سيرة الرسول في كلمة
من نسل إسماعيل، في بيت عرف بالدين وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يلي آباؤه أمور مكة، ويحجبون بيتها، ويطعمون حجيجها، ويبني جده قُصَيّ «دار الندوة»، فيجعل بابها إلى الكعبة، ويجعل إليها أمور قريش كلها، فلا يقضى زواج إلا بها، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، ولا ترحل رحلة إلا منها، وهو سيد قومه يتبعون أمره، ويعرفون فضله، ويتيمنون برأيه، وابتدع أشياء لقريش تحمسوا بها في دينهم، وتشددوا بها على أنفسهم، فسموا من أجل ذلك «بالحُمْس» — وأورث بنيه مجده وشرفه ودينه وعصبيته للبيت وإشرافه على شئون الحج، وجده هاشم صاحب إيلاف قريش إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ سن لهم رحلة اليمن والحبشة في الصيف، ورحلة الشام في الشتاء، ودعا قومه أن يجعلوا الحاج في ضيافتهم، يطعمونهم من مالهم، ويسقونهم من مائهم، ويقول: «إنهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه».
ويرى الناظر في وجوه أهل هذا البيت علائم الدين والسيادة عن طريق الدين، هذا عراف اليمن يتفرس في أنف عبد المطلب فيقول: «والله إني أرى نبوة وأرى ملكًا»، وهذه قُتَيْلة الخثعمية ترى في جبهة عبد الله بن عبد المطلب غرة مثل غرة الفرس.
من هذا البيت ولد محمد بن عبد الله، يرث الدين ويرث المجد والشرف عن طريق الدين، ونشأ يتيمًا لا ترأمه أم ولا يحميه أب، ونشأ فقيرًا لم يترك له أبوه إلا خمسة أجمال وقطعة غنم، فعرف طعم اليتم، وعرف طعم الفقر، وتولد في نفسه الرحيمة العطف على الفقراء، واليتامى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، لقد «خدمه «أنس» عشر سنين، فما قال له أف. ولا لم صنعت. ولا ألا صنعت»، ولقد قالت له خديجة عند بدء الوحي: «والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
ورعى الغنم — وهو غلام — مع أخيه من الرضاعة في بني سعد، ثم رعاها في مكة، فعرف من رعايته الغنم كيف يرعى الأمم، والنفوس المرهفة تتعلم من الأمر الصغير ما لا يتعلمه أوساط الناس من الكبير.
وخرج إلى الشام مرتين: مرة — وهو ناشئ — مع عمه أبي طالب، ومرة وهو ابن خمس وعشرين في تجارة، فرأى الشام تحت حكم الرومانيين، ورأى الحضارة كما رأى من قبل البداوة، ورأى ما لم يعجبه من الترف والنعيم، وفساد الخلق، وسقوط النفس، واطلع على صفحة من المعاملات المالية سوداء، فيها التهالك على المال، وفيها الخداع والاستغلال، وفيها أخلاق الناس كأخلاق السمك يأكل بعضه بعضًا، وفيها يُعبد المال من دون الله، فكره عبادة المال في الحضارة، وعبادة الوثن في البداوة، واجتمع له الوقوف على أخلاق هؤلاء وهؤلاء، فما أعجبته هذه ولا أرضته تلك.
وإنما كان يرضيه مواقف يُدْعَى فيها للحق والعدل، ويتحالف عندها على رفع الظلم، كالذي حدث في حِلْف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش واجتمع ممثلوها في دار عبد الله بن جُدْعَان، وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغير أهلها ممن دخلها إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.
لقد شهد محمد ﷺ هذا الموقف، وحضر هذا الاجتماع، وكان في نحو العشرين من عمره، وأعجب به، إذ وافق نفسه الطامحة إلى العدالة المتأهبة لخير الإنسانية، وظل يذكره بالخير قبل بعثته وبعد بعثته ويقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»، ويرضيه أن يتعاون الناس على الخير ولا يثور بينهم الشر، فلما اختلفت قبائل قريش في وضع الحجر الأسود في بناء الكعبة وأرادت كل قبيلة أن تنال فخر وضعه، واختصموا واستعدوا للقتال وتعاقدوا على الدم، أشار محمد ﷺ بمد ثوب وضع فيه الحجر وأخذت كل قبيلة منه بطرف، ثم رفعه بيده ووضعه مكانه، وحجز الشر بينهم، وكان ذلك إرهاصًا لما كان منه بعد من تأليف قلوبهم وتوحيد كلمتهم، وهكذا هو في تاريخه يرحب بالخير ويعين عليه ويكره الشر ويقف دونه.
ويتجلى فيه النبل والإخلاص في كل مواقفه، فإذا هوجم قومه من قريش في حرب الفجار وقف بجانبهم يدافع عنهم، ويتحدث عن ذلك بعد فيقول: «قد حضرت الفجار مع عمومتي ورميت فيه بِأَسْهُمٍ وما أحب أني لم أكن فعلت» ويتزوج خديجة فيكون مثل الإنسان المخلص لزواجه، المخلص لحبه، المخلص لولده.
•••
لقد بلغ الأربعين، فالثمرة أشرفت على النضج، والزهرة تهيأت للتفتح.
كل شيء حوله يدعو إلى الطمأنينة، فهو محبب في قومه، سعيد في أهله، في يسر في ماله، ولكن متى كان للنفوس العظيمة أن تقنع بأعراض الدنيا أو تركن إلى مظاهر الحياة؟
لقد أصبح قلق النفس حائر اللب، ما عليه الناس هو الباطل فأين الحق، والبدو والحضر في ضلال فأين الهدى؟ واللات والعزى أوثان لا تنفع ولا تضر، فأين من ينفع ويضر؟ إلى غير ذلك من مشاعر نعجز عن وصفها.
إذ ذاك حببت إليه العزلة فكان يأنس بنفسه، ويفر من بني جنسه، ويمكث في ذلك الساعات أولًا، ثم الأيام، ثم الشهر وهو سابح في تأمله، غارق في تفكيره، تتكشف له الحقيقة رويدًا رويدًا، حتى جاءه الوحي، فلمعت نفسه وأضاء العالم حوله.
كان أول كلمة أوحيت إليه «اقرأ» ولكن ماذا يقرأ؟ وكيف يكلف القراءة وما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخط بيمين؟
كلا، إنه لم يكلف قراءة الحروف والكلمات، فهي تقيد البصر وتحد الفكر، إنما كلف قراءة أسمى من هذا وأرقى، إنها قراءة الكون دالًّا على خالقه، ووحدة العالم دالة على وحدة صانعه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقرأ: والشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، اقرأ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، اقرأ اللهَ في السماء ونجومها، والأرض وجبالها ووهادها، والطير في الهواء، والسمك في الماء، اقرأه في اختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، اقرأه في نبضات القلب وحركات الحس وخلجات النفس، اقرأه في كل شيء تجده في كل شيء.
نظرة غيرت كل شيء، وسر أوحي إليه فتكشف له كل شيء، وبدأ يقرأ العالم من جديد، فإذا كل شيء جديد، لقد كان هذا العالم قبل هذه النظرة جامدًا فدبت فيه الحياة، وكان لا دلالة له على شيء فدل على خالق الحياة.
هذا ما نعلم فكيف بما لم نعلم؟
لقد كانت لحظة رائعة كل الروعة، جليلة كل الجلال، رهيبة كل الرهبة، فرأى ما لم يكن قبلُ رأى، وسمع ما لا عهد له أن يسمع، وتجلى له الحق في كل شيء، لقد كانت لحظة فارقة بين محمد بشرًا ومحمد بشرًا ورسولًا، لحظة غابت فيها نفسه عن عالم الحس، واستغرقت في عالم الروح، فبردت أطرافه ورجف جسمه وعاد وهو يقول: «زملوني، زملوني؟» حتى ذهب عنه الروع.
لو كان الأمر أمر حق ينكشف، ونفس تهتدي، لكان في ذلك لذة لا تقدر، ومتعة لا تفنى؟ ولكن تلا الوحيَ الأولَ الوحيُ الثاني: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ فكانت تَبِعَة عظمى وعبئًا ثقيلًا، لقد كلف أن يرد الناس عن ضلالهم، وينتزعهم من دين آبائهم، ويدعوهم أن يحكموا في دينهم عقولهم وقلوبهم، وما أشقها تبعة! فالناس مذ خلقوا عبيد ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، هذا تاريخ كل نبي، وكل مصلح، وكل داع إلى الخير، أدرك ذلك ورقة بن نوفل، وقد قص عليه النبي ﷺ فلخصه تلخيصًا بديعًا، إذ قال له: «والله لتكذَّبَنَّه، ولتؤذَيَنَّه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي»، وأدرك النبي ذلك كله فوجم، وأدرك تأييد الله فسكن.
ومن ذلك الحين يبدأ حياته في الجهاد، جهاد في الدعوة وتصويرها وتبليغها كما أوحيت إليه، والسعي في إيصالها إلى كل سمع، والسير بها خطوة خطوة ورويدًا رويدًا، كما أمر الله حتى تبلغ غايتها ويتم كمالها، وجهاد في حماية الدعوة بالرفق إن أغنى، وبالسيف إن عجز الرفق.
أس الدعوة إله أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، تعالى عن الصورة وتنزه عن المادة، خالق كل شيء، بيده ملكوت السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
فما أحقر الأصنام، وما أحقر عبادتها! إنها سقوط الإنسانية وفساد الفطرة، إنها داعية الفرقة وموجبة الخلاف، فلكل قبيلة صنم ولكل قوم وثن، ولو أدركوا وحدة إلههم لتوحدت عبادتهم وتألفت قلوبهم.
ثم بجانب دعوته إلى العقيدة دعوة إلى نوع من الشعائر تعظيمًا لله، وإقرارًا بربوبيته.
دعا دعوته سرًّا فآمن به أقرب الناس إليه وأعرفهم به: زوجه خديجة، ومولاه زيد، ومربَّبُه علي، وصديقه أبو بكر، وظل على ذلك نحو ثلاث سنين استجاب له فيها أرسال من رجال ونساء، وصناديد قريش لا يهمهم أمره، ولا يعنيهم شأنه، ثم دعا جهرًا فبسط دعوته من غير أن يهاجم عقائدهم، فسكتوا عنه ولم يردوا عليه، ولكن بناء الجديد لا يكون إلا بعد هدم القديم، فلتهاجم الأصنام في غير رحمة، وليشهر بالشرك في غير هوادة، ولتسفه أحلامهم ليعودوا إلى الصواب، وليلعن ضلالهم ليتبين لهم الهدى، فكان ذلك بدء الخصومة وفاتحة العداوة، وأجمعوا خلافه، وأظهروا عداوته، ثم رغبوه وأرهبوه، فما أبه لترغيبهم ولا ريع لإرهابهم، وصبر على إيذائهم يمعن في دعوته، ويبشر المؤمنين وينذر المشركين، ويؤمن أن العاقبة للمتقين، وازدادوا في إيذائه ومن معه، فأوعز إليهم بالهجرة، فهاجر كثير إلى الحبشة، فكان فيها بعض السعة، وعلم أن القوة إنما تدفع بالقوة، والسيف يقارع بالسيف، والله الذي أنزل الكتاب أنزل معه الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، ويئس من قريش فرنا إلى القبائل الأخرى، وظل نحو سبع سنين بعد يتحين المواسم كل عام في الحج، ويتعرف القبائل ومنازلها، ويدعوهم إلى أن يحموه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا ينصره أحد ولا يجيبه أحد، ويردون عليه أقبح رد، ويقولون له: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ويؤمنوا بك. حتى ساقه الله لنفر من الأوس والخزرج فدعاهم دعوته فأجابوا، وأسرعوا فآمنوا، وعادوا إلى قومهم في المدينة ففشا الإسلام في دورها، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة ليكون بين أنصاره وحماة دعوته.
صبغت المدينة صبغة إسلامية قوية فتآخى المهاجرون والأنصار، وبنيت فيها المساجد وجلجل فيها الأذان يتردد صداه، وأقيمت شعائر الدين في طمأنينة وأمن، وجاء الإسلام ينظم الحياة الاجتماعية كما نظم الحياة الروحية، وألف في المدينة الجيش يحمي الدعوة ممن يهاجمها أو يقف في سبيل نشرها، كجيش مكة الذي يعلن الوثنية ويحميها، وينتشر الخبر في الجزيرة فينضم إلى هذا اللواء قوم، وإلى ذاك آخرون، وجاءت غزوة بدر فخرج المسلمون في قلة من عددهم وقوة في إيمانهم، والمشركون بصناديدهم وأفلاذ أكبادهم، فكان النصر للمؤمنين، وكانت الحادثة فتحًا عظيمًا ملأت قلوب المسلمين بالأمل، والمشركين بالهلع، وتتابعت الغزوات، فكانت — في غالبها — فتحًا بعد فتح ونصرًا يعقبه نصر، والإسلام ينمو وينتشر، والشرك ينهزم ويندحر، حتى غزا المشركين في عُقْرِ دارهم — في مكة — ورأى أبو سفيان الجموع الحاشدة فقال: من هؤلاء يا عباس؟ قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيمًا! فقال العباس: كلا، إنها النبوة. وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فما مسه زهو الفاتح ولا فخر الغالب، و«لقد رئي إذ ذاك على راحلة، معتجرًا بشقة بُرْد، وإنه ليضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنونه ليكاد يمس واسطة رحله»، وحج حجة الوداع في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا يريهم مناسك الحج ويرد تحريفات الشرك.
انتهى الآن شأن الجزيرة فتوجه إلى ما حوله من فارس والروم، فكتب إلى ملوكهما يدعوهم دعوته، ويبين حجته، ويحملهم وزر قومهم، وضلال شعوبهم، وأخذ يعد لغزو الروم في الشام عدته ويخبر قوته.
ثم أدركه المرض واشتدت به العلة، وكان بين يديه إناء فيه ماء، فكان يدخل فيه يده فيمسح بها وجهه، ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات»، ثم جعل يقول: «اللهم الرفيق الأعلى» حتى قبض.
وخلَّف العبء لرجال اهتدوا هديه واستنوا سنته، وأدوا الأمانة التي حملوها، ونهضوا بعظائم الأمور التي كلفوها، فما وهنوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فإذا فارس مسلمة، وإذا الروم مستسلمة، وإذا الأرض تتجاوب أنحاؤها بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
•••
فاللهم يا من أعززت المسلمين بعد عناء، وقويتهم بعد ضعف، ووحدت كلمتهم بعد فرقة، وألفت بين قلوبهم بعد شتات، أدرك آخرهم بما أدركت به أولهم، وأعزهم بما أعززت به سلفهم، وبصرهم بوجوه ضعفهم حتى يتخذوا العدة لنهوضهم، وأنِرْ لهم سبيل القوة حتى يعودوا سيرتهم، واجعل العام الجديد فاتحة عهد جديد، يصلحون فيه أخطاءهم، وينعمون بقوتهم، ويعتزون بجاههم، ويباهون العالم بأعمالهم.