الفصل الأول
بدايات التحرش بالمغرب ومعاهدة الحماية.
المقاومة الشعبية في وجه المحتل.
الظهير البربري.
تأطيرات الحركة الوطنية.
الوجه الفكري والأدبي لمغرب الحماية.
***
هل كان المغرب، حقًّا، في حاجة إلى إبرام معاهدة الحماية لسنة ۱۹۱۲م ليُداهمه الاستعمار من أبوابه الواسعة، وبصوره وأساليبه المكشوفة، أم إن هذا التاريخ كان تفنينًا رسميًّا للتدخُّل الأجنبي وفقدان السيادة بشكلٍ ما عادَ منه فِكاك؟
وقد بدا التحرش الفرنسي انطلاقًا من منطقة الحدود الجزائرية المغربية، بالاستيلاء على بعض المناطق المتاخمة، وبدأ الزحف الأول بقيادة الجنرال ليوتي، الذي شرع يحتل المغرب تدريجيًّا، وما كان لهذا الاحتلال التدريجي إلا أن يتم بعد موافقة الدول الكبرى، وهي الموافقة التي أمكن لفرنسا أن تحصل عليها بعد إبرامها لعدد من الاتفاقيات مع البلدان الأوروبية التي كانت لها أطماع مماثلة، ومنها اتفاقية مع إيطاليا في سنة ١٩٠٠م ومع إنكلترا في ١٩٠٤م، وأخرى مع إسبانيا في السنة نفسها.
وفي ١٥ يناير ١٩٠٦م تأتى لفرنسا أن تجمع حول مائدة واحدة كل الطامعين والمتطلِّعين إلى المصالح في أفريقيا، والمغرب، من ضمنها، وهكذا اجتمع في مؤتمر الجزيرة الخضراء غالبية الدول الأوروبية، بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة، وانتهى المؤتمر بإطلاق يد إسبانيا وفرنسا في المغرب وثرواته.
ولم يكُن مجيء عبد الحفيظ ليغير شيئًا من حال التدهور والوقوع في قبضة الاحتلال التي سقط فيها المغرب مع مطلع القرن العشرين، سيما وأن الفرنسيين كانوا قد احتلوا مدينتي وجدة والدار البيضاء، وألزموا السلطان عبد الحفيظ بتسديد ديون أخيه السابقة، بل وقيدوه بديون جديدة، واحتل الإسبان تطوان والعرائش والقصر الكبير.
ونجَمَ، بعد ذلك، عن هذه الاتفاقية أنْ وقعت في مدريد اتفاقية جديدة بين فرنسا وإسبانيا تثبت حدود المنطقتين الشمالية والجنوبية، وهكذا لم يفقد المغرب استقلاله، وحسب، ولكنه أضاع وحدة أراضيه.
(١) المقاومة الشعبية في وجه الاحتلال الأجنبي
إذا كان المحتل الفرنسي قد استطاع أن يمد هيبته، تباعًا، على سلاطين المغرب وأن يجعل من معاهدة ۱۹١٢م تكريسًا لاحتلاله التدريجي وسيطرته السياسية والاقتصادية على المغرب، فإنه لم يتمكن من بسط هذا الاحتلال على كامل الربوع المغربية بذات السهولة والتدرج؛ فقد صادف من طرف السكان، وسكان القبائل الجبلية والصحراوية، بوجه خاص، أشد أنواع المقاومة والتصدي التي جعلته يقضي ما يقرب من ربع قرن في مجابهة المقاومين وتكبيد الخسائر المادية والبشرية قبل أن يستتب له الأمر، أخيرًا بعد استنفاد آخِر طلقة في ثورة عبد الكريم وسحق المقاومة في إفني، وخمود نار الثورة في الأطلس المتوسط.
وتصدى الأطلس المتوسط، بدوره، لمقاومة المحتل الغاصب وسجل صفحات رائدة في البطولة والاستشهاد، أهمها تلك التي برزت على يد موحا وحمو الزياني، الذي كان قائدًا ذا بأس وشدة وتسلح، وقد أعلن الحرب على الفرنسيين في خنيفرة انطلاقًا من مواقعه في الجبال وظلَّ يقاومهم ببسالة لا متناهية إلى سنة ١٩٢٠م حين أسلم الروح إلى باريها مثخنًا بجراحه.
غير أنَّ أنصَعَ صفحة من صفحات المقاومة والبطولة الشعبية المغربية سجلت في تاريخ الغزو الاستعماري للمغرب، هي التي كتبها أبطال الريف بدمائهم وعلو هممهم في مقاومة الدخلاء، وصاغ خيوطها المضيئة، بالذات، عبد الكريم الخطابي الذي سيصبح اسمه رمزًا لكفاح الشعوب وصمودها في التاريخ المعاصر ضد الاحتلال والاستعمار.
لقد تهيأ لعبد الكريم من التجربة والعدة والصلابة ما جعله يبدع في الريف نضالًا يتجاوز نطاق المقاومة، التي تأتي رد فعل للدخيل الأجنبي، ولكنه انتقل بها إلى مستوى البديل التنظيمي، ولا شك أن الطموح السياسي كان أحد روافد هذا التنظيم والصمود الذي جعله يحقِّق نصرًا كاسحًا على المحتل الإسباني في شمال المغرب.
وسيطول بنا الأمر لو حاولنا اقتفاء خُطى المقاومة الريفية وهياكل الدولة الجديدة في ديباجتنا التاريخية هاته، وحسبنا أن نقف على أكثر نواحيها بروزًا ودلالة، والتي تكشف لنا جوانب البطولة الفذة في هذه الحركة النضالية التي خنق التكالب الاستعماري وتحالف الجيوش الإسبانية والفرنسية أنفاسها، وإلا لكان للمغرب شأن آخَر تمامًا.
(٢) الظهير البربري وانطلاق الحركة الوطنية
يمكن اعتبار صدور الظهير البربري المناسبة التي انطلقت بها الحركة الوطنية إلى حلقاتها الاحتجاجية والمطلبية الأولى، وانتقلت من صعيدها النظري الخالص والمستوحى من الفكر السلفي الجديد إلى الصعيد العملي المتمثل في المباشرة ومجابهة الاحتلال الأجنبي المجابهة المناسبة.
وقد لقي هذا الظهير الصليبي موجة احتجاج عارم داخل المغرب وخارجه؛ ففي الداخل استنفر الشباب الوطني طاقته وغصت المساجد وقرئ اللطيف في كل مكان، وفي الخارج قام الأمير شكيب أرسلان بتنبيه المسلمين، كافة، في العالم الإسلامي بأخطار هذا الظهير، وكذا بأخطار عصبة الأمم والقوى العظمى والحكومة الفرنسية وبرلمانها، واتخذت القضية شكل مجابهة دينية صرف.
(٣) تأطيرات الحركة الوطنية
لقد كان هذا البرنامج الخطوة الأولى في الكفاح السياسي الوطني التي لن تلبث أن تتلوها خطوات أوسَع ستشق بها الحركة الوطنية المغربية طرقًا وشعابًا في مواجهة الحماية الفرنسية ويتبلور عنها مسلسل صراع طويل النفس حلقاته أكبر من أن يتسع لعرضها تمهيدنا التاريخي هذا.
لقد جوبهت مطالب برنامج اللجنة بالرفض، وقدمت لائحة مطالب مستعجلة في ٢٥ أكتوبر ١٩٣٦م، وخيبت الجبهة الشعبية في فرنسا آمال الوطنيين المغاربة رغم جهود حسن الوزاني والخلطي وعمر بن عبد الجليل، وأعقب فشل الجهود والاتصالات السلمية مظاهرات في فاس وسلا وتجمعات ضخمة بالدار البيضاء، تلَتْها حملة اعتقالات واسعة. وشهدت سنة ١٩٣٧م انشقاقًا في الحركة الوطنية؛ إذ انفصل بن الحسن الوزاني الذي أسَّس «الحركة القومية» كما حلَّ المقيم العام اللجنة فظهر عوضها «الحزب الوطني لتحقيق المطالب» في ٢٣ يوليو ۱۹۳۷م.
ومنذئذٍ وحركة المطالبة والاحتجاج والعمل السياسي العلني والسري لم تتوقف، والوطنيون المغاربة يلاقون ضروبًا شتى من القمع والتنكيل والنفي على يد الفرنسيين، وخاصة بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال وطرح قضية المغرب في الأمم المتحدة في ١١ يناير ١٩٤٤م، وكان الوطنيون يقومون بعملهم هذا بتنسيق مع القصر الذي ضيقت عليه الإقامة العامة الخناق واستمرت في التضييق إلى أن أنزلته عن العرش ونفته إلى جزيرة مدغشقر في ٢٠ غشت ١٩٥٣م، وكان ذلك إيذانًا بانطلاق حركة المقاومة المسلحة في مجموع المغرب، وباستنفاذ كل الجهود السياسية.
(٤) الوجه الفكري والأدبي لمغرب الحماية
تعتبر الحركة الوطنية، بحق، المضمار الذي برزت في رحابه كثير من المواهب والإبداعات، وذلك بما استطاعت أن تحمله من نفس وحماس جديدين إلى المغاربة، وبما هيأت لهم من آمال لاستشراف مستقبل مضيء. غير أن أهم ما يستفيده الباحث منها هو عودته إلى أرضيتها الفكرية والنظرية المتمثلة في الحركة السلفية، هذه الخطة الإصلاحية التي عملت على تأسيس دعامات وجود فكري وثقافي جديد للمغرب.
والنتاج الأدبي في المغرب لم يشد عن الجمود والتقليد اللذين عرفتهما سائر ميادين الحياة والفكر في البلاد، ذلك أن روح المحافظة واحتذاء الأقدمين غلبا عليه، فالشعر بقي يُنظم في الأغراض المعروفة بحيث انعدمت فيه الأنفاس الشعرية الجديدة، كما كان الكثير منه مرتبطًا بالحركة الوطنية من ناحية المضمون. أما النثر فقد كان يتمثل في القوالب المعتادة في النثر العربي، كالرسائل الديوانية والإخوانية والمقامة والخطبة وأدب الرحلات.
ويمثل الاتجاه المقامي في العقود الأولى من القرن العشرين في المغرب عدة كتاب منهم محمد معمري الزواوي، ومحمد بوجندار، ومحمد غريط: الأول بمقامته (زهر الآس في وصف سيد الأعراس) منشور بجريدة السعادة س ۱۹۱۹ ع ١٨٥٩ والثاني بمقامته (ذكرى ختم البخاري) منشور بالسعادة س ۱۹۲۰ ع ٢٠٤٢–٢٠٤٤ والثالث بمقامته (في وصف مكناس) النبوغ: س ۱۹۳۹-۱ مج١ - الجزء الأول.
وخلافًا لذلك نجد الفن المقامي يبعث في المشرق بعثًا جديدًا، فالمويلحي ينفخ فيه روحًا جديدة ويتخذه قالبًا يعمره بآرائه حول العصر والحياة والمجتمع ويعده برؤية وفهم حديثين ومطورين في النهاية لفن المقامة، ولو تهيأ للكتَّاب المغاربة ما تهيأ لإخوانهم المشارقة، لأمكن لهذا الفن أن يبشر مبكرًا بظهور الفن الأقصوصي في الأدب المغربي الحديث.
- أولًا: كان لكفاح الحركة الوطنية أثره الجليل في ميدان الثقافة، وذلك لما ارتبط في أذهان روادها من فهم لأثر الثقافة الوطنية ومن ضرورة الحفاظ عليها مجابهة للاستعمار وتصدِّيًا لنواياه. وقد أثمر هذا الاهتمام نتائج طيبة في حقل الأدب؛ إذ «قويت حركة الإقبال على التعليم وانتشرت المدارس الوطنية في طول البلاد وعرضها وكثرت البعوث العلمية إلى أوروبا والشرق العربي، ونظمت المدارس بجامعة القرويين. (لعل المؤلف يقصد مآوي الطلبة أي ما يقابل الأحياء الجامعية في أيامنا هذه) وأدخلت عليها إصلاحات مهمة. مما حصل معه تقدم كبير في الحياة الأدبية وتطور في مفهوم الأدب.»٢٠
- ثانيًا: ظهور الصحافة وازدهارها؛ فقد أتاحت الفرصة لظهور المقالة وعملت على تطوير الأسلوب النثري وتخليصه من التزام السجعة وباقي القيود النثرية القديمة؛ بحيث إنها دفعت الكتاب في غمار الكتابة الصحفية إلى أن يكيفوا لغتهم وأساليبهم مع حداثة المواضيع المطروقة وكذا مع أذهان وأذواق القراء وهكذا فقد «كان للصحافة٢١ الوطنية التي نمَت في العهد نموًّا ظاهرًا وخاصة الأدبية منها اليد الطولى في توجيه النهضة الأدبية ورعايتها.»٢٢
- ثالثًا: ثم إنه لا يمكن أن نغفل ما كان لأثر الاتصال مع المشرق العربي من فاعلية، وقد تمثل هذا الاتصال في ورود كتب الشرق ومجلاته المختلفة مثل الهلال والرسالة (١٩٣٢م) وغيرهما٢٣ وفي التأثر بعد ذلك بالإنتاج المشرقي، الذي وإن كان في رأي الأستاذ عبد الله كنون مجرد «تأثُّر يعتمد على الإعجاب والتلقِّي»٢٤ فإنه أثمر كل المحاولات الجديدة كما يذهب كنون نفسه إليه بقوله إن: «المحاولات الأدبية الجديدة كانت نتيجة لما يصلنا من المشرق والغرب من إنتاج ظلَّت تختمره النفوس والعقول وتتمثله التمثل الجيد، فكانت المقالة والقصة والتمثيلية.»٢٥
إن هذه الأسباب وأخرى غيرها بسطت طريق الأدب المغربي الحديث وشجعت المقالة في محتوياتها المختلفة على المضي في طريق تصوير الواقع وإبراز أضراره ومساوئه. ثم تدرَّجَت الكتابة النثرية الفنية وهي تحاول في كل مرة أن تقترب من أسلوب القص بينما وجد ما يحول بينها وبين بلوغ ما تنشده إلى أن تأتى للكتاب المغاربة بعد زمن أن يقوموا بالخطوات الأولى في طريق الكتابة القصصية، من خلال محاولاتهم تمزيق نسيج المقالة.