أول مجلة مصرية
وكان «رفاعة بك الطهطاوي» «ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس»، وقبل ذلك بسنوات كانت قد نشطت حركة المدارس والمكاتب وفتحها، وأقبل عليها المتعلمون، فرأى القائمون بالأمر أن تصدر إدارة المدارس «مجلة» تشد أزر هذه الحركة، وتعمل على نشر التعليم، فأنشأوا مجلة أسموها «روضة المدارس المصرية» وقد صدر أول عدد منها يوم السبت ١٥ محرم سنة ١٢٨٧ هجرية، الموافقة سنة ١٨٧٠ ميلادية، واختاروا لها رمزًا جملة كتب عليها دواة غمست فيها ريشة تستملي منها، وحولها قوسان من غصون الشجر، وطبع تحت الاسم هذان البيتان في كل عدد:
وتحتهما أنها «تحت نظارة رفاعة بك»، أي كما نعبر نحن اليوم «مدير المجلة»، وأن «مباشرة تحريرها» علي فهمي بك بن رفاعة بك، أي أنه رئيس تحريرها، وكان علي فهمي هذا مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن، وجعلوها تظهر كل أسبوعين، وكانت تخرج في ١٦ صفحة من حجم الكتاب المتوسط — وجعلوا اشتراكها ٧٧٫٦ قرشًا، ولعلهم اختاروا هذا الرقم؛ لأنه يساوي «البنتو» وهي عملة مشهورة كانت في ذلك العصر، ولم يسموا هذا «اشتراكًا» كما نسميه نحن، بل قالوا «ثمن ترتيبها» كذا، وطبعوها بمطبعة «جرنال وادي النيل» بباب الشعرية.
وافتتحوها بمقال يبين الغرض منها، فقالوا: «إن جل مرغوب ديوان المدارس المصرية، اعتمادًا على مساعدة العناية الخديوية، تعميم العلوم وتتميم المعارف، وانتشار الفنون وإكثار اللطائف، ومداولتها بين جميع أبناء الوطن، وتسويتهم في الورود على مستعذب هذا المَشْرَع الحسن … بحيث تكون فيها الفوائد متنوعة، والمسائل المتأصلة والمتفرعة، أقرب تناولًا للمطلع المستفيد، وأسهل مأخذًا لمن يعانيها من قريب الفهم والبعيد، بقلم سهل العبارة، واضح الإشارة، وألفاظ فصيحة غير حوشية ولا متجشمة لصعب التراكيب، ومعان رجيحة تنخرط في سلك مستحسن الأساليب».
وقد ذكرت أنها لا تتعرض للسياسة ولا للإدارة، وأنه مما سيعينها على أداء غرضها ما أنشئ من دار الكتب بجانبها «تقتطف الأزاهر عن مكامنها، وتلتقط الجواهر من معادنها» — وأن سعادة مدير المدارس (وهو علي باشا مبارك) «جعلها ملحوظة بنظر نظارته، لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته، ومنحها الرئاسة التشريفية والإدارة العملية».
ثم قدر القائمون عليها أن ستكون لها أبواب مختلفة، فجعلوا على كل باب مشرفًا يحرر فيه ويراقب ما يأتي منه.
فعلي باشا مبارك عليه وصف البحار العمومية، وذكر متعلقاتها وأحوالها الكلية والجزئية.
وعبد الله بك فكري العلوم العربية والفنون الأدبية، وذكر أساليب العرب في النظم والنثر.
ومسيو «بروكش» ناظر مدرسة اللسان المصري القديم، عليه مسائل التاريخ القديم والحديث.
وإسماعيل بك الفلكي الفلكيات.
ومحمد أفندي قدري (وهو الذي صار بعدُ محمد باشا قدري مؤلف كتب الفقه المشهورة) عليه الجغرافية والأخلاق والعوائد والمعاملات والاعتقادات.
ومحمد أفندي بدر علم الأبدان.
ومحمد أفندي ندا النبات.
والشيخ عثمان مُدُوخ (وكان سوري الأصل)، عليه غرائب النوادر والفكاهات والمضحكات والألغاز.
وعلي فهمي رفاعة رئيس التحرير عليه الكلام في تخطيط مصر القاهرة ومقارنة جديدها بقديمها.
وعلى خوجات المدارس جميعها المشاركة في تحرير باب العلوم الرياضية.
وخرج العدد الأول كنموذج، ففيه مقال لعلي باشا مبارك في إنشاء دار الكتب الخديوية، فخبر عن إيفاد بعثة من عشرة من نجباء التلامذة إلى إيطاليا «لتعلم الإدارة الملكية» وذكر أسمائهم، ثم فائدة جليلة عن سكان أقسام الدنيا، فقصيدتان في تهنئة الخديو إسماعيل بالعام الجديد، إحداهما لصالح مجدي بك، والأخرى للتلميذ اللبيب أحمد أفندي نظمي، ثم ملحتان إحداهما في السريرة الحسنة والسريرة السيئة، والأخرى في صاحب هرة، وبذلك انتهى العدد.
وصدرت تباعًا تجري فيها أقلام الكتاب والعلماء من مصريين، وأجانب تترجم مقالاتهم إلى اللغة العربية.
وفي العدد الثالث تنبهوا إلى ضرورة فهرس في أول العدد يبين المقالات وأصحابها، وابتكروا طريقة نشر كتب تنشر بالمجلة تباعًا، فيلحق بها ملزمة أو أكثر من كتاب أو أكثر، وكان من المساهمين في تحريرها بعض علماء الأزهر كالشيخ حسونة النواوي، والشيخ سليم القلعاوي، والشيخ حسين المرصفي، ومشهورو الأدباء كصالح بك مجدي وعبد الله بك فكري وبعض التلاميذ، وتنشر فيها الخطب التي تقال في حفلات الامتحانات العمومية، وتقارير إصلاح التعليم، ومقالات خوجات المدارس في العلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية إلخ.
ومن العدد الثالث زادت صفحاتها إلى ٢٠ ثم ٢٢ ثم ٢٤.
وحدث في العام الثاني من حياة المجلة أن قررت وزارة المعارف إعطاء دروس للثقافة العامة تلقى من مشهوري العلماء في دار العلوم، يحضرها كل من أراد، وكانت دار العلوم إذ ذاك في درب الجماميز.
فالشيخ حسين المرصفي يلقي محاضرتين كل أسبوع في علوم الأدب، وإسماعيل بك الفلكي في علم الفلك، ومسيو ويدال فن السكك الحديدية باللغة الفرنسية، وفراتس بك فن الأبنية، ومسيو بروكش للتاريخ العام، إلخ.
فكان هذا المشروع الجليل مادة صالحة جليلة لتغدية المجلة، فكان ينشر فيها خلاصة بعض هذه الدروس.
وفي السنة الرابعة من المجلة يخرج العدد السابع في ١٥ ربيع الثاني سنة ١٢٩٠ لا يحمل اسم رفاعة بك، إذ كان قد توفاه الله، فنشرت المجلة ما رثته به الوقائع المصرية، ويكتفى بذكر «مباشر التحرير» علي فهمي رفاعة، ثم يتحول النص إلى أنها «تحت إدارة ناظر الروضة ومطبوعات المعارف علي بك فهمي نجل رفاعة بك» وتضعف بعض الشيء في عهد الابن، إذ لم يكن له من الشخصية العلمية ما للأب، فيقل ما يرد من الأقلام المشهورة، ولكن تستمر وتستمر إلى السنة الثامنة، فيخرج العدد السادس عشر في آخر شعبان سنة ١٢٩٤ وليس فيه إلا خطب افتتاحية وختامية قيلت في المدارس والمكاتب الأهلية، ولما بلغت من الضعف إلى هذا الحد أسلمت روحها لخالقها.
قد كانت هذه المجلدات الثمانية معرضًا جميلًا يمثل للناظر كيف كانت الأقلام تجري في هذا العصر، وبأي أسلوب تكتب، وبأي عقلية تفكر، وإلى أي حد بلغ مجهود القوم ونشاطهم العلمي والأدبي، وما الموضوعات التي كانوا يحبونها ويتذوقونها، وكيف كان عقلاء مصر أمثال علي مبارك وعبد الله فكري وصالح مجدي ومحمد قدري وأمثالهم، حركة دائبة لا تعرف الكلل في تنظيم المدارس والمكاتب وتغذيتها بالكتب تؤلف وتترجم، وبالحفلات تقام وبالمجدين النابغين يشجعون ويكافئون، وبالمحاضرات العامة تلقى على الجمهور، وبهذه المجلة يسجل النشاط ويبعث الشوق.
وهي في ناحية أخرى صورة لحالة النظم والنثر في ذلك العصر يبعث من مرقده، فيتعلم السير ويتعثر بالسجع وبالاستعارة المتكلفة، ثم يحاول أن يتحرر من قيوده، فيقطع في ذلك شوطًا لا بأس به.
والقوم يواجهون المصطلحات العلمية في العلوم على اختلافها، ويكلفون ترجمة الكتب الأجنبية والمحاضرات التي يلقيها الأساتذة الأوربيون، فيجدّون في وضع الكلمات العربية التي تقابلها، أو يستعملون الكلمات الأجنبية مصوغة صوغًا يستسيغه اللسان العربي.
ثم هي تقوم بنشر ما يهم المدارس من الأخبار، فتنشر أسماء النابغين، وتنشر التقارير الواردة عن طلبة البعثة، فتنشر أن «عثمان غالب» مثلًا من تلاميذ مونبليه «أخذ في أول السنة الأخيرة درجة المسرورية»، ومحمد علوي «تحصل في أول امتحان آخر السنة على درجة مسرورية جيدة زائدة وهو نبيه».
وتنشر أسماء من تفوقوا واستحقوا مكافآت ونوعها، وتقتبس من تقارير التعليم والمكتبات في الممالك الأجنبية، إلخ.
ثم نرى ألفاظًا كثيرة في طور التكوّن، كما رأينا في «درجة المسرورية»، و«ثمن ترتيبها» بدل «قيمة اشتراكها»، ومثل ذلك في مصطلحات العلوم، وبعض هذه الألفاظ أُقر وبعضها عُدل.
ونرى المجلة تكثر فيها الألغاز حسب ذوق العصر، حتى يضج المشرف على المجلة منها، ويطلب من الكتاب الإقلال من إرسالها.
ونرى فن «المقالة» لم يتكون بعد، وإنما هي محاولات في كتابة المقال.
ونرى الجمهور لم يعرف الكتب القديمة، ولم يطلع على ما فيها، فيستغفله بعض العلماء، وينقلون من هذه الكتب بعض فصول وقصائد يدَّعونها لأنفسهم، ويمضونها بإمضائهم.
وعلى الجملة فهذا وأكثر منه موضع لدراسات قيمة في نواح متعددة.