أبو ذر الغِفَارِيّ
لم يكن أبو ذر بطلًا من أبطال الحروب تؤثر عنه المغامرات الحربية وتؤثر عنه الانتصارات والفتوح، ولكنه بطل من نوع آخر، هو الإصرار على الحق والمجاهرة به والتضحية في سبيل قوله والدعوة إليه بنفسه وماله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تفزعه سطوة حاكم.
هو من قبيلة تسمى غفار، قبيلة مضرية كانت تسكن الحجاز على الطريق بين مكة والمدينة، ولم يكن عظيمًا في قومه، يستند — كعادة الجاهلية — في عظمته على الحسب والنسب، والمال والثروة، وإنما كان عظيمًا في عقله، يحكِّمه في دينه وفي عقيدته، ويستطيع إدراك ما هو خير وما هو شر، لذلك يؤثر عنه أنه قبل الإسلام أدرك سخافة عبادة الأصنام وتحرر منها، ومال إلى عبادة الله وحده، على نحو غامض لم ينكشف له تمام الانكشاف إلا بالإسلام.
وأدرك قومه الجدب فرحل مع بعض أهل بيته إلى بعض أقاربه في أعلى نجد، ولكنه لم يسترح هناك فهاجر إلى مكة، وصادف عند هجرته أول دعوة محمد ﷺ إلى الإسلام، وسمع الناس في مكة يتحدثون بمحمد هل هو نبي أو ساحر أو شاعر أو مجنون، فأحب أن يخبر الخبر بنفسه ويعرف كنه دعوته، ويحكم في ذلك عقله هو لا كلام الناس، وساعده على ذلك أنه نفسه كان ثائرًا على الأصنام، فلما سمع بثائر آخر أحب أن يعرف دعوته، فتلمس لقاء محمد حتى وجده، وأصغى إليه، وإلى أساس تعاليمه، فعرف فيها الخير، فسرعان ما آمن قبل أن يؤمن الناس، وكان خامس مؤمن.
ولكنه لما آمن تحرك طبعه من حب مجاهرته للحق، فلم يشأ أن يسكت وقد نُصح بالسكوت، فتعرض لصناديد قريش وجهر فيهم بالإسلام، فأوذي وضرب ضربًا شديدًا حتى كاد يقضى عليه لولا أن تدخل العباس وقال لقريش: يا معشر قريش أنتم تجار، وطريقكم على غفار، أتريدون أن يقطع الطريق عليكم، فكفوا عنه، وعاود ذلك فعادوا، فأدرك النبي ﷺ أنه لن يسكت، وأنه معرض للقتل، فأمره أن يلحق بقومه حتى إذا ظهرت الدعوة فليأته، فرجع إلى بلده يدعو بعقيدته، ثم ظهر بعد أن هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وبعد غزوة بدر وأحد، فإن أبا ذر لم يشهدهما.
وكان أبو ذر من أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في مسجد المدينة كان يأوي إليه فقراء الصحابة ممن لم يكن له منزل يسكنه، كانوا فقراء فكان يمدهم الأغنياء بمالهم، ويقدمون إليهم طعامهم ويستضيفونهم في منازلهم، وإذا أتى النبيَّ صدقةٌ بعثها إليهم، يلبسون رقيق الثياب ويأكلون تافه الطعام، وكانوا يختلفون في العدد من حين إلى الآخر، فكانوا أحيانًا سبعين وأحيانًا دون ذلك أو أكثر من ذلك، وكان النبي يزورهم في مكانهم الفينة بعد الفينة ويحدثهم ويصغي إليهم، ولأنه كان يقوم الأشياء والناس غير التقويم الجاهلي من الاعتزاز بالمال والنسب، وإنما يقومهم بالأخلاق والعمل، كان يكرم هؤلاء ويقدرهم ولا يرى غضاضة في الجلوس إليهم، وكان صناديد العرب يأنفون من ذلك ويعدونهم عبيدًا أذلاء لا يصح أن يجالسوهم، فلما جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وأمثالهما إلى المسجد طلبوا من النبي أن يفردهم بالجلوس وقالوا: إنا نستحي أن ترانا العرب قعودًا مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فنزل قوله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وكان من أهل الصفة هؤلاء أمثال أبي ذر وسلمان الفارسي وبلال وأبي سعيد الخدري وغيرهم.
كانت ميزتهم المشتركة بينهم الفقر، وكثرة الاتصال برسول الله، ثم هم يختلفون بعد ذلك في مزاياهم الشخصية.
وكان لرسول الله ﷺ نظر صائب في الأشخاص ومواضع قوتهم وضعفهم، وكان يوجه كُلًّا حسب استعداده وما يصلح له، ويلقي بالنصيحة لكل فتُذهب خبثه، وتصهر نفسه.
ولقد كانت نصيحته الكبرى لأبي ذر التي تتفق ونفسه، وما عرف عنه من قول الحق والدفاع عنه ما حدث به أبو ذر أنه قال: «أوصاني رسول الله أن أحب المساكين وأدنو منهم وأنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر لمن هو فوقي، وألا أسأل أحدًا شيئًا، وأن أصل الرحم، وأن أقول الحق وإن كان مرًّا، وألا أخاف في الله لومة لائم».
وقد نفذ أبو ذر هذه النصيحة في دقة، فلم يحد عنها.
جاءت الدنيا بخيرها ونعيمها، فعمت العرب، واغتنى بعض أهل الصفة، وظل أبو ذر متلذذًا من فقره، متخففًا من حاجاته، متعففًا عن الغنى حتى لقي ربه.
يعطَى العطاء فينفقه على الفقراء، ويتصدق به على المحتاجين، ولا يدخر لنفسه إلا القليل، يرى من النعم الكبرى عليه أن له ثوبين، ثوبًا لبيته وثوبًا للمسجد، وله أعنزًا يحلبها، وله أحمرة يحمل عليها الميرة، وعنده من يخدمه ويكفيه مهنة طعامه، ويقول فأي نعمة أفضل مما أنا فيه، ويحلب غنيماته فيبدأ بجيرانه وأضيافه، ويبقي القليل لنفسه، ويرفق بزوجته السحماء السوداء، ولا يقبل نصيحة أصحابه في أن يتزوج غيرها.
ميزة أبي ذر الكبرى هي ما نصحه به رسول الله أن يقول الحق ولو كان مرًّا، فقد تجلت فيه هذه الصفة على أتمها، حتى اعترف له بها كل الناس، وحتى روي عن علي أنه قال: «لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر، ولا نفسي، وأشار بيده إلى صدره»، وكان أبو ذر نفسه يقول: «ما زلت آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر حتى ما ترك الحق لي صديقًا».
تجلت فيه هذه الموهبة على أتمها — فيما تجلت — في آخر أيامه، وقد ذهب إلى دمشق، وواليها معاوية من قِبَلِ عثمان، والبلد تزخر بالنعيم، وتتدفق بالذهب والفضة، والناس ينعمون بأطايبِ العيش ومتع الحياة، وكان قد ذاق وذاق معه كثيرون ألم الفقر في الحجاز، وجرَّب بنفسه آلام البؤس، فحزَّ في نفسه ترف هؤلاء، وبؤس هؤلاء، وتلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فتملكته عقيدة أنه لا يصح الإفراط في الترف بجانب الإفراط في البؤس.
اصطدم أبو ذر بمعاويةَ، وطبيعي أن يصطدما، فمعاوية رجل سياسي، محاور مداور، فيه الاعتزاز بالأرستقراطية العربية، من اعتداد الحسب والنسب، فأبوه أبو سفيان سيد بني أمية، والخليفة عثمان من بيته، وأبو ذر رجل من سواد الناس لا يعتز إلا بدينه وخلقه، ومعاوية هو الوارث في إمارته بالشام ملك الرومان وزهوهم وفخامتهم وجبروتهم وأبهتهم، يسكن القصور الفخمة ويعيش العيشة المترفة الناعمة ويتلو قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وأبو ذر بدوي لا يملك إلا أعنزًا وثوبين وقليلًا من الميرة ويعيش حتى في دمشق في خيمة من الشعر، ويرى الذهب والفضة نارًا لا يصح أن تلمسها يده فتحترق، ويتلو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، ومعاوية سياسي ينظر للمال على أنه يخدم السياسة ويدعم الملك والإمارة، فهو يتألف به قلوب النافرين، ويقرب به نفوس الثائرين، ويهبه للشعراء يشيدون بذكره ويعلون من شأن بيته، ويمكنون له في سلطانه، ويهجون المنحرفين عنه، والناقمين عليه وما إلى ذلك من أفانين السياسة، وأبو ذر رجل صريح لا شأن له بالإمارة، وقد عرف فيه رسول الله ذلك، فقال له: «لا تأمَّرنَّ على اثنين»، فهو ينظر إلى الأمور نظرة صريحة مجردة من اعتبارات السياسة وملابساتها، ويرى أن المال إنما جعل وسيلة لإسعاد الناس، وسد حاجات البائسين، وإعانة المعوزين، لا لترف المترفين، ولا لإعطاء الشعراء والمادحين والثائرين، ولا لكنز الكانزين، وأن المال خلق لسد الضرورات أولًا، ولترف المترفين أخيرًا.
فلا عجب وهذا هو الشأن أن يصطدم أبو ذر بمعاوية اصطدامًا عنيفًا، وأبو ذر على بساطته وبداوته وفقره لم يكن رجلًا هينًا، يستطيع معاوية — على عظمته وسلطانه وسعة حيلته — أن يتغلب عليه في سهولة ويسر، فقد كان أبو ذر حارًّا في عقيدته، والعقيدة الحارة تزلزل الجبال، وكان لسنًا يجيد التعبير عما في نفسه، فيبلغ ببيانه من نفوس سامعيه مبلغًا كبيرًا يخيف معاوية، ولكن ماذا حدث؟ حدث أن معاوية في الشام كان إذا جاءه مال من ضرائبَ أو خراجٍ أو نحوِ ذلك احتجز بعضه للصرف على المصالح العامة التي منها مصارف السياسة التي أشرنا إليها، وكان معاوية يسمي هذا الجزء المحتجز «مال الله»، تمشيًا مع قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ ومعنى مال الله أن الإمام يصرفه حيث يشاء في المصالح العامة، فلم يُرْضِ أبا ذر هذا الرأي، ولا هذه التسمية، ورأى أن المال يجب أن يصرف أولًا في سد حاجة الفقراء، وأنه يجب أن يسمى مال المسلمين.
وذهب إلى معاوية، وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال معاوية: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟! قال أبو ذر: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين. اختلفت نظرية أبي ذر ومن تبعه، ونظرية معاوية ومن على رأيه ومنهم الخليفة عثمان، فعثمان ومعاوية ومن على رأيهما يرون أن وسائل الكسب حرة مفتحة أمام الجميع، فمن استطاع أن يغتني من طرقها المشروعة فليغتنِ، فإذا اغتنى وجب عليه أن يؤدي الزكاة للفقراء على حسب الشريعة، ثم هو بعد ذلك حر في أن ينعم بالحياة أو يزهد فيها، فإذا هو شاء النعيم في حدود ما أحل الله، فلا حرج عليه في ذلك، وقد عبر عن ذلك كله عثمان بن عفان بقوله لأبي ذر: «يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد».
وأما نظرية أبي ذر فهي أن الناس مطالبون أن يعينوا بمالهم الفقراء، وأن الزكاة ليست هي كل ما يجب، وإنما هو الواجب القانوني، ووراء هذا الواجب القانوني واجب أخلاقي وديني، وهو معاونة البائسين والمحتاجين حتى يذهب بؤسهم واحتياجهم، وليس لأحد أن ينعمَ كلَّ النعيمِ وجاره بائس كل البؤس، وقد عبر عن ذلك بقوله لعثمان: «لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات».
على كل حال اصطدمت النظريتان، وأحس معاوية بخطر أبي ذر في الشام، وأن دعوته خطرة من جهتين، من جهة خطرها على حرية الغنى، وحرية العمل، وحرية الكسب، وحرية الاستمتاع بالحياة، ومن جهة أخرى أن بعض رءوس الفساد يستغل هذه الدعوة، ويستغل طهارة أبي ذر فيشعل الفتنة في التأليب عليه وعلى دولته.
فكتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر ودعوته، فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خُطمها وعَيْبَتَهَا، فلم يبق إلا أن تثبت، فلا تنكأ القرح، وجهز أبا ذر، وابعث معه دليلًا وزوده وارفق به».
فبعث إليه أبا ذر فحاجه عثمان فلم يقنعه، وطلب إليه أن يسمح له بالخروج إلى بلدة بعيدة عن الناس، فسمح له فخرج إلى الربذة (وهي قرية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق مكة)، وما زال بها حتى مات رحمه الله.
لقد كانت أكبر ميزة فيه حبه للحق، وصراحته فيه، وعمله وفق عقيدته، لقد اعتقد هذه العقيدة في المال فألزم نفسه اتباعها، ولقد كان — على فقره — يحلب غنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه، ويقدم لهم ما عنده من تمر، ثم يعتذر إليهم ويقول: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به، ويبيت أحيانًا على الطوى، وعرف منه رسول الله هذا الخلق، فقال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
ولطيفة أخرى له، وهو أنه خالف معاوية واشتد في مخالفته، وخالف عثمان واشتد في مخالفته، ولكنه رأى أن الأمور لا تصلح إلا بطاعة من بيده الأمر بعد أن يبين له وجه الحق في صراحة، وأنه إذا عمل كل حسب رأيه من غير طاعة لرئيس أصبح الناس فوضى، فكان هذا من أجمل المواقف لأبي ذر، حدث المؤرخون: «أن أبا ذر وعثمان تناجيا حتى ارتفعت أصواتهما، ثم خرج أبو ذر مبتسمًا، فأتاه نفر من أهل العراق فقالوا: يا أبا ذر، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لنا راية (؟) (يريدون راية الثورة)، قال: يا أهل الإسلام لا تعرضوا عليَّ ذاك، ولا تذلوا السلطان، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو سيرني ما بين المشرق والمغرب لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي». رحم الله أبا ذر، فقد كان محبًّا للحق، مخلصًا له جاهرًا به ملتزمًا له.