الخصومة في الأدب
كانت الخصومة بين الأدباء دائمًا نعمة على الأدب وإن كانت نقمة أحيانًا على الأدباء أنفسهم.
فالخصومة — أول الأمر — في كثير من الأحيان هي التي تنتج الأديب وتهيج مشاعره، وتطلق لسانه، وفي تاريخ الأدباء الشيء الكثير من ذلك، فقديمًا كان الشاعر العربي يهجو القبيلة ويعيرها ويجسم مثالبها ويقلب حسناتها سيئات، فتتلفت يمنة ويسرة تنظر من يدافع عنها، ويصد كيد عدوها، فتفعل هذه اللفتة في المستعد المتهيئ فعل السحر، فإذا للقبيلة من يروض نفسه على القول، ويعدها للنضال ويطلق لسانه بالقول، وإذا هو شاعر، ولولا هذا الهجاء وهذه الخصومة لكان إنسانًا كسائر الناس لا شاعرًا كسائر الشعراء، وحديثًا سمعنا أن «عبد الله نديم» أطلق لسانه بالقول رجل دعاه ليعلم أولاده ثم أكل عليه أجره، فأخذ يعمل لسانه في هجوه فإذا هو هجاء، وإذا هو أديب، وإذا هو كاتب وشاعر.
ثم الخصومة هي التي أورثتنا بابًا كبيرًا من أبواب الأدب هو باب الهجاء، فلولا الخصومة ما كانت لنا نقائض جرير والفرزدق ونقائض جرير والأخطل، ولا كانت أهاجي بشار وأبي نواس وابن الرومي وغيرهم من الهجائين، وكثير ما هم، ولحرمنا ما أبدعوا في هجائهم من صور فنية هي غاية في الروعة والإتقان، تثير في النفس الهزء والسخرية حينًا، والضحك حينًا، والإعجاب من مصورها حينًا، ولو فقدت هذه الصور لكانت كارثة على الأدب ولفقد ركنًا كبيرًا من مقوماته.
ثم هذه الروايات الكثيرة في الأدب الغربي التي وضعت لنقد كاتب والهزء به وبآرائه، والتي وضعت لنقد فكرة والسخرية بها وبواضعيها ومؤيديها — كل هذه ما كانت تكون لولا الخصومة الأدبية، وكلها ثروة كبيرة من ثروة الأدب لا غنى عنها، ولا حياة له بدونها.
وبعد هذا كله فما النقد؟ أليس هو خصومة، شريفة أحيانًا وغير شريفة أحيانًا؟ إن كان النقد في قليل من أوقاته مدحًا وتقريظًا فهو في كثير من أحيانه عيب وتجريح.
وليس يشك شاك في نعمة النقد على الأدب، فهو الذي بخصومته يهاجم الأدباء في شدة وعنف فيبين أغاليطهم، ويوضح ضعفهم، ويظهر عيوبهم، فإذا هم حذرون يجيدون، خوف النقد، ويحاولون أن يتبرءوا من العيوب، خوف النقد، وينشدون الكمال، خوف النقد، فإذا خرج نتاجهم كاملًا أو قريبًا من الكمال فالفضل في ذلك للنقد.
وفي كل عصر تنشأ خصومة حادة عنيفة بين رجال الأدب من أنصار القديم وأنصار الجديد يتجادلون ويتسابون، وجدالهم وسبابهم أدب، وينقسم الناس إلى معسكرين: أنصار المجددين وأنصار المحافظين، ويحمل كل فريق أقلامهم فيجيدون ويمتعون، فيكسب الأدب من هذه المعارك مكسبًا مزدوجًا، مكسبًا من ناحية ما يقال في هذه المعارك من هجاء وتعنيف وسب وخصام، ومكسبًا من ناحية ما يكسبه المجددون — غالبًا — من توجيه الأدب وجهة جديدة، وإدخال عناصر فيه جديدة، ولولا ذلك لظل هيكل الأدب كهيكل الأهرام تمر عليها الدهور والأعوام وهي هي في شكلها ومادتها، ولكان أدبنا اليوم هو الأدب الجاهلي، ولكان أدب الغرب اليوم هو أدب القرون الوسطى، فلولا ثورة المجددين والخصومة بين الأدباء لما تقدم الأدب خطوة، ولظل على حالته كما تركه الأولون … هذا في إجمال نعمة الخصومة على الأدب.
•••
ثم إن الخصومات بين الأدباء هي من جنس الخصومات بين ذوي المركز الواحد أو أهل الصنعة الواحدة.
هي من جنس الخصام بين الضرائر، فالضرة تخاصم الضرة؛ لأن كلتيهما تتنازع قلب الزوج، وتريد أن يكون لها السلطان عليه كاملًا، وهي من جنس الخصام بين الزوجة والحماة؛ لأن الحماة تدل بأمومتها وكبر سنها، والزوجة تدل بجمالها وشبابها وغير ذلك.
وهي من جنس الخصومة بين ذوي الصنعة الواحدة، فالنجار قل أن يحب النجار، والحداد قل أن يحب الحداد، والتاجر في نوع من السلع قل أن يحب التاجر في هذا النوع، وكلما قرب الشبه اشتد النزاع، فالنجار في حي من الأحياء أشد كراهية للنجار في حيه من النجار في غير حيه، وتاجر الغلال أشد كراهية لتاجر الغلال منه لتاجر القطن، والسبب في ذلك تسابقهم إلى اكتساب «الزبائن»، فكلٌّ يريد أن يستولي على السوق، وينفرد بالمكاسب، ويستبد بحسن السمعة والجاه، فإذا شعر بأن هناك من يزاحمه في هذا انتقصه وكرهه وعمل على إخماد أنفاسه، ولذلك كانت كراهية التاجر العظيم للتاجر العظيم أشد من كراهيته للتاجر الصغير؛ لأنه كالآمن من ناحيته، المطمئن إلى أنه لا يبلغ شأوه.
فالخصومة بين الأدباء من هذا الصنف، ولذلك قل أن تجد خصومة بين أديب وعالم أو أديب وموسيقي؛ لأن ميدان السباق بينهما مختلف، إنما يخاصم الأديبُ الأديبَ؛ لأنهما من واد واحد، ويريد كلٌّ أن يكون له السوق وحده، فإذا شعر من أحد أنه يزاحمه في ميدانه خاصمه وهجاه، وقلل من شأنه وشأن أدبه، وفعل الآخر مثله، فكانت النقائض والمهاجاة ونحو ذلك، وعلى قياس ما سبق كلما كانت درجة الأدباء متقاربة كانت الخصومة بينهم أشد، والمهاجاة أعنف، وقد يتصافى الأديبان ظاهرًا ويتخاصمان باطنًا، فتكون الخصومة دفينة تنتظر عود الثقاب ليشعلها، وقد يمر زمن طويل قبل أن يشتعل هذا العود، وكلما زاد أحد الأدباء حظوة عند القراء أو أخرج كتابًا أقبل عليه الناس، ازداد خصومه غيرة فراحوا يقللون من شأن نتاجه، ويتمحلون الأسباب في انتقاصه، وقد تتكون حول كلٍّ أنصارٌ وحول كلٍّ خصومٌ فيكون النزاع بين جماعات لا بين أفراد.
ولكن من الحق أن نقول: إن الغيرة ليست كل شيء في الموضوع، فقد تكون تربية الأدباء وثقافتهم سببًا في الخصومة بينهم، هذا أديب نشأ نشأة عربية خالصة، ولم يقرأ إلا لشعراء العرب، ولم يطلع إلا على الكتب العربية، فعنده أن الأدب الغربي تافه ثقيل الظل، وخير مثال يحتذى هو أسلوب الجاحظ أو أسلوب البديع أو شعر المتنبي أو أبي تمام، وهذا أديب أخذ حظه من أدب الغرب، ومزج بين الثقافتين وفضل الأدب الغربي على الأدب العربي، وصار المثل الأعلى له أن يحاكي شكسبير أو لامارتين أو جوته، فهو يريد أن يطعِّم الأدب العربي بخير ما في الغربي، ويريد أن يجدد في بحور الشعر وفي موضوعاته وفي ميادينه، فتنشأ الخصومة العنيفة، وهي في الواقع خصومة بين مدرستين ونزاع بين مذهبين؛ هذا يتعصب للقديم ولا يريد أن يتحول عنه أنملة، ويريد أن يتبع عمود الشعر كما كانوا يعبرون، وهذا ثائر لا يرضى عن القديم إلا أن يمزجه بجديد، وقد كانت هذه الخصومة في كل عصر تقريبًا، عاب الناس على أبي تمام تجديده ونصره قوم، وهاجم العقاد والمازني شوقيًّا وحافظًا لهذه النزعة بعينها ونصرهما آخرون، وسيصبح الحديث قديمًا ويعيبه جيل المستقبل ويريدون جديدًا، وهكذا سنة الله في كل شيء حتى في الأدب.
وسبب آخر في الخصومة كثيرًا ما يحدث، وهو الخصومة بين شيوخ الأدب وشباب الأدب، وهي خصومة — لا شك — واقعة، غاية الأمر أن المسألة ليست بالسن، فقد يكون شيخًا وهو من أدباء الشباب، وقد يكون شابًّا وهو من أدباء الشيوخ؛ لأن المسألة ليست تقدير عمر، إنما هي نزعة، والنزعة إلى التجديد قد يشترك فيها شيوخ وشبان، والنزعة إلى المحافظة قد يشترك فيها شيوخ وشبان.
والخصومة بين الشيوخ والشبان ترجع إلى عواملَ مختلفةٍ: منها: هذا الذي ذكرنا من اختلاف النزعات، ومنها: أن الشبان قد يكرهون من الشيوخ استيلاءهم على السوق وكثرة الزبائن فينفسون عليهم ذلك ويريدون أن يهدموهم ليحلوا محلهم، ويدافع الشيوخ عن مراكزهم فتكون المعركة مروعة تختلف فيها الأسلحة وآلات القتال، وقد يكون السبب أن الشاب إن كان ناشئًا في الأدب رأى من وسائل شهرته أن ينازل شيخًا، فإن ظفر به فقد فاز فوزًا عظيمًا؛ إذ غلب عظيمًا، وإن لم يظفر به فليست هزيمة منكرة، ويكفيه فخرًا أنه ناوشه، فهو كاسب على كل حال.
وبعد، فكل الناس يتخاصمون، تاجر يخاصم تاجرًا، وصانع يخاصم صانعًا، ورب أسرة يخاصم رب أسرة، وأمة تخاصم أمة وتقاتلها، ولكن الأدب هو الذي يظفر بتخليد خصومته، فقد ذهبت كل الخصومات في العهد الأموي وبقيت خصومة جرير والفرزدق، وذهبت خصومات الناس في العصر العباسي وبقيت خصومة الخوارزمي والبديع، وخصومة المتنبي وأعدائه، وهكذا.
وكم تَسَابَّ الناسُ وذهبَ سبابُهم، أما سباب الأدباء فباق خالد، وهو طُرفة، وهو إبداع، وهو يثير التبسم ويستخرج الضحك أو الإعجاب، وسبب ذلك أن الأديب طويل اللسان، وقلمه أطول من لسانه، وهو ماهر فنان يستطيع أن يصوغ سبابه في قالب فني يكسبه الخلود، أما سائر الناس فمساكين، إما قصار اللسان، وإما طواله، ولكن ليست لهم القدرة الفنية.