الفصل الأول

بدايات التحرش بالمغرب ومعاهدة الحماية.

المقاومة الشعبية في وجه المحتل.

الظهير البربري.

تأطيرات الحركة الوطنية.

الوجه الفكري والأدبي لمغرب الحماية.

***

هل كان المغرب، حقًّا، في حاجة إلى إبرام معاهدة الحماية لسنة ۱۹۱۲م ليُداهمه الاستعمار من أبوابه الواسعة، وبصوره وأساليبه المكشوفة، أم إن هذا التاريخ كان تفنينًا رسميًّا للتدخُّل الأجنبي وفقدان السيادة بشكلٍ ما عادَ منه فِكاك؟

إن الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تحملنا إلى ما وراء هذه الفترة بكثير، فقد كانت فرنسا، التي مدَّت سيادتها على الجزائر، وحطمت ما تبقى من مقاومة الأمير عبد القادر، قد أخذت تتحرَّش بالمغرب، منذ عهد السلطان المولى عبد الرحمان، والحماية الإنكليزية وحدها هي التي بقيت تدعم وجود السلطان وليس الجيش المغربي الذي كان مختلًّا، سيئ التجهيز. وقد تمثل هذا التحرش، بصفة خاصة، بعد وفاة عبد الرحمان وإقدام فرنسا، مستغلة عدم الدقة الموجودة في معاهدة الحدود بين المغرب والجزائر، بالهجوم على إقليم بني يزناسن، وما كان من إسبانيا، بدورها، إلا أن أقدمت على صنيع مماثل بأن عمدت إلى احتلال الجزر الجعفرية مفتعلة، بذلك، الإرسالية العسكرية لسنة ١٨٥٩م، والتي تمثَّلَت في الزحف على تطوان في ١٩٦٠م (خمسون ألف رجل مسلحين ومدربين يواجهون ٥٦٠٠ شخص غير مسلَّح) «لقد كان كل شيء في حرب ١٩٦٠م هذه يرمز لأزمة الدولة والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر … كما أن حرب النهب في نظر المؤرخين الذين عاصروا الحدث، كانت تُنذر بأفول أحلام المغرب.»١
والواقع أن كل شيء، في المغرب الكبير، كما يرى عبد الله العروي٢ كان مهيَّأً ليكون للضغط الأوروبي آثاره الكبيرة، فالروابط العضوية المتزايدة الوثوق بين الدولة والتجارة الأجنبية كانت تعطي عناصر سياسية نتيجتها، على المدى البعيد، هي عزل هذه الدولة وجعلها في خدمة المصالح الأجنبية.
وبالنسبة للمغرب — على الخصوص — فقد كان محطَّ الأنظار الاستعمارية ومناط المصالح التوسُّعية الغربية، وبدأت هذه المصالح تظهر في صورة ضغوط لعقد اتفاقيات تستفيد منها البلدان المشرئبَّة نحو المغرب. فبالاستناد إلى اتفاقية ١٨٦٧م توسَّعَت امتيازات التجار والمقيمين الفرنسيين والمستوطنين توسُّعًا كبيرًا، فتمتعوا إلى جانب الحصانة القضائية بالإعفاءات الضريبية العديدة، وعقدت إسبانيا في التاريخ نفسه اتفاقية من هذا النوع مع المغرب. وحصلت دول أخرى، وهي النمسا – إيطاليا – الولايات المتحدة الأمريكية – إنكلترا – هولاندة – بلجيكا، على عدد من الامتيازات، سواء في الصيد البحري أو التجارة الحرة أو امتلاك العقارات٣ بل إن المغرب عرف طيلة القرنين ١٥ و١٦ وحتى مطلع القرن العشرين اغتصابًا متواترًا لأراضيه من طرف البرتغال والإسبان والإنكليز. وكانت فرنسا آخِر مَن تحرَّش بالسيادة المغربية.

وقد بدا التحرش الفرنسي انطلاقًا من منطقة الحدود الجزائرية المغربية، بالاستيلاء على بعض المناطق المتاخمة، وبدأ الزحف الأول بقيادة الجنرال ليوتي، الذي شرع يحتل المغرب تدريجيًّا، وما كان لهذا الاحتلال التدريجي إلا أن يتم بعد موافقة الدول الكبرى، وهي الموافقة التي أمكن لفرنسا أن تحصل عليها بعد إبرامها لعدد من الاتفاقيات مع البلدان الأوروبية التي كانت لها أطماع مماثلة، ومنها اتفاقية مع إيطاليا في سنة ١٩٠٠م ومع إنكلترا في ١٩٠٤م، وأخرى مع إسبانيا في السنة نفسها.

وأحكمت فرنسا الطوق على المغرب بعد القرض الذي قدَّمَته للسلطان عبد العزيز، الذي كان: «مولعًا بالدراجات والغراموفونات وشتى الهيئات المدنية الغربية»٤ وقد تقدم بهذا القرض مجموعة بنكية يرأسها بنك باريس والأراضي المنخفضة، الذي أخذ يمد سلطته، تدريجيًّا، على الاقتصاد المغربي.

وفي ١٥ يناير ١٩٠٦م تأتى لفرنسا أن تجمع حول مائدة واحدة كل الطامعين والمتطلِّعين إلى المصالح في أفريقيا، والمغرب، من ضمنها، وهكذا اجتمع في مؤتمر الجزيرة الخضراء غالبية الدول الأوروبية، بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة، وانتهى المؤتمر بإطلاق يد إسبانيا وفرنسا في المغرب وثرواته.

ولم يكُن مجيء عبد الحفيظ ليغير شيئًا من حال التدهور والوقوع في قبضة الاحتلال التي سقط فيها المغرب مع مطلع القرن العشرين، سيما وأن الفرنسيين كانوا قد احتلوا مدينتي وجدة والدار البيضاء، وألزموا السلطان عبد الحفيظ بتسديد ديون أخيه السابقة، بل وقيدوه بديون جديدة، واحتل الإسبان تطوان والعرائش والقصر الكبير.

كل هذه الأحداث جعلت الطريق ممهدًا لتوقيع اتفاقية الحماية بفاس في مارس سنة ١٩١٢م، التي أملاها المبعوث الفرنسي على السلطان عبد الحفيظ، وهي الاتفاقية التي ضمنت لفرنسا الاحتلال العسكري للمغرب وإقامة ما تراه مناسبًا فيه من إجراءات إدارية واقتصادية، وبحكم هذه الاتفاقية: «أصبح المقيم العام الفرنسي، وهو المفوض الذي قلد سلطة مطلقة تامة في بلاد مراكش باسم الجمهورية الفرنسية، وصارت تقدم إليه جميع مراسيم السلطان لإبداء رأيه فيها والمصادقة عليها.»٥

ونجَمَ، بعد ذلك، عن هذه الاتفاقية أنْ وقعت في مدريد اتفاقية جديدة بين فرنسا وإسبانيا تثبت حدود المنطقتين الشمالية والجنوبية، وهكذا لم يفقد المغرب استقلاله، وحسب، ولكنه أضاع وحدة أراضيه.

(١) المقاومة الشعبية في وجه الاحتلال الأجنبي

إذا كان المحتل الفرنسي قد استطاع أن يمد هيبته، تباعًا، على سلاطين المغرب وأن يجعل من معاهدة ۱۹١٢م تكريسًا لاحتلاله التدريجي وسيطرته السياسية والاقتصادية على المغرب، فإنه لم يتمكن من بسط هذا الاحتلال على كامل الربوع المغربية بذات السهولة والتدرج؛ فقد صادف من طرف السكان، وسكان القبائل الجبلية والصحراوية، بوجه خاص، أشد أنواع المقاومة والتصدي التي جعلته يقضي ما يقرب من ربع قرن في مجابهة المقاومين وتكبيد الخسائر المادية والبشرية قبل أن يستتب له الأمر، أخيرًا بعد استنفاد آخِر طلقة في ثورة عبد الكريم وسحق المقاومة في إفني، وخمود نار الثورة في الأطلس المتوسط.

ففي الجنوب المغربي، وبمجرد توقيع معاهدة الحماية، الْتفَّ سكان الصحراء حول الهيبة ابن الشيخ ماء العينين وبايعوه سلطانًا، ومن مقر إقامته بتزنيت أعلن صيحة المقاومة. واستطاع في ظرفٍ وَجيز أن يمد سلطته على مجموع إقليم سوس. وشرع يوفد مَن يدعون له في الحوز وتجاه الشمال، وقد تمكَّن من الوصول إلى مراكش ومنها جمع قوة رجالية مكوَّنة من خمسة آلاف نفر، وحاول أن يعترض طريق القوافل الفرنسية، لكن قلة التنظيم وضعفه العسكري جعل الفرنسيين يكسرون شوكته، فما لبث أن تراجع إلى الجنوب إلى أن وافاه أجله المحتوم في ١٩١٩م، فواصل بعده أخوه المقاومة حتى سنة ١٩٣٤م حينما تمكَّن الفرنسيون من وضع حد نهائي للمقاومة الشعبية في سيدي إفني.٦

وتصدى الأطلس المتوسط، بدوره، لمقاومة المحتل الغاصب وسجل صفحات رائدة في البطولة والاستشهاد، أهمها تلك التي برزت على يد موحا وحمو الزياني، الذي كان قائدًا ذا بأس وشدة وتسلح، وقد أعلن الحرب على الفرنسيين في خنيفرة انطلاقًا من مواقعه في الجبال وظلَّ يقاومهم ببسالة لا متناهية إلى سنة ١٩٢٠م حين أسلم الروح إلى باريها مثخنًا بجراحه.

غير أنَّ أنصَعَ صفحة من صفحات المقاومة والبطولة الشعبية المغربية سجلت في تاريخ الغزو الاستعماري للمغرب، هي التي كتبها أبطال الريف بدمائهم وعلو هممهم في مقاومة الدخلاء، وصاغ خيوطها المضيئة، بالذات، عبد الكريم الخطابي الذي سيصبح اسمه رمزًا لكفاح الشعوب وصمودها في التاريخ المعاصر ضد الاحتلال والاستعمار.

لقد تهيأ لعبد الكريم من التجربة والعدة والصلابة ما جعله يبدع في الريف نضالًا يتجاوز نطاق المقاومة، التي تأتي رد فعل للدخيل الأجنبي، ولكنه انتقل بها إلى مستوى البديل التنظيمي، ولا شك أن الطموح السياسي كان أحد روافد هذا التنظيم والصمود الذي جعله يحقِّق نصرًا كاسحًا على المحتل الإسباني في شمال المغرب.

فقد نظم القبائل، وانتخبت، هذه، جمعية وطنية، اتفقت على برنامج عمل مشترك ينص، أساسًا، على عدم الاعتراف بالمواثيق التي أفقدت المغرب سيادته، وعلى جلاء الإسبان من المناطق الريفية والاعتراف باستقلال الجمهورية الريفية التي أعلنها عبد الكريم، بالإضافة إلى عدد هام آخر من المطالب المالية، ووضع تشريعات سياسية وعسكرية وإدارية وتنظيمات اقتصادية واجتماعية تحت الشكل الجديد الذي اختاره لمؤسسته السياسية، أي الجمهورية.٧

وسيطول بنا الأمر لو حاولنا اقتفاء خُطى المقاومة الريفية وهياكل الدولة الجديدة في ديباجتنا التاريخية هاته، وحسبنا أن نقف على أكثر نواحيها بروزًا ودلالة، والتي تكشف لنا جوانب البطولة الفذة في هذه الحركة النضالية التي خنق التكالب الاستعماري وتحالف الجيوش الإسبانية والفرنسية أنفاسها، وإلا لكان للمغرب شأن آخَر تمامًا.

وإن معركة أنوال تلخِّص لنا عظمة عبد الكريم وطموح الدولة الجديدة، وبأس مقاومتها. وقد كانت هذه المعركة التاريخية مسبوقة بمعارك مهدت لها وكلها حقَّقَت النصر للريفيين وحصلوا فيها على غنائم وعتاد حربي هام، كانت مقدمة للهجوم الكاسح الذي سيشنه محمد بن عبد الكريم على القيادة العامة الإسبانية برئاسة الجنرال سلفستر استولى المجاهدون خلاله على عتاد ضخم: ١٥٠ مدفعًا ثقيلًا وخمسة وعشرين ألفًا من البنادق وعشرة ملايين من الرصاص والتموينات، مما أرهب إسبانيا وجعل الكل يتربص خيفة هذه القوة الجديدة.٨
واستمر محمد بن عبد الكريم يطارد فلول المحتل الإسباني وامتد نفوذه إلى أن كاد يطرد الإسبان، تمامًا، من الشمال وأخذ ينفذ جنوب الريف إلى أن «انتهت هذه الحرب التحريرية بتسليم الأمير (بن عبد الكريم) يوم ٢٥ مايو ١٩٢٦م فنقل إلى فاس ومنها إلى منفى (لارينيون) حيث بقي هو وأخوه وعمه واحدًا وعشرين سنة.»٩

(٢) الظهير البربري وانطلاق الحركة الوطنية

يمكن اعتبار صدور الظهير البربري المناسبة التي انطلقت بها الحركة الوطنية إلى حلقاتها الاحتجاجية والمطلبية الأولى، وانتقلت من صعيدها النظري الخالص والمستوحى من الفكر السلفي الجديد إلى الصعيد العملي المتمثل في المباشرة ومجابهة الاحتلال الأجنبي المجابهة المناسبة.

لقد كان الفكر السلفي الجديد شريانًا غذى واستمر يغذِّي الحركة الوطنية حتى فجر الاستقلال، ورفد منه الوطنيون ما يستطيعون به مواجهة الدخيل الفكري والسياسي. فإذا كان المستعمر يستهدف طمس الشخصية الوطنية الشاملة، فإن السلفية تغذي النفوس للحفاظ على مقومات الأمة الدينية. ولئن كان المحتل يشجع المشايخ والزوايا كوسائل للتغلغل في صميم الأمة، فإن السلفية جاءت لتطهير الدين من الخرافات ومظاهر الشعوذة. ومن هنا فقد كان الارتباط حيًّا ومتينًا، منذ البداية، بين السلفية والوطنية، ووجد أكبر تعبير له حين إعلان الظهير البربري في ١٩٣٠م، وهو ما جعل الأستاذ علال الفاسي يقول: «… ولكن ١٦ مارس سنة ١٩٣٠م هو الذي علم نقطة البداية في تاريخ الحركة الوطنية الجديدة.»١٠
ويقوم هذا الظهير الاستعماري على أساس التفرقة بين المغاربة، أي بين العرب والبربر المتساكنين في المغرب، وفرنسة البرابرة لغويًّا وثقافيًّا وإخضاعهم في المسائل الشرعية والمدنية والجنائية للقوانين الفرنسية، وذلك لتشتيت المغاربة وتفكيك وحدة صفهم «والحقيقة أن هذه السياسة هي آخِر ما اهتدى إليه الفكر الفرنسي للقضاء على مقومات المغرب العربي وإدماجه في حظيرة العائلة الفرنسية.»١١ ولعل الظهير البربري لسنة ١٩٣٠م لم يكُن جديدًا، تمامًا، في روحه؛ فقد كان مسبوقًا بظهير ١١ سبتمبر ١٩١٤م الذي صدر بوحي من الجنرال ليوتي، والذي نصَّ على احترام الأعراف البربرية بين القبائل التي لها ولاء للقرارات الوزيرية، ونصَّ أيضًا على إنشاء «جماعات» قانونية للنظر في شئون القبيلة.١٢

وقد لقي هذا الظهير الصليبي موجة احتجاج عارم داخل المغرب وخارجه؛ ففي الداخل استنفر الشباب الوطني طاقته وغصت المساجد وقرئ اللطيف في كل مكان، وفي الخارج قام الأمير شكيب أرسلان بتنبيه المسلمين، كافة، في العالم الإسلامي بأخطار هذا الظهير، وكذا بأخطار عصبة الأمم والقوى العظمى والحكومة الفرنسية وبرلمانها، واتخذت القضية شكل مجابهة دينية صرف.

(٣) تأطيرات الحركة الوطنية

ولم يتأخر رد الفعل القوي الذي جُوبِه به صدور الظهير البربري، عن إعطاء ثماره الأولى، والتي كان أنضجها ظهور الظهير الفعلي الأول لحركة المناهضة ودفق المشاعر الوطنية، إزاء المحتل الأجنبي: «إن تشكيل الحزب السياسي المغربي الأول سيخرج من رَحِم حركة الاحتجاج هاته»١٣ وقد سُمي هذا الحزب ﺑ «لجنة العمل الوطني» بزعامة علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني. وأسس زعيم مغربي آخَر في شمال المغرب هو عبد الخالق الطريس، حزب الإصلاح الوطني، وارتبط تأسيس لجنة العمل الوطني بإصدار برنامج الإصلاحات في فاتح دجنبر ١٩٣٤م، وهو البرنامج الذي يطالب الحكومة الفرنسية باحترام روح معاهدة فاس وإلغاء الإدارة المباشرة وإقرار الوحدة الإدارية والقانونية في مجموع المغرب، ومساهمة المغاربة في مختلف فروع الإدارة.

لقد كان هذا البرنامج الخطوة الأولى في الكفاح السياسي الوطني التي لن تلبث أن تتلوها خطوات أوسَع ستشق بها الحركة الوطنية المغربية طرقًا وشعابًا في مواجهة الحماية الفرنسية ويتبلور عنها مسلسل صراع طويل النفس حلقاته أكبر من أن يتسع لعرضها تمهيدنا التاريخي هذا.

لقد جوبهت مطالب برنامج اللجنة بالرفض، وقدمت لائحة مطالب مستعجلة في ٢٥ أكتوبر ١٩٣٦م، وخيبت الجبهة الشعبية في فرنسا آمال الوطنيين المغاربة رغم جهود حسن الوزاني والخلطي وعمر بن عبد الجليل، وأعقب فشل الجهود والاتصالات السلمية مظاهرات في فاس وسلا وتجمعات ضخمة بالدار البيضاء، تلَتْها حملة اعتقالات واسعة. وشهدت سنة ١٩٣٧م انشقاقًا في الحركة الوطنية؛ إذ انفصل بن الحسن الوزاني الذي أسَّس «الحركة القومية» كما حلَّ المقيم العام اللجنة فظهر عوضها «الحزب الوطني لتحقيق المطالب» في ٢٣ يوليو ۱۹۳۷م.

ومنذئذٍ وحركة المطالبة والاحتجاج والعمل السياسي العلني والسري لم تتوقف، والوطنيون المغاربة يلاقون ضروبًا شتى من القمع والتنكيل والنفي على يد الفرنسيين، وخاصة بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال وطرح قضية المغرب في الأمم المتحدة في ١١ يناير ١٩٤٤م، وكان الوطنيون يقومون بعملهم هذا بتنسيق مع القصر الذي ضيقت عليه الإقامة العامة الخناق واستمرت في التضييق إلى أن أنزلته عن العرش ونفته إلى جزيرة مدغشقر في ٢٠ غشت ١٩٥٣م، وكان ذلك إيذانًا بانطلاق حركة المقاومة المسلحة في مجموع المغرب، وباستنفاذ كل الجهود السياسية.

وقد انتهى الصراع السياسي والكفاح المسلح من أجل الاستقلال بمحادثات إكس ليبان، وبعودة الملك المنفي، وباعتراف الحكومة الفرنسية في الثاني من مارس ١٩٥٦م باستقلال المغرب ليبدأ بعد ذلك فصل جديد في تاريخه الحديث، حافل بالصراعات الاجتماعية والسياسية، ولتتجابه، فيما بعد، الاختيارات الشعبية واللاشعبية على طريق التحرر الشعبي الكامل.١٤

(٤) الوجه الفكري والأدبي لمغرب الحماية

تعتبر الحركة الوطنية، بحق، المضمار الذي برزت في رحابه كثير من المواهب والإبداعات، وذلك بما استطاعت أن تحمله من نفس وحماس جديدين إلى المغاربة، وبما هيأت لهم من آمال لاستشراف مستقبل مضيء. غير أن أهم ما يستفيده الباحث منها هو عودته إلى أرضيتها الفكرية والنظرية المتمثلة في الحركة السلفية، هذه الخطة الإصلاحية التي عملت على تأسيس دعامات وجود فكري وثقافي جديد للمغرب.

فالحياة الفكرية بعد معاهدة الحماية بقيت مفتقرة إلى عنصر التجديد وظلَّت موسومة بسمات الثقافة القديمة، غير أن رافدًا جديدًا من المشرق العربي ما لبث أن صب في مجرى الفكر بالمغرب، فقد وصلت تعاليم الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وتسامع الناس بآرائهما الإصلاحية محمولة إليهم على يد الشيخ أبي شعيب الدكالي وشيخ الإسلام مولاي العربي العلوي رائدي الحركة السلفية، هذه الحركة التي يقول عنها علال الفاسي بأنه «ليس من الممكن لمؤرخ الحركة الاستقلالية بالمغرب أن يتجاهل هذه المرحلة العظيمة ذات الأثر الفعال في تطوير العقلية الشعبية ببلادنا»١٥ واتجاهها للدعوة ضد الخرافات، بل تجاوزتها لحق الشعب في العلم والدعوة إلى إصلاح شامل ومقاومة الجمود في كل فروع الحياة.١٦

والنتاج الأدبي في المغرب لم يشد عن الجمود والتقليد اللذين عرفتهما سائر ميادين الحياة والفكر في البلاد، ذلك أن روح المحافظة واحتذاء الأقدمين غلبا عليه، فالشعر بقي يُنظم في الأغراض المعروفة بحيث انعدمت فيه الأنفاس الشعرية الجديدة، كما كان الكثير منه مرتبطًا بالحركة الوطنية من ناحية المضمون. أما النثر فقد كان يتمثل في القوالب المعتادة في النثر العربي، كالرسائل الديوانية والإخوانية والمقامة والخطبة وأدب الرحلات.

فالمقامة التي كانت موجودة في الأدب المغربي القديم، قدر لها أن تستمر في الأدب الحديث وأن يلجأ إليها الكتاب للتعبير عن بعض قضايا مجتمعهم أو بثها مكنونات نفوسهم، وفي هذا يقول عبد الله كنون: «حاول بعض الكتاب تقديم إنتاجهم في شكل مقامات تفيض بكل أنواع الصنعة، فلم يخرجوا عن سنن الأقدمين.»١٧ بل إن فن المقامات في الأدب المغربي القديم تفوَّق على نظيره في بداية العصر الحديث وفي هذا: «أكبر دليل على أن الفن المقامي الحديث بالمغرب تجمد في دائرة الوصف الضيقة، وتطبع بالتصنيع التقليدي، فبقي بعيدًا عن الحياة الخصبة بمضامينه وأساليبه على السواء.»١٨

ويمثل الاتجاه المقامي في العقود الأولى من القرن العشرين في المغرب عدة كتاب منهم محمد معمري الزواوي، ومحمد بوجندار، ومحمد غريط: الأول بمقامته (زهر الآس في وصف سيد الأعراس) منشور بجريدة السعادة س ۱۹۱۹ ع ١٨٥٩ والثاني بمقامته (ذكرى ختم البخاري) منشور بالسعادة س ۱۹۲۰ ع ٢٠٤٢–٢٠٤٤ والثالث بمقامته (في وصف مكناس) النبوغ: س ۱۹۳۹-۱ مج١ - الجزء الأول.

ويعلق الأستاذ أحمد اليابوري على هذه المقامات قائلًا بأن: «ليس في هذه المقامات لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون أي عنصر تجديدي، بل إنها أقل قيمة من الناحية الفنية، من الإنتاج المقامي المغربي القديم.»١٩

وخلافًا لذلك نجد الفن المقامي يبعث في المشرق بعثًا جديدًا، فالمويلحي ينفخ فيه روحًا جديدة ويتخذه قالبًا يعمره بآرائه حول العصر والحياة والمجتمع ويعده برؤية وفهم حديثين ومطورين في النهاية لفن المقامة، ولو تهيأ للكتَّاب المغاربة ما تهيأ لإخوانهم المشارقة، لأمكن لهذا الفن أن يبشر مبكرًا بظهور الفن الأقصوصي في الأدب المغربي الحديث.

على أن ملامح التجديد والتطور لم تلبث أن مسَّت الأدب في المغرب وطفقت تنزع منه لبوس الماضي المتخلف لتلحقه بركب الحاضر، وقد تضافرت لذلك جملة من الأسباب والعوامل نسردها في الآتي:
  • أولًا: كان لكفاح الحركة الوطنية أثره الجليل في ميدان الثقافة، وذلك لما ارتبط في أذهان روادها من فهم لأثر الثقافة الوطنية ومن ضرورة الحفاظ عليها مجابهة للاستعمار وتصدِّيًا لنواياه. وقد أثمر هذا الاهتمام نتائج طيبة في حقل الأدب؛ إذ «قويت حركة الإقبال على التعليم وانتشرت المدارس الوطنية في طول البلاد وعرضها وكثرت البعوث العلمية إلى أوروبا والشرق العربي، ونظمت المدارس بجامعة القرويين. (لعل المؤلف يقصد مآوي الطلبة أي ما يقابل الأحياء الجامعية في أيامنا هذه) وأدخلت عليها إصلاحات مهمة. مما حصل معه تقدم كبير في الحياة الأدبية وتطور في مفهوم الأدب.»٢٠
  • ثانيًا: ظهور الصحافة وازدهارها؛ فقد أتاحت الفرصة لظهور المقالة وعملت على تطوير الأسلوب النثري وتخليصه من التزام السجعة وباقي القيود النثرية القديمة؛ بحيث إنها دفعت الكتاب في غمار الكتابة الصحفية إلى أن يكيفوا لغتهم وأساليبهم مع حداثة المواضيع المطروقة وكذا مع أذهان وأذواق القراء وهكذا فقد «كان للصحافة٢١ الوطنية التي نمَت في العهد نموًّا ظاهرًا وخاصة الأدبية منها اليد الطولى في توجيه النهضة الأدبية ورعايتها.»٢٢
  • ثالثًا: ثم إنه لا يمكن أن نغفل ما كان لأثر الاتصال مع المشرق العربي من فاعلية، وقد تمثل هذا الاتصال في ورود كتب الشرق ومجلاته المختلفة مثل الهلال والرسالة (١٩٣٢م) وغيرهما٢٣ وفي التأثر بعد ذلك بالإنتاج المشرقي، الذي وإن كان في رأي الأستاذ عبد الله كنون مجرد «تأثُّر يعتمد على الإعجاب والتلقِّي»٢٤ فإنه أثمر كل المحاولات الجديدة كما يذهب كنون نفسه إليه بقوله إن: «المحاولات الأدبية الجديدة كانت نتيجة لما يصلنا من المشرق والغرب من إنتاج ظلَّت تختمره النفوس والعقول وتتمثله التمثل الجيد، فكانت المقالة والقصة والتمثيلية.»٢٥

إن هذه الأسباب وأخرى غيرها بسطت طريق الأدب المغربي الحديث وشجعت المقالة في محتوياتها المختلفة على المضي في طريق تصوير الواقع وإبراز أضراره ومساوئه. ثم تدرَّجَت الكتابة النثرية الفنية وهي تحاول في كل مرة أن تقترب من أسلوب القص بينما وجد ما يحول بينها وبين بلوغ ما تنشده إلى أن تأتى للكتاب المغاربة بعد زمن أن يقوموا بالخطوات الأولى في طريق الكتابة القصصية، من خلال محاولاتهم تمزيق نسيج المقالة.

هوامش

(١) عبد الله العروي، تاريخ المغرب الكبير، ماسبيرو، باريس، ۱۹۷۰م، ص٢٠٦.
(٢) المصدر السابق، ص٢٧٥.
(٣) لوتسكي فلاديمير، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة د. عفيفة البستاني، دار التقدم، ۱۹۷۱م، موسكو، ص٣٤٤.
(٤) سمير أمين، المغرب العصري، منشورات مينوي باريس، ۱۹۷۰م، ص٩٤. وانظر أيضًا: روم لاندو، تاريخ المغرب في القرن العشرين، ترجمة نقولا زيادة، دار العلم للملايين بيروت، ١٩٦٣م.
(٥) لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ص٣٦٢.
(٦) جماعة من الأساتذة، تاريخ المغرب، المكتبة الوطنية، الدار البيضاء، باريس، ١٩٦٧م، (بالفرنسية) ص٣٨٧.
(٧) انظر: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي لعلال الفاسي، المتضمن لتفاصيل عن دستور الجمهورية الريفية، دار الطباعة المغربية تطوان د. ت. ولمزيد من الاطلاع انظر عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف، منشورات ماسبيرو باريس ١٩٧٦م. وهو يتضمن المداخلات التي أُلقيت في الندوة التي نُظِّمت عن عبد الكريم الخطابي في يناير ١٩٧٣م بباريس.
(٨) انظر زعيم الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، تأليف محمد العلمي دار الكتاب، الدار البيضاء، ١٩٦٨م، ص٢٢ وما بعدها.
(٩) الحركات الاستقلالية، ص١٣٦.
(١٠) تاريخ الحركات الاستقلالية، ص١٤٠.
(١١) تاريخ الحركات الاستقلالية، ص١٤٠.
(١٢) CH. André Julien, L’Afrique du nord en marche, 3d ed., René Juilliard, Paris, 1972.
(١٣) ألبير عياش، المغرب Le Maroc، المنشورات الاجتماعية، باريس، ١٩٥٦م، ص١١٥.
(١٤) لمزيد من الاطلاع والتفاصيل انظر المصدرين السابقين وكتاب تاريخ الحركة الوطنية للأستاذ عبد الكريم غلاب، الشركة المغربية للطبع والنشر، ۲۰ أبريل ١٩٧٦م.
(١٥) علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، ص١٣٤.
(١٦) علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، ص١٣٤.
(١٧) عبد الله كنون، أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، ١٩٦٤م، ص۳۲.
(١٨) عبد الله كنون، أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، ص٣٥.
(١٩) انظر اليابوري أحمد، الفن القصصي في المغرب، ١٩١٤–١٩٦٦م، الرباط، ١٩٦٧م، دبلوم الدراسات العليا، الآداب، الرباط، ١٩٦٧م، رقم الترتيب المخطوط بكلية آداب الرباط ٥، ص٣٤.
(٢٠) المصدر السابق، ص٨١.
(٢١) يسجل ع. كنون الآتي: «أما الصحافة الأدبية التي كانت تتعهد نهضة الأدب والفكر عامة، فإنها مجلة السلام ومجلة المغرب الجديد ومجلة رسالة المغرب ومجلة الثقافة المغربية وسواها. والأولى كان يصدرها الأستاذ محمد داود، والثانية الأستاذ المكي الناصري، والثالثة أنشأها حزب الاستقلال والرابعة لحزب الشورى. وتعد هذه المجلات سجلًّا للحركة الأدبية في هذا العهد يحتوي على أحسن الآثار التي أنشأتها أقلام الأدباء البارزين من الجيل الجديد.» المصدر السابق، ص۸۲.
(٢٢) المصدر السابق، ص۸١.
(٢٣) تأكد لي ذلك من خلال الجرد الذي قمت به شخصيًّا لما هو موجود بالخزانة العامة بتطوان من كتب ومجلات.
(٢٤) المصدر السابق، ص٩٤.
(٢٥) المصدر السابق، ص٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤