكومة الحشيش وتترك الخمر، مطلعها:
ورجل يتحسر على حرمانه من «الجنيه»، فيقول:
وشكوى من دودة القطن، مطلعها:
وطقطوقة في زيادة النيل:
ثم بعض قصائد وطنية، كمارش البرلمان:
ويلاحظ أن الأغاني الوطنية في لغتها ونغمتها وعباراتها جارية على نمط الحب:
وأغنيتان دينيتان تدعوان إلى التوكل على الله وترك الأمور تجري في مجاريها:
ثم لنرجع بعد إلى الأغلبية الساحقة وهي أغاني الحب، فنجد أنها تتنوع أنواعًا مختلفة: شكوى الغرام وما سببه الحب من سقام، فالهجر طال، والدمع سال، والجسم ذاب، والعقل راح، ونحو ذلك مما تمثله هذه الأغنية:
ثم شكوى العذال والدعاء عليهم وعدم الاكثراث بهم:
ثم التفنن من الرجل في وصف من يحب، ومن المرأة في وصف من تحب.
فقوامه غصن البان، وورد خده على الزهور سلطان، والخد أسيل والجفن دابل، وحبيبه فريد عصره وأمير زمانه، كحيل العين خفيف الذات، جالس على عرش الجمال، إلى نحو ذلك من معان طال الزمان عليها وهي كأوراق اللعب وحجارة النرد أو الشطرنج، يلعب الأدباء بها فيختلف تصفيفها ويتحد عددها وجوهرها.
رأيتها مجموعة مختلفة العصر من عهد «عبده الحمولي» و«محمد عثمان» إلى الآن، ورأيت إنشاءها مختلف القوة، مما يدل على أن مؤلفيها بعضهم من أرقى الأدباء نزلوا إلى الميدان فألفوا بالعامية وسلموها للمغنين يلحنونها ويغنونها مثل دور:
ودور:
إلخ.
وبعضها مهلهل من وضع العوام وأبناء الشوارع وبنات الحارات كطقطوقة «دندرمه يا دندرمه»، وطقطوقة «اسم النبي حارسك» إلخ.
ثم منه حب عفيف مؤدب، وحب غير مؤدب وهو الأغلب، ومنه ما لا يمكن أن يقال إلا في حانة أو بيت دعارة، وبعضها استخدمت فيه مخترعات العصر وأساليب المدنية في الخلاعة والحرية، مثل طقطوقة «التاكسي على الباب مستني»، وطقطوقة «قل لي على نمرة تلفونك»، وطقطوقة «بنجور يا هانم»، وطقطوقة «قابلني حبي وأنا رايحه الموسكي وسقاني كونياك على وسكي» إلخ.
ثم هذه الأغاني على كثرتها لا ترى فيها ظلًّا — إلا قليلًا جدًّا — لوصف المرأة المحبوبة بنبل الخلق وحسن المعاني وجمال الفكر وسمو النفس، إنما هي كلها حول خدها الوردي وعيونها العسلية، وأن نهودها رمان، وقدها غصن البان — والمرأة لا تتطلب من الرجل رجولته وحسن صفاته، إنما تطلب أن يكون جميلًا و«جدع قيافه» و«صغير في العمر» و«دمه خفيف» و«عاوج طربوشه».
ثم ما هذا الحزن الشائع في الأغاني؟ فالحب عذاب، والهجر عذاب، والعذال عذاب، والقلب مجروح و«دمي بدمعي امتزج» و«ما حيلتي غير دموع العين»، و«ما حد زيي على خِله انضنى حاله»، و«ناعس جفونك حرمني النوم»، و«يا كنز نوحك على الأحباب»، و«آسيت كتير لما حبيت»، و«يا ما بآسي وبشكي» إلخ إلخ، وكثيرًا ما تبدأ الأغنية بالسرور والفرح، ولكن سرعان ما تنقلب إلى غم وكمد، ثم التذلل المفرط والاسترحام المفجع، والاستغاثة بالناس، وبالأحباب وبالأعداء، وبالمسلمين وبالنصارى، حتى يتدخلوا في الحب ويتوسطوا في الوصل.
•••
أما بعد فهذه صورة مصغرة لما قرأت، ثم تساءلت: ما وظيفة الغناء في الشعب؟ وهل تؤدي هذه الصورة التي عرضتها تلك الوظيفة؟
إن الغناء فن من الفنون الجميلة كالتصوير والموسيقى والأدب، وهذه كلها وظيفتها نقل عواطفنا إلى غيرنا في ثوب جميل، وهي تقابل في ذلك الكلام غير الفني في نقله أفكارنا إلى غيرنا، فالفنون الجميلة لغة العواطف، والكلام لغة العقل، وإذا كانت اللغة قاصرة كل القصور في التعبير عن العواطف استعنا على تكميل نقصها بمحسنات من إشارة وتمثيل في الخطابة، واستعارات وكنايات وتشبيهات ومحسنات بديعية وخيال في الأدب، وألوان مختلفة في التصوير، وصوت جميل في الغناء، وآلات مختلفة في الموسيقى، والغناء غني بهذه المحسنات، فهو يعبر عن هذه العواطف، مستعينًا بالأدب وجماله، والصوت وجماله، وكثيرًا ما يقرن بالموسيقى وجمالها، فهو في هذا كله احتفال جمال ليس له نظير في هذا الباب.
إن الفنون كلها تنبع من عواطف، وتؤدَّى بشكل جميل إلى العواطف، فتثيرها وتخلق المشاركة فيها، إنها — على اختلاف أنواعها — غذاء العواطف، كما أن العلم — على اختلاف أنواعه — غذاء العقل، وظلت المدارس جاهلة أن الإنسان عقل وعواطف، سائرة على أنه عقل فقط، فملأت برامجها بالعلم لغذاء العقل، وأهملت العواطف، حتى آمنت أخيرًا بأنه عقل وعواطف، فعدلت برامجها وأدخلت فيها الموسيقى والرسم والتصوير والغناء، فآمنت — بعد كفر طويل — أن الفنون تربية يستكمل بها الإنسان بعض نواحي النقص فيه.
إن كان كذلك، أفليس عجيبًا أن يكون موضوع الحب في أغانينا يستغرق منها تسعة وتسعين في المائة؟ كأن ليس لنا عاطفة إلا عاطفة الحب! ثم أي حب؟ إنه الحب المادي الوضيع، والحب المائع، والحب الذائب.
إن مثلنا — إذ ذاك — مثل أمة كل شعرها ونثرها الفني غزل، وكل تصويرها امرأة عارية، وكل أكلها نوع من الغذاء واحد، وكل حياتها لون واحد.
أين غذاء العواطف الأخرى في الغناء؟ أين غذاء عواطفنا في مشاهد الطبيعة الجميلة؟ وأين عواطفنا في الإعجاب بالبطولة المجيدة؟ وأين عواطفنا في مواقفنا التاريخية الجليلة؟ وأين عواطفنا في كرهنا للنذل والجبان؟ وأين إعجابنا بالمرأة تنتج النتاج القوي الباهر؟ والرجل يضحي لأسرته، والرجل يضحي لقومه، إلى ما لا يحصى من عواطفَ! أعدمنا كل هذا ولم يبق إلا الحب؟
ألجأنا إلى هذا كله أننا نظرنا إلى الغناء على أنه مسلاة فقط، ولما يصل رقينا إلى أن نشعر أنه تربية للأمة.
إننا من أكثر الأمم حبًّا في الغناء، وحسنًا في الصوت، وقدرة على تكييفه، فالغناء في الإذاعة، وفي القرآن، وفي الأذان، وفي النداء على المبيعات، وفي الذكر، وفي الزار، وفي الأفراح، وفي المآتم، وفي كل مظهر، ولكن كل هذا ضائع، لأننا لم نعرف استغلاله، ويحمل وزرَ هذا الأدباءُ والمغنون: فالأدباء تأخذهم عزة الأرستقراطية فلا ينزلون إلى ميادين الشعب يضعون له غناءه، وإذا نزلوا لا يحسنون، لأنهم لا يدركون روحه، والمغنون مائعون، تضع في حناجرهم أناشيد الحماسة والقوة فسرعان ما يقلبونها إلى تخنث وضعة وتذلل وبكاء.
ومما يؤسف له ظاهرة شائعة، وهي تأنث المغنين وترجل المغنيات، كما كان من دواعي الأسف أننا ننحدر من سيئ إلى أسوأ، فقد استعرضت أغاني عبده الحمولي ومحمد عثمان، فرأيتها أقوى وأسمى وأعف من كل ما وصلنا إليه في أغانينا الحديثة في الكثير الأغلب، والأمة لاهية، تترك السم يفعل في عقولها وعواطفها، ولا تبحث عن دواء.
لا أحب أن تنعدم أغاني الحب، فما دامت عاطفة الحب موجودة، وهي — بحق — يجب أن تكون موجودة، فلا بد لها من غذاء، ولكني أحب لها غذاءً قويًّا نقيًّا، وأحب أن يكون بجانب أغانيه أغان تعادله من حب للبطولة والنجدة والشجاعة والرحمة ولغيرها من العواطف.
إن العود لم يخلق عبثًا له أوتار متعددة، والحنجرة لم تخلق عبثًا لها قوى متعددة، والغرب أدرك هذا كله، فعدد مناحي موسيقاه، وعدد مناحي غنائه: فهل نحن فاعلون؟
ثم تساءلت عن السبب الاجتماعي الذي أدى إلى هذا التدهور! ثم إذا طبق ما يقولون من أن الفنون عامة — والأغاني خاصة — أدل على حالة المجتمع، فماذا يمكن أن نستنتج من هذه الأغاني المصرية؟ فرأيت أن المقال يطول، فلنعد له في مقال تال إن شاء الله.