صورة قضائية تاريخية (٢)
حادثة ارتجت لها مصر أشهرًا، وتأثر بها القضاء أثرًا بالغًا، واضطرب لها الرأي العام اضطرابًا هائلًا، وارتبكت فيها السلطات الثلاث ارتباكًا بينًا، ودلت وقائعها على الفرق البعيد بين حياة الناس في ذلك الزمان وحياتهم الآن.
أما مكانها فالقاهرة، وأما زمانها فليلة السبت ثاني عشر شوال سنة ٩١٩ هجرية، والعهد عهد السلطان قانصوه الغوري، وأما بطلتها فامرأة جميلة لعوب متزوجة بنائب قاض اسمه غرس الدين، وقد عشقها نائب آخر اسمه نور الدين، وتوثقت الصلة بينهما، وتحدث بذلك الجيران وجيران الجيران، وبلغ مسامعهم كلهم ما كان يجري إلا الزوج الكريم.
فيوم السبت هذا دُعي غرس الدين ليقضي ليلة عند صديق له في حي الإمام الليث، فانتهزت زوجته الفرصة وراسلت صديقها نور الدين ليبيت عندها هذه الليلة، فقد خلا الجو لهما، فأجاب الدعوة، وأرسل ما لذ وطاب، وذهب في أثره ممنيًا نفسه بليلة سعيدة حتى الصباح، ولكن مصيبة المحبين دائمًا في العذال، فهذا عذول اسمه شمس الدين، كان أحد النواب أيضًا وكان يسكن بجوار غرس الدين، وقد حنق على الزوجة أن هويها ولم تهوه، وهام بها ولم تلتفت إليه.
فعلم بما كان هذه الليلة، وعلم بحضور العشيق في البيت، فركب من فوره إلى الإمام الليث، وأخبر الزوج بما كان وعادا معًا إلى القاهرة، وأوصله إلى بيته وانصرف.
وجد الزوج الباب مغلقًا، والدنيا كلها ساكنة هادئة، وليس من شيء يدل على قول العذول، وكان للباب مفتاحان، مفتاح عند الزوجة ومفتاح عند الزوج، فلما وصل الزوج إلى الباب فتحه في هدوء وسكون، وتسلل إلى حجرة النوم، فوجد الكَلَّة مرخاة، فتقدم ورفعها في رفق، فرأى الجريمة — ووقف الثلاثة موقفًا دونه الموت رهبة، فرهبة الموت رهبة جلال، ورهبة هذا الموقف رهبة خزي وعار.
فأما العشيق فبكى واستعطف وهوى على رجل الزوج يقبلها، ويقول: اغفر لي ذنبي أكتب لك صكًّا الآن بألف دينار ولا تفضحني، وأما الزوجة فتلطم وجهها وصدرها، وتقول: أنا المذنبة، خذ جميع ما في البيت من أمتعة واستر علي فالستر مطلوب، والزوج يسب ويلعن ويثور ويهدر، ويأبى إلا أن يبلغ الأمر إلى الحكومة، ثم تقدم في حزم وأغلق عليهما باب الغرفة وباب البيت، وخرج إلى «حاجب الحجاب» وهو إذ ذاك يقوم مقام «الحاكمدار» وقص عليه القصة.
أما العشيقان فكانا كالفأر في المصيدة يدور ويدور ولا يجد مخرجًا، فالباب محكم، حاولا فتحه فلم يستطيعا، والشباك مرتفع، إن سقطا منه دك عنقاهما، والانتحار لم يدر بخاطرهما، إذ لم يكن بِدْع ذلك العصر، فاستسلما للقضاء، وظل الرجل يحوقل ويلعن النفس الأمارة بالسوء، ثم انقلب يعنفها على ما جنت، فهي التي راسلته وهي التي دعته لقضاء هذه الليلة المشئومة، وهي تذكر الفضيحة والعار، وتضرب نفسها، وتبكي وتنتحب، وتود لو أن الأرض انشقت وبلعتها.
وفيما هما كذلك فتح الباب ودخل الحجاب، وقادوهما إلى حاجب الحجاب، فسألهما وداورهما، فاعترفا بكل ما كان، وأحضر حاجب الحجاب — طبقًا للإجراءات المتبعة — أحد النواب، وكان هو العذول رسول الشر، ليحدث الإقرار أمامه، وكتب المحضر ووقع عليه الجميع، وحبسا إلى الصباح.
ألبس نور الدين عمامته وأركب حمارًا، وجعل وجهه لذيل الحمار، وأركبت المرأة حمارًا آخر على هذا الوضع، وطافوا بهما في الصليبة والقاهرة وقنطرة السباع، والناس والأطفال يجرون وراءهما، يتصايحون بهما، ويتنادرون عليهما، وتحدث بهما كل السكان، وانتقل الخبر من القاهرة إلى كل مكان، فكان يومًا قليل النظير، ثم رجعوا بهما إلى بيت حاجب الحجاب، حيث انتهى بهما هذا الطواف الشنيع.
لم يكتفِ بذلك حاجب الحجاب، فطلب من الزوجة مائة دينار نظير أتعاب، ولست أدري لم قررها على المرأة دون الرجل، فسرُّ ذلك عنده!
امتنعت المرأة من الدفع وقالت: أعار وخراب ديار!؟ إن زوجي وضع يده على جميع مالي، فأصبحت لا أملك من الدنيا شيئًا.
قال حاجب الحجاب: إذًا فليدفعها زوجها.
وقال الزوج: وكيف أدفع وقد خسرت الزوجة، وخسرت الشرف، فهل كذلك أخسر المال؟
فلما توقف عن الدفع حجزوا عليه.
كان لهذا الزوج ابن يتصل بالمقرئين المقربين من السلطان الغوري، فتمكن بهم من الوصول إلى السلطان فوقف بين يديه، وقص عليه القصة من أولها إلى آخر الحجز على أبيه.
طلب السلطان محضر القضية، واستحضر النائب شمس الدين — الذي ثبت أمامه الإقرار — والقضاة الأربعة، وانتهز شمس الدين الفرصة وزاد النار اشتعالًا، وحبب إلى السلطان أن يعيد إلى الشريعة الإسلامية سيرتها الأولى، فيعلي شأن الإسلام ويعمل بسيرة سيد المرسلين، فيرجم الزاني والزانية، وقال: إن في هذا مجد الإسلام، وتخليد ذكر السلطان.
قال له السلطان: فافعل ذلك. قال: لا أستطيع حتى يأمر بذلك قاضي الشافعية، فقال القاضي: قد أمرت. وانفض المجلس على هذا — أمر من القاضي الشافعي بالرجم وموافقة السلطان، ولم يبق إلا حفر الحفرة وإحضارهما ليرجما.
ولكن صادف ذلك موسم الحج والاحتفال بالمحمل وخروج الحجاج، فشغل السلطان ورجال الدولة بذلك، وأجل تنفيذ الرجم.
•••
حدث في هذه الأيام أمر لم يكن في الحسبان، إذ ظهر في الميدان نائب شافعي اسمه «الزنكلوني» كان ماهرًا ماكرًا، وكان له ضِلَع مع المتهم، أوعز إليه أن ينكر جريمة الزنا فأنكر — ثم كتب فتوى ودار بها على كثير من العلماء وهي: «ما قولكم دام فضلكم في رجل أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره، هل يسقط عنه الحد أم لا؟!» فأجابوا عنها بالحكم الفقهي، وهو أنه إذا رجع عن الإقرار يسقط الحد — ومن مهارته أنه مر بها على أكبر عدد ممكن من العلماء، فوقعوا عليها هذا التوقيع.
بلغ ذلك السلطان فجن جنونه واشتد غضبه، وقال: هذا غير معقول، هذا عجيب! رجل يدخل بيت رجل وينام مع زوجته ويقبض عليه تحت اللحاف معها ويعترف بالزنا ويكتب خطه بيده بما وقع منه، ثم يقولون بعد ذلك: له الرجوع! وإذا رجع فلا حد عليه؟! هذا ما لا يكون.
وكانت أزمة شديدة جدًّا بين السلطان والقضاة، كلاهما يرى أن وجهة نظره بديهية صحيحة لا تحتمل الجدل.
أما السلطان فيحتكم إلى الفطرة وإلى المنطق الساذج وإلى البديهة الطبيعية: رجل دلت كل الدلائل على جريمته، فهو في بيت غير بيته، نائم مع امرأة غير زوجته، يضبطهما الزوج، ويعترف المجرم بالجريمة أمام هيئة رسمية، فماذا يطلب من الدلائل بعد ذلك؟ وكيف يسمع ممن يدحض هذه الأدلة؟ إن هذا منتهى ما يصل إليه الإثبات، فإذا شككنا في مثله فما الذي يصح بعدُ أن يكون سندًا للحكم، ووراء ذلك كانت تدور في نفسه فكرة أنه بتنفيذ الرجم في هذه القضية سيكون بطل الإسلام، ومحقق العدالة التي كانت في عهد الرسول، وهؤلاء العلماء يريدون أن يفوتوا عليه هذا الموقف والفخر.
وأما العلماء فكانوا يستندون إلى نصوص الفقه وأقوال الأئمة، قد رجعوا إلى كتب الفقه وأطالوا النظر فيها حتى بليت منها صفحات هذا الموضوع من كثرة البحث والتنقيب.
هؤلاء جمهور الأئمة — إلا ابن ليلى وعثمان البتي — يرون أن من رجع بعد الإقرار في الزنا قُبِلَ رجوعه ولم يحد، وحد الرجم حد شنيع جدًّا درأه الإسلام بأى شبهة، فهذا «ماعز» الذي أمر رسول الله برجمه، لم يأمر برجمه إلا بعد أن غمره بالأسئلة لعله يرجع، وحتى روى بعضهم أنه قرره على ذلك أربع مرات، وحتى رووا أنه لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال لهم: ردوني إلى رسول الله، فقتلوه رجمًا وذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال لهم: «هلا تركتموه» ولأن الله يحب الستر على عباده، فلا يلجأ إلى الرجم إلا عند الضرورة القصوى بانعدام أي شبهة وبإصرار المجرم — فكيف يجرؤ القضاة بعد ذلك أن يخالفوا هذه النصوص؟
تعقدت المسألة وتمسك كلٌّ بوجهة نظره، فما الحل؟
خطر للسلطان أن يجمع مؤتمرًا يشهده كل القضاة وكل مشهوري العلماء، ثم يسمع منهم ويسمعون منه، لعلهم يصلون إلى حل، وأرسلت الدعوة وحدد لذلك يوم الخميس الرابع والعشرون من شوال بالقلعة، وانعقد المجلس: هذا هو السلطان يتصدر المجلس، وهؤلاء القضاة الأربعة عن يمينه، وهؤلاء كبار العلماء عن يساره، يرأسهم شيخ الإسلام زكريا، وكان مجلسًا رهيبًا حقًّا، خطيرًا حقًّا.
أغضى السلطان النظر عن القضاة والتفت إلى شيخ الإسلام زكريا وقال: كيف يحدث ما حدث، ويضبط الرجل مع زوجة آخر ويقر، ثم تقولون: له الرجوع؟!
رد أحد الحاضرين: هذا هو الشرع، وأخرج كتابًا من كمه وأراه النص.
فقال السلطان: إني لا ألتفت إلى النقول في ذلك، ألستُ ولي الأمر؟ أوليس لي الحق في الحكم؟ أوليس لي أن أصدر أمري كما يتبين لي؟
فغضب السلطان أشد الغضب من هذا الجواب، وكاد يبطش به، ثم التفت إلى الشيخ زكريا وقال: ما تقول أنت في هذه المسألة؟
– أقول: إن الرجوع بعد الاعتراف يسقط الحد.
وقام وانفض المجلس على أسوأ حال.
وبدأ السلطان ينتقم؛ فهذا الزنكلوني الذي صنع الفتوى ضرب هو وأولاده بالعصا حتى كادوا يتلفون، ثم أمر بنفيه إلى الواحات.
وهؤلاء القضاة عزلوا، وظلت مصر بلا قضاء خمسة أيام مما لم يسبق له نظير، ثم عين غيرهم، وهذان المتهمان — الرجل والمرأة — نصبت لهم المشنقة على باب «حارة أولاد الجيعان» ثم أحضرا، وجعل وجه كلٍّ إلى وجه الآخر، وشنقا بحبل واحد.
وظلا يعرضان يومين، والناس يأتون من كل فج لمشاهدتهما كما يشاهدون المعارض في هذه الأيام، وظل حديثهما على كل لسان، ثم نسج عليهما ثوب النسيان كما هو شأن الزمان.