العلماء في حضرة تيمورلنك
كان تيمورلنك من هؤلاء الأفذاذ الذين يظهرون من آن لآخر في التاريخ، فيصبغون أديم الأرض بالدماء، أمثال الإسكندر وهولاكو ونابليون، ويتجلى عليهم الله باسم المنتقم الجبار، كما يتجلى على الأنبياء باسم الرحمن الرحيم أو الهادي الأمين.
تواتيهم الظروف وتسعفهم الأقدار، فيقطعون الأرض طولًا وعرضًا، وشرقًا وغربًا، كما يقطع اللاعب رقعة الشطرنج، فيخربون ويدمرون، وينكلون بمن يقف في سبيلهم، أو تحدثه نفسه بصدهم، قد جردوا من ضمير مؤنب، أو وجدان مشفق، تلذهم الدماء كما يلذ الأكل الشهي النهم الأكول، أو كما يلذ الماء الزلال الظامئ الصادي، كأن بينهم وبين الإنسانية ثأرًا، فلا يهدأون حتى يقضوا عليها، ويطووا صحيفتها، وهم مع هذا كله يعتقدون أن العناية الإلهية أرسلتهم ليدفعوا الظلم، وينشروا في الأرض راية العدل! وويل للإنسان من العقل، فهو قدير أن يسمي أقسى الظلم غاية العدل، وأن يسمي التخريب تعميرًا، وأن يسمي الوحشية إنسانية، وهو في كل ذلك يجد المنطق الذي يخدمه، والبرهان الذي يؤيده.
•••
كان لتيمورلنك قلب أقسى من الحديد، وأصلب من الجلمود، لا تأخذه رأفة، ولا تلجه رحمة، سلط على ممالك آسيا فدوخها، وصاد سلاطينها، وأباد البلاد، وأهلك الحرث والنسل، وأزهق النفوس، وبنى القلاع من الرءوس، وكان كما حدث عن نفسه: «في قدمه ثلاثة أشياء: الخراب والقحط والوباء».
ولكن كان له بجانب قسوته وغلظته جوانب غريبة، كان له فراسة في الأشخاص ولا فراسة إياس، تستخرج من أعماق الصدور ما لا يستخرجه القياس، وكان إلى هذا يألف الأولياء والعلماء، وتلذه مجالسهم ورؤيتهم، وأحاديثهم ومناقشتهم، يستمد البركة من الأولياء، ويزورهم ويطلب دعاءهم، وإذا فتح بلدة دعا علماءها للمجادلة معهم.
سمع — وهو بخراسان — عن ولي من أولياء الله ذي كرامات ظاهرة ومكاشفات صادقة، اسمه زين الدين أبو بكر الخوافي، فقصده تيمورلنك ونزل عن فرسه ودخل عليه، فقام الشيخ له، فانحنى تيمورلنك على رجله يقبلها، فوضع الشيخ يده على ظهره ثم رفعها، فقال تيمور: «لو لم يرفع الشيخ يده لقضى علي، فقد تصورت أن السماء تقع على الأرض وأنا بينهما»، ثم جلس في أدب بين يدي الشيخ وقال له: لم لا تأمرون ملوككم بالعدل بين الرعية؟ فقال له الشيخ: أمرناهم فلم يأتمروا فسلطناك عليهم، ففرح تيمور بهذا وقال: «ملكت الدنيا ورب الكعبة».
هذا موقفه من الأولياء يحترمهم ويطلب الدعاء منهم ويعتقد فيهم، ولكن موقفه من العلماء كان غير ذلك، يتفرس فيهم ومن زل منهم لا يرحمه، يلعب بهم كما يلعب الذئب بالحمل أو القط بالفأر، ويلذه فيهم أن يوجه إليهم الأسئلة المحرجة وينتظر كيف يجبيون وكيف يخرجون من المأزق الذي وضعهم فيه، ثم هو بعد ذلك حسب أحواله، فتارة يسر من الإجابة ويبسم، وأحيانًا يعبس، وأحيانًا يعفو، وأحيانًا يقتل.
وكان لتيمورلنك إمام يصلي به، وهو عالم جليل يتولى أمام تيمور مناقشة العلماء وجدالهم، وهو عبد الجبار المعتزلي الحنفي الخوارزمي، برع في فنون العلم ومهر في الفقه والأصول واللغة والبلاغة والأدب، وكان فصيحًا في اللغات الثلاث: العربية والفارسية والتركية، له جاه عند تيمور، يلطف من حدته وقسوته أحيانًا، وقد صحبه في فتح الشام وتولى أمامه مناقشة علمائه وإحراجهم بالأسئلة العويصة.
من ذلك أنه لما فتح «حلب» واستولى على قلعتها، دعا علماءها وقضاتها، فانتخبوا من بينهم من يجيب عنهم وهو ابن الشِّحنة أحد العلماء المشهورين، كان من أصل تركي وتولى القضاء بحلب، وله كتابه التاريخ المعروف، واشتغل بالحركات السياسية في مصر والشام.
انعقد المجلس وفيه تيمور وعبد الجبار والعلماء، فقال عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قتل منا، وقتل منكم، فمن الشهيد؟ قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع، وقال العلماء في أنفسهم: هذا والله ما بلغنا عنه من التعنت.
وأحرج ابن الشحنة حقًّا، أيقول قتيلكم فيكذب نفسه ويغضب ربه، أو يقول قتيلنا فسيف تيمور على رأسه؟
ولكنه كان داهية ملهمًا، فقال: هذا سؤال سئل عنه رسول الله ﷺ وأجاب عنه.
فبهت الحاضرون وظنوا أن الشيخ أدركه الخبل، وغضب تيمور وقال: أيسخر من كلامي، كيف سئل رسول الله، وكيف أجاب؟! قال: جاء أعرابي إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الرجل يقاتل حَمِيَّةً، ويقاتل شجاعة، ويقاتل لِيُرَى مكانُه، فأينا في سبيل الله؟ فقال رسول الله: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد».
فسر تيمور لهذا الجواب، وأعجب بدهاء الشيخ ولطف بديهته، وأخذ يؤانس العلماء.
ثم أخذ يسألهم أسئلة أخرى، فلما شعروا بلطفه نقضوا توكيلهم للشيخ ابن الشحنة، وأخذوا يتسابقون للإجابة، ولم يكونوا في مهارته ولا خبرته.
كان تيمور شيعيًّا يفضل عليًّا على أبي بكر وعمرَ، وكان يكره من أهل الشام نصرتهم لمعاوية وقتالهم عليًّا، ولكن العلماء لا يدرون ذلك، إنما يدريه الشيخ ابن الشحنة الداهية المؤرخ.
سأل تيمورُ ابنَ الشحنة: ما تقول في علي ومعاوية ويزيد؟ فقبل أن يجيب ابن الشحنة أجاب القاضي علم الدين فقال: الكل مجتهدون، والكل على صواب، فغضب تيمور غضبًا شديدًا، وسب أهل حلب وقال: أنتم حلبيون وتابعون لأهل دمشق، وهم يزيديون، قتلوا الحسين وأعانوا يزيد.
فكانت ربكة، وكانت حيرة، وكان وجوم.
ولكن ابن الشحنة أنقذ الموقف أيضًا، فقال: إن الشيخ علم الدين أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فسرّي عن تيمور وعاد إليه بشره.
وانتقل بعد ذلك تيمور إلى دمشق وفتحها، ووقف من علمائها موقفه في حلب.
فذهب إليه جماعة من العلماء وعلى رأسهم الداهية المؤرخ الآخر ابن خلدون، وذهب إليه بلباسه المغربي، وزيه الأنيق الرقيق، وقد أنابه العلماء أيضًا في الكلام عنهم، ورضوا بأقواله لهم أو عليهم، فعرف تيمور من شكله وزيه أنه ليس من أهل هذه البلاد، ثم دعاهم تيمور إلى الطعام، ومد سماطًا كوم عليه اللحم تلالًا، فمنهم من أكل، ومنهم من جبن، وجعل تيمور يلحظهم ويتفرس فيهم، وابن خلدون يسترق النظر إليه، فإذا وقعت عينه على عين تيمور أطرق، وإذا ولى عنه رمق، ثم جاءت فرصة الكلام، فقال ابن خلدون كلام اللبق الحاذق الماكر، قال: رأيت الملوك، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها، وخالطت ملوكها وأمراءها، ولكن الله منَّ علي بأن أحياني حتى رأيت الملك على الحقيقة، وطعام الملوك إن كان يؤكل لدفع التلف، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك وللفخر والشرف، فسر تيمور بذلك، وسأله عما يعرف من أحوال البلاد وأخبارها.
واجتمع يومًا علماء دمشق بين يدي تيمور، فأثار ثانية مسألة علي ومعاوية، إذ هي أنسب المسائل التي يتذرع بها للتنكيل بأهل الشام، وذكر يزيد ومقتل الحسين، وقال: إن هذه الأعمال كانت بمظاهرة أهل الشام، فإن كانوا مستحليها فهم كفار، وإن كانوا غير مستحليها فهم عصاة أشرار، وقد هدأ من ثائرته أحد العلماء محمد بن عمر المعروف بأبي الطيب، فقال: إن نسبي يتصل بعمر وعثمان، وكان جدي الأعلى ممن حضر تلك الوقائع، وقد توصل إلى رأس الحسين ونظفه وغسله ودفنه، ولذلك سموه أبا الطيب، وتلك أيها الأمير أمة قد خلت، وفتن أزاحها الله عنا، ودماء طهر الله سيوفنا منها، فلا خير في إعادة الماضي ونبش ما دفن.
وقد أرضاه هذا الكلام على علاته، وصادف حالة الرضا من حالاته.
ولكن لعل ألطف ما حدث في هذا الباب مجلس مثل هذا، أثار فيه تيمور سؤالًا من أسئلته المحرجة، وهو: أيهما أعلى، درجة العلم أم درجة النسب؟
وموضع الإحراج فيه أن تيمور يعتز بنسبه لا بعلمه، والعلماء يعتزون بعلمهم لا بأنسابهم، ويقررون أن شرف العلم فوق شرف النسب.
سمع العلماء هذا السؤال فوجموا وأحجموا عن الجواب، ولكن أحدهم تردد بين أن يسكت سكوتهم أو يجهر برأيه، ولم يلبث إلا قليلًا حتى أخذته الحمية الدينية والعصبية للحق، كان هذا العالم هو شمس الدين النابلسي الحنبلي، اشتهر بالعلم الواسع، حتى لقب بالجنة؛ لأن لديه من العلم ما تشتهيه الأنفس.
لم تطاوعه نفسه أن يكون لبقًا كابن الشحنة وابن خلدون، ولا أن يواري ويداري كما فعل غيره، ولكنه أراد أن يكون صريحًا كلَّ الصراحةِ صادقًا كل الصدق، وأراد أن يقول الحقيقة كلها عارية، صرخ في وجه تيمور وقال: «العلم أعلى من النسب» ولم يكتفِ بذلك، بل استدل بأدلة في الصميم مما يكره تيمور، فقال: الدليل على ذلك أن الصحابة أجمعت على تقديم أبي بكر على علي، لأن أبا بكر أعلم، وإن كان نسب علي أشرف.
وما أتم هذا حتى أدرك نتيجة ما فعل، فلم يتراجع ولم يجمجم وصمم على أن يتم فصول الرواية فأتمها بفصل ظريف حقًّا.
نظر الحاضرون فرأوه يفك أزراره ويخلع إزاره، فدهشوا ودهش تيمور، وسأل: ماذا تصنع؟ فقال: إني قلت ما قلت وأنا أعلم بنتيجته، فأنا أستعد للسعادة، وأختم حياتي بالشهادة.
وعلا الجميع رهبة رهيبة، وشُدت أعينهم بلسان تيمور، ينظرون بماذا يأمر وبأي نوع من القتل يشير، وهم يعلمون أنه يقتل بالظنة، ويخسف بالناس الأرض للكلمة الخفيفة، وللقول يحتمل التأويل، فكيف بهذا وقد بلغ الغاية في الإساءة وتجاوز الحد في الصراحة؟ ولكن الله مقلب القلوب أجرى على لسان تيمور هذا القول ولم يزد عليه: «لا يدخلن عليَّ هذا بعد اليوم».