النار
كان الجو باردًا قارسًا، وكان الهواء عاصفًا قاصفًا، وكان الليل مظلمًا حالكًا، فأويت إلى بيتي وكأني لا أجد جسمي، وخلعت ملابس التكلف ولبست ملابس البساطة، وفرحت بالنار الموقدة في حجرتي، والجو الهادئ حولي، فكل شيء يحيط بي نائم، وأنا والنار وحدنا يَقِظان.
جلست بجوارها أتأمل صنيعها، وأستمليها معانيها.
•••
يعجبني فيك — أيتها النار — ميلك إلى السمو دائمًا، يلعب بك الهواء في نواحيك، فتقاومين وتعارضين، وقد يتغلب عليك الحين بعد الحين، ولكن لا تملين ولا تخضعين، حتى يمل هو فيسكن، وتستمرين في تساميك أبدًا، وفي تعاليك دائمًا، فتبًّا لمن يخضع لأول عاصفة ويطأطئ رأسه لأول صدمة.
قوية قوة لا نهاية لها، لا تلمسين شيئًا حتى تأكليه وتخضعيه لأمرك، وتحلليه إلى شيء واحد مهما اختلفت أنواعه — جمادًا كان أو حيوانًا أو نباتًا، عظيمًا أو حقيرًا، جميلًا أو قبيحًا — إلى رماد، إلى هباء، إلى فناء، تحللينه بحرارتك، وتهضمينه بقوتك، ثم تتركينه باردًا برود الموتى، أين منك مخالب الأسد؟ وأين منك أنياب الأفاعي السامة؟ وأين منك الريح العاتية ترمي ولا تفني، وتقتلع ولا تبتلع؟ لولا أن رأينا أفاعيلك قبل أن نعقل لجنَّ جنوننا لرؤيتك، وأخذنا العجب كل العجب لقدرتك.
•••
عجب المجوس لقدرتك فعبدوك وألَّهوكِ، واستدل الموحدون بعظمتك على عظمة خالقك وامتن الله بك على عباده، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ.
•••
اشتق العرب أقوى فترة من العمر من صفاتك، فسمَّوا الشباب من شبوبك، ووصفوا التهاب الشعور من التهابك، وقالوا: ضرام الحب من ضرامك، واندلع لهيب الثورة من لهيبك، وكما استعاروا صفات القوة من قوتك، استعاروا صفات الضعف لغيابك، فقالوا: انطفأت شعلته إذا مات، تشبيهًا بانطفائك، وهمدت قوته وخمدت، من همودك وخمودك.
وكما عبدك المجوس جعلك العرب أعظم مفاخرهم وأشهر مآثرهم، فرفعوك للسَّفْر ولمن يلتمس القِرَى، وكلما كان موضعك أرفع كانوا بك أفخر، فقال شاعرهم:
ومثل ذلك كثير لا يحصيه عد.
•••
لقد أبت الشمس أن تنزل من سمائها، وتتنازل عن عليائها، فأنابتك في الأرض عنها، ومنحتك أعظم صفاتها، وهي الضوء والحرارة والقوة، فضوءك من ضوئها، وحرارتك من جنس حرارتها، وقوتك بعض قوتها، وكأنك تبرهنين على ولائك لها، فتميلين دائمًا للصعود إليها! تستطيعين أن تمزقي الظلام، فتكوني آية الليل كما كانت أمك آية النهار، وتستطيعين أن تقهري البرودة، وتبعثي الدفء إذا غابت أمك، وتستطيعين أن تبعثي الحياة بحرارتك. وهل الحياة إلا حرارة، وهل الموت إلا برودة؟
•••
ثم أنت بقوتك نفاعة إلى أشد حدود النفع، ضرارة إلى أشد حدود الضرر، فيك الحياة وفيك الموت، هأنذا أستدفئ بك وأحذر القرب منك، وهذا الأكل تنضجينه وتحرقينه، وهذا القطار تسيِّرينه وتمزقينه.
عد الإنسان اكتشافه لك أجلَّ شيء في حياته وأعظم حادثة في تاريخه، لا يستغني عنك بدوي في بداوته، ولا حضري في حضارته، عرفت المدنية الحديثة طرق استغلالك فقفزت في تقدمها، واتخدتك أكبر وسائلها في بنائها وهدمها، وبؤسها ونعيمها، ورفاهيتها وعذابها، وسلمها وحربها، وهل بنيت المدنية إلا على الحديد والنار؟ ومهما اختلفت الأسماء التي وضعوها لك من فحم وبنزين وغيرهما فأنت أنت التي صيغت من ضوء وحرارة.
•••
لقد كنا نحن وأرضنا وما حولنا جذوة منك، فلما بردت قشرتها دبت الحياة فيها وظل باطنها شعلة منك، تنبئ بأصلها وتدل على تاريخها، ومن أجل ذلك كان كل شيء حولنا إما نارًا ظاهرة، أو نارًا كامنة.
•••
لك فوق جلالك وقدرتك جمال عجيب —! وقلَّ أن يجتمع الجلال والجمال والقوة في شيء كما اجتمعت فيك، أدرك الرضيع جمالك فناغاك، وشُدت عيناه إلى مرآك، وارتبط جمال الليل بجمال ثرياك، واجتمع فيك سر جمال النور وجمال اللون وجمال الحركة وجمال القوة وجمال الوداعة، تهدئين فتكونين شمعة، وتثورين فتكونين بركانًا، وقد أنصف العرب، إذ سموك «النار» قريبًا من «النور»، لقرب حقيقتك من حقيقته، وجمالك من جماله.
•••
ثم ها هي النار من أكثر ما في الوجود إيحاءً وإلهامًا، فلأمر ما ارتبطت النار في حياة موسى بنور الوحي إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، ولأمر ما كانت النار معجزة إبراهيم يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ، ولأمر ما عظمها اليهود وقالوا: إنها تأكل قربان المخلص ولا تأكل قربان النغِل، ثم هي والجنة عِدْلان تلعب عليهما عواطف الإنسان من خوف ورجاء ورغبة ورهبة، وبفضلها لم نجد تعبيرًا خيرًا من حرارة الإيمان وحرارة العواطف وحرارة القلب، ولو انعدمت حرارة الإيمان لكان إيمانًا جافًّا، ولو انعدمت حرارة العواطف لتجمدت وماتت، ولو انعدمت حرارة القلب لكان حجرًا، إنما يقوَّم الشاعر بحرارة شعره، والخطيب بحرارة قوله، والأمة بالتهاب وطنيتها، ولا فرق بين الموت والحياة إلا الحرارة، وإذا أظلمت النفس فما أحوجها إلى لمعة كلمعة البرق تضيء جوانبها، وإذا برد القلب فلا يحييه إلا قبس من نار يلهب شعوره، وإذا جمدت عواطف أمة فليس إلا النار والعذاب يحييان مشاعرها، ويبعثان وجدانها.
لم يجد العاشق — أيتها النار — تعبيرًا صادقًا عما يجد إلا النار ترعى فؤاده، والنار تحرق كبده، والنار تكوي قلبه.
ولم يجد الصوفي خيرًا منك ومن النور ولد منهما معانيَ عجبًا.
•••
وهنا أحسست أن جسمي أخذ حظه من الدفء، ورأسي كأنه شعلة نار من التفكير في النار، فأطفأت نارها وأطفأت رأسي، وقلت: إلى مخدعي.