الإسلام والإصلاح الاجتماعي
بعض الأديان اقتصرت على تنظيم العلاقات بين العبد وربه، فشرعت شعائر العبادة واكتفت بذلك، ولم تمس شئون الدنيا في قليل ولا كثير، بل منها ما دعا إلى الابتعاد عنها والتجرد منها.
ولم يكن الإسلام من هذا الطراز، بل نحا منحًى آخرَ، فقد نظم العلاقة بين العبد وربه بما شرع من أنواع العبادات، ومن ناحية أخرى واجه الحياة الدنيوية، ووقف منها موقف المصلح الاجتماعي والشارع القانوي، فقد نظم الأسرة، ووضع نظامًا للزواج والطلاق والميراث وما إلى ذلك، ونظم المعاملات المالية بما وضع من أحكام للبيع والشراء والإجارة وتحريم الربا، ووضع أسس القوانين الجنائية من بيان للجرائم والعقوبات، وبين العلاقات في السلم والحرب، وقرر أصول نظام الحكم من وظائف الخلافة ونظام الشورى وما إلى ذلك، وعلى الجملة واجه كل مرافق الحياة الدنيوية أيضًا، وتعرض لأسسها، وأصلح ما كان عليه الناس في جاهليتهم، ووضع القواعد التي تنير للناس السبيل في الحياة.
ولكن كل دين يسير على هذا النهج من تنظيم لشئون المجتمع، يجب لنجاحه أن يشتمل على عنصر هام من عناصر الحياة، وهو (عنصر المرونة)، وإلا تخلف وأصبح في عداد التاريخ، ولم يصلح لكل زمان ومكان، إنما يصلح لقوم معينين في زمان معين.
ذلك أن الشئون الاجتماعية في تغير دائم ورقي مستمر، تتغير بتغير المدنية وبرقي العقل، وبما يستكشف من مخترعات، وبأحداث الزمان التي تغير الأوضاع تغييرًا كبيرًا.
اعتبر في ذلك بما حدث في العصور الحديثة في قرن واحد، فالمخترعات الحديثة غيرت أوضاع الحياة وقلبتها رأسًا على عقب، والثورة الصناعية غيرت نظام العالم الاقتصادي والاجتماعي، وأخلاق الناس ومعاملاتهم بعد الحرب الكبرى تغيرت كل التغير عما كانت قبلها، وستغير هذه الحرب أخلاق الناس ومعاملاتهم ونظم الحكم ونظم الاقتصاد إلى حد كبير، فإن حدث هذا في قرن واحد، فما بالكم بقرون عديدة، وما بالكم بعمر العالم؟
من أجل هذا كله كان لا بد لكل دين يواجه الشئون الاجتماعية أن يحمل في ثناياه روح المرونة يواجه بها هذه التغيرات، وأن يفصل فصلًا تامًّا بين قواعدَ أساسيةٍ لا تتغير بتغير الزمان، كقواعدِ العدالةِ، ولا ضرر ولا ضرار، ولكم في القصاص حياة، وأن تعدلوا أقرب للتقوى، وإن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبين مسائلَ جزئيةٍ تفصيليةٍ هي وليدة البيئة والظروف، إذا تغيرت تغيرت.
والإسلام جاء ليكون دينًا عامًّا، لا لأمة خاصة، ولا لزمن خاص، فلا بد له أن يقرر عنصر المرونة، وكذلك فعل، وعنصر المرونة فيه هو «الاجتهاد»، وأصل هذا ما جاء في الحديث المشهور أن رسول الله بعث معاذ بن جبل ليقضي بين الناس في اليمن، فسأله: بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي.
هذا الأصل — وهو الاجتهاد — يتضمن أن يكون المجتهد عالمًا بمقاصد الشريعة وأغراضها ومراميها، دقيق النظر في معرفة أسرارها وأصولها، ثم يواجه المسائل الجديدة والأحداث العارضة، فيقضي فيها برأيه مستندًا إلى كليات الشريعة وأغراضها، مقدرًا ظروف الأحداث وما يترتب عليها من منافعَ ومضارَّ.
هذا الأصل المرن يمكن الشريعة من أن تساير الزمان والمكان، فلكل ظرف تقديره، ولكل حادثة حكمها.
وكان من نعم الله على الإسلام أن حدثت الفتوح الأولى في أيام عمر بن الخطاب وهو من أكثر الناس مرونة، وأشدهم اجتهادًا في حدود مقاصد الشريعة الكلية.
لقد واجه المسلمون في الفتوح الأولى آلاف المسائل التي لم تكن معروفة في جزيرة العرب، فهذه نظم الري في مصر والعراق المعقدة المشتبكة، وهذه ضروب المعاملات المختلفة التي لم تكن معروفة من قبل، وهذه نظم الحرب الجديدة، وقواعد الحرب والسلم، ونظام الأراضي والمحاربين، وهذه أشكال المدنية الفارسية والرومانية المتعددة الألوان، وهذه الجرائم التي تخلقها المدنيات ولم تكن معروفة للعرب، ونحو ذلك من مسائلَ لا عداد لها، كل هذه أمور واجهت الدولة الإسلامية وعلى رأسها عمر بن الخطاب، فبمَ حلها هو وصحبه؟
بالاجتهاد، بمرونة الاجتهاد، بعينين تفتح إحداهما على مقاصد الشريعة وأغراضها ومراميها وتفتح الثانية على الظروف الجديدة، والعوامل الجديدة، ويستخرج من بين هذين النظرين أحكام اجتهادية عدت نبراسًا لمن جاء بعدُ من الفقهاء والشارعين، ولو لم يحصل هذا الظرف السعيد لوقف المسلمون حيارى أمام الحوادث الغريبة والتصرفات العجيبة، ولكن الإسلام رباهم هذه التربية المرنة، فسلحهم بالأصول وأسلس لهم في تطبيقها على الفروع، فحلوا المشكلات، واتقوا الأزمات، وضربوا بأعمالهم خير مثال يحتذى.
ومثل هذا ما حدث فعلًا طوال العصر الأموي، والعصر العباسي الأول، نقرأ التاريخ فتأخذنا الروعة من كثرة المجتهدين ومرونة الشارعين، حتى أربوا على خمسمائة، يواجهون الأحداث، ويضعون لها الأحكام، كل حسب اجتهاده، وحسبما فهم من كليات الدين وأصول القواعد، فلم تحدث حادثة إلا لها حكمها، بل أحكامها، مقدرين الظروف، والمنافع والمضار، دارسين عادات البلاد وعرفها وتقاليدها، عالمين الحدود التي يتسامحون فيها؛ لأنها لا تتعارض مع كليات الدين، وعارفين الحدود التي لا يتسامحون فيها لمعارضتها لهذه الكليات.
ولم يَشْكُ الناس قط في تلك الأزمنة من عدم الاجتهاد وقلته، ومواجهة الأحداث الجديدة؛ فلئن كانت شكوى فقد كانت من كثرة الاجتهاد وكثرة الأحكام، حتى اضطرت الممالك الإسلامية أن تعالج هذه الحرية في الاجتهاد بأشكال مختلفة، ففي المشرق حاولوا معالجتها باختيار مجموعة للأحكام يعرفها الناس قبل التقاضي، كما رُوي من حديث أبي جفعر المنصور مع مالك في شأن الموطأ، وفي الأندلس ألفت رسميًّا جماعة تسمى جماعة الشورى، جعلت هي المرجع في الاجتهاد.
ثم كان — مع الأسف الشديد — أن جهل الناس هذا العنصر الأساسي في الإسلام، وهو الاجتهاد، فأغلقوا بابه فأغلقوا عليهم باب الرحمة، وإذا عدم الناس الاجتهاد أصابهم الركود، وتصلب العود، والزمان لا يقف أبدًا، والحوادث تتجدد دائمًا، فإذا لم تواجه بالاجتهاد المرن، ولم ينتفع بتجددها، تخلف الناس عن زمانهم، وجمدت عقولهم، وسكنت حركتهم، وأصيبوا بالفقر العقلي، وهذا ما حدث للمسلمين فعلًا.
وقد تدرج هذا التصلب من اجتهاد مطلق إلى اجتهاد في المذهب، إلى اجتهاد في الفتيا، إلى لا شيء.
وكان لهذا الركود أسباب تاريخية عدة، لا مجال لتفصيلها، أهمها القضاء على حرية الفكر التي كان يقوم بها المعتزلة، وغلبة بعض المحدثين في عهد المتوكل، ثم غلبة نوع من التصوف ينشر القول بالجبر، لا بالمعنى الفلسفي الذي هو ربط الأسباب بالمسببات، ولكن بمعنى التسليم المطلق لحوادثِ الدهرِ، من غير تدخل في شئونها، مطالبين أن يكون العبد كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، لا يكون له حركة ولا تدبير.
وقد أحس بعض كبار المسلمين بهذا الخطر الناشئ من ضياع الاجتهاد، فحاولوا محاولاتٍ عنيفةً في هذا الباب، كما فعل عبد المؤمن بن علي في المغرب حول سنة ٥٥٠ﻫ، إذ وجد العلماء انهمكوا في الفروع، ورضوا بالتقليد، فأحرق كتب الفروع، وألزم العلماء بالاجتهاد وترك التقليد.
وكما فعل ابن تيمية عقب سقوط بغداد، إذ نادى بالاجتهاد ودعا إليه، ولقي في ذلك من العناء ما لا يوصف، ولكن مع الأسف ذهبت دعوتهم هباء.
إن وقوف الاجتهاد معناه الركود، معناه الحكم بالإعدام على العقل، معناه وقوف الناس حيث هم، وكذلك كان تاريخ المسلمين منذ القرن الخامس، حياتهم متكررة، ولا جديد ولا قائد ولا مجتهد يبعث على حركة، أو يحول الحركة إلى جهة صالحة.
ولم يكن إغلاق باب الاجتهاد مؤثرًا على التشريع وحده، ولا على الإصلاح الاجتماعي وحده، بل شمل كل مرافق الحياة، فاللغة واقفة حيث وقف المتقدمون، والمعاجم كما كتب الأولون، والصناعات كما صنع السابقون، وهكذا، وظللنا كذلك حتى صفعتنا المدنية الحديثة فانتبهنا مذعورين.
كانت المدنية الحديثة مشكلة كبرى أمامنا، كيف نحدد موقفنا إزاءها؟ وقد عرضت هذه المشكلة لكل أمة مسلمة، في الهند، في الشام، في فارس، في العراق، في تركيا، في مصر، وقد رأينا أنه في كل قطر تقريبًا، وُجِدَ مذهبان مختلفان لحل هذه المشكلة، وطريقة الإصلاح التي يدخلونها على الأمة، فأما طائفة فرأت حصر الدين في دائرة ضيقة جدًّا؛ لأنه فقد مرونته، وفقد أهله مرونتهم، ولتكن هذه الدائرة دائرة العبادات والأحوال الشخصية، وأما ما عدا ذلك من نظم الحكم وقوانين البلاد وما إلى ذلك من مرافقِ الحياةِ، فيجب أن يتجه فيها إلى أوربا ونظمها وقوانينها، فهذه باب الاجتهاد فيها مفتوح والمرونة فيها على أتمها، فلندرس ما وصلت إليه أوربا في السياسة، وفي الإصلاح الاجتماعي، ولنجتهد فيه ولنأخذ منه ما يصلح للأمم الشرقية، وليبقَ بابُ الاجتهاد مفتوحًا على مصراعيه، كلما جد في أوربا جديد اقتبسنا منه، وكلما تغير الزمن عندنا غيرنا ما يتفق والعقل والمصلحة، قالوا: لقد فصلت أوربا بين الدين والدولة فلنفصل نحن أيضًا، ولنجعل حدود الدين في العبادات وما يتصل بها، ولنجعل حدود الدولة واسعة كل السعة، وليكن شارعونا في الدولة ممن عُلِّموا على النمط الغربي، وممن يحكِّمون العقل المطلق ويجتهدون الاجتهاد المطلق، وبدل أن كان يشترط في المجتهد المطلق العلم بكليات الشريعة ومقاصدها ومراميها نشترط نحن أن يكون عالمًا بمقاصد المدنية الغربية وكلياتها ومراميها، ذلك لأنا أمام مدنية تشبه التي واجهتها جزيرة العرب أيام عمر بن الخطاب، بل هي أشد تعقدًا وتركبًا: معاملات جديدة أشكال وألوان، ومخترعات جديدة، ونظم سياسية جديدة، وكل شيء جديد، فما لم نواجهها باجتهاد مطلق قوي واسع المدارك وقفنا مشلولين، ولا أمل في مرونة كالمرونة الأولى أيام عمر — في العصور الحاضرة على الأقل — فوجب أن نجتهد اجتهادًا آخر، أساسه العقل المطلق، وقياس المنفعة والمضرة من غير قيد، ولنؤسس القومية والوطنية كما أسستها أوربا؟ ولينظر كل وطن وكل قوم في مصالحهم حسبما ترشدهم إلى ذلك عقول مجتهديهم.
وبجانب هؤلاء دعاة آخرون يرون أن الإسلام في أساسه عنصر صالح كل الصلاحية، يحمل في ثناياه المرونة الكافية — كما أسلفنا — وجمود أهله عارض، وقشرة ظاهرية إذا أزلناها بقي على صلاحيته، والأمم الإسلامية قد تأقلمت بالإسلام أجيالًا طوالًا حتى صار في لحمها ودمها، فإذا جئتها بمبادئَ جديدةٍ بعيدةٍ عنها اضطربت أمزجتها وحياتها بين الموروث والمكتسب، وهذه المدنية الغربية إنما تنفع بحذافيرها في البيئة الغربية، وأساس تعاليم الإسلام عدم التفرقة بين شئون الدين وشئون الدنيا، فالعمل شيء واحد له وجهان دائما: وجه دنيوي ظاهري، ووجه ديني يتعلق بالنية، والمدنية الغربية قد فصلت بين الدين والدولة؛ لأن الدين المسيحي لم يتعرض لشئون الدنيا، فأمكن وضع الدين في دائرته، وتأسيس دائرة أخرى للدولة وشئونها؛ وقال هؤلاء للطائفة الأولى: ربما كان يكون قولكم صحيحًا وحجتكم قوية لو أن المدنية الغربية برهنت على صلاحيتها للحياة، أما وكل يوم دليل جديد على فسادها، من حرب تهلك الحرث والنسل، ونحو ذلك من شرور، فأولى ألا نندمج هذا الاندماج، وألا ندعو إلى وطنيات وقوميات، وإنما إلى عالم إسلامي يطمح أن تعم مبادئه الإنسانية كلها، ثم أن نؤسس إصلاحاتنا الاجتماعية على أساس نظريات الإسلام، فذلك أقرب إلى قلب الأمة وأدعى إلى الإصغاء للدعوة وتلبيتها، نعم إن ذلك لا يكون إلا بإزالة القشرة الظاهرية التي غلفت الإسلام، والرجوع إلى عناصره الأولى، ومنها الاجتهاد المطلق، والمرونة الكافية، وهذا مطلب عسير، ولكنه ممكن.
إذًا فكل فرقة من الفرقتين تدعو إلى الاجتهاد المطلق، وإن اختلف منبع كل.
والعالم الإسلامي الآن حائر بين النزعتين والدعوتين، ويخيل إلي أن الدعوة الأولى غالبة والعمل يجري عليها والاتجاه إليها أقوى في صمت وسكون، والأمم الإسلامية تختلف في مدى تطبيقها والعمل بها، وربما عدت تركيا في طليعة الآخذين بها.
وعلى قادة العالم الإسلامي واجب قوي الآن، وهو إنقاذه من هذه الحيرة، ورسم الخطة المحكمة الحازمة التي يحب السير عليها، وتنظيم الإصلاح الاجتماعي حسب الفصل في هذا الأساس، ويحب ألا يكون هذا الإصلاح ارتجالًا، فليست تقبل إحدى هاتين الطائفتين هذا الإصلاح المرتجل؛ لأن الارتجال سير على غير هدى، وبناء من غير تصميم، وحبذا لو أمكن السير على الرأي الثاني، ولكنه — كما أسلفت — لا يمكن حتى يثبت أهله صلاحيتهم للمرونة، وللاجتهاد المطلق، والله الموفق.