حديث الخميس (١)
كانت جلسة طريفة، جلسة الخميس الماضي في «لجنة التأليف» ضمت طائفة من خير رجالنا، ومن بعض إخواننا السوريين، وتشقق الحديث وتنوع وذهب فنونًا، إلى أن انتهى المطاف بنا إلى الشرق وشئونه.
قال أحدنا: إن أشد ما يؤسفني من حالة الشرق الآن أن أمامه فرصًا نادرة، ثم هو لا يعرف كيف ينتهزها، كل أمم الأرض تدرس موقفها واحتمالات نتائج الحرب الحاضرة وترسم خطتها لمستقبلها، وتُكَلِّف علماءها وقادتها أن يدرسوا شئونها، وما كشفته الحرب الحاضرة من عيوب نظامها، وما تقترح في المستقبل من معالجتها هذه العيوب، وما تؤمل من نظم جديدة لإصلاح هذه الأمراض، فهم يجمعون الإحصاءات، ويتقصون المشكلات، ثم يضعون الخطط، ويرسمون طرق التنفيذ، أما الشرق فلم يعبأ بكل ذلك، وترك الأمور للقدر يسيرها كيف شاء، كأن الحرب لا تعنيهم، وكأنها لا تقرر مصيرهم، وكأن الأمم لا تتقاتل عليهم، فلو سألت قادتهم: ما خطتكم المستقبلة، وماذا تؤملون، وماذا تفعلون، لتبلغوا ما تريدون؟ لم يحيروا جوابًا، كأن السؤال لم يخطر لهم بال.
– هل هناك حاجة لمثل هذه الأسئلة؟ إن الغاية واضحة وهي الاستقلال، كفى به مطلبًا.
– الاستقلال — يا أخي — كلمة عامة لا يصح أن يكتفى بطلبها، والمناداة بها من غير بحث وتفصيل، هي كخطيب الجمعة يقول: اتقوا الله واعملوا صالحًا، من غير بيان لما هو العمل الصالح المحدود المبين الذي يدعو إليه، خذ لذلك — مثلًا — استقلال سوريا، فهم حين بدءوا يخرجونه إلى حيز العمل ظهرت مشاكل عدة: ما هي حدود سوريا؟ وكيف تحكم؟ وما موقف أجزائها المختلفة؟ ونحو ذلك، فإذا فصلت الأمور ظهرت عيوبها ومشاكلها، وتطلبت هذه المشاكل وهذه العيوب حلولًا.
– وماذا تطلب من الشرقيين أن يفعلوا؟
– أطلب أن يتناسى قادة كل أمة الخلافات الشخصية بينهم، ويجتمعوا ويتشاوروا في مستقبلهم، ويضعوا الخطط التي يكسبون بها من ظروفهم الحاضرة، فليس يكفي تدبير الغذاء وضبط الأسعار، إنما لا بد من حصر ما نشكو منه وما أبانت الحرب الحاضرة من سوء موقفنا، ثم الإجابة عن هذه الأسئلة: كيف نتقيها؟ وكيف نسلك السبيل لملاقاتها وما واجبنا الآن نحوها؟ وما واجبنا بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ فإذا فرغ قادة كل أمة من ذلك التقوا بقادة الأمم الأخرى الشرقية، فتفاهم الجميع على الخطط المشتركة الممكنة، ورسموا مدى التعاون فيما بينهم، وأعلنوا ما يصح إعلانه في ذلك لأممهم، فإن في كل أمة شبانًا ملئوا وطنية وحماسة وإخلاصًا، ولكنها حماسة غامضة، حماسة حائرة لا تعرف أين تتجه، وهم يتطلعون يمينًا ويسارًا إلى قادتهم فلا يجدون منهم مرشدًا.
– إني أفهم قولك فيما يتعلق بكل أمة، ولكن أصارحك القول أني لم أفهم هذا الكلام فيما يتصل بالأمم الشرقية أو العربية، فلكل أمة مشاكلها الخاصة، هذه فلسطين مشكلتها اليهود، وهذه سوريا مشاكلها طريقة اتحادها، وكيف يكون موقفها من لبنان، وموقفها إزاء فرنسا الحرة وغير الحرة، ومشكلة العراق الخلافات بينه وبين إيران، وتنوع عناصره بين عرب وكرد، وسنية وشيعة، وبدو وحضر إلخ، فكيف تربط هذه الأمم برباط واحد، وتحملها كل هذه المشاكل؟ إنك إن فعلت هذا كنت كمن يكلف عشرة رجال من أرباب الأسر ألا يعنى كل بأسرته، بل يعنى العشرة بالأسر العشر على السواء؛ وفي هذا من الضرر ما لا يخفى، ومن ضياع المصالح ما هو واضح جلي، لهذا لم أفهم الحلف العربي على الصورة التي شرحها الكتاب، خير لكل أمة أن تعنى بشئون نفسها وتجاهد في سبيل نيلها حقوقها، وتتخذ الوسائل التي تراها لترقية أحوالها.
– إن اختلاف المشاكل لا يحيل التعاون، فهذه الأمم الأوربية والأمريكية مع اختلاف مواقفها ومشاكلها لم يمنع كل دولة أن تتحالف مع من ترى المصلحة في محالفتها.
ولست أقصد أن مشاكل كل أمة تحلها الأمم جميعًا بواسطة ممثليها، فهناك مشاكل داخلية تستقل بحلها كل أمة كما يتراءى لها، وهناك مشاكل خارجية يمكن التعاون بين الأمم الشرقية في حلها، وقادة الرأي في الأمم المختلفة مجتمعين أقدر على حلها متفرقين، وصوتهم أشد قبولًا وأدعى استماعًا، وهب أن التعاون السياسي والحربي عسير، فما قولك في التعاون الثقافي والاقتصادي؟ أليس إذا بدأنا هذه الخطوة وثبت نجاحها كان ذلك أدعى إلى التعاون السياسي، وعلى الأقل التشاور السياسي؟
– إني أسلم بالتعاون الثقافي والاقتصادي، ولكني أستصعب التعاون السياسي، وهب أنه جائز نظريًّا، فهل ترى أن الدول الأوربية تمكِّن الشرق من ذلك؟
– أعتقد كل الاعتقاد أن نظرة الغرب إلى الشرق ستتبدل بعد هذه الحرب، لقد كانت النظرة السائدة عند الغرب إلى أيام الحرب الحاضرة أن الشرق يجب أن يكون ضعيفًا حتى يسهل استغلاله، وجاهلًا حتى لا يعرف حقوقه، ومنهمكًا في شهواته حتى لا يفيق إلى نفسه، ولكني أعتقد أنه وجد في الساسة الغربيين من أصبح يرى من مصلحته أن يكون الشرق قويًّا مسلحًا عاقلًا متيقظًا، ثم يصادقه مصادقة القوي للقوي، ويوجهه لخير الإنسانية ولبناء العالم؟ وأظن أن هذه النظرة البعيدة العميقة هي التي ستسود بعد الحرب، وهب أنها لم تسد أفَيَحِقُّ للغرب أن يتعاون على عدم تمكيننا من التعاون، ثم لا نجد في تذليل الصعوبات التي تحول بيننا وبين التعاون؟
– يظهر — يا أخي — أن الفرق بيني وبينك هو الفرق بين مزاجين: مزاجك المتفائل، ومزاجي المتشائم، فقد بلوت من تفكك الشرقيين ونومهم وخصوماتهم وبحثهم عن لذاتهم الشخصية ما جعلني أيأس كل اليأس، وأقلب الأمور على وجوهها المختلفة واحتمالاتها المتعددة، فأنتهي في كل احتمال إلى اليأس اللاذع.
– إنك مخطئ في يأسك، محتاج إلى منعش لمزاجك، وعليك أن تنظر إلى الماضي لتمتلئ أملًا في المستقبل، فانظر إلى الشرق منذ عشرين عامًا أو خمسين عامًا وانظره اليوم.
ألا تراه يخطو نحو النجاح بخطى واسعة، وإن لم تنظر إليه وحده فانظر إلى أساليب الاستعمار في الأمم المختلفة كيف تحسنت وتقدمت، وكيف اتجهت نحو اكتساب قلوب الأمم المحكومة بعد أن كانت تحكمها بالعنف، وسيؤدي هذا السير حتمًا إلى إلغاء الاستعمار فعلًا كما ألغي — تقريبًا — اسمًا، وكلا الأمرين يبشر بمستقبل للشرق زاهر، سواء من ناحية تنبه شعوبه، أو من ناحية تنبه الغرب وإدراكه التام للحقائق وبعد النظر.
•••
ودعيت للحديث في التليفون، فغبت عن المجلس دقائق، فلما عدت وجدت مجرى الكلام تغير، فلم أدرِ كيف تسلسل الحديث حتى وصل إلى الكلام في الاقتصاد.
سمعت قائلًا يقول: لا أمل لنهوض الشرق إلا بعنايته بمسائله الاقتصادية، سيظل الفلاح بائسًا والعامل بائسًا وأوساط الناس تعساء ما لم تصلح الحالة المالية، فهي عصب الحياة، وقد خبرت حالة سوريا والعراق ومصر فوجدتها كلها في سوء الحال سواء.
– كيف يمكن أن تصلح الحال الاقتصادية ومال البلاد في يد الشركات الأجنبية، وخير المال وزبدته لغير أهله، وليس لأهله إلا الفضلات؟ إن جمهور الأغنياء من المصريين لا يعرفون لاستغلال المال وسيلة إلا شراء الأراضي، ولا يؤمنون بشركات ولا مشروعات، وإذا آمنوا بها نظريًّا فضعف ثقة الناس بعضهم ببعض يحول بينهم وبين الإقدام على التعاون وتأسيس الشركات المالية.
– وحتى إذا أسسوا لم يعرفوا كيف يزاحمون الأجانب فيها، وقد أعجبني ما روي أن كبيرًا زار مؤسسة وطنية، فلما درس حالتها قال: «لا بأس بها لولا أنه ينقصها يهودي»، وهو بالطبع لا يعني اليهودي بمعنى الكلمة، ولكنه يعني الخلق اليهودي في معرفته وجوه تدبير المال.
– إن مشاكل الشرق المالية لا تقل خطرًا عن مشاكله السياسية، فأمامه شركات وهيئات أجنبية قد وضعت يدها على موارد الثروة الهامة، وهي مسلحة بجميع أنواع الأسلحة القوية، فهي مسلحة برأس المال الكبير، وبالإدارة الناجحة، وبالأخلاق التجارية الرابحة، وبغير ذلك من أنواع السلاح الظاهرة والخفية، فكيف يستطيع الشرق أن يتخلص من هذا كله؟ وماذا في يد المواطنين إلا الصنائع التافهة، والزراعة التي لا تدر القوت الضروري، وأعمال الخدم الحقيرة، والتجارة التي ترشح من خرم إبرة؟
– ومن الغريب أننا إلى الآن لم نكتشف كيف نعد أبناءنا للخلق التجاري والصناعي، ولا يزال التعليم كما كان منذ قرن أكثر غايته إعداد الموظف الحكومي.
– مصداقًا لقولك أعرف آباء كانت لهم تجارة رابحة، أو زراعة ناجحة، فرزقوا أبناء علموهم ليحلوا محلهم، فعلموهم التجارة الحديثة والزراعة الحديثة، ومع هذا لم ينجحوا نجاح آبائهم الجهلاء، بل في حالات كثيرة أضاعوا ثروة آبائهم، ولم ينفعهم علمهم الحديث بشيء.
– وما تظن سبب ذلك؟
– سببه نقص الخلق التجاري أو الزراعي العملي الواقعي الذي يسترشد بالحياة لا بالكتب وحدها، ويدعو إلى ضبط النفس لا الجري وراء الشهوات، وإلى معرفة الرجل دخله وخرجه، وما يسمح له دخله بإنفاقه وما لا يسمح.
•••
واستحر الحديث، حميت الرءوس، وتحفز الكثيرون للكلام في الموضوع وتأييده والرد عليه، وما نشعر إلا والنور قد انطفأ، وأتى من يخبرنا أن الأسلاك تماست ولا أمل في إصلاحها الآن، وكثيرًا ما حدث مثل هذا، فمشكلة النور في «اللجنة» مشكلة مزمنة، وكل يوم تفسد الأسلاك وتصلح، وحتى هي الأخرى محتاجة إلى خبير أجنبي يصلحها صلاحًا لا فساد معه.
فإلى اللقاء!