التوازن
يظهر أن الأرض التي نعيش عليها لما كانت مدينة في بقائها للتوازن — فهي سابحة في الفضاء بقوة التجاذب المتعادل — كان كل شيء فيها إنما ينتظم شأنه وتنسجم أموره بالتوازن أيضًا، فإذا اختل توازنه ساءت حاله، وأدركه الفناء، ولعل مقياس رقي كل شيء توازنه، ومقياس انحطاطه عدم توازنه.
سواء في ذلك الأفراد والأمم، وسواء في ذلك الماديات والمعنويات.
هذا الجسم إنما صحته توازنه، ومرضه عدم توازنه، فليست الصحة إلا أن كل عضو متوازن مع الأعضاء الأخرى في إنتاجه واستهلاكه، ومقدار هذا الإنتاج وهذا الاستهلاك، فإذا ضعفت المعدة ولم تحسن الهضم اختل التوازن، فأصبحت لا تستهلك كما تستهلك الأعضاء الأخرى، ولا تفرز كما تفرز الأعضاء الأخرى، فكان المرض، كما لا يكون الجسم صحيحًا إلا بتوازنه مع غذائه، فإذا قل الغذاء كانت المخمصة، وإذا كثر كانت التخمة، وكلاهما شر نشأ من عدم التوازن، ولا يزال الجسم بخير ما توازن، بين طعامه وقدرته على الاستهلاك، وبين طبيعته والبيئة التي حوله، وبين كل عضو فيه وسائر الأعضاء.
وهذه العين لا تبصر إلا بالتوازن من حيث المسافة بينها وبين المرئي، ومن حيث مقدار الضوء الذي يشع على الشيء، فإذا زادت المسافة أو قصرت، أو زاد الضوء أو قل، اختل التوازن فاختل الإبصار، وكذلك الشأن في كل حاسة.
والبناء على الأرض إنما يقوم بالتوازن، وينهدم بعدم التوازن بين المواد التي يتكون منها البناء، والتوازن بين أجزاء البناء بعضها وبعض من حيث الثقل ونحوه.
إن رقيت بعض الشيء ونظرت إلى الحياة المالية — مثلًا — وجدت الشأن فيها هو الشأن في الأجسام، فانتظام مالية الفرد والأسرة إنما هو بالتوازن بين الدخل والخرج، والتعادل بين الكسب والإنفاق، وإلا فالخلل والاضطراب، فإن زاد الدخل كثيرًا عن الإنفاق فثم الشح والتضييق على النفس والأهل والناس، وانقلاب الرجل إلى خازن ليس له من المال إلا ما للحارس، وإن زاد الإنفاق فهناك متاعب الدَّين، وهمّ الحاجة، وفوضى المعيشة.
وكذلك الشأن في مالية الأمة، إنما تسعد بالتوازن بين دخلها وخرجها، وإيرادها ومصروفها، وليس هذا فقط، بل بالتوازن بين وجوه الدخل، وأيها يجب أن يكون، أيها يجب ألا يكون، والتوازن بين وجوه الصرف، ما الذي ينبغي وما الذي لا ينبغي.
وكلما ترقيت في شئون الحياة، وأمعنت في المعنويات، وجدت مبدأ «التوازن» صحيحًا وإن كان إدراكه عسيرًا.
هذه النفس الإنسانية مثلها مثل الجسم الإنساني، كلاهما ينتظم بالتوازن، ولكن مناحي النفس أكثر تعددًا وأشد تعقدًا، وإدراك التوازن فيها أدق وأغمض — فالجسم محدود، والنفس لا حدود لها، وأعضاء الجسم معدودة، ومناحي النفس لا عد لها، فحفظ التوازن فيها لا يتم إلا في القليل النادر وبتوفيق من الله عجيب.
هذه الغرائز الموروثة تختلف وتتباين، وهذه العواطف المنبعثة منها تتكاثر وتتنوع، وهذا هو العقل الذى لونته العلوم والمعارف والمدنية ألوانًا لا تحصى — كل هذه في نفس الإنسان الواحد، حتى كأنها جبل تنوعت كهوفه ومغاراته، أو بحر كثرت موجاته وتعددت مخلوقاته، فكأن بين جنبي الإنسان آلاف النفوس لا نفسًا واحدة، ومن أجل هذا كان لكل إنسان آلاف المظاهر لا مظهر واحد، فهو في ساعة صاف كأنه المرآة المصقولة، وهو في أخرى مغبر كاليوم العاصف، شجاع جبان، كريم يخيل، عادل ظالم، وهو بين ذلك في أوضاع لا عداد لها، وفي ألوان لا يضبطها ضابط، وليست هذه المظاهر المختلفة إلا نتائج لآلاف العوامل عملت في الخفاء، وكان لها تاريخ طويل أطول من عمر الإنسان.
وليست تصح النفس إلا إذا توازنت كل هذه القوى، وقلما تتوازن، فليست تخلو نفس إنسان من مرض بل أمراض، ومن غريب الإنسان أنه عني أشد العناية بأمراض جسمه، وحاول أن يرد له توازنه إذا اختل، ولم يعن مثل هذه العناية بأمراض نفسه واختلال توازنها، ولعله استصعب الداء فيئس من العلاج.
ما المجرم؟
في المجرم كل الغرائز والعواطف والإدراكات التي في سائر الناس، ولكن قد اختل توازنها، فغلبه الطمع وضعف عنده ضبط النفس فكان سارقًا، أو غلبه حب الانتقام وضعف عنده تقدير إزهاق النفس فكان قاتلًا، أو غلبته الشهوة وضعفت عنده الإرادة فكان سكيرًا أو عربيدًا، وليس يفقد المجرمُ صفاتٍ يتحلى بها الفاضل إلا عدم الاتزان.
ولقد أدرك أرسطو هذا التوازن في الأخلاق فقال بنظرية الأوساط، بمعنى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، أي في نقطة التعادل، فالشجاعة بين الجبن والتهور، والعفة بين الزهد والتهتك، والكرم بين البخل والإسراف، والأثر المشهور «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» إنما يطالب بالتعادل بين حب النفس وحب الغير، والتوازن بين الأثرة والإيثار، وقديمًا قالوا:
والتوازن ذو حظ عظيم في باب الجمال، وقد سموه «السيسترية»، فإن نظرت إلى جسم الإنسان — مثلًا — رأيت التوازن ملحوظًا فيه على أتم وجه، فالأعضاء الثنائية متناسقة على أبعاد متساوية، فالعينان والأذنان متوازنان وبينهما العضو المفرد كالأنف والفم والذقن، وإنما يتم جمالها إذا كانت الأبعاد بينها متساوية، فإذا انحرف الأنف، أو انحرفت الشفتان، أو ضاقت عين واتسعت عين اختل التوازن فكان القبح، وهذا هو بعينه ما لوحظ في هندسة المباني، فالباب يقابله باب، والشباك شباك، والباب القصير يقابله باب قصير، والشباك الكبير يقابله شباك كبير، وهو بعينه أيضًا ما لوحظ فيه هندسة الحدائق، فشجرة في زاوية يقابلها شجرة مثلها في زاوية أخرى، وحوض مستطيل يقابله في الناحية المقابلة حوض مثله، وهكذا، حتى كأن الجمال هو التوازن.
وشاع التوازن في البلاغة، إذ كانت فنًّا من الفنون الجميلة، وسموه بأسماء مختلفة، فالسجع توازن، والطباق توازن، والمساواة في «باب المعاني» توازن، وأساس البلاغة كلها حسب قولهم «مطابقة المقال لمقتضى الحال»، وهذا ليس إلا توازنًا بين معاني القول وصياغته وبين حال السامع أو القارئ، وهكذا الشأن في كل فن من الفنون الجميلة، لأن الجمال، كما أسلفنا، يعتمد — إلى حد كبير — على التوازن.
فإذا نحن وصلنا إلى المجتمع فمجال القول في التوازن ذو سعة، ففي المجتمع قوى كثيرة تتعاون وتتعاند، ولا يرقى مجتمع ولا يسعد إلا بتوازنها، وإذا حل الشقاء بمجتمع فذلك لاختلال توازنه، وإذا قامت فيه الثورات فلاختلال توازنه، وإذا انحط أو فني فلاختلال توازنه أيضًا.
فأول كل شيء لا بد أن يوازن المجتمع بينه وبين بيئته الطبيعية، فمنذ خلق الإنسان وهو في حرب مع الطبيعة، كان يحارب الحيوانات المستوحشة، وكان يحارب شدة الحر وشدة البرد، وكان يحارب طغيان الماء وصلابة الأرض، وكان ضعيفًا فقهرته الطبيعة، ثم رقي فاستخدم عقله لمحاربة الطبيعة، واستخدم قوانين الطبيعة لمحاربة بعضها بعضًا، حتى توازنت قوته وقوة الطبيعة فسعد، لقد اختلف الفلاسفة في أن الطبيعة قاسية بخيلة فظيعة، أو أنها سخية كريمة تمد الإنسان بما يحتاجه، والحق أنها لا هذا ولا ذاك في حد ذاتها، إنما هي في كفة، وقوة الناس واستعدادهم في كفة، وسعادة الإنسان في توازن قواه وقوى عقله وقوى تسخيره مع قوى الطبيعة وأفاعيلها، وكل حياة الإنسان مهاجمة من الطبيعة ودفاع منه، فإذا توازنت قوة الدفاع والهجوم فالخير والسعادة للإنسان وإلا فالفناء.
كان الإنسان الأول مستعبدًا للطبيعة يعيش على هامشها، ثم انغمس فيها وأدرك قوانينها فتحرر، كانت الحرارة والبرودة تؤذيه فاستخدمها، وقوة الماء تهلكه فضبطها، والكهرباء يجهلها فعرفها واستخدمها، ثم كان أن قسم الطبيعة على نفسها فضرب بعضها ببعض، وعادل بين قواها، وتسلح ببعضها ليحارب بعضها الآخر، فلما تم التوازن أو كاد كانت المدنية، ولا يزال المجال أمامه فسيحًا.
وأخلاق كل أمة وفلسفتها وأساطيرها وعقليتها وأدبها تتعادل مع بيئتها الطبيعية، فكما أن أبا الهول والأهرام لا يمكن أن تكون إلا في مصر، وما كان يمكن أن تعيش هذه العصور في فرنسا أو إنجلترا أو سويسرا، وإنما تعيش في طبيعة مصر، فكذلك أخلاق كل أمة وعاداتها تتعادل مع طبيعتها.
وكذلك الشأن في قوى المجتمع الإنساني نفسه، لا بد فيها من التوازن وإلا ضعف وانحل، انظر مثلًا إلى القوة الاقتصادية في الأمة، فإذا كان فيها جماعة المنتجين فلا بد أن يوازنهم جماعة المستهلكين، وإذا كان عرض فلا بد أن يوازنه طلب، وإلا ساءت الحالة الاقتصادية باختلال التوازن، وكثيرًا ما كانت الثورات في الأمم من سوء الحالة الاقتصادية، كالإفراط في الغنى بجانب الإفراط في الفقر، أو كثرة المعروض ولا طلب، أو كثرة المطلوب ولا عرض، وهكذا.
ثم يجب التوازن بين الحياة الاقتصادية في الأمة وطرق التربية، فالتعليم في كل أمة يجب أن يشكل حسب حالة الأمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويتوازن معها، وإلا فالخراب، فإن أنت علمت للوظائف الحكومية التي لا تتسع لجميع المتعلمين، واجهت مشكلة المتعلمين العاطلين، وكلما زدت في ذلك زاد الخطر، وإذا علمت لغير وظائف الحكومة وجب أن تفتح في أبواب الحياة الاقتصادية بقدر ما تعلم، وإلا واجهت نفس المشكلة.
وهكذا، في كل مجتمع قوى متعددة مشتبكة، كالآلة الضخمة ذات القطع المتنوعة المعقدة، لا يمكن أن تسير إلا بتوازن الأجزاء، هذه قوة الأسرة وقوة الدين وقوة الحكومة بما لها من سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية، وقوة اللغة والعلم والأدب وغير ذلك من القوى، لا بد أن تكون كلها في حالة توازن.
ولما اتسعت القوى وتعددت في المجتمع كان لا بد لها من ضابط أو ضوابط تعادل بين القوى إذا طغت إحداها على الأخرى، فقام بهذه المهمة الرأيُ العام أحيانًا، يثور ويطالب بالإصلاح وينادي بالتعادل، والقانونُ أحيانًا باستناده إلى العدل ورد الحق إلى ذي الحق، وتفصيل الحقوق والواجبات حتى يتم التعادل.
وعلى الجملة فالتوازن هو حجر الفلاسفة، وهو كيمياء السعادة، يدخل الجسم فيصح، ويفارقه فيختل ويمرض وينفى، ويحل في الشيء فيكون جميلًا، وفي الكلام فيكون بليغًا، وبقدر ما يكون منه في الأمة يكون رقيها وصحتها، وعلى قدر خلوها منه يكون فشلها وانحطاطها.
صدق الله العظيم الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ.