حديث الخميس (٢)
وعدت القراء أن أوافيهم من حين إلى حين بما يدور مساء الخميس في «لجنة التأليف».
لقد كان حديث الليلة حديثًا طريفًا، فبعد أن التأم الجمع بدأ أحدنا يقص علينا عملًا عمله في يومه، وأعقبه بقوله: «لقد كانت قِرْفَته ثقيلة».
وهنا تعلق أحد الحاضرين بهذه الكلمة وسأل: من أين جاء هذا التعبير، فيقولون للعمل إذا سار في يسر وسهولة: «إن قرفته خفيفة» وإذا تعقد وارتبك: «إن قرفته ثقيلة»؟ وكلنا يعرف القرفة، وأنها نوع من الأفاويه يستعمله المصريون مشروبًا ساخنًا كالشاي، فكيف استعمل هذا الاستعمال الغريب؟
رد أحد الحاضرين بأن مصدر هذا الاستعمال حلقات الذكر، وقد جرت العادة أن يوزع فيها مشروب القرفة، ولكن توزيعها في هذه الحفلات فوضى في غير نظام ولا إتقان، فالقرفة تصنع على عجل وتوزع حيثما اتفق، فهذا يناله فنجان سكره خفيف، وهذا سكره كثير، وهذا قرفته خفيفة، وهذا قرفته ثقيلة — هذا أصل الاستعمال، ثم تطور المعنى، فصاروا يعبرون عن كل شيء خفيف الظل بأن قرفته خفيفة، وكل شيء ثقيل الظل بأن قرفته ثقيلة.
– ولكن هناك ما هو أصعب من السؤال عن اللفظ وأعقد: ما معنى أن الشيء قرفته خفيفة أو ثقيلة؟ هل هو أمر يعود إلى أسباب طبيعية يمكن تفسيرها وشرحها، أو أن وراء هذه الأشياء الطبيعية التي نعلمها أشياء روحية نجهلها؟
تبلبل الحاضرون واختلفت الآراء.
– أما أنا فإني أرى أن الأمر يمكن تفسيره بالقوانين الطبيعية، فالإنسان إذا كان معتدل المزاج، قوي النشاط، معدته صحيحة، ودورته الدموية نشيطة، وكبده في حالة جيدة، والعمل يناسبه، كانت قرفته خفيفة، وأما إذا ساء مزاجه، أو اضطربت معدته، أو ساءت حالة كبده، أو كان العمل ليس في مقدوره، كانت قرفته ثقيلة، وكل ذلك طبيعي ولا شيء غير الطبيعة.
– وأما أنا فإني أرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأنه أعقد من أن يحل بهذه السرعة، لقد أكون معتدل المزاج، متوفر فيَّ كل الشروط التي ذكرتها، وأحيانًا أعرض لعمل فيسهل، وأعرض لمثله أحيانًا فيصعب.
لقد سكنت بيتًا وكانت كل الدلائل تدل على حسنه، مبناه جميل، وهندسته جميلة، وحائز لكل الشروط الصحية، ومع ذلك كانت قرفته ثقيلة، بليت فيه بالمرض، وابتلي أولادي بالمرض، وأصبت فيه بالنكد، وكانت حياتي فيه سلسلة مصائب، حتى إذا انتقلت منه إلى بيت آخر زالت كل هذه الشرور.
– وتصديقًا لقولك، هذا رجل يتزوج زوجة قد لا تكون حسناء، ومع ذلك فهو سعيد موفق في تجارته، يأتيه الرزق من كل مكان، وتنهال عليه الخيرات وينعم بضروب السعادة، ثم تموت هذه الزوجة، ويتزوج غيرها قد تكون أجمل منها، ومع هذا يبتدئ يضيق رزقه ويقل مورده، وتكثر متاعبه، ولا يزال يتدهور حتى يصل إلى الحضيض، فكيف تفسر ذلك تفسيرًا طبيعيًّا؟
– وهذا رجل يلعب نردًا أو شطرنجًا أو ورقًا، فهو في أسبوع حسن الحظ جدًّا، يلعب فيكسب، ثم يلعب فيكسب، ويلي الأسبوع أسبوع آخر يلعب فيه فيخسر، ثم يلعب فيخسر، واللاعبون معه هم هم، وهو هو فكيف تفسير ذلك طبيعيًّا؟
– وهذا يوم اصطبحت فيه بشخص، فكان يومًا أسودَ: ركبت سيارتي فتعطلت في الطريق، فاستأجرت أخرى فاصطدمت، وذهبت إلى عملي فكان غير موفق، واشتريت شيئًا فكان سيئًا، وعدت إلى بيتي فوجدت ابني قد رجع من المدرسة مكسور الذراع، ودعوت الطبيب فلم أجده، واصطبحت بشخص آخر يومًا آخر، فكان كله توفيقًا، فكيف نفسر ذلك تفسيرًا طبيعيًّا؟ ولِمَ تَجَمَّعَ كل الخذلان في يوم؟ ولِمَ تَجَمَّعَ كل هذا التوفيق في يوم؟ إذ ذاك انقسم الحاضرون إلى معسكرين: معسكر يرى أنه لا شيء في هذا كله مما يصعب تفسيره تفسيرًا طبيعيًّا، فلا شأن للبيت المشئوم في شؤمه، ولو كان من حدثت له هذه الأحداث في أي بيت لجرى له ما جرى، إلا أن يكون في البيت نفسه شيء غير طبيعي يخل بالصحة، ودليل ذلك أن البيت الواحد قد يسعد فيه قوم ويشقى آخرون، ولو كانت المسألة مسألة البيت لاتحدت نتائجه من سعادة أو شقاء دائمًا، بل إن البيت الواحد للأسرة الواحدة قد يكون مكان سعادة لها حينًا وشقاء حينًا لأسباب خارجة عن البيت نفسه.
وكذلك الشأن في حديث الزوجة، ليس لها دخل في فقر الزوج وشقائه بعد غناه وسعادته، إلا أن يكون لها من الأخلاق ما يسبب ذلك، كإسرافها أو تبديدها أو إهمالها، فإذا لم يكن شيء من ذلك فلا بد أن تكون هناك عوامل اقتصادية أخرى غير المرأة سببت تدهور تجارته، لو حدثت أيام الزوجة الأولى لحدث الفقر نفسه، ولسنا ننكر المصادفات، وأن حوادث الشر قد تتجمع في يوم، وحوادث الخير تتجمع في يوم، ولكن كل مصادفة ترجع إلى قانون السببية.
ووقف المعسكر الآخر يحمل على هذا التفسير، ويرى أنه لا يحل الإشكال، وأنه لو كان الأمر دائمًا يرجع إلى علل معقولة فما بالنا نرى من تجمعت فيه كل شروط النجاح ثم فشل، ومن تجمعت فيه كل أسباب الفشل فنجح؟ وما بالنا نرى الشخص يضع يده في التراب فيكون ذهبًا، ونرى الآخر يضع يده في الذهب فيصير ترابًا، ولو حاولنا أن نبين لذلك أسبابًا معقولة لعجزنا كل العجز.
ثم تشعب الجدل وطال، ورأينا أنفسنا قد انتقلنا في خفة ورشاقة إلى شيء يتصل بذلك أتم الاتصال، قد كان مدار الحديث حول «القرفة الخفيفة والقرفة الثقيلة»، فإذا بنا نتحدث عن الدم الخفيف والروح الخفيف، والدم الثقيل والروح الثقيل.
– ما هذا أيضًا؟ إنا لنرى من استوفى كل شروط الجمال في لونه وتقاطيعه، ولو طبقت عليه كل القواعد التي وصل إليها علماء الجمال لانطبقت عليه، ومع هذا نقول: إن دمه ثقيل. وآخر قد اجتمعت عليه كل ضروب القبح في لونه وكبر أنفه وجحوظ عينيه وانحناء متنه، وهو مع ذلك خفيف الروح تأنس النفس به وتنجذب إليه، هذا من جنس ذاك، فما تفسيره؟ أهو أيضًا خاضع لقوانين طبيعية أو تدخل فيه قوانين روحانية؟
– تفسير ذلك أن الجمال أنواع: فمنه جمال الأعضاء والتقاطيع والألوان، ومنه جمال الحركة، وجمال الحديث، وجمال العقل والتفكير وجمال الروح، وخفة الدم ترجع إلى جمال الروح، وليس هذا فقط، بل إن الجمال سواء كان حسيًّا أو معنويًّا لا بد فيه من الانسجام بين الرائي والمرئي والشاعر والمشعور به، ومن هذا ترى الإنسان جميلًا في عين إنسان وليس جميلًا في عين آخر، وخفيف الروح في عين وثقيلها في عين، ثم قد يكون الشخص جميلًا جمالًا حسيًّا، وليس جميلًا جمالًا معنويًّا، فإذا رأيته أعجبك شكله، فإذا تكلم أو عرض عقله تبينت ثقله؛ لأن قبح عقله غطى على جمال شكله، فالمسألة كلها ترجع إلى قوانين طبيعية سواء في ذلك جمال الحس وجمال المعنى.
– أما أنا فالأمر عندي أدق من ذلك، فأعتقد أن هناك إشعاعًا روحيًّا أدق وألطف من إشعاع الضوء، وأن كل إنسان له نوع إشعاع، فإذا توافق إشعاع الناظر والمنظور على نوع من أنواع الاتفاق أحس بالجمال وعبر بخفة الروح، وإذا لم يتوافق الشعاعان عبر عن ذلك بثقل الروح، و«الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وكيف ننكر هذا الإشعاع وقد قربنا من إدراكه اكتشاف اللاسلكي، وأمواج الروح أدق من أمواج السلكي واللاسلكي.
– ولكن إذا كان هذا صحيحًا فلم نستثقل شخصًا ثم نستلطفه أو نستلطفه ثم نستثقله؟ ولو كان الأمر أمر إشعاع وتوافق لاستمر ذلك أبدًا ولم يحدث فيه هذا التغير؟
– الأمر يمكن تفسيره بأن هناك طاقات ينفذ منها الإشعاع، تفتح فيخرج إشعاعها وتغلق فينعدم، فهذه طاقة إشعاع تنفتح عند الحديث، وأخرى عند الخطابة، وثالثة عند تلاقي العيون، ورابعة عند الحركات، وهكذا، وقد تكون أشعة طاقة من الطاقات لطيفة جميلة، وإشعاعات طاقة أخرى ليست لطيفة ولا جميلة، وقد تكون جميلة بامتزاجها مع إشعاعات شخص، وليست جميلة إذا امتزجت مع إشعاعات آخر، ومن أجل ذلك ننظر إلى شكل إنسان فنستجمله فإذا تحدث نستقبحه، وإشعاعات الأفراد تختلف كمية وكيفية، فتختلف كمية كقوة مصابيح الكهرباء، وتختلف كيفية كالأمواج القصيرة والطويلة والمتوسطة، ولهذا يختلف الأفراد في قوة التأثير حسب قوة الإشعاع وضعفه وكثرته وقلته.
– هذا كلام شعري لا كلام علمي، هو كلام يستسيغه الأديب الذي يروعه التشبيه والاستعارة وسائر ضروب الخيال، ولكن لا يأبه له العالم الذي يحلل ويعلل ولا يقنع إلا بالسبب والمسبب.
– وما ضرر هذا وليست حقائق الدنيا كلها علمًا، بل فيها العلم والأدب؟ وطبيعة العالم فيها الصنفان جميعًا، هذا النهر يتكون من عناصر الماء العلمية ومن جمال مناظره الأدبية، من أوكسيجينه وهيدروجينه، ومن بريقه وخريره، وهذه الأشجار تتكون من عناصرها الأولية ومن زهرتها الجميلة وحفيف أوراقها الجميل ولعب النسيم بأغصانها الجميلة، فلماذا تريدنا على العلم الجاف، ولا تريدنا على الأدب الجميل، إذا كانت حقائق الدنيا فيها النوعان معًا؟ ثم ما هذا الغرور العلمي الذي يريد ألا يؤمن إلا بما يقع تحت حسه ولا يقر إلا بما يحلله في معمله؟ فكم في الدنيا من عوالمَ: عالم يخضع لقوانين السببية وعالم لا يخضع، عالم اكتشف وعالم سيكتشف، وعالم لا كشف ولا سيكتشف، وكل يوم يطلع على العلم بقوانين جديدة، وكل يوم تتسع فيه دائرة المعلوم وتضيق دائرة المجهول.
– أما إن وصلنا إلى هذا فالأمر يسير، فأنا — كعالم — أقف عند حدود العلم، ولا أومن بالفروض حتى تدخل في باب الحقائق، ومع هذا لا أدعي أن العلم وصل إلى كل شيء، وحل كل شيء، وإنما الذي أنكره عليك أن تعرض جمال الروح وقضايا الإشعاع على أنها علم لا فرض، أما إن عرضتها كفرض فلنبحثها بحث الفروض.
ودقت الساعة مؤذنة بالانصراف فتفرقنا، وكانت جلسة روحها خفيفة، وقرفتها خفيفة، أليس كذلك؟