النظام الاجتماعي في تركيا
ترجم أخي الأستاذ «محمد بدران» مقالًا عن تركيا الجديدة من الوجهة السياسية، وأشار إشارة خفيفة إلى حركتها الاجتماعية، فأحببت أن أعرض لهذه الناحية بشيء من التفصيل، على أن أقف منها موقف العارض، لا المقرظ ولا الناقد.
إن احتكاك الشرق بالغرب فتح أعين العالم الإسلامي وجعله يتطلع إلى حياة خير من حياته، وعملت على ذلك عوامل كثيرة، أهمها: معرفة الشرق بأحوال الغرب، وكانت مجهولة لديه كل الجهل، وتدفق كثير من أبناء الشرق إلى أوربا يتعلمون فيها ويدرسون أحوالها ونظمها السياسية، ويعودون إلى بلادهم يبثون فيها ما شاهدوا وما تعلموا، فلما قامت الحرب العظمى اكتووا بنارها، وتسمعوا بشغف إلى أخبارها، وسمعوا الدعايات المختلفة، وكونوا رأيهم فيها، وجاءت تعاليم «ولسن» فزادت في آمالهم، وتشوقوا إلى معرفة مصيرهم، حتى إذا سكتت المدافع وتكلم القادة في الصلح، أرهفوا أسماعهم ليسمعوا ما تقوله أوربا فيهم، ولم يكفهم ذلك، بل ذهب كثير من أولي الرأي إلى باريس يتجادلون ويطالبون ويحتجون، ولم تكن باريس عاصمة فرنسا فقط، بل أصبحت مركز عظماء القارات الأربع، وكنت تسمع في شوارعها لغات العالم عالية، وأشكاله المختلفة ظاهرة، ومن بينهم ممثلو العالم الإسلامي على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وألوانهم، وتحول المسلمون بشكل ظاهر من مطالبة بجامعة إسلامية إلى مطالبة باستقلال قومي؛ تقليدًا للنزعات الأوربية، وتمشيًا مع روح العصر، وساعد على ذلك انفصال جزء كبير من العالم الإسلامي عن تركيا — بعد أن خسرت الحرب — كالشام وفلسطين وجزيرة العرب والعراق.
فلما تم الصالح أحس العالم الإسلامي بخيبة أمل، إذ لم يحقق مطالبهم، ولم يُنلهم حقوقهم، فوضعت فرنسا يدها على سوريا، وبريطانيا على فلسطين والعراق، فاضطربت النفوس وثارت الثورات.
وكانت حالة تركيا أسوأ الحالات، إذ فقدت أرضها، وفقدت استقلالها، فكان من حروبها للدفاع عن كيانها ما عرفت تفصيله.
فلما انتصر مصطفى كمال سياسيًّا وحربيًّا، وحفظ لتركيا استقلالها اتجه إلى الإصلاح الاجتماعي، فكان من أول ما فكر فيه إلغاء الخلافة، وكان الباعث على إلغائها أمور، منها: خوفه هو وحزبه من أن الخليفة وأسرته لا يرضون عن نظام الحكم الجديد، فيدبرون المكائد، ويدسون الدسائس، لإعادة سلطانهم القديم؛ لأن الخليفة في النظام الجديد فقد سلطته الدنيوية والروحية جميعًا، وأصبح مظهرًا فقط، ولا عمل له إلا استقبال الزائرين، وصلاة الجمعة في ملأ من الناس، ومع هذا لم تطمئن أنقرة إلى هذا الوضع، وكان السلطان يسكن إستانبول والحكومة الجديدة تقيم في أنقرة، وتعتقد أن الخلافة دائمًا عش الدسائس الأجنبية، ومهما كان السلطان «عبد المجيد» مخلصًا وصادقًا ومحبًّا لرقي شعبه، فإنه قابل للانقلاب والتغير بنفسه أو بخلفه واستحضر حزب «مصطفى كمال» في أذهانهم كل سيئات الخلفاء العثمانيين في العصور المتأخرة، وما جروه على البلاد من وبال.
ثم هذه الميزانية الضخمة التي تصرف على الخليفة وبيته من غير مبرر ومن غير عمل، والبلاد أحوج ما تكون في نهضتها إلى المال.
وأخيرًا أنهم يريدون أن يكوّنوا دولة مدنية ينظمونها تنظيمًا أوربيًّا، ويقفوا بين حكومات العالم موقف المساواة، والخلافة تقف عثرة في سبيل هذا التنظيم.
كل هذا جعل القابضين على زمام الأمور يفضلون إلغاء الخلافة ففعلوا، نعم كان للمسألة وجه آخر، وهو أن الخلافة كانت تربطهم بالعالم الإسلامي، وتمكنهم من حق الزعامة الروحية على الممالك الإسلامية، وهذه الناحية العاطفية لها قيمتها، ولكن لم تأبه تركيا لهذه الاعتبارات، ورأت أن العالم يسير نحو تكوين القوميات، فأولى أن تعنى أكبر عناية بأمتها وحدودها وقوميتها.
لهذا كله قرر الزعماء الوطنيون أن يصلوا إلى هذه النتيجة على خطوات كان آخر خطوة فيها إلغاء الخلافة، في مارس سنة ١٩٢٤، وإخراج السلطان عبد المجيد وأسرته من تركيا.
كان في العالم الإسلامي نزعتان ظاهرتان، وإن شئت فقل ثلاث نزعات: نزعة محافظة ترى التمسك بالتراث الإسلامي من غير تغيير، ونزعة ترى الاحتفاظ بخير ما في التراث الإسلامي مما يتفق وروح العصر، ثم تطعِّمه بالمبادئ الجديدة مما اخترعته المدنية الحديثة، ولكن في تريث وحذر، ونزعة ترى التجديد المطلق، واحتذاء المدنية الحديثة في أكثر ما يمكن، وبأسرع ما يمكن.
وربما صح أن يمثل النزعة الأولى الحجاز، والثانية مصر، والثالثة تركيا.
وقد أدى إلغاء الخلافة في تركيا، وإحلال الجمهورية محلها، إلى تغيير كبير في النظام القديم الذي يجعل الخلافة مصدر السلطات، من قضاء وجيش وتشريع، فلما زالت الخلافة اضطرهم ذلك إلى التغيير في الأسس.
لم يهملوا الدين جانبًا كما يتصور البعض، ولكن — على وجه الإجمال — ضيقوا من دائرته، فأما التشريع العام ووضع نظم الحكومة وما إلى ذلك، فجعلوا أساسه ومنبعه المدنية الحديثة، وتحكيم العقل، والنظر إلى الشعب، فهم يدرسون المدنية الحديثة، ويقارنون في الشيء الواحد بين ما فعلته أمم أوربا المختلفة، ومن ناحية أخرى ينظرون إلى شعبهم وحالته الاجتماعية، وما يناسبه، وما لا يناسبه، ويختارون له بعقولهم من النظم الحديثة ما هو أليق بالشعب، وأما الدين فينظم العلاقة بين الإنسان وربه.
على هذا الأساس قامت كل إصلاحاتهم الاجتماعية، فمثلًا في سنة ١٩٢٦ قدم وزير العدل مشروعًا بقانون للدولة مكون من ١٨٠٠ مادة مقتبس في الأغلب من القانون السويسري، ووافق عليه البرمان في ٤ أكتوبر من هذه السنة، وهو في بعض مسائله ثائر على النظم المعمول بها في الممالك الإسلامية جميعًا، فقد كان تعدد الزوجات — مثلًا — جائزًا، فجاء هذا القانون وحرمه بتاتًا، وكذلك الشأن في المهر، فقد ألغي في القانون الجديد، ولم يفرض على الزوج، وطلب من الزوجة أن تبذل جزءًا من مالها في تأثيث المنزل إن كان لها مال، وسلب الزوج الحق في الطلاق، وجعل للمحكمة وحدها حق الفصل لسبب من أسباب ستة محصورة، وأكثر من هذا خطورة أن المرأة التركية أصبح لها الحق بهذا القانون أن تتزوج من تشاء من أي دين كان، فللتركية المسلمة أن تتزوج نصرانيًّا أو يهوديًّا أو بوذيًّا.
وعدلت قواعد الميراث تعديلًا كبيرًا، فسوت بين الذكر والأنثى، فللبنت كما للابن، وللأم كما للأب، وللزوجة كما للزوج، وألغت نظام الإرث بالتعصيب، والإرث بالقرابة البعيدة، في نظام طويل لا محل لتفصيله، وغيروا نظام الولاية والوصية على أساس الحرية.
ثم نظروا فرأوا جزءًا كبيرًا من أموال الدولة قد شله الوقف، فمنعت إرادة الواقفين أن يتصرف فيه الجيل الحاضر حسبما يرى من صالح عام، وكانت الأحكام التي وضعت له مقيدة لحرية الدولة في الإصلاح، والأوقاف الأهلية مزرعة رديئة للاستغلال، ومفسدة للمستحقين بترك العمل المنتج اعتمادًا عليها، ومفسدة لنظار الأوقاف بانتهابها، ومفسدة لكل هؤلاء يخصوماتهم ومنازعاتهم، وقضاياهم التي لا نهاية لها؛ فهي — في نظرهم — سيئة من سيئات الماضي، سواء من ناحيتها الاقتصادية أم الاجتماعية أم الأخلاقية.
لهذا عمدوا — بجرة قلم — إلى إلغائها وإلغاء وزارتها.
ثم إن الجمهورية التركية أعطت للمرأة التركية حريتها وأصغت إلى صوتها، وسمحت لها بأن توسع حركتها التي بدأتها من سنة ١٩٠٨، حين ظهر أول وجه سافر في الآستانة، فألفت نالدة هانم جمعية مؤلفة من نحو خمسمائة من الأعضاء المثقفات، وطالبن بضروب من الإصلاح: أهمها وضع حد لسن الزواج لا تتزوج من لم تبلغه، وإصلاح أوضاع الزواج، وتأسيس الطلاق على قاعدة المساواة بين الرجل والمرأة وتحريم تعدد الزوجات.
وتسابقت البنات إلى الجامعات، وزاحمن الأبناء في الحصول على الدرجات.
وخرجن إلى دور السينما وإلى المساجد، وألغين نظام الحريم، وحجز أمكنة خاصة لهن في الترام أو القطار، وطالبن بحقهن في الانتخابات وعضوية البرلمان، وصحب الشبان أخواتهم في القيام بهذه الحركات إلى غير ذلك.
ثم جدت تركيا في نشر التعليم بين أفراد الشعب ذكورًا وإناثًا، وكانت أسرع من مصر في تنفيذ قانون التعليم الإجباري، فقد استصدرته مصر سنة ١٩٢٣، ثم عاق تنفيذه قلة المعلمين، وقلة المال، وقلة الهمة، إلى غير ذلك، ولكنه نفذ في تركيا بأسرع وأقوى، واعترض نشر التعليم في تركيا صعوبة الحروف العربية والشكل، فوقفت بين اختراع ما يسهلها وبين السير مع الأوربيين في استخدام الحروف اللاتينية، ففضلت الطريقة الثانية متأثرة بإغراقها في حب المدنية الحديثة، وقلبت كل أدبها وصحافتها وتعليمها إلى الحروف اللاتينية، حتى القرآن نفسه كتبته بهذه الحروف، وقد ساعد هذا في سرعة نشر التعليم، ولكنه من جهة أخرى قطع صلتها — إلى حد ما — بأدبها القديم وتراثها القديم.
وأسست التربية عندها على أسس وطنية، ووضعت كتبها ونظمها على هذا الأساس، واعترضها في هذه السبيل ما رأت من مدارسَ أجنبيةٍ، فتخوفت من صبغتها التي تصبغ بها تلاميذها، ورأت أن كثيرًا من مشاكلها السياسية القديمة كانت ترجع إلى هذه المدارس، وما تبثه من مبادئها التي تبعث الإعجاب بالدول الأوربية والاحتقار للأمم الشرقية، فوقفت تركيا إزاء هذه المدارس وقفة حازمة اضطرتها أن تُتَرّكها.
ودعتهم الحماسة الوطنية أن يسيروا بخطى واسعة نحو نشر الثقافة، والاطلاع على كل عناصر التقدم الأوربي، ليسيروا سيره، ويحتذوا حذوه، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الحربية.
ثم حافظوا على المظهر محافظتهم على الجوهر، فالجوهر الائتمام بأوربا، والاقتباس من نظمها وقوانينها، والتحرر من سلطة رجال الدين، والمظهر لبس القبعة وسفور المرأة، فحموا الجمهورية من كل عبث بنظامها ومن كل ما يهدد كيانها، كما فرضوا لبس القبعة فرضًا، وجعلوها قانونًا، وحرموا لبس العمامة تحريمًا، ولم يجيزوها إلا لمن له عمل رسمي ديني، ونهوا عن الحجاب، وعاقبوا عليه، وهكذا ربطوا المظهر بالجوهر، وتمسكوا بالشعائر التي تدل على المعنى.
وكان بعض الناس يعتقد أن حياة هذا النظام مرتبطة بحياة «مصطفى كمال» فإذا مات مات، لأنه نما من خارج الأمة لا من داخلها، ولا من أعماق نفوسها، فمات مصطفى كمال، وبقي النظام سائرًا في طريقه، حتى قامت قيامة العالم بهذه الحرب الطاحنة، التي لا يعرف مداها وعقباها إلا علام الغيوب.