الشيخ الدسوقي ومستر «لين»
١
إبراهيم الدسوقي الشهير بعبد الغفار من نسل سيدي موسى الدسوقي، أخي سيدي إبراهيم الدسوقي، صاحب المقام بدسوق، من أسرة تنتمي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، ولذلك كان يعد هو وأسرته من الأشراف، ولد ببلدته دسوق سنة ١٢٢٦ﻫ/١٨١١م.
ونشأ يتيمًا، فقد مات أبوه وهو صغير، فأُرسل إلى الكُتَّابِ وحفظ القرآن، وكان بدسوق معهد صغير، هو صورة مصغرة جدًّا للأزهر، تلقى فيه مبادئ العلوم الأزهرية، ثم أرسل إلى الأزهر مع طائفة من قومه.
وكان بالأزهر علماء كبار أصلهم من دسوق، أمثال الشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ مصطفى البولاقي، كما كان فيه — ولا يزال — عصبية بلدية وعصبية منطقية، وساعد على هذه العصبيات وجود الأروقة، فرواق الصعايدة، ورواق الفشنية، ورواق البحاروة، وهكذا كانت العصبية، فعصبية أهل كل بلدة بعضهم لبعض، وعصبية لأهل المنطقة جميعًا.
وكثيرًا ما أدت هذه العصبية — حتى في أيامنا بالأزهر — إلى منازعات، فإذا كانت بين صعيدي وبحيري انتظم معسكران: معسكر للصعايدة ومعسكر للبحاروة، ودار الضرب بجميع الأسلحة الممكنة، إلا الحديد والنار، والحق يقال إن الصعايدة كانوا أشد بأسًا وأكثر انتصارًا، فكانوا أعز جانبًا وأعظم هيبة، وكثيرًا ما يُتقى قتالهم بإجابة مطالبهم.
على كل حال اتصل إبراهيم الدسوقي بعلماء بلده وغيرهم من علماء عصره، كالشيخ محمد عليش شيخ المالكية، والشيخ محمد الشبيني، والشيخ عبد الرحمن الدمياطي.
وحضر — على حد تعبيرهم — علوم المعقول والمنقول، فنحو وصرف، وبلاغة وتفسير، وحديث وفقه، ومنطق وتوحيد، كما يحضر كل طلبة الأزهر، ولكن يظهر أنه تأثر تأثرًا خاصًّا برجلين من شيوخه كانت لهما نزعتان خاصتان نادرتان في علوم الأزهر في ذلك العصر.
أولهما شيخه وقريبه وبلديه الشيخ مصطفى البولاقي، فقد كان هذا الشيخ مع تبحره في العلوم الأزهرية ميالًا إلى العلوم الرياضية، كالحساب والهندسة والفلك، وأداه شغفه بهذه العلوم إلى مصادقة مشهوري الرياضيين، مثل محمود باشا الفلكي، وأساتذة مدرسة المهندسخانة، ومَهَر في هذه العلوم حتى ألف رسائل كثيرة في الجبر والمقابلة وحساب المثلثات.
والثاني الشيخ أحمد المرصفي — والد الشيخ حسين المرصفي صاحب الوسيلة الأدبية — فقد كانت له نزعة أدبية إلى نزعته الفقهية، واسع الاطلاع، وكان سميرًا لطيفًا، ومحدثًا ممتعًا، صحب أحد مماليك محمد علي باشا وسافر معه إلى الصعيد، وأقام معه سنتين، فكان خبيرًا بالدنيا وشئونها، وكان مهيبًا في درسه، إذا عرض لطالب سعالٌ ابتعد حتى لا يؤذي الشيخ بصوته.
اقتبس شيخنا الدسوقي قبسة رياضية من شيخه الأول، وقبسة أدبية من شيخه الثاني، أفادتاه في عملِه بعدُ، كما اقتبس العلوم الشرعية واللسانية والنحو والصرف والبلاغة من شيوخه الآخرين.
•••
عاش الدسوقي في الأزهر مجاورًا فقيرًا، يأتيه الزاد من بلده من حين إلى حين، خبز جاف وقليل من السمن وشيء من الفريك، ونحو ذلك مما يرسله الأهل الفقراء إلى أبنائهم في الأزهر، وسكن مع رفقة من أهل بلده في حجرة قريبة من الأزهر، إذا دخلتها رأيت حصيرًا باليًا، ومساميرَ كبيرة سمرت في الحائط يعلق فيها الطلبة ملابسهم، وفي الركن صندوق يحتفظ فيه الشيخ بكتبه وملابسه وفرشة يفرشها إذا نام ويطويها إذا قام، وهذا كل ما في الغرفة — أستغفر الله — ففي الغرفة أيضًا «حَلة» وصحن، قد يشتهي هو صحبه اللحم فيشتركون في شراء رطل، ويتعاونون جميعًا على شرائه وطبخه، وتقوم في الغرفة حركات عنيفة، ونداآت وأوامر ونواهٍ، وتمتلئ الغرفة بالدخان، وقد يعوزهم الخشب فيتممون الطبخ بالورق، ثم يتحلقون لأكله في لذة ونهم، وتكون هذه الأكلة الفخمة حديث الأسبوع أو حديث الشهر.
وتنفرج الأزمة بعض الشيء بالجراية ترتب له، ثلاثة أرغفة كل يوم، فيكون فيها سداد من عوز، ويدخر منها أحيانًا، ويبيع ما يدخره ليشتري بثمنه إدامًا لبعضه الباقي.
ويجاهد في الحياة، وينسى البؤس بلذة العلم والتحصيل، حتى يتم دراسته في الأزهر ويبدأ في التدريس، وليس للمدرس مرتب يتقاضاه، فهو في فقره مدرسًا — كما كان في فقره طالبًا.
ثم يسعده الحظ، فيعين «مساعد مصحح» للكتب الطبية في مدرسة أبي زعبل سنة ١٢٤٨ﻫ/١٨٣٢م فكان أطباء هذه المدرسة يؤلفون ويترجمون ويطبعون، ويساعد هو في تصحيح اللغة وتصحيح الطبع.
ثم ينقل إلى مدرسة المهندسخانة ويترقى إلى وظيفة مصحح، وكان يدرس بهذه المدرسة علوم شتى، فميكانيكا وديناميكا، وتركيب الآلات، والجبر، وحساب التفاضل، والطبوغرافيا، والكيمياء، والطبيعة، والمعادن، والچيولوچيا، والهندسة الوصفية، وقطع الأحجار والأخشاب، والظل والنظر، ولم تكن هناك كتب في هذه المواد، فكان التلاميذ يكتبون عن المدرسين ما يسمعون في كراريسهم، ويفوتهم منها أشياء كثيرة، ثم تقدمت المدرسة فأنشأت مطبعة حجر يطبع عليها الأساتذة بعض كتبهم بأشكالها ورسومها، ثم أنشئت في المدرسة مطبعة حروف بجانب مطبعة الحجر، وتعين الشيخ الدسوقي لتصحيح هذه الكتب.
وانتقلت هذه المدرسة بعدُ إلى بولاق، فعهد إليه أمران: أن يعلم فرقتين من طلبة المهندسخانة اللغة العربية ليحسنوا الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وأن يصحح ما تطبعه هذه المدرسة من كتب الرياضة.
وظل الشيخ يسكن في حي الأزهر، ولكنه اشترى حمارًا يذهب به كل يوم إلى المدرسة ببولاق.
ثم أغلقت مدرسة المهندسخانة في عهد سعيد باشا، فحول الشيخ الدسوقي إلى المطبعة الأميرية ببولاق أيضًا ليصحح فيها الكتب ويشارك في تحرير الوقائع المصرية.
خرجت كتب كثيرة من المطبعة الأميرية تحمل اسمه، فهو في آخر كل كتاب يصححه يضع له خاتمة بأسلوبه المسجوع حسب مألوف عصره، ولما كان لقبه «الدسوقي» — وهي كلمة صعبة في المزاوجة — كان يجهد نفسه في البحث عن سجعة تناسب هذا اللقب، وأحيانًا يفر منها إلى سجعة أسهل منها تناسب عبد الغفار، فيقول — مثلًا — في آخر تاريخ ابن الأثير: «يقول المتوسل إلى مولاه بالنبي المختار، إبراهيم الدسوقي الملقب بعبد الغفار، خادم تصحيح كتب العلوم والفنون، بدار الطباعة ذات الطبع السليم المصون».
وفي آخر كتاب «تزيين الأسواق»: «يقول المتوسل إلى مولاه بالقطب الحقيقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي».
وفي آخر كتاب «الإنسان الكامل»: «يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي»، وفي آخر شرح العكبري: «يقول المتوسل إلى الله بالجاه الفاروقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي».
وفي كل ذلك يدعو للخديو إسماعيل وأنجاله الكرام، كما يدعو لذوي المهارة والفطانة، مدير المطبعة والكاغدخانة، وملاحظ المطبعة ذي القدر الممجد، أبي العينين أفندي أحمد.
وقد خرجت كتب كثيرة مختتمة بكلمته الدالة على تصحيحه غير ما ذكرنا ككتاب «منار الهدى في الوقف والابتدا»، وصحيح مسلم، وصحيح الترمذي، وقانون ابن سينا في الطب، والتنوير على سقط الزند، إلى غير ذلك.
وقد وضع خاتمة لكتاب الكشاف المطبوع في بولاق ذكر فيها ترجمة الزمخشري وقيمة تفسيره.
ثم رقي في عهد الخديو إسماعيل إلى وظيفة باشمصحح المطبعة، ولم أعرف مرتبه بالضبط إلا أن أمثاله في ذلك الوقت كانوا يتقاضون خمسمائة قرش، وقد ظل فيها إلى أن أحيل إلى المعاش، ثم توفي سنة ١٣٠٠ﻫ/١٨٨٢م عن نيف وسبعين سنة.
والحق أن طائفة من العلماء غبنوا حقهم، ولم يؤرخوا التاريخ الواجب لهم، وهم المصححون، فقد كانوا يمتازون في عصرهم بثقافة أوسع من أمثالهم، واقتضاهم عملهم أن يطلعوا على كثير من الكتب في التاريخ والأدب واللغة والفلسفة وغير ذلك، فاتسعت مداركهم وآفاقهم، واضطرهم عملهم أن يكتبوا خاتمة الكتب، أو شرحًا لغامض، أو أن ينشئوا تقريظًا لكتاب، أو تعليقًا عليه، أو قصيدة في مثل هذه الأغراض، فجرت أقلامهم، ومرنوا على الإنشاء والكتابة في زمن عز فيه الأديب، وندر فيه الكاتب، وإن كان إنشاؤهم وكتابتهم مقيدة بنمط العصر من التزام السجع المتكلف، والاستعارة المشدودة، وما إلى ذلك.
اشتهر من هذه الطبقة الشيخ نصر الهوريني، ثم الشيخ محمد قطة العدوي، ثم الشيخ إبراهيم الدسوقي، ويظهر أنهم كانوا في درجة علمهم وأدبهم كما كانوا حسب ترتيب زمانهم.
نشروا كثيرًا من الكتب القيمة، ولقوا في تصحيحها العناء، وأذهبوا في مسوداتها سواد عيونهم، وهم وإن لم تبلغ كتبهم منتهى الجودة من حيث الإخراج والضبط، فقد بذلوا غاية جهدهم، وجعلوها صالحة للاستفادة منها، واستخرجوها من أصول سقيمة، وخطوط عليلة.
•••
ففي يوم من تلك السنة اعتزم الشيخ الدسوقي الذهاب صباحًا إلى حمام السوق، وكانت عادة أوساط الناس وفقرائهم أن يترددوا على الحمام، إذ لم تكن بيوتهم صالحة للاستحمام فيها، فكان لكل حي حمامه، كما أن لكل حي مسجده ومرافقه، وكان الشيخ الدسوقي إذا أراد الحمام يخرج من بيته فيخترق خان الخليلي ثم ينحرف إلى حمامه.
مر كعادته بخان الخليلي حتى وصل إلى دكان يتاجر في العاديات القديمة والسبح وما إلى ذلك، كان صاحبه صالح أفندي كامل صديقًا له، فوجد الشيخ في الدكان جمعًا سلم عليهم، وسمع صاحب الدكان يقول: هذا هو الشيخ الدسوقي كفانا مؤنة البحث عنه، فسلم الشيخ عليهم، وسلم على رجل غريب معهم يلبس زي الأتراك، ويتكلم العربية الفصحى كأهلها.
عجب الشيخ من حسن استقبال هذا التركي، واستغرب، إذ يقبل عليه بالسلام كأنه يعرفه، والشيخ لا يعرفه، ثم عرفه بنفسه وأنه «لين» الإنجليزي، فذهبت حيرته، وجلسا جنبًا إلى جنب، وتعارفا وتآلفا، ودعاه «لين» إلى زيارته في بيته في هذا المساء، فلبى دعوته، وكانت عشرة لطيفة عجيبة دامت سبع سنوات.
٢
أما صاحبنا إدوَرد وليم «لين» فكان أكبر من صديقه الدسوقي بنحو عشر سنوات، إذ ولد في «هير فورد» بإنجلترا سنة ١٨٠١، وكانت أمه متينة الخلق لطيفة الطبع، فورث منها — كما كان يقول — كثيرًا من حسن استعداده واستقامة تفكيره، تعلم في مدرسة بلده، ثم أريد أن يكون رجل دين، فأبى ذلك وتخصص للاستشراق، فجد في التعلم والبحث حتى ساءت صحته، فنُصح أن يذهب إلى مصر، فجاءها لأول مرة شابًّا سنة ١٨٢٥، وجعل همه أن يدرس اللغة العربية في أماكنها، وأن يدرس حالة الشعب المصري وأخلاقه وعاداته وثقافته وكل ما يتصل به، فمكث في ذلك ثلاث سنين، متزييًا بزي الأتراك، متسميًا «منصور أفندي زاده»، ساكنًا في الأحياء الوطنية، متنقلًا بين القاهرة والنوبة، فكتب في ذلك ما شاء من التعليقات واليوميات والملاحظات وعرضها على جمعية في إنجلترا بعد عودته، فاستحسنتها وأشارت بطبعها، ولكنه رأى أنها ناقصة تحتاج إلى إكمال، فعاد ثانية إلى مصر سنة ١٨٣٣ ومكث فيها نحو سنتين قضى أكثرها في القاهرة وأقلها في الصعيد، باحثًا منقبًا عن العادات والأخلاق، مصححًا ما دَوَّنَ من قبل.
وضع للوصول إلى هذا الغرض برنامجًا دقيقًا، فقد تعلم العربية حتى استطاع أن يتفاهم مع الشعب ويفهم منه، والتزم أن يعيش كما يعيش المسلمون، ويتعود عاداتهم، وحتى لا يثير شكوكهم، كان يصوب آراءهم ويمدح عاداتهم ما طاوعته نفسه، ويتجنب مخالفتهم وما يستوجب كراهيتهم، ويمتنع عن أكل ما لا يأكلون أو شرب ما يحرِّمون، فلا يأكل خنزيرًا ولا يشرب نبيذًا، بل تجنب حتى ما لا يعتادون ولو أباحه الدين، فلا يستعمل في أكله أمامهم شوكة ولا سكينًا، ومكنه ملبسه وكلامه وعاداته ومظهره بمظهر الإسلام أن يدخل المساجد، ويشهد الموالد، ويرى الشعائر ويشترك في شهود الأعياد والمحافل، وكان يشعر بتحفظ المصريين عن الكلام في الجن وكرامات الأولياء والسحر وما إلى ذلك أمام من لا يعتقدها، فكان يتسقط من بعضهم كلامهم في هذا الموضوع، ويتظاهر بالاعتقاد فيه والإيمان به، ويحدث مستمعيه ببعض ما سمع، زائدًا عليها من خياله، حتى يأمن محدثه جانبه فيفيض عليه من أحاديث الجن والكرامات، والسحر والمغيبات، ما يملأ رغبته ويحقق مطلبه، ويقفه على ما يدور برءوس عامة المصريين من هذا الباب، فكان يحدث عن أحداث رأى فيها الجن، وكان يقول: إنه يعتقد في الشيخ «أحمد الليثي» الذي كان يمشي حافيًا في ركاب «الشيخ العروسي» أنه من أهل الكرامات، لأنه يحدث بأخبار لندرة في مواعيدها قبل أن يأتيه البريد بها، يستجلب بذلك كله أحاديث الناس في مثل هذه الموضوعات وتوسعهم فيها، كما كان يحدث خاصته من المسلمين بأنه يعتقد في عيسى — عليه السلام — أنه رسول لا إله، وفي محمد رسول الله سيد ولد عندنان، واختار شيخين مسلمين يأجرهما ليزيدا في تعليمه العربية، وليستقصي منهما الأخبار والآراء، وليستفسر منهما عما يتوقف فيه، وليعرض عليهما ما وصل إليه ليصححا خطأه إن كان، وصادق بعض الكبراء والعظماء والأغنياء، وكثيرًا ما كان يتردد على الشيخ العروسي والشيخ العطار، ويفتح بيته للزائرين والمترددين، ويغدق عليهم من كرمه، ويقدم لهم القهوة والدخان، ويدعوهم للغداء والعشاء، وتتردد أخته على قصور الأمراء فتتعرف عاداتها ودخائلها، وهكذا عمل كل ما يستطيع للوقوف على كل شيء في مصر.
وقد كان ماهرًا في فن التصوير، فصور بيده كل ما يعنيه من الصور: الرجل في صلاته، والمرأة في بيتها، والسقاء بقربته، وحفلات الذكر، وأدوات الزينة، وآلات الغناء، وأنواع الحلي، إلى أن أتم ١٣١ صورة أودعها كلها في كتابه الذي نشره سنة ١٨٣٦.
كما عكف على ترجمة «ألف ليلة وليلة»، ولعل ذلك لأنها تتم حلقة عمله في العادات والأخلاق، فألف ليلة تمثل الحياة الاجتماعية الإسلامية في القرون الوسطى، وكتابه الذي أسلفنا يمثل الحياة الاجتماعية في مصر الحديثة، نشره سنة ١٨٣٨–١٨٤٠.
هذا هو «لين» قبل أن يتعرف بصديقه «الدسوقي»، ثم عمل «لين» تصميمًا لعمل خطير، هو أن يضع معجمًا للغة العربية باللغة الإنجليزية، أساسه ترجمة القاموس مع شرحه تاج العروس، وهذا يتطلب أن يفهم القاموس المحيط فهمًا جيدًا، وهو صعب الفهم حتى على أهل العربية، وهو أيضًا يقتضي نسخة صحيحة ما أمكن من القاموس، ثم تراجع على سائر النسخ ليتثبت من صحتها، ثم إذا وصل إلى نبات أو حيوان — وما أكثرها في القاموس — وجب أن يعرف مقابلها بالإنجليزية، وإذا اعترضته عبارة غامضة حل غموضها وهكذا، عمل شاق لا يستطيعه إلا رجل جبار، وليس يمكن ذلك إلا في مصر بلد العلم العربي، وهي — أيضًا — حارة الجو جافته تناسب المصدورين أمثال «لين».
وضع خطته للسفر وبعث إلى صديقه «فرسنل» ليتخير له معينًا، فكان هو الشيخ الدسوقي — كما أسلفنا.
حضر إلى مصر لثالث مرة سنة ١٨٤٢، وكان عمره إذ ذاك ٤١ سنة، ولكن الشيخ الدسوقي قال: «وفد علينا في عقد الخمسين من البلاد الشاسعة، ذات المعارف الواسعة، والصنائع البارعة، والتحف الرائعة … إنسان قد وخطه الشيب، وليس في لسانه لكنة ولا عيب، طويل القامة، كبير الهامة، تلوح عليه الأمارة، فصيح العبارة، كأنه عدناني أو قحطاني، إلا أنه ذو زي عثماني، لا يتكلم إلا بفصيح الكلام، وله بفنون الأدب إلمام».
اعتاد «لين» أن يسكن في الأحياء «البلدية» فكان يسكن في «حارة السقايين ثم في حارة قواديس» ودعا الشيخ الدسوقي أن يزوره في بيته، وعند أول لقاء عرَّفه بغرضه، وعرض عليه منهج العمل في القاموس، وطلب إليه أن يحضر إليه كل يوم عصرًا، ورتب له كل شهر مبلغًا من المال فوق ما كان يؤمل الشيخ الدسوقي، وشرعًا — على بركة الله — في العمل.
أعدَّ «لين» مكتبة يستعين بها على عمله، فعنده نسختان خطيتان من القاموس، ونسختان من الصحاح، ونسخة من تاج العروس شرح القاموس، وبعض نسخ أخرى، ونسخة من لسان العرب، يظن الدسوقي أنها بخط المؤلف، وأجزاء من المُحْكَم لابن سِيدَه، وكثير من دواوين الشعراء، والمزهر للسيوطي.
واقترح «لين» أن يبدأ بمطالعة المزهر حتى يتذوق اللغة وحدودها، ثم يقرأ كل يوم نصف كراسة من تاج العروس شرح القاموس يفهمها ويستفسر عما صعب منها ويراجعها على ما عنده من كتب اللغة حتى يستوثق من صحتها، وعلى هذا تم الاتفاق.
في حجرة في بيت «لين» في القاهرة كان يجتمع شيخان تباينا في المنشأ والتربية والعقلية، والنظر إلى الحياة: هذا إنجليزي تربى على آخر طراز، وعرف الدنيا وشئونها ودقائقها، وجاب البلاد شرقها وغربها، وبرها وبحرها، وخالط ساستها وعلماءها، ووصل من ذلك كله إلى غاية ما يستطيع مثقف أوربي في القرن التاسع عشر أن يصل إليه، وهذا شيخ مصري قضت طبيعة تعلمه ومنشئه وظروفه أن يعيش في دنيا محدودة الأفق، وكان الشعب المصري لا يزال محتفظًا في عيشته وتقاليده وعاداته بما ورثه من القرون الوسطى، لم تغزه المدنية الغربية كما غزته بعدُ، ولم تتكسر الحدود والفواصل بينه وبين الغرب كما تكسرت بعد، وكانت مصر تتخذ قبلتها بغداد الرشيد، وقاهرة المعز، قبل أن تتحول فتتخذ قبلتها باريس أو لندن، فكان الشرقي يدهشه الغربي بتصرفاته وأفانينه، وكان الغربي يعجبه منظر الشرقي كما تعجبه العاديات القديمة، وكما يعجبه متحف الآثار.
على هذا التقى «الدسوقي» و«لين»، ولكن ألف بينهما الغرض العلمي واللسان العربي، ورغبة «لين» أن يتعرف كل ما عند الدسوقي من أفكارٍ وعاداتٍ وعقائدَ، ليدرسها لا ليحياها، وليشرِّحها لا ليعتقدها، وأن يعرف ما عنده من علم ليستعين به على أداء غرضه والوصول إلى غايته، ومهما كان من فوارق فالماء الحار والبارد إذا تلامسا وامتزجا تعادلا ونزل الحار عن شيء من حرارته، والبارد عن شيء من برودته، فهذا «لين» يعتاد أن يقول «باسم الله» في مبدأ عمله، ويلتزم ذلك في حياته حتى بعد عودته إلى إنجلترا، وهذا الدسوقي يدخن «البيبة» في شكل «شُبُك».
كان يذهب الدسوقي عصر كل يوم إلى بيت «لين» فإذا جلس قليلًا حضرت صينية الشاي عليها أربعة فناجين كبار مملوءة شايًا وقهوة محلاة بالسكر، لكل منهما اثنان وملعقتان لكل منهما معلقة، ورغيفان مستطيلان لكل منهما رغيف، فيشربان ويأكلان ويتحدثان، فإذا تم ذلك أُحضر شُبُكان مكسوان بالحرير المقصَّب لكل منهما شبك، فيدخنان ويقرآن، فإذا بدآ القراءة فلكل منهما نسخة من الكتاب، وضعت على سطح مائل، يقرآن ويراجعان ويتفهمان، إلى أن يتم نصف الكراسة فينصرف الشيخ، ثم يأخذ «لين» في ترجمة ما فهم إلى الإنجليزية، فتسير الترجمة مع القراءة، ويستمران على هذا سبعة أعوام لا يكلان ولا يملان، والشيخ «لين» جاد في عمله، قد يمكث في بيته الشهر أو الشهرين أو الثلاثة لا يخرج فيها مرة، يعمل في الصباح بعد الفطور إلى نحو نصف الليل، لا يستريح فيها إلا أوقات الأكل، ونحو نصف ساعة يتروض فيه بين مشي وصعود الدرج وهبوطه، حتى أتم تسعة أعشار الكتاب.
ولندع الآن حديث ما بينهما من عمل علمي رسمي، لنتحدث حديث ما بينهما من عواطف، لقد تأكدت بينهما الصداقة وتوثق بينهما التآلف.
كذلك يصاب الشيخ «لين» بمثل هذه المصيبة، فيكون له مال مودع في بنك في إنجلترا يسحب منه كل شهر ما يلزمه، فيفلس البنك ويقع «لين» في الضنك، وكان أخشى ما يخشاه أن يصد عنه الدسوقي، ويتخلى عنه إذا لم يأجره، فما كان من صديقه الدسوقي — وقد علم بهذا الأمر — إلا أن يصرف عنه هذا الخاطر — وأن يعاهده أن يستمر في تدريسه بل يزيد في اجتهاده، قال الشيخ: «وما زلت أوافيه على العادة، التي كانت بيننا معتادة، بل زدت على ما كان، فشكرني على هذا الإحسان، حتى قيض الله له ناسًا من أهل لوندرة، ذوي ثروة معتبرة، فوضعوا له في البنك ما يَرِدُ منه ما يكفيه، فأجرى إليَّ ثانيًا ما كان يجريه»، وهكذا كان الشيخان يتبادلان العطف والوفاء طوال السبعة الأعوام.
كان الشيخ «لين» يعيش في أسرته وهي مكونة من زوجة له رومية وأخته وابني أخته، وكانت زوجته وأخته تلبسان لباس المصريات، فلا تخرجان إلا مؤتزرتين مبرقعتين، فلم ير الشيخ الدسوقي لهما وجهًا مع كثرة تردده وتودده، ومع هذا كان إذا مرضت زوجه أو أحد أولاده، ذهبت أخت «لين» إلى بيت الدسوقي فعالجت ومرَّضت، وأعطت من الدواء ما عرفت حتى يتم الشفاء، ويشكره الشيخ.
ويعجب الدسوقي من هذه الأسرة، فبيتها مدرسة عجيبة: هذا الشيخ عاكف على ترجمة القاموس، وهذان الابنان تعلمهما أمهما اللغتين التليانية والفرنسية، ويقرأ لهما خالهما النبيل، شرح ألفية النحو لابن عقيل، وأصغرهما وسنه ١٥ سنة يجيد معرفة الهيروغليفية.
ويعجبني قول الشيخ: «فانظر يا ذا الكسل، الذي هو أحلى مذاقًا من العسل، إلى هذا الاستعداد العجيب، والجد الغريب».
وانطلت الحيلة على الشيخ الدسوقي، فكان يعتقد أن «لين» يؤمن بالجن وكرامة الأولياء، ونبوة محمد، ونبوة عيسى، ويعجب أنه بعد ذلك كله لا يسلم، ولم يدر بخلده أن ذلك منه كان سياسة وقتية.
فإن أردت أن تعرف رأي أحدهما في الآخر، فرأي الدسوقي في «لين» أنه «لبيب ماهر»، «ذو غيرة إنسانية»، «كريم مواس»، «رقيق القلب، خالص الود»، «لا يؤثر في حسن معاملته للناس اختلاف الدين».
ورأي «لين» في الدسوقي أنه يُرضى كل الرضا من ناحيته العلمية في العمل الذي يعمله معه، ولكنه يأخذ عليه من الناحية الخلقية أنه «حاد المزاج، ضيق الصدر، طماع بخيل».
وهو رأي قاس ونقد لاذع، ولا شك أنه عبَّر عن عقيدته فيه، ولكن أخشى أنه لم يرحمه في الحكم عليه، فلم يقدر ظروفه وأحواله، ونشأته الفقيرة وأسرته الكبيرة، وموارده الصغيرة.
•••
بعد مضي سبع سنين تدخل الزمن الذي لم يُبْقِ شيئًا على حال، فدعت الدواعي الملحة أن يعود «لين» إلى بلاده ولما يتم العمل، قال الشيخ: «وقضينا معًا حقبة من الدهر ناضرة، في عيشة زاهية زاهرة».
وقبل الرحيل أهدى «لين» الشيخ الدسوقي سجادة عظيمة ونسخة من القاموس وساعة جيب، وقاس نظره وبعث فأحضر له من لندن «نظارة» لائقة بعينيه، وأهداه ابنا أخته «خرجًا عجميًّا شغل الإبرة».
عاد «لين» إلى إنجلترا سنة ١٨٤٩ فعكف على العمل بمثل الجد الذي كان منه في مصر، حتى أنفق فيه عشرين عامًا أخرى، ثم بدأ في طبعه سنة ١٨٦٣، وظل يعمل في تصحيح التجارب إلى أن وصل إلى نصف الجزء السادس سنة ١٨٧٦.
يعمل ليل نهار في حياة راتبة بين ملزمة تحضَّر، وملزمة تصحح، وجزء يتم ثم ينشر، لا ينقطع عن عمله إلا يوم الأحد، إذ يصرفه في الدين، فيصلي مع المصلين، ثم يعكف على قراءة الكتاب المقدس لا ناقدًا علميًّا، ولا ناقدًا لغويًّا، ولكن مستخرجًا معنى خلقيًّا، أو مبدأً روحيًّا، لقد كان يصلي في مصر في المسجد مع المسلمين، وكان يصلي في إنجلترا في الكنائس مع المسيحيين، والدين كله لله.
وفي يوم من أيام أغسطس سنة ١٨٧٦ أصيب ببرد لم يعبأ به، ثم اشتد شدة لم تكن تتوقع، ثم انطفأت شعلته على غير انتظار.
مات عن خمسة وسبعين عامًا قبل أن يموت صديقه الدسوقي بستة أعوام.
ولعل هذه العلاقة بين الدسوقي الأزهري و«لين» الإنجليزي كانت السبب في أن يضع «علي باشا مبارك» بمعونة صديقه «عبد الله باشا فكري» قصة طويلة ممتعة نسيها الأدباء — من غير حق — في تأريخهم القصة المصرية الحديثة، أتحدث عنها بعدُ.