خداع النفس
هل علمت أن العين تخدع فتريك الشمس في حجم الرغيف، والقمر في مقدار الكرة، والنجم كجذوة نار، وتريك المتساويين غير متساويين، وغير المتساويين متساويين، وهكذا الشأن في الحواس كلها، يخيل إليك أنك تسمع ما ليس له وجود، ولا تسمع ما له وجود، وتغمس إحدى يديك في ماء بارد والأخرى في ماء حار، ثم تغمسهما في ماء دافئ، فتريك الأولى أن الماء حار، وتريك الأخرى أنه بارد، وهكذا من أمثلة لا تعد ولا تحصى؟
وهل علمت أن الناس يخدعون الناس، فيحتال محتال ويهرج مهرج، ويظهر الرجل بمظهر السياسي الكبير، وليس في حقيقته سياسيًّا ولا كبيرًا، ويظهر الآخر بمظهر العالم المحقق، وليس عالمًا ولا محققًا، وتمر أمام أعيننا مناظرُ من الخداع لا عد لها، تشبه الحاوي في لعبه، والممثل في روايته؛ غني يتصعلك، وفقير يتغنى، وعيي يتفاصح، وماجن يتواقر، وفاسق يتصالح؟
ليس هذا ولا ذاك شيئًا بجانب خداع النفس للنفس، وكذب النفس على النفس. هذا كل إنسان تقريبًا يستصحب نفسه منذ صباه وشبابه، فلا يقر بشيخوخته وهرمه، فيرى نفسه شابًّا مهما تجعدت أساريرُ وجهِه، ومهما دب الضعف في جسمه.
وهذه المرأة — دائمًا — تخدع نفسها بالجمال وبالصغر، مهما حسبت عمرها، ومهما رأت كبر أبنائها وبناتها، ومهما نظرت في مرآتها، فترى آية القبح آية جمال، وتقرأ علامات الكبر علامات الصغر، وتغالط نفسها في عمرها، لا خداعًا للناس فحسب، بل خداعًا لنفسها أيضًا، حتى لتؤمن بما كذبت، وتصدق بما ادعت، وتجعلها حقيقة ما توهمت.
وهؤلاء المؤلفون والمصورون والموسيقيون والأدباء والشعراء، يرون أجمل ما في الوجود ما ألفوا، وخاصة آخر ما أبدعوا، والفنانون بما منحوا من خيال واسع وتصور عريض يستعملون خيالهم في نتاجهم، فيتخيلون أنه بعيد المنال، قد بلغ حد الكمال، إن نقص أسلوبه فهو بديع المعاني، وإن أعوزته الحقيقة فهو بديع الخيال، وعلى كل حال فهو وليد النبوغ، تتجلى فيه العبقرية ويمتاز بالسمو، إن عابه الناس فالعيب في ذوقهم، وإن نقدوه فالفساد في ميزانهم، يأكل قلوبهم الحقد، وتفسد حكمهم الغيرة.
سبحان الله! حتى مشتري السلعة — ومثلها عند البائع كثير — لا خير مما اشترى ولا أجود مما اقتنى: سجائره أحسن السجائر ولو رخصت، وثيابه خير الثياب ولو عيبت، والتاجر إنما اصطفاه بها؛ لأنه صديقه، وأكرمه في ثمنها؛ لأنه يحرص عليه، وفستانها خير الفساتين؛ لأنه اختير بذوقها، وخيط بإرشادها، إن عيب الشيء بنسجه اطمأن الشاري لحسن منظره ورخص سعره، وإن عيب بمنظره اعتذر بحسن نسجه وقوة متانته، كالمرأة لم يعجب منظرها فتعزت بخفة دمها، وطعن في خفة دمها فاحتكمت إلى منظرها.
ما أظلم النفس تنقد الصغير في غيرها ولا تنقد الكبير في نفسها، وتزن بميزانين، فتبالغ في تحري العيوب إذا وزنت لغيرها، وتبالغ في تحري المحاسن إذا نظرت إلى ذاتها! ﻓ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ.
•••
في السنين الأولى من حياة الطفل — وخاصة الثالثة والرابعة — يبدأ يشعر بذاته، وتبتدئ في الظهور شخصيته، ويأخذ رويدًا رويدًا يحدد موقفه من العالم، وتظهر عليه الأعراض الأولى منبئة بما سيصير إليه شأنه مع الدنيا، من تشاؤم وتفاؤل، وأمن أو خوف، وأنس أو وحشة، وأهم من ذلك التفاته إلى نفسه وشعوره بها، وإعظامه لها، واهتمامه بشأنها، وهذه النظرات الأولى لنفسه ولعالمه تكاد تلازمه طول حياته، وتحدد نوع أخلاقه مع ما يدخل عليها من تعديل بعوامل التأثير.
بهذه النفس — المتكونة تحت ظروف خاصة من وراثة وبيئة — ينظر الإنسان إلى العالم، فليس ينظره كما هو، بل ينظره من خلال نفسه، كمن يضع على عينيه منظارًا أسودَ أو أصفرَ أو أزرقَ، فهو ينظر الدنيا من خلاله بلون نفسه، ويفسر الأحداث تبعًا لمنظاره، ويقوِّم الأشياء بميزان شخصيته، وينظر إلى الأعيان لا حسبما هي في الخارج، ولكن حسبما لونتها نفسه، كالثوب تغمسه في لون من الصبغ فيظهر بلون ما صبغته، وكزجاجة المصباح تظهر نوره أحمر أو أزرق، حسب لونها لا حسب لونه، والفيلسوف والأبله تقع عيناهما على شيء واحد، فيرى الفيلسوف فيه معاني جمة، ولا يرى فيه الأبله شيئًا، وليس عيبه في عينه ولكن في نفسه، والعالِم وكلبه ينظران إلى صفحة في كتاب، هذا ينظر فيفهم، وهذا ينظر ولا يفهم.
من أجل هذا اختلف الناس في حكمهم على الأشياء وفي تذوقهم لها، وفي سلوكهم نحوها، ومن أجل هذا آمن المؤمن وكفر الكافر، ومن أجل هذا نبل النبيل، وسخف السخيف، وصلح الصالح، وفسد الفاسد.
فالمنظور واحد ولكن الناظر متعدد، والحق واحد والآراء مختلفة.
قد يبالغ الإنسان في تقويم نفسه — وهو الأغلب — فيمنحها من الأهمية في العالم ما ليس لها في الحقيقة، ويرى كأن الدنيا لا تنتظم إلا به، ولا تسير إلا بنفَسه، وإنه — في حقيقة أمره — ليس إلا ملكًا متخفيًا، ويبالغ الصوفي في احتقار نفسه، فهي ليست شيئًا، ولا قيمة لها في حياتها أو مماتها، ثم ينظر كل من هذا وذاك إلى العالم على أساس هذا الاعتقاد، ويختلفان اختلافًا تامًّا في تقويم الأشياء، وقل من يعرف نفسه على حقيقتها، ويقومها حق قيمتها.
ثم خداع النفس هذا قد يكون عامًّا، وقد يكون خاصًّا كالجنون، بعضه كلي وبعضه فرعي، فيحدثنا الأطباء أن من المجانين من هو مجنون في كل شيء، ومنهم من هو مجنون في شيء خاص، فهو عاقل في كل شيء، ولكنه يعتقد أن له إصبعًا من زجاج، أو هو إنسان مألوف في كل شيء إلا في عقيدته أنه ملك سلب ملكه ونحو ذلك، وهذا هو الشأن في النفوس، قد تخدع النفس نفسها في كل شيء، في العلم والمال والخلق، وقد تكون عاقلة حكيمة، إلا فيما يتصل بعظمتها، فهي لم تتبوأ مركزها في الوجود، ولم يقدر الناس ما لها من قيمة، وقد يكونُ خداعُ النفسِ منصبًّا على الشئون المالية وحدَها، فهو حريص كل الحرص، يخدع نفسه بالخوف من الفقر، والخوف من الاغتصاب، وهكذا الخداع فنون، كما أن الجنون فنون، وكلُّ الناسِ خادعٌ لنفسه، ومخدوع بنفسه، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.