الحِلْف العربي
كتب إلي صديق سوري يقول: «أليس عجيبًا أن يقف رجال الفكر في العالم العربي موقفًا سلبيًّا، فيكتفوا بقراءة الأخبار والأحداث من غير أن يكونوا لأنفسهم رأيًا في مستقبلهم؟ أوليس من العجيب أن يقرأ العالم العربي أن إنجلترا تؤلف هيئة رسمية لبحث تنظيم العالم بعد الحرب، ويخطب الخطباء من الإنجليز والأمريكيين في مستقبل العالم بعد الصلح، ولا نسمع أن أولي الرأي في العالم العربي فكروا أو اجتمعوا لبحث موقفهم وما يؤول إليه مصيرهم، كأنهم عبيد تركوا تدبير شئونهم لسادتهم؟! أوليس عجيبًا حقًّا أن تمتلئ أعمدة «الثقافة» بالكلام في اليابان وروسيا، والقانون الدولي، وما إلى ذلك، ثم لا يمتلئ عمود واحد فيها في موقف العرب، ومصير العرب، وآمال العرب، كأن الأمر لا يعنيكم، فكنتم في ذلك كالحاضنة بيض غيرها وهي تترك بيضها في العراء؟ ولست أظن أن السياسة تحول بينكم وبين ما تبدونه من آراء، لأن عرض هذه المسائل فيه مصلحة مزدوجة للأمم العربية، فتحدد مصيرها وتحرك أفكارها وتفتح آمالها، والأمم الصديقة فتعرفها ما يجول بخاطر العرب وما تتطلبه وما تأمله» إلى آخر ما قال.
وهو كتاب ممتع طويل، أجتزئ منه بهذا القدر؛ لأنه هو الذي يهمنا في موضوعنا اليوم، وكلام الصديق كلام حق، ولكني آسف أشد الأسف؛ لأن الموضوع شاق عسير متشعب النواحي، يحتاج الكاتب فيه أن يدرسه دراسة واسعة عميقة، وأن يطيل التفكير في كل رأي يبديه، وقد علمنا التعليم الجامعي ألا نكتب إلا بعد درس، ولا نخط كلمة إلا بعد تفكير، فإن قصدت — أيها الصديق — من كتابك أن أكتب في هذا الموضوع كتابة جدية مستوفاة، فإني أعتذر إليك؛ لأن الأسباب كلها لم تهيأ لي، أما إن أردت أن أقول بعض كلمات فطيرة لا يكون الغرض منها إلا توجيه النظر، وإثارة ذوي الرأي، وفتح الكلام في الموضوع، واستعراض بعض المسائل الهامة، فذلك في إمكاني.
في ذهني صورة لحلف عربي هي مجال للأخذ والرد، والتعديل والتبديل، وهي أن يتكون الحلف العربي الآن من دول أربع: مصر والسودان وحدة، والشام وفلسطين ولبنان وشرق الأردن وحدة، والعراق وحدة، وبلاد العرب وحدة، وأن تكون كل وحدة مستقلة في شئونها الداخلية، وأن تربطها مع سائر الوحدات روابط ثقافية واقتصادية وسياسية، فأما الروابط الثقافية فأن تكون لكل وحدة جامعة تكون منارة للحركة العقلية، تتكون حسب ظروف كل وحدة وبيئتها ومقدار ثقافتها، وأن تعنى كل جامعة العناية الكبرى بتاريخ أمتها وطبيعة إقليمها وتراثها القديم بجانب الثقافة العامة المشتركة، وأن يكون لكل جامعة مجلسها وإدارتها، وبجانب ذلك يكون مجلس أعلى تمثل فيه كل الجامعات، وهو الذي يقرب بين نظمها ويوحد — بقدر الإمكان — اتجاهها، ولا يتدخل إلا في المسائل العامة التعليمية، وأن تتبادل هذه الجامعات المنتجات العلمية، فتتبادل المؤلفات والمجلات، وتتبادل الأساتذة، وتتبادل رحلات الطلبة والأساتذة، وتسهل وسائل التحاق الطلبة في كل إقليم بأي جامعة حسب شهرة أساتذتها ونبوغ كل في فرع من فروع التعليم.
ثم يكون هناك مؤتمر يتكون من عدد محدود من رجال التعليم في كل أمة، يجتمع كل سنة في الأقطار المختلفة على التعاقب، وفي هذا المؤتمر يتلو ممثلو كل أمة تقريرًا عن حالة التعليم في أمتهم، ويعرضون المشاكل التعليمية التي اعترضتهم في عامهم، ويسمعون الآراء المختلفة في حلها، ويرسمون السياسة العامة للتعليم، والسياسة الخاصة لكل قطر حسب بيئته ودرجة ثقافته ومطالبه الاجتماعية.
وأما الروابط الاقتصادية فتنظيم الجمارك بين هذه الدول على أساس أفضليتها على غيرها من الدول الأخرى، وتنظيم إنتاج كل أمة حسب طبيعة إقليمها وشهرتها الصناعية وما إلى ذلك، على أساس التعاون المشترك كما يرسمه الإخصائيون الاقتصاديون.
وأما الروابط السياسية فهي أصعب الروابط وأعقدها، وهي نوعان: روابط بين هذه الوحدات الأربع، وروابط بينها وبين الأمة الأوربية الحليفة.
فأما الروابط بين هذه الوحدات الأربع فإني أتصورها كعصبة أمم عربية، يوضع لها نظام خاص تتقى فيه العيوب التي تكشفت في عصبة الأمم الغربية، فقد كان أهم عيوبها تسخيرها لمصلحة أمة أو أمتين، وعدم اشتراك أمريكا فيها، وعدم القوة الكافية التي تسندها حتى تستطيع أن تنفذ قراراتها، ونحو ذلك، فلنتق هذه العيوب في عصبة الأمم العربية، وليكن أساسها ما قال الله — تعالى —: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وهذا يتطلب أن يكون للعصبة قوة مشتركة أقوى من قوة كل أمة منفردة، وأن يكون لها جيش مشترك، وأن يكون ممثلوا العصبة من أحكم رجال الوحدات وأعقلهم وأصلبهم وأحبهم للخير، وأن يكون نظرهم أوسع من أن ينظروا إلى أمتهم وحدها، ومصلحتها الخاصة وحدها.
ثم هذه العصبة لا تتدخل في المسائل الداخلية البحتة، فلكل أمة حريتها في داخليتها، لا يحدها من ذلك إلا النظر في المصالح المشتركة.
وإذا نجحت هذه العصبة العربية كانت نواة في المستقبل لعصبة أمم شرقية، تضم تركيا وإيران وأفغانستان، وتونس والجزائر ومراكش.
وتكوين عصبة على هذا النحو أنفع للعالم وللإنسانية، فهي تخلق من الشرق قوة تعمل في خدمة العالم، وإلا فما مصلحته في أجزاء صغيرة مفرقة لا تتعاون ولا تتسامى؟ ليس في مصلحة أي جسم أن يكون بعض أعضائه مشلولًا، والنظر القصير فقط هو الذي يُؤْثر ضعف جزء منه ليستغله في مصلحة الجزء الآخر، يجب أن يكون كل عضو صحيحًا، وكل عضو قويًّا، وكل عضو منتجًا ومستهلكًا، وهذا ما لا بد أن يسود العالم اليوم أو غدًا.
في كل وحدة من هذا العالم العربي قوة كامنة وصلاحية للعمل والنهوض، وفي كل منها مزايا كأفراد الأسرة الصالحة، ولا ينقصها إلا أن تستكشف مزاياها ويفسح الطريق لها، فيعمل كل حسب ملكاته واستعداده ومزاياه، ويكمل نقص الآخرين، ويستكمل نقصه من مزايا الآخرين.
أما علاقة هذه العصبة أو هذه الوحدات بالأمة الأوربية الحليفة فقد عقدت معاهدات بين أكثر الأمم الشرقية وبين الدول الحليفة، فما الذي يمنع من النظر في هذه المعاهدات من جديد على ضوء الظروف الحاضرة، والدروس الماضية، والآمال المستقبلة، فتعقد معاهدة سمحة مع كل وحدة من هذه الوحدات تضمن فيها مصالح الطرفين، وفيما عدا ذلك تكون كل وحدة حرة طليقة، ثم يتكون الحلف العربي الجديد وعصبة الأمم العربية، وتكون العصبة مطلقة التصرف، لا يقيدها إلا المصلحة العامة والمعاهدات التي تعهدت بها كل أمة، وبذلك يفسح الطريق للنهوض الشرقي واستعادته قوته ليخدم بها العالم مع العاملين؟
هذه هي الصورة الصغيرة التي في ذهني، ليست وافية ولا كاملة، وكل خط من خطوطها يحتاج إلى وقفة طويلة وتفصيل واف، أعرضها ليتولاها من هو أقدر مني بالنقد والبحث والتفصيل.