ضحية
حدثني صديقي قال: اعتدت يوم الجمعة في الشتاء أن أخرج من بيتي قبل طلوع الشمس إلى جبل المقطم، أنفض عن نفسي ضوضاء الأسبوع، وملل العمل الراتب، وسآمة الحديث المعاد، وأهرب من جو القاهرة المسمم، وأريح أعصابي من مطالب البيت وتكاليف المهنة، وأفر من الإنسان الموحش لأستأنس بالطبيعة الطاهرة، وأكرم نفسي بالعزلة عن الناس، وأهين جسمي بالحركة العنيفة؛ فقد خلق من طينة لا تصح إلا بالإهانة.
واعتدت أن أنوّع الطرق، وأخالف بين الجبال، فمرة أختار الجبال والوديان مما يلي حلوان، وأحيانا جبال المعادي ووديانها، وأحيانًا العباسية وما إليها.
ففي ذات يوم اخترت العباسية وتغلغلت في جبالها ووهادها، أعلوا أكمة وأهبط واديًا، وأتخذ مسيري صوب الأزهر، حتى حان الظهر، ونال مني التعب، فبحثت عن مكان أتفيأ ظلاله، وأنعم بنسيمه، وأطل منه على الدنيا الفانية وما فيها حتى وجدته.
واستمتعت بيوم دافئ جميل، وعزلة مريحة، فلم أصادف منذ خرجت من القاهرة إنسانًا، وخلعت قبعتي وحططت مخلاتي وألقيت عصاي وجلست، وكان الجوع قد بلغ مني مبلغه، فأخذت أخرج ما حملت: هذه «زمزمية» ماء، وهذه شطائر بعضها باللحم وبعضها بالجبن، وهذا عدد من الليمون الحلو لا بأس به، وهذه عُقَل صغيرة من القصب، وهذا كل ما معي، فصففتها أمامي وتغزلت فيها، وجرى لها لعابي، وأعددت نفسي لأكلة شهية بعد سير طويل.
فلم أشعر إلا وشبح يبدو من بعيد، لم أتبينه أول الأمر، ثم ظهر أنه إنسان، ثم ظهر أنه يقصدني، وأخذت مظاهره وملامحه تبدو شيئًا فشيئًا.
جف اللعاب من فمي، ونسيت منظر الأكل لمنظره، وحل الخوف محل لذة النهم، وذكرت قول القائل:
ويلاه من الإنسان! هو كالموت لا بد منه، وكظلام الليل لا بد أن يلفك، ولا مهرب منه إلا إليه.
لكنه إنسان عجيب حقًّا، ليس ككل الناس الذين رأيتهم، أبيض البشرة بياض الأجنبي، ويلبس جلبابًا أزرق كلبس البلدي، ملامح وجهه وزرقة عينيه وشكل رأسه واصفرار شعره دلالة على أنه أوربي صميم، وطاقية رأسه المشبكة وحفاء قدمه المتيبسة دلالة على أنه مصري بائس فقير.
هذا لغز معقد! وقد كنت تركت عقلي الذي يحاول حل الألغاز في القاهرة، وأتيت هنا بشعوري وعواطفي، وروحانيتي الفطرية، فلأسرع الآن في استرداد عقلي القاهري لأحاول به حل هذا الإشكال.
– سلام عليكم.
– عليكم السلام ورحمة الله، هل تتفضل وتأكل معي؟
– لا بأس.
وأخذ يلتهم الأكل بنهم أشد من نهمي، فأسفت لقلة زادي، ونزلت له عن أكثر ما معي.
واعتذر عن نهمه في أكله بأنه قضى يومًا كاملًا لم يذق فيه طعامًا.
– لماذا؟
– لأني لم أجد عملًا، ولم أجد مالًا.
– ماذا كنت تعمل قبل اليوم؟
– خادمًا في قهوة بلدية، وما عملك أنت؟
– مدرس في مدرسة عالية.
– إذًا اتفقنا.
– كيف اتفقنا؟!
– هي كلمة خرجت من فمي ولا معنى لها.
– ما بلدك؟
– خرجت اليوم من القاهرة لأستريح من عناء التفكير.
– هل أنت مصري؟
– أقمت في القاهرة زمنًا طويلًا.
– وما وطنك الأصلي، ولم قدمت؟
وبدأ يتكلم، ولكن أصابته حبسة: أنا. أنا. أنا أتيت اليوم من القاهرة وكفي.
وعلت وجهَه الأبيض — المشرب بحمرة، في الأصل والمشرب بصفرة الآن من الجوع — حمرةُ الخجل، وظهر لي أنه يحمل بين جنبيه سرًّا دفينًا يجرح عزته، فحبست نفسي عن الاستقصاء، وكلمته في الجو والجبل والمسافة بيننا وبين القاهرة، وأتى موعد الرحيل فسلمت، وأخذتني الشفقة عليه فتركت له عنواني إذا احتاجني، ومشيت.
لم يفارقني التفكير في هذا المنظر الغريب، ولا هذا اللغز العجيب الذي لازمني من وقت أن وقع بصري عليه، وكل ما حدث بعدُ لم يكشف سرًّا ولم يلهمني حلًّا، بل زاد اللغز تعقيدًا، فهو يمسك الشطيرة كالأوربي المثقف في ظرف ولباقة، ويأكلها أكل المصري البائس الفقير في نهم وشراهة، عقليته عقلية مثقف، ومنظره منظر جاهل، وهو يتكلم كمصري، وإذا سألته: أمصري هو؟ عرَّض ولم يصرِّح، وجمجم ولم يبن، واكتفى بأنه أتى من القاهرة، لو كان جاسوسًا فَلِمَ يجوع ولم يخجل، ولو كان غير جاسوس وكان أوربيًّا فلم يجمجم؟
لعن الله الإنسان ومناظره، لقد أردت الهرب منه فلحقني، وأردت البعد عن مشاكله فوقعت فيها، وأرادت الأنس بالطبيعة على طهارتها فأُصبت بالطبيعة مدنسة.
جال هذا وأكثر منه في نفسي حتى وصلت إلى بيتي، وشغلتني دنياي عن التفكير في هذا المخلوق العجيب، فأنا بين مطالب أسرة وتحضير درس وإلقائه وغير ذلك من الشئون.
•••
وفيما أنا عصر يوم في بيتي، منصرف لبعض أمري، وإذا بالجرس يدق، فتحت الباب فإذا هو صاحبنا.
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام.
وفرحت بمجيئه، ولكن لنفسي لا له، فقد خطر لي أني سأكشف السر الذي حيرني، وأقف على حقيقة نفسه وجلية أمره.
ولم آنف أن أجلسه على كرسي مُجنَّح في غرفة استقبالي، ولو كان حافيًا وفي جلباب أزرق، وقد تعلمت من حديثه السابق ألا أجرحه بسؤاله المباشر عن موضع سره، فحدثته في كل شيء يخطر ببالي إلا ما يتصل به، وأمرت أثناء الحديث أن يهيأ له أكل شهي دسم، لا من جنس الشطائر الجافة التي التقمناها في الجبل، فأكل بنفس النهم الذي أعهده واستزدته حتى لم يبق عنده مكان للمزيد، وأهل بيتي وأولادي وخدمي يعجبون من هذا المنظر الغريب، ومن تفاهة ملبس الضيف وشدة عنايتي به، وبعد الفراغ من القهوة استأذن لينصرف فأذنت له ومنحته ما استطعت، وقبل أن ينصرف وضع يده في جيبه، وأخرج كراسة طلب مني أن أقرأها وأدبر علاجًا لما فيها.
ولا أكتمك أني فرحت بها فرح الطفل بفتح صندوق البخت، أو فرح الفتاة بهدية مغلقة أتت إليها ممن تحب، فأخذتها وتسللت إلى غرفة مكتبي، وأغلقتها عليَّ، وأضأت المصباح، وجعلت ألتهم ما فيها التهام صاحبنا للأكل، وما زلت بها حتى أتممتها، فأخذني منها كل العجب، فماذا هي؟
هي يوميات لهذا الشاب منظمة مرتبة، ذكر فيها أهم ما استرعى نظره في دقة وإحكام.
إنه شاب هولاندي، تخرج من جامعة هولاندية، وتخصص لدراسة اللغات الشرقية والدراسات الإسلامية، ورأت جامعته نبوغه وجِدّه، فمنحته مكافأة دراسية، وإجازة طويلة يقضيها في بلد عربي إسلامي، ليتقن العربية والإسلاميات، فلم يجد لذلك خيرًا من القاهرة.
فحضر إليها، وسكن في حي مصري في المنشية، ولبس جبة وقفطانًا وعمامة ومركوبًا أحمر، ليتسنى له في يسر حضور دروس الأزهر، وجدَّ في الدراسة، واختلف إلى المشايخ يحضر دروسهم ويتفهم كتبهم، وانتهز كل فرصة يتقن فيها الكلام العربي الفصيح واللغة العامية الدارجة، فجلس مع العامة، وتحدث إلى الناس، وإلى الباعة، وغشي الأسواق.
وفي كل شهر كان يكتب تقريرًا مفصلًا بما حصَّله وما عمله وما أتقنه، والجامعة من جانبها تمده كل شهر بما ينفقه عن سعة.
ثم خطرت له فكرة نبيلة جميلة، هي أن يدرس الحالة الاجتماعية بمصر بجانب دراسته اللغوية والعلمية، فوضع لذلك برنامجه الدقيق، فغشي مجالس الذكر، وحضر الصلوات في المسجد، وشاهد أسواق البيع والشراء، وحضر الولائم والجنائز وما إلى ذلك.
وأخيرًا رأى أن يشاهد مجالس اللهو، ولكن هذه كان لا بد له فيها من مرشد خبير، وكان من بدء دراسته قد عرف «كُتْبِيًّا» يتاجر في الكتب القديمة، فيشتري منه الكتب بثمن رخيص، ويلتهمها قراءةً ودرسًا، فتوثقت الصلة بينهما، وكان هذا الكتبي داعرًا عربيدًا، عليمًا بأماكن اللهو، خبيرًا بمجالس الحظ فأفضى إليه بمكنونه، فهش له وبش.
وقال له: «على الخبير سقطت».
فما زال يتنقل به من ملهى إلى ملهى، حتى كان آخر المطاف «غرزة الحشيش» دخلها مع صاحبه الكتبي، وأداه حب استكشافه ألا يكتفي بمنظر الحشاشين و«جوزتهم» وطريقة تعاطيهم، بل أراد أن يجرب تجربتهم ويختبر فعل الحشيش في نفوسهم، فدخن معهم، وسمع لفكاهاتهم وتنادرهم، ولكنه شرق وسعل، ولم يجد في نفسه أثرًا بالغًا كما كان يسمع عن الحشيش، فشكا ذلك لصاحبه، فقال له — في خبث ودهاء — إن ذلك لا يتم إلا بالتعود والتكرار، فاستمع لنصيحته وعاد وكرر، فرأى — كما يقول — أن أعصابه تخدرت، وتتابعت الصور على ذهنه، وغاب عن الزمان والمكان، وأحيانًا كانت تتراءى له صور مرعبة مفزعة، كأن يرمَى من جبل، أو تتخلخل الأرض تحت قدميه، وأحيانًا صور مفرحة منعشة سارة كأنه في جنة النعيم، وبعد أن أفاق أحس بشهوة شديدة للطعام، فأكل كل ما قدم إليه في شراهة، ونام نومًا حالمًا لذيذًا.
ولزمته العادة، وخضع لحكم «الكيف»، فإذا هو حشاش لا يطيق صبرًا عن الحشيش، ولا يستطيع أن يعيش ليلة من غير أن يحشش.
قال: وقد شعرت بضعف حيويتي وسقوط نفسي، وميلي إلى الكسل والخمول، وفتور في قوى عقلي وسوء تقديري للأمور.
قال صاحبي: وإلى هنا انتهت يوميات صاحبنا، وبقي الفصل الأخير من الرواية لم أتبينه مما كتبه: كيف وصل إلى ما شاهدت من حالته، فتشوقت إلى أن أراه ليتم لي روايته.
فأتاني بعد أيام، فاستقبلته ونفسي مغمورة أسفًا وعطفًا وإشفاقًا، وسألته عما حدث له بعد فقال: لم أجد بعدُ لنفسي ميلًا إلى قراءة أو درس، ولا إلى أي عمل، ولم أكتب لجامعتي حرفًا، وانقطعت أخباري عنها، فقطعت ما كانت تمدني به من مال، وضاقت بي السبل، ولم أجد موردًا أقتات منه، ولم يرشدني صاحبي الكتبي إلى أي عمل أعمله، ولم أعد أعبأ بنظافة ملبس ولا حسن مظهر، وتخاذلت قواي وفقدت كرامتي، فعرضت نفسي على من يستخدمني، وأخيرًا لم أجد إلا عملًا في قهوة، وبعد مدة وجدتني لا أصلح حتى لهذا العمل، وخرجت هائمًا على وجهي في الجبل يوم قابلتك!
ثم بكى، وما أشد وقع بكاء الرجال على نفسي!
فكرت طويلًا فيما أستطيع أن أعمله لإنقاذ إنسانية ضالة معذبة، وزهرة كانت يانعة فذبلت وجفت وسقطت.
فهداني التفكير إلى أن أذهب به إلى من يعنى بأمر الهولنديين، وكان يستطيع أن يهتدي بنفسه إلى ذلك لولا أنه سلب قدرة التفكير وقوة الإرادة، فشرحت لهم حاله، وتفاهمت معهم أن يسفروه إلى بلده فرحبوا بالفكرة ونفذوها، ثم انقطعت عني أخباره، ولم أدرِ — بعدُ — من أمره شيئًا.