الرمز في الأدب الصوفي
تدور العقيدة الصوفية على فكرة «وحدة الوجود»، فليس العالم والله شيئين منفصلين، وليس الله في السماء وحدها ولا في الأرض وحدها، بل هو في كل شيء، بل هو كل شيء، وليس هناك محب ومحبوب، وعاشق ومعشوق، بل المحب والمحبوب واحد، يختلفان في المظاهر والأحوال، ويتحدان في الحقيقة؛ وكل شيء في العالم له مظهر فان متغير متقلب، وله مخبر دائم باق لا يتغير، ونفس الإنسان كذلك: نفس ناقصة فانية ظاهرة، ونفس كاملة باقية باطنة، والنفس الأولى تشق الطريق لتحقق نفسها الثانية، فتتحد بالحقيقة وتنشر بها وتفنى فيها، وسمى الصوفي هذا المسلك «طريقًا» أو «طريقة»، وسمى نفسه «سالكًا»، وسمى المسافات التي يقطعها فيقف عندها للاستجمام «مقامات»، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه وهو اتحاد نفسه بالحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته بالله «الفناء في الحق»، وقد رسموا «خرطًا» لهذا الطريق، وتعددت «خرطهم» بتعدد أنظارهم، وسموا كل مرحلة وكل مقام باسم، فهي عند بعضهم مقام التوبة، ثم مقام الورع، ثم مقام الزهد، ثم مقام الفقر، ثم مقام الصبر، ثم مقام التوكل، ثم مقام الرضا، وفي كل مقام من هذه المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسية خاصة سموها «الأحوال»، فحال الخوف، وحال الرجاء، وحال الشوق، وحال الأنس، وحال الطمأنينة، وحال المشاهدة، وحال اليقين، إلخ، ولا بد للسالك أن يستوعب كل مرحلة من هذه المراحل ويؤقلم نفسه بها ليستعد للمرحلة التي تليها، حتى يصل في النهاية إلى حالة اتحاد بالعالم وبالله، فيستحق بذلك أن يسمى «عارفًا» ولا بد للسالك أن يقوده «شيخ» في هذه الطريقة الوعرة حتى لا يضل المسلك.
وليس المقام مقام تفصيل لتعاليمهم وعقائدهم، وإنما نريد أن نقول: إنهم بتعمقهم في هذا المبدأ الذي ألممنا به إلمامًا بسيطًا قد أقاموا أنفسهم في عالم غير العالم المادي الذي يعيش فيه غيرهم، فلهم لغة خاصة بهم ومسميات لا يعرفها إلا هم، ولكنهم فعلوا في اللغة كما فعل كل العلماء في اللغة العربية، فأخذوا الألفاظ العربية وأطلقوها على مدلولات خاصة كما فعل النحاة بالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والجار والمجرور، ونحو ذلك من ألفاظ كان يستعملها العرب في مدلولات عامة فأخذها النحاة ووضعوها لمصطلحات خاصة، حتى إن العربي القح لم يكن يفهمها في معاني النحاة، وهكذا الشأن في البلاغة والعروض والفلسفة، غير أن هناك فرقًا كبيرًا بين المتصوفة وغيرهم، فالأوضاع النحوية والصرفية والبلاغية لها مدلولات ترجع إلى العقل في تفهمها، أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، ولهذا لا يفهمها أحد بعقله فهمًا صحيحًا، إنما يفهمها من تذوقها ووقف في المقام الذي يقف فيه المتصوف، والفرق بين العاقل والمتذوق كالفرق بين شخصين أحدهما لم يذق الكمثرى قط فوصفت له وصفًا لفظيًّا علميًّا، وشخص ذاقها وعرف الفروق الدقيقة بين مذاقها ومذاق الموز والتفاح، فاستعمل شعراء الصوفية ألفاظ الشعراء الغَزِلين من «ليلى» و«الخمر» والوصل والعناق والهجر والعذال، واتخذوها رموزًا لأحوالهم ومقاماتهم، وكان لهم من ذلك كله أدب رمزي بديع غريب، يمتاز عن غيره من الأدب بروحانيته وصفائه، كما يمتاز بغموضه وخفائه.
والسبب في الغموض والخفاء أن الشاعر المادي إذا وصف خمرًا أو لوعة حب أو هجرًا أو وصالًا، فإنما يصف عواطف يدركها الناس وهي في متناولهم، أو بعبارة أخرى هي قدر مشترك بينهم، فكل الناس أحب، وكل ذاق لذة الوصل وألم الهجر، أما الصوفي فيعبر عن مقام يقفه وحال غلبت عليه، فوصف مقامه وحاله بحيث لا يفهمه إلا من كان في موقفه وحاله، أو كان قد قطع هذه المرحلة إلى مرحلة أبعد منها مدى، ومن أجل هذا لا يفهم الصوفيَّ إلا الصوفيُّ، بل قد لا يفهم الصوفي الصوفي إذا سلك كل منهما مسلكًا خاصًّا أو كان الصوفي الشاعر في مقام بعيد عن مقام الأول، ومن أجل هذا شرح بعضهم قصائد بعض المتصوفة، فكان الشرح غامضًا كالأصل، وصاحب القصيدة معذور كل العذر؛ لأنه في حال لا يجد فيها ألفاظًا تعبر عما في نفسه في وضوح وجلاء، وهناك سبب آخر قد يدعو إلى الغموض، وهو أنه في حال لو أوضح ما في نفسه لرماه من يفهمه بالكفر والإلحاد.
على كل حال يمتاز الأدب الصوفي بأنه أدب رموز من ناحيتيه القابلة والفاعلة، فهو يفهم مظاهر العالم على أنها رمز، والعالم عنده لا يختلف عن أحلام النائم، فكما أن الحلم يعرض حوادثه عرضًا رمزيًّا فكذلك العالم كل ما فيه رمز، فكل ما يقع تحت عينه وما يسمع بأذنه، وما يتصل بجميع حواسه رموز يستنتج منها ما يغذي عواطفه ومشاعره، وبذلك انفتح أمامه عالم غريب الأطوار مملوء بالجمال، مفعم بالتخيلات، حتى كأن كل شيء — ولو كان صغيرًا — كتاب ملئ علمًا، أو لسان ينطق دائمًا بالحكمة، هو في العالم دائمًا يقرأ ولا مقروء، ويسمع ولا مسموع، ويستخرج من الحبة قبة، ومن القطرة بحرًا خضمًّا، يقرأ في كل حادثة نفسه وعالمه وربه، ويفسرها تفسيرًا يتفق ومزاجه وحاله.
وهذا الأدب الرمزي والدين الرمزي والحكمة الرمزية نزعة كانت في الإنسان منذ القدم، فالديانة المصرية القديمة مملوءة بالرموز الدينية، وكذلك ديانة الهنود والفرس الأقدمين، ترمز إلى الحقيقة في بعد وخفاء، والمثيولوجيا اليونانية ليست إلا رموزًا لما كانوا يرون من حقائق، وكثير من شعائر الأديان إنما وضعها فلاسفة متصوفون رمزوا بها إلى بعض الحقائق، فأتى العامة الجهلة، وظنوا الرموز حقائق، فما الأصنام ولا النجوم ولا نقوش المصريين في عباداتهم ولا كثير غيرها إلا رموز أتى عليها الزمن فنسي أصلها وعبدت ذواتها، وجرى كثير من الفلاسفة على هذا النحو، فيحكى عن فيثاغورس اليوناني أنه كان يكثر من الكلام الرمزي، ليدل به على الحقيقة، وكذلك كان من بعده أفلوطن.
ولهذا الأدب الرمزي جماله، فهو يمتاز بأنه جمال مقنع تدركه ولا تلمسه، وتتخيله ولا يسمح لك أن تحدق فيه، فهو جمال تنظره وكأنك لا تنظره، وتسمعه وكأنك لا تسمعه، وتعرفه وكأنك لا تعرفه، قد خلع عليه الخفاء جلالًا فكان جميلًا جليلًا معًا، تسمعه فتلتذ له وتترنم به، فإذا أردت أن تقبض عليه قبضت على هواء، ليس لكلماته مدلول محدود، ولا لمعانيه حدود، وإنما هو إمعان في اللانهاية، وسبح ولا غاية.
يرى الصوفي أن لكل ظاهر باطنًا، وفي كل شيء إشارة، وفوق السطح عمقًا، ووراء القناع جمالًا فاتنًا، ويتيه عجبًا على الناس، إذ فهم ولم يفهموا، وغنَّى لهم ولم يطربوا، ويرى أن العقل حجاب يحجب النفس عن إدارك الجمال، وأن كشف هذا القناع إنما هو بالذوق والإلهام، لا بالمنطق والقضايا والأحكام.
وبهذا النظر نظر الصوفي إلى العالم، فسمى الحقيقة ليلى وسعدى، وأعجب بالخمر وتغنى بها، ورأى في الخمر معانيَ ليست في غيرها، فهي رمز إلى رقي النفس وتساميها، فالنفس ترقى بالفناء في الحقيقة كما تنشأ الخمر بفناء العنب، فيكون شيء من شيء، ويختلف الشيئان والأصل واحد، وإذا خرجت الخمر من العنب بقيت إلى الأبد وصلحت بمرور الزمان، على حين أن العنب نفسه لا يصلح للبقاء، فكذلك النفس إذا تجردت من مادتها الفاسدة ونزعت إلى الكمال صلحت للبقاء، ولم يعتورها فناء، وكلما مرت عليها السنون والأعوام زادت نقاءً، ورقت صفاء.
وهكذا ولَّد الصوفية من كل شيء أشياء، ورأوا في كل مادة رمزًا لمعان لا عداد لها، وبنى آخرهم على ما أتى به أولهم.
ونظروا إلى الدين نظرهم إلى كل ما في العالم، فكل آية في القرآن رمز، وكل حديث له تأويل، فليسوا يفهمون من الآيات ما يفهم الناس، ولا من الأحاديث ما يفهم الناس.
إن شئت مثلًا لذلك فخذ ما فهموا من حادثة شق صدر النبي ﷺ فعلماء السيرة يرون أنه ﷺ شُقَّ قلبه وهو مع رابّته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه، إلى آخر ما رووا، والصوفية لا يفهمون هذا إلا على أنه رمز؛ فقلب الإنسان قد ران عليه الخوف والشهوة والطمع وغير ذلك من السيئات، فأراد الله أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرًا، فأبعد عنه ما غشي قلوب الناس، وفتح قلبه ونقاه من كل سوء حتى يستعد للنبوة، فرويت هذه القصة وفهمها العامة حقيقة، وفهمها الخاصة رمزًا.
وهكذا كان شأنهم فيما عرض عليهم من العالم ومن الدين ومن الأدب، وهكذا كان شأنهم فيما أنتجوا من دين وأدب — عاشوا في حلم لذيذ من حب وتضحية، ونعموا بما قرءوا في العالم من رموز، وأخذوا أدب الأدباء وشعر الشعراء فنقلوه إلى أحوالهم ومقاماتهم، فطربوا لشعر مجنون ليلى وأبي نواس وفسروه بليلاهم وخمرهم، فلما شعروا هم أسبغوا على شعرهم من معانيهم ورموزهم، فكان لنا من ذلك كله نوع من الأدب طريف، أرجو أن أعرض لتفصيله فيما بعد.