صورة قضائية تاريخية (١)
هذا قصر عبد الرحمن الناصر بقرطبة، يعمل في بنائه آلاف العمال، ويستجلب له من كل مدينة أحسن ما فيها، فالرخام الأبيض من المَرِية، والرخام المجزع من رَية، والوردي والأخضر من تونس، والحوض المنقوش المذهب من القسطنطينية، وهذه نقوش تنقش، وتماثيل وصور على صور الإنسان تنصب في أماكنها، وهذه هي الأبواب تصنع من العاج والآبنوس المرصع بالذهب، وهذه هي الأعمدة تقام من الرخام الملون والبلور الصافي، وهذا هو مجلس الخليفة يحلى بقرامد الذهب والفضة ملونة ألوانًا بديعة، وينشأ في وسطه حوض عظيم يملأ بالزئبق، فإذا دخلت الشمس سطعت على تلك الأبواب وهذا الحوض وهذه الأعمدة، فيكون من ذلك أشعة تخطف الأبصار وتأخذ القلوب، وهذه الحدائق تنسق، ويؤتى لها بأغرب الأشجار وأجمل الأزهار، وهذه القناة الغريبة الصنعة يُجْرَى فيها الماء من جبل قرطبة إلى القصر فيلعب فيه لعبه البديعة، فهذه بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة مطلي بالذهب، وعيناه جوهرتان براقتان، يجوز الماء في مؤخرته فيمجه في البركة من فيه، ثم تسقى من مجاجه جنان هذا القصر، وما فضل عنه صب في النهر.
وامتلأ القصر بالطيور تغرد، والأزهار تتفتح، والفتيات تمرح، وصبيان الصقالبة يروحون ويجيئون، وتم فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ويأتي أمير المؤمنين الناصر فيزور القصر ويعجب به، ويمتلئ فرحًا وسرورًا، ويلهج لسانه بالشكر لله على ما أولى وأنعم، ويصعد إلى السطح الممرد فيشرف منه على الرياض الزاهية والمياه المتدفقة، والمجالس وقبابها المذهبة، وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وحسن المنظر، بين مرمر مسنون، وذهب مصفى، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة، وحياض وتماثيل عجيبة، ويعجب من قدرة الإنسان الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة، ومادتها المهلهلة، وهو أشد عجبًا من صنع الله للمادة، وصنع الله للإنسان.
ولكن (ودائمًا تأتي «لكن»، فهي نذير الشؤم والنقص، ولم يخلُ شيء في الدنيا من نقص فلم يخل شيء من «لكن»).
ولكن أبعد «الناصر» النظر فرأى على مداه مستشفى للمرضى يزدحم فيه أصحاب العاهات: هذا قد عصبت عينه، وهذا قد ربطت ذراعه، وهذا قد كسرت رجله، وهذه محفة تحمل طريحًا، وهذا طبيب يداوى والعليل يتلوى، إلى آخر هذا المنظر.
أَلِمَ «الناصر» من هذا القبح وسط هذا الجمال، ومن مظهر الضعف بجانب مظهر القوة، وعد هذا نشازًا في الأغنية الجميلة، وبيتًا مرذولًا في القصيدة الرائعة، وشجرة يابسة في الحديقة الناضرة، وعمودًا مرضوضًا في البناء الفخم، وعودًا ذابلًا في طاقة من الزهور.
لا، لا، لا يكون ذلك، إني أحب الانسجام في كل شيء، والمواءمة في كل نغمة، والانسجام في جلائل الأمور وصغائرها، إن هذا المنظر يذكرني بالضعف وأنا أحب القوة، ويشعرني بالفناء وأنا أحب البقاء، ويصور الحياة في أبشع صورها وأنا أحبها في أزهى صورها.
ولكن المرضى عضو من أعضائنا يجب العناية بهم، والحنو عليهم والإحسان إليهم، والتوفيق ممكن بين ما أطلبه من الانسجام في النظر والمواءمة في النغم، وبين ما أشعر به من واجب للمرضى وحسن رعايتهم، فلينقلوا إلى مكان آخر بعيد عن قصرنا، حيث يجدون فيه راحتهم، وحيث نجد في بعدهم راحتنا.
يبدو الأمر بسيطًا سهلًا، ولكن (تظهر «لكن» مرة ثانية).
فهذا المستشفى وقف، ولا بد أن يؤخذ في استبدال الأوقاف رأي رجال الشرع.
وكانت الأندلس قد شعرت بنقص نظام القضاء في الشرق، إذ لم يكن هناك قانون رسمي يعمل على وفقه القضاة، ويعرفه المتخاصمون والقضاة قبل الحكم، بل كان القاضي يقضي حسب اجتهاده في حدود مذهبه، وقد أدى هذا إلى إصدار أحكام مختلفة في قضايا متشابهة، فتداركًا لهذا ألفوا جماعة سموها «جماعة الشورى»، يعين أعضاؤها بمرسوم من أمير المؤمنين، ومن اختصاصها النظر في مشكلات المسائل، ومسائل الأوقاف، والإشراف على أعمال القضاة وتوليتهم وعزلهم، والإشراف على أعمال رجال الدولة فيما يتصل بالشئون الدينية.
إذًا، كان لا بد في أمر المستشفى أن يعرض على جماعة الشورى، فبعث الناصر بأحد وزرائه إلى رئيسها، وهو قاضي قرطبة «ابن بقي» وشكا إليه أمر المستشفى، وأنه يؤذي أمير المؤمنين الناصر، لرؤية المرضى إذا أطل من علالي القصر، وأنه على أتم استعداد أن يعوضهم عنه ما يساوي أضعاف ثمنه أرضًا فسيحة غالية من أملاكه في ضاحية قرطبة هي «مُنْيَة عَجَب».
قال «ابن بقي»: الرأي عندي أن هذا لا يجوز، وأن ليس لي فيه حيلة، فالوقف يجب أن تكون له حرمته، وأولى من يحترمه السلطان.
الوزير: يحسن إذًا أن تعقد مجلس الشورى وتعرض عليهم الأمر ورغبة السلطان، فلعلهم أن يجدوا في ذلك رخصة.
هذا المجلس مجتمع، وها هم العلماء يقلبون الأمر على وجوهه، فلا يرون في فقه الإمام مالك الذي يتقلدونه مخرجًا، فيقررون رفض الطلب، وها هو ابن بقي يعرض على القصر رأي المجلس بالرفض.
يغضب السلطان أشد غضب وأعنفه، ويأمر بإحضار مجلس الشورى في القصر، ومواجهة الوزراء لهم بالتعنيف والزجر، فينطلق أحد الوزراء معنفًا قائلًا: إنكم تستحلون أموال الناس، وتأخذون الرشا، وتلتمسون الروايات الضعيفة تبعًا لشهواتكم، وقد أمرني أمير المؤمنين أن أطلعكم على عيوبكم، وأُسفه أحلامكم في موقفكم، فهو مطلع على شروركم وخيانتكم، قد احتاج إليكم مرة في دهره في أمر من أموره، فلم يتسع نظركم لإجابته، فليكشفن ستركم، وليناصحن الإسلام فيكم. وأطال في مثل هذا.
قال أحد الأعضاء: عفوًا عفوًا — أيها الوزير — لقد أخطأنا في رأينا، وتبنا عما جنينا، فانبرى له شيخ شديد المنة قوي العارضة، يسمى «ابن حيونه»، وقال: عَمَّ تتوب يا شيخ السوء؟ نحن برآء إلى الله من مقامك، والتفت إلى الوزير وقال: بئس ما بلغت، وليس فينا وصف مما ذكرت، إنا أعلام الهدى وسرج الظلام، وبنا تقام الفرائض، وتثبت الحقوق، وتنفذ الأحكام، فإن كان من يتصف بما وصفت فأنتم، إن كان قد نطق أمير المؤمنين حقًّا بما نطقت فكان أولى أن تنصحه في قوله وألا تفشي سره، فإن كنت ولا بد مبلغًا فجاملنا، ولا تقابلنا بما استقبلتنا، نحن على يقين أن أمير المؤمنين سيراجع بصيرته ويعاود رأيه، ولو كان الأمر ما قال فينا لبطل كل ما صنعه، فهو لم يثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس (وقف) ولا هبة ولا عتق إلا بنا وبشهادتنا، هذا ما عندنا والسلام.
ووقف وتبعه الأعضاء، وخرجوا جميعًا من القصر غاضبين، وشاع الخبر في الناس، فغضبوا لهم وأسفوا لإهانتهم، وأصبحت الحادثة حديث الناس ومجال التعليق.
وعاود الناصر فكره، ورأى فيما حدث خطورته، فاعتذر إليهم وترضاهم وأكرمهم، واعتذر عما فعل الوزير معهم.
ولكن بقي «المستشفى» غصة له، وزاد الأمر سوءًا أن لم تصبح المسألة مسألة مستشفى فحسب، بل أكبر من ذلك هزيمته وعلم الناس بها، وهو المحارب الذي لم يعتد الهزيمة في الحروب.
ظهر في الميدان «أبو لبابة» رجل واسع العلم واسع الذمة، قوي العقل ضعيف الخلق، ماهر في التأليف، ماهر في التأويل، يؤلف كتاب «المنتخبة» في الفقه فيقول المالكية: إنه قل أن يكون له نظير، وهو مع هذا شره في المال، ضعيف الإيمان بالعدل، ولي قضاء «ألبيرة» فأساء السيرة حتى ضج الناس منه فعزل، وكان عضوًا في مجلس الشورى فأخذ عليه أنه يفتي للمال، ويتأول للطمع، فعزله الناصر منه وألزمه بيته، ومنعه أن يفتي أحدًا.
وجد «أبو لبابة» الفرصة سانحة، فكتب إلى الناصر يذكر له أنه محق في وجهة نظره، وأن مجلس الشورى متزمت، متعنت، ولو كان عضوًا من أعضائه لاستطاع إقناعهم واستخراج الرأي الموافق منهم.
أعاده «الناصر» لمجلس الشورى، وجمع المجلس ثانية منه ومنهم، فأما الأعضاء فأصروا، وأما هو فعارضهم، وكان مما قال: إني أعلم أن قول مالك كما تقولون، ولكن ما الذي يمنعنا أن نأخذ في هذا الأمر بقول أبي حنيفة، وهو يرى عدم لزوم الوقف، وحاجة أمير المؤمنين إلى ذلك ماسة؟ ناشدتكم الله: ألم تنزل بأحدكم ملمة تركتم فيها قول مالك وأخذتم بقول غيره؟ فلم تترخصون لأنفسكم ولا تترخصون لأمير المؤمنين، ولا ضرر في هذا، إذ يعرض مكانًا أنفع وأرضًا أعلى؟ فسكتوا.
ثم طلب من رئيس المجلس أن يرفع الأمر إلى أمير المؤمنين، ويذكر له رأيه ورأيهم، وحجته وحجتهم، فجاء الأمر بالأخذ برأي أبي لبابة، وأزيل المستشفى وكان بعد قليل في «منية عجب» وكان أبو لبابة موضع الحظوة إلى أن مات.
ثم ذهب القصر بزينته وزخرفة ونعيمه، وذهب المستشفى ومرضاه، وبقي حديث أبي لبابة في أفواه العلماء: هذا يصب عليه سخطه؛ لأنه قضى بالغرض، ورأى رأيه لشخصه، وهذا يرى أنه واسع الأفق مرن الرأي، وهذا يؤرخ بحادثته القضاء، وكيف كان، وإلى أين صار.