لغة الأزهار والثمار
مما التفتت إليه الحضارة الإسلامية وتفننت فيه لغة الأزهار والثمار والتخاطب بها، وخاصة في مجال الحب والغرام.
لقد عنوا بالأزهار والثمار، فجلبوا أنواع الأشجار من أطراف الدنيا، وتفننوا في المغارس وطعموها، وولدوا منها أنواعًا جديدة، وبحثوا وجربوا وألفوا، ووضعوا التقاويم لما يعمل في كل شهر من شهور السنة لأنواع النبات المختلفة، ثم أنشأوا البساتين حول البيوت وعلى شواطئ الأنهار وفي ضواحي المدن، وبلغت بغداد في ذلك مبلغًا عظيمًا، فخصصوا بعض البساتين لبعض الأزهار أو الثمار، فنرى — فيما يرد من الأخبار — «بستان النارنج» و«بستان التفاح» و«حديقة النرجس» و«حديقة الورد» و«حديقة البنفسج»، وقال ابن وحشية: «إنهم لشدة غرامهم بالنرجس أكثروا من زرعه، وأقاموا له حدائقَ بذاتها».
وقال المقدسي: «إنهم اعتنوا شدة الاعتناء بالبنفسج، فكان من أحسن ما يمكن، جيد الرائحة، لا يشبهه بنفسج، وغرسوه في حدائق خاصة»، وأحاطوا البساتين بشجر السرو، قال أحمد بن سليمان بن وهب:
كما أحاطوها بشجر الخِطْمِيّ؛ لأنه يتشابك ويعلو نحو القامة وله شوك، ومن أجل ذلك صلح سياجًا، وحرسوها بالكلاب الكبيرة القوية الجارحة، جاء في الأغاني أنه قيل لعثمان بن دراج الطفيلي (وكان في أيام المأمون): أتعرف بستان فلان؟ قال: إي والله، إنه للجنة الحاضرة في الدنيا. قيل: فلم لا تدخل إليه فتأكل من ثماره، وتجلس تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: «لأن فيه كلبًا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال».
وتردد عليها الناس ينعمون بمناظرها وهوائها، ويأكلون من ثمارها، ويشربون تحت ظلالها، وكانت نعمة على الأدب بما أوحت وما ألهمت، ومصداق ذلك شعر أبي نواس وغيره من الشعراء.
وأكثروا من زراعة الأزهار، وأبدعوا في تلوينها وتوليدها، فهذا الخِيري (المنثور) كانوا يعرفون منه سبعة ألوان، قالوا: «وقد يركب بعضه على بعض، فيقبل التركيب، ويخرج زهره مركبًا في اللون والطبع والريح، ولكن في تركيبه صعوبة، لأنه يحتاج إلى لطافة في العمل وصبر وحذق».
وهذا البنفسج يحتفلون به كل الاحتفال، وباكورته لا تهدى إلا لخليفة أو وزير أو أمير، وتجعل منه طاقات تدور بها فتيات جميلات في الشوارع والأسواق، فيأخذ المشتري من الفتاة زهرة، ويمنحها ما شاء من دراهم، وعنوا به عناية فائقة في غرسه وسقيه واختبار منبته، لرقة طبعه ولطف مزاجه.
وهذا الورد أصنافه لا تعد ولا تحصى: منها الأبيض الخالص البياض، والأبيض المنقط بصفرة، والأصفر الذهبي، والأحمر القاني، والأحمر الفاتح، والأحمر القريب من السواد، والورد الألفي سمي بذلك لكثرة ورقه، حتى ظنوا أنها تبلغ الألف مبالغة، ومنه نوع نصفه أحمر ونصفه أبيض، أو نصفه أحمر ونصفه أصفر، وورد خارجه أحمر وداخله أصفر، وسموه الورد الموجه، وفيه يقول بعضهم:
وكان بعض باعة الورد يدخنون الورد الأحمر بالكبريت على أشكال مهندسة فيبيضُّ مكان دخان الكبريت، ويكون له نقش عجيب، ويدَّعون أن ذلك طبيعي، فيبيعونه للمغرمين بالورد بأثمان عالية.
وهذا النرجس أحبوه وفتنوا به، وحسنوا نوعه، وقالوا: إن خير أنواعه النرجس المضاعف والنرجس الدمشقي.
وتأمل فيما ذكره المسعودي في وصف «بستان النارنج» قال: «وكان للخليفة القاهر بستان من ريحان وغَرْس من نارنج قد حمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره، من أحمر وأصفر وأزرق وغيرها، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزهر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القماري والشحارير والببغاء، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار، وكان «القاهر» أكثر جلوسه فيه، وكل شربه عليه».
•••
ثم بلغ من ولوعهم بالأزهار والثمار أن كان لها بين الظرفاء والمحبين والمتيمين لغة متعارفة تدل على الهجر والوصل، والدعوة والتحذير، والتفاؤل والتشاؤم، وما إلى ذلك.
فأحيانًا يتخذون هذه المعاني مما يرمز إليه اسم الزهرة أو الثمرة، فكرهوا التهادي بالسفرجل لأن أوله سفر، قال الشاعر:
وكرهوا كذلك التهادي بشقائق النعمان؛ لأن أوله شقاء، وفي ذلك يقول الشاعر:
ويكرهون التهادي بالذهب حتى لا يعتري العشق ذهاب، ومن ذلك كراهتهم للتهادي بالسوسن؛ لأن أول اسمه سوء، والياسمين لأن أوله يأس، والخلاف لدلالته على الخلاف، والبان لدلالته على البين وهكذا، وقد وردت في ذلك أشعار كثيرة.
وكثيرًا ما كانت تخرج الجارية ومعها حارس فتصطحب طاقة من أزهار ورياحين، ثم تشير لصديقها خلسة بما تريد مما يدل عليه نوع هذا الزهر أو هذا الريحان، فتشير — مثلًا — بالنمَّام إلى أن حارسها نمام، وهكذا.
ويتفاءلون بالتهادي بالعود؛ لأن في اسمه معنى العودة، وبالنبق لإيمائه إلى البقاء كما قال الشاعر:
وأحيانًا يرمزون بالزهر أو الثمر، لا من حيث ما يدل عليه لفظه، ولكن من حيث ما يدل عليه معناه أو ترمز إليه صفاته، فكرهوا التهادي بالأترج؛ لأن ظاهره غير باطنه، فهو حسن الظاهر حامض الباطن، طيب الرائحة مختلف الطعم، قال الشاعر:
ورمزوا بالبنفسج للوفاء والمحافظة على العهد، قال الشاعر:
وإلى قريب من هذا المعنى يرمز بعض الإفرنج، ففي إهدائه معنى اذكرني ولا تنسني، ولا أدري من أي صفات البنفسج اشتقوا هذا المعنى إلا أن يكون مجرد مواضعة.
وأما الورد فاستعملوه كثيرًا أداة للتحية، قال الشاعر:
وتطير منه بعضهم؛ لأنه قليل اللبث، سريع الفناء، وفي ذلك يقول القائل:
ورمزوا بالورد الموجه للتهتك والحب للمال، فيشير به المحب للقينة المغنية بأنها لا تفي بحب، إنما تحب المال.
ويرمزون بالطرفاء إلى أن صاحبها عشق فذبل فاصفر، فهو يحملها استعطافًا، يشكو الألم ويستجدي الرحمة.
•••
ومما يتصل بهذا الباب ما شاع عندهم من صنع تماثيل من العنبر يمثلون فيها أشخاصًا أو طيورًا أو أزهارًا أو حيوانات، ويكسون بعضها بالذهب، ويضعون فيها فصوص الأحجار الكريمة، يبتاعها الناس للتهادي، ويرمزون بها لغرض يرمون إليه.
وقريب من هذا — وإن لم يكن رمزًا — ما حكى بعضهم أنه رأى بين يدي بعض الكتَّاب طبق ورد أحمر قد كتب فيه بورد أبيض، وما حكى آخر أنه رأى طبق ريحان كتب فيه بياسمين ونسرين.
أما التفاح فقد تفننوا فيه أكبر تفنن، وحملوه أنواع الرسائل، وجعلوه يمثل أعظم دور في الحب والغرام، وساعدت حمرته وصفرته أن يتلاعبوا به، حتى بلغ من حب بعض الظرفاء له أن حرم على نفسه أكله؛ لأنه تمثل فيه حبه، وحتى بلغ من تفنن الهواة أن كان بعضهم يبتدر التفاح وهو على شجره، فيشير فيه إشارة، أو يكتب عليه شعرًا، حتى إذا نضجت التفاحة كانت صفراء والإشارة أو الكتابة عليها حمراء أو العكس، فيتهادون بها أو يبيعها البستاني بالثمن الكبير، وقد قال الشاعر في تفاحة صفراء كتب عليها بالأحمر:
وتصوف فيها بعض العشاق، فقرأ فيها رمز الجمال، واتخذها أنيسًا في خلوته، جليسًا في وحدته، نديمًا على الشراب إذا عدم الندمان، وأهداها المحب رسول الغرام، وشفيع الهوى، وأهدتها الحبيبة دليل الرضا وانتهاء الجفا:
هذا قليل من كثير مما ورد في الأدب العربي في هذا الباب.