صور قضائية
أستسمح «القاضي الفاضل» الذي يكتب في «الثقافة» تحت هذا العنوان أن أختلس عنوانه مرة، ولكني أسارع فأطمئنه، فلست أريد أن أعتدي على اختصاصه، وإنما سأتكلم في قضايا من غير جنس قضاياه، ومحاكم غير محاكمه، وقضاة غير قضاته.
وحسبي فخرًا أن محاكمي أكثر من محاكمه، فهي بعدد رءوس البشر في هذا العالم، وهي في مصر وحدها نحو سبعة عشر مليونًا، على حين أن محاكمه لا تتجاوز المائتين، ومحاكمي تحررت من قيود المكان والزمان، فهي تعقد في كل مكان وكل زمان، وتحررت من قيود القضاء، ومتاعب «الكادر»، وشروط تعيينهم وانتقالهم وإحالتهم على المعاش ونحو ذلك، فقضاة محاكمي لا يعرفون شيئًا من ذلك كله، بل ويهزءون بذلك كله، ومحاكمي تثيب المحسن وتعاقب المسيء، أما محاكمه فلا تثيب محسنًا ولكن تعاقب مسيئًا، ومحاكمي تعمل في هدوء وفي صمت، ومحاكمه تعمل في ضوضاء وجلبة، ومحاكمي لا تعترف بشرطة ولا بحجَّاب، ولا بأوسمة ولا بمظاهر، بينما محاكمه أُثْقِلَتْ بكل ذلك، إلى آخر ما هنالك.
تسألني بعد ذلك ما محاكمك؟ فأقول إنها «محاكم النفس» ففي باطن كل إنسان محكمة فيها قضايا لا عداد لها، وفيها قضايا مألوفة وقضايا غير مألوفة، وفيها مرافعة يتبارى فيها الخصوم، وفيها أحكام، وكما أن صاحبنا القاضي الفاضل يعنى بتدوين القضايا الطريفة التي تلفت النظر وتستخرج العِبر، فلدينا في محاكمنا أشكال وأشكال من هذه الطرائف، فلنعرض أولًا لوصف المحكمة، ولعلنا بعدُ نعرض لطرائف القضايا.
ماذا يحدث في ساحة هذه المحكمة؟
يظهر في أُفق النفس شأن من شئون الحياة، من مأكل أو ملبس، أو مال أو جاه، أو تحصيل لذة من اللذائذ، فتتحرك الشهوة أو الرغبة، أو ما شئت فسمِّها، وتبدأ تترافع طالبة تحقيق هذا العمل وحصوله، وهذا بدء المرافعة، وصوتها له دوي وقوة، وإذا كانت هي المعبرة عن الجسم، ولسانه، فإن البدن ينفعل لها ويشرئب ويتلمظ، وتظهر عليه أعراض تختلف قوة وضعفًا، فيجري ريقه إذا كان المطلوب مأكلًا، ويجري الدم في عروقه، ويتحفز للوثوب كما يتحفز القط لقطعة لحم يراها أو لفأر يشم رائحته، وعلى كل حال فالجسم ينفعل ويتخذ أوضاعًا مختلفة، ومظاهر مختلفة باختلاف المشتهى، وفي كل ذلك يوكِّل الجسم الشهوة في المرافعة عن مطلبه والإلحاح في تحقيقه والمطالبة بتنفيذه.
وكثيرًا ما تتحرك الروح فتمانع، وتنيب عنها «محاميًا» اسمه في عرف محاكمنا «الضمير»، فيتكلم ويتكلم، ويفند حجج الشهوة، ويعارض في تنفيذ المطالب، ويتكلم بلسان آخر، وبوجهة نظر أخرى، فبينا تبني الشهوة مطالبها على أساس «إني أرغب» و«إني أحتاج» و«إني أشتهي»، إذ يتكلم الضمير على أساس ما ينبغي وما لا ينبغي، وبينا لا تنظر الشهوة إلا إلى أفق ضيق هو حاجة الجسم في حالته الحاضرة، إذا بالضمير يوسع نظره إلى أبعد من ذلك، فيرى الحاضر والمستقبل، والعواقب القريبة والبعيدة، ونتائج العمل لجسمه وغير جسمه، ويشتد النزاع، ويستحر القتال، وقد يطول وقد يقصر، ولكن مما لا شك فيه أن كلا المتنازعين مخلص في تعبيره، هذا يعبر أصدق تعبير عن مطالب روحه، وذاك عن مطالب جسمه، من غير مواربة ولا تحايل ولا مماراة، وهذان المترافعان يختلفان قوة وضعفًا عند الأفراد، فهذا وكيله الجسمي قوي كل القوة، بليغ كل البلاغة، يغطي بدويِّ صوته على صوت الضمير حتى لا يُسمع، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأعجم، وهذا وكيله الروحي بلغ الغاية في القوة حتى ضعف أمامه «المحامي» الجسمي كل الضعف، وحتى بلغ من قوته أن صاحبه يزعم أنه يسمع صوته كما زعم سقراط قديمًا وچان دارك حديثًا.
•••
ثم لا نلبث في هذا النزاع أن نرى شيئًا دخل خصمًا ثالثًا في الدعوى، وهو العقل، وهو — من غير شك — أمهر الخصوم الثلاثة وأمكرها وأقدرها على الصلاح والفساد معًا. إن كانت الشهوة والضمير صادقين دائمًا، فالعقل ليس — دائمًا — صادقًا، فهو محام قابل للرشوة ترشوه الشهوة أحيانًا فيخترع العلل والأسباب والبراهين يؤيد بها وجهة نظرها، وبلغ من المهارة حدًّا كبيرًا حتى لا تتبين مواضع ضعفه، ومن مهارته أنه استعمل علمًا سماه «المنطق» يضلل به الناس فيزعم أنه مقياس التفكير الصحيح، ووضع فيه شروطًا للقضايا وشروطًا للقياس، وقال: إننا إذا سرنا عليها أمنَّا الخطأ، ومن مهارته أنه عني بأشكال القضايا أكثر مما عني بالقضايا نفسها، فاستطاع بذلك أن يبرهن برهانًا صحيحًا — في الشكل — على الشيء ونقيضه، فإذا استخدمته في التدليل على أن هذا أسود أتى لك بما ينتج ذلك، أو أبيض فكذلك، وهو لهذا أفسد المجالس النيابية، وأفسد المحاكم النفسية والمحاكم الخارجية، وأظلم الحق وأضاع الزمن، هو أطول الثلاثة لسانًا، وأقواها بيانًا، وأشدها إلحافًا، وأقدرها طغيانًا، هو كوليده العلم، يخدم الحق والباطل، والسلم والحرب، والموت والحياة، إن استخدمته في الرفاهية أتى لك بالعجب العجاب، من راديو وتليفون وضوء وموسيقى وما شئت من ألوان النعيم، وإن استخدمته في الإفناء فما شئت من غواصات وطيارات ومدمرات وغازات.
على كل حال يدخل العقل في القضية، فقد يكون مرتشيًا، وقد يكون نزيهًا، قد ترشوه الشهوة فينضم إليها ويترافع في صفها على غير اعتقاد منه، وقد يرشوه الضمير فينصره بحججه وقضاياه وأقيسته على غير اعتقاد منه أيضًا، وقد ينزه فيخلص للحق ويقول فيه كلمته، ويتخذ لذلك كله وسائله الخاصة من عرض المعاذير والاستشهاد بالنظائر وتهدئة الخواطر الثائرة أو إثارة الشئون الهادئة.
•••
ثم قد تتعقد القضايا وتشتبك المرافعة، فنرى ضروبًا من المترافعين المساعدين بجانب المترافعين الأصليين.
هذا هو «الخوف» يظهر وسط المرافعة بلونه الأسود المرعب يلوح لهذا وذاك، يحمل في يده لوحة كتب عليها بوضوح: «الآلام المنتظرة من العمل» قد يخوف بها الجسم إذا استمر في خضوعه لشهوته، وقد يخوف بها الروح في إمعانها في الجري وراء مثلها الأعلى، وله في ذلك وسائل مختلفة، ومستندات قوية، يتخذ أسلحته من الرأي العام يحتقره، ومن بيئته تزدريه، ومن الفقر يلحق به، ومن الموت يدركه، ومن المرض يضنيه، ومن العار يلحقه، وهو ماهر في كل ذلك، يستعمل لكل موقف ما يناسبه من وسائلَ.
وهناك شبح آخر يقف بجانب الخوف غريب الأطوار حقًّا، يلبس لباسًا خاصًّا غير ما يلبسه الوكلاء، يتخذ بعض أشكال الخوف وبعض أشكال الرجاء، فيه مسحة من الملائكة، ومسحة من الشياطين، يبعث منظره الغريب اليأس من جانب، والأمل من جانب، واللذة من ناحية، والألم من ناحية، لا يشبه شيئًا من عالم الواقع ولا عالم الحقيقة، ذلك هو الخيال، يلعب في القضية ألعابًا سيمائية، يرسم أحيانًا صورًا جميلة جدًّا يقوي بها الشهوة ويشد أزرها، ويرسم أحيانًا صورًا مخيفة يسلمها للخوف الذي بجانبه يحذر بها من الإقدام على تحقيق الشهوة فيجعلها تنضمر أمام الضمير.
وهذا محام آخر أخذ موقفه بجانب الشهوة، وتزيى بزي الفتاة اللعوب، تبرجت وازَّينت، اصطلح الناس على تسميتها العواطف، اعتادت أن تتشكل أشكالًا مختلفة، أحيانًا تقف موقف حب فتلهب الرغبة وتحمسها، وتطعن الضمير والعقل طعنات مميتة، وأحيانًا تقف موقف بطولة، فتحيي الضمير وتلهبه وتمده بروح منها، وهكذا دواليك، تلعب في المحكمة ألعابًا مدهشة، قد تستفيد منها الشهوة، وقد يستفيد منها الضمير، وقد يستفيد منها العقل.
•••
أمام كل هذه المناظر جلستْ على منصة القضاء «الإرادة» تُصغي إلى هؤلاء جميعًا، وتمعن في النظر إلى هؤلاء جميعًا، وتفهم كل المترافعين حسب لغاتهم ووسائل إغرائهم، ويعرض لها ما يعرض للقضاة، فتكون القضية مكيفة تكييفًا قانونيًّا واضحًا، فتصدر حكمها في سهولة ويسر وسرعة، وأحيانًا تتعقد القضية وتتشعب، وتقوى أدلة الخصوم وتتعادل، فتؤجلها لتقديم المذكرات أحيانًا وللنطق بالحكم أحيانًا، ثم تمعن النظر وتصدر الحكم وأحيانًا لا تصدره أبدًا، ثم شأنها شأن القضاة، تخطئ وتصيب، ومنها نوع يكثر خطؤه، ونوع يكثر صوابه، وهناك قضايا جزئية ليس فيها استئناف ولا نقض ولا إبرام، وهناك قضايا تستأنف، وقضايا تنقض ثم تبرم، وهكذا.
ألست معي — أيها القاضي الفاضل — أن محاكمنا أصل محاكمكم، وأنكم قد قلدتمونا، فأخطأتم التقليد أحيانًا، وأصبتم أحيانًا؟ ولا أظنك تستطيع أن تدعي أن محاكمنا هي التي قلدتكم، فمحاكمنا قديمة قدم الإنسانية، ومحاكمكم حادثة حدوث المدنية.