الفصل الرابع
الصورة القصصية النضالية
لم تقف الصورة القصصية عند حدود المسح التاريخي أو
استرجاع الحوادث التاريخية وإعادة صوغها، وفق هوى الكاتب
ونواياه، وبثها لواعج الحاضر وهموم الواقع. كما لم تجمد عند
تصوير الواقع وتسجيل مختلف أطره ومشاهده، بل أنها في سبيل
الرؤية الشاملة والمتكاملة، اتجهت صوب الإنسان المغربي، وهو
يعيش في صراع مع واقع التحدي الاستعماري، الذي أنشب مخالبه
وطفق يفتك ويمزق أرض الوطن ويغتصب خيراته. اتجهت الصورة
القصصية صوب هذا الإنسان وتجاه ذلك الواقع، تخاطبهما
وتسائلهما، كما تكشف عن روح الصمود والإباء وعن مشاعر
الغيرة الوطنية والحمية القومية، والحقد على المستعمر
المعتدي وعن الحماس لبذل النفس والتضحية في سبيل الوطن
والشعب.
وقد حفلت آداب كل الشعوب بتراث شعري ونثري سجلت في
تاريخها النضالي وحماستها وشجاعة أبطالها، وأبرزت فيه ملامح
صمودها واستماتتها إبرازًا يبين لنا مواكبة الفن لحركة
الواقع.
والصورة القصصية المراد تحليلها الآن هي جزء من هذا
الوجدان العام والحماس المتقد والصراع العارم الذي عاشه
المغرب في مواجهة المستعمر، منظورًا إليه ومقدمًا برؤية
تصويرية وبنزعة تخييلية تضع الأديب في موقعه من حركة النضال
وتكشف عن مسئوليته ومدى توظيفه لإبداعه في الصراع الدائر
بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر.
ولا نظن أن الصورة القصصية تنفرد وحدها بهذا الانشغال،
فالصورة القصصية الاجتماعية قبلها، تمثلت إلى حد بعيد
الحياة الاجتماعية وأبانت عن كثير مما يشوبها وأجلت لنا
الحياة والناس في أفراحهم وأتراحهم في حدود الوعي الفني
والفكري المبدع: وحسب طاقة القالب الفني، بحيث تبدو لنا
هاته الصورة مشعة وثرية، بالنضال العام الذي يخوضه الإنسان،
ليس ضد المستعمر فحسب، بل وضمن مسيرته الكبرى في الحياة إلا
أن الصورة القصصية النضالية، موضع الدرس، تبقى، مع ذلك،
متميزة بكونها تنفرد بموضوع المجابهة بين المستعمر
والمستعمر، وبين عناصر الظلم والعدوان وعناصر السلم والخير،
كما تنفرد باقتطاع مرحلة من الوعي الاجتماعي القومي، في
الاتجاه الذي يقفز فوق كل التناقضات ويرسم وجهين أو طرفين
اثنين الصراع هما: المعتدي والمعتدى عليه، أي الاحتلال
الفرنسي والإنسان المغربي والوطن المغتصب.
والصورة القصصية التي سارت في هذا الاتجاه يمكن فحصها
والتمثيل لها بمجموعتين قصصيتين اثنتين، التزمتا هذا
الموضوع هما: وادي الدماء للقاص عبد المجيد بن جلون، وربيع
الحياة، للقاص محمد الخضر الريسوني، وقد احتضنت المجموعتان
معًا مشاهد من النضال والكفاح الذي خاضه المغاربة ضد
المستعمر، وصورًا من التضحيات التي قدموها في سبيل الوطن،
وذلك بأسلوب قصصي متطور نسبيًّا عن قصص النشأة، من حيث
اللغة القصصية المستعملة وطريقة السرد والعلاقة السببية بين
الأحداث أو الحدث وعناصره، وكذلك من حيث استبعاد الزوائد
والحشو الذي كانت القصص الأولى تحفل به، وكذا توخي القصد
والتركيز ما أمكن. غير أن هذه السمات في مجموعها لا تؤدي في
النهاية إلى تكوين العمل القصصي القصير، المنفرد، ذي البناء
والتركيب المتكاملين، والهادفين إلى بث إحساس أو بذر انطباع
في الفكر والوجدان، بقدر ما تنجح في رسم صورة صغيرة أو
كبيرة، تحتوي على جملة من الأخبار والأحداث، تفجر في
النهاية المعنى النضالي المقصود. إن هذه الصورة القصصية،
إذَن، لا تهتم بطريقة البناء القصصي أو ترتيب علاقات محكمة
وفنية بين عناصر الحدث، بل تؤكد، أساسًا، على روح النضال
ورسم صورة له تشع جوانبها بالتضحية والإخلاص والاستماتة،
وإن كانت تتخذ دومًا من الخبر أو الحكاية، مطية لبلوغ هذا
المرام.
وتتيح لنا قصص عبد المجيد بن جلون أن نتأمل عن كثب هذه
السمات النظرية وأن نستشف، أكثر، المضمون النضالي في الصورة
القصصية كما سجلتها براعته.
تقدم لنا قصة «وادي الدماء»
١ خبرًا من الماضي يوحي بما يجري في الحاضر بل
المستقبل أيضًا، إذا اعتبرنا الدلالة الرمزية للخبر الذي
يفيد أنه: «كانت تقوم هنا في الزمان القديم قرية يحكمها
حاكم ظالم، حياته تعج بالدماء والفضائح والسرقات، وكان هذا
الوادي هو المجزرة التي يذبح فيها ضحاياه، فتكونت نتيجة
لذلك بركة في أعماقه من الدماء، وبلغ من تهتك ذلك الحاكم
الطاغية أنه أقام حول هذه البركة القصور والبساتين وجعل
منها مرتعًا لأهوائه الجامحة، وكان يمد البركة دائمًا
بالجداول من الضحايا، ولكن ذات ليلة بينما كان الحاكم في
إحدى السهرات على حافة بركته الحمراء، يشرب الخمر ويغازل
النساء، قام مترنحًا لينظر إلى وجهه في صفحة البركة على ضوء
القمر، ولكن يا لهول ما حدث، فما كاد يصل إلى حافتها حتى
امتدت إليه آلاف الأيدي من أعماق الوادي، هي أيدي ضحاياه،
وجذبته وهو يصرخ إلى الأعماق حيث اختفى الحاكم إلى
الأبد»
٢ وظلَّت البركة تجذب دائمًا كل مَن يقترب من
الوادي.
وقد التقط القاص هذا الخبر، ذا الدلالة الرمزية
الواضحة، ليستخدمه من جديد في سبيل الوصول إلى غايته
الكامنة في فضح الظالمين المتجبرين وتبيان الطريق التي
يسوقهم إليها ظلمهم وتجبرهم.
في «وادي الدماء» خبران، الأول رمزي دلالي، وقد سقناه
هنا بمثابة الروح من الجسد، أما الجسد فيسفر لنا عن تكوينه
وأعضائه. والخبر الثاني يحدثنا عن مجموعة آمنة من الناس
يأتي إليها جباة الضرائب من «المستعمرين الفرنسيين» والذين
كانوا: «صخابين جبارين متهاربين»، وقد جاءوا لابتزاز ثمرات
عيش هذه الفئة الآمنة، غير أن قوى خفية تتدخل لتعسر ما بدا
لهم أول الأمر يسيرًا، فقد: «هبت فجأة ريح صرصر عاتية،
وازداد الجو إظلامًا، ثم تساقط رذاذ ما لبث أن انقلب إلى
مطر غزير، ثم انطلقت العاصفة من عقالها ترعد وتبرق
وتمطر»
٣ ودبَّ الهلع في نفوس الجمع وخاصة الجباة الذين
اندفع رئيسهم مذعورًا وراح يتخبط في الأوحال والبرك ثم اتجه
في طريق الوادي، عند هذه اللحظة يلتقي الخبر الثاني بالخبر
الأول ليذوب في السياق العام، أي سياق الدلالة الرمزية أو
الحكاية الأسطورية التي اهتبلها القاص، فجعلها روحًا، ثم
كساها لحمًا وعظمًا، من قصة الفلاحين الفقراء، يلتقي
الخبران في بؤرة واحدة حين يتجه رئيس الجباة إلى الوادي،
ويصيح الفلاح راوي الحكاية: «انظروا، إن قصص آبائنا صحيحة
دائمًا. إن الوادي يجذب الظالم إليه، لن يجيء جباة ضرائب
بعد اليوم، سوف يصل إلى حافة البركة الحمراء فتتخطفه أيدي
ضحاياه التي تتخطف كل ظالم عاتية في المستقبل، بل إن الجباة
جميعًا سائرون نحو الوادي ليلحقوا بضحاياهم.»
٤
مع هذه العبارات يتحقق للقاص هدفه من رسم صورة لوضع
الظلم الذي يعيشه الفلاحون الفقراء من طرف المستعمر الغاصب.
وتكتمل الصورة القصصية من ناحيتين: الأولى، من جهة المضمون
الذي تم شحنه في القصة آنفًا، والذي تأتى، من الناحية
الثانية، بالارتباط القالب الفني الذي تضمنه والذي جاء
مقاسًا وفق الخبر بوجهيه الأسطوري والحدثي، وإذا كانت «وادي
الدماء» قد استعانت بخلفية فنية حكائية أسطورية، تسند بها
الخبر الواقعي وتتخذ منها قوة للتعويض ومتنفسًا لتفجير
الحقد المكبوت، فإن قصة «عائشة» تستند إلى عنصر الواقع الذي
يجنح إلى المبالغة أو التضخيم من قيمة الفرد، فيطير بأجنحة
الخيال حتى ليكاد يتحول بدوره إلى رمز أسطوري ينبض في خيال
الذين يتعطشون الحرية والانتقام من الغاصبين.
«عائشة» قصة قرية كانت تعيش آمنة مطمئنة «بنواحي مراكش»
يسود حياتها الود وترفرف عليها ألوية العدل والحرية إلى أن
أقبل يوم زحفت فيه فلول المستعمر وأخذت تقترب من القرية أو
الحصن، فتسامع الناس بالخبر، ووطدوا العزم على التصدي للعدو
وأبعدوا فكرة الاستسلام، شأن حصون كثيرة. ولكن قوة العدو
أشد وأعتى، فعلى شدة مقاومتهم وصمودهم ينجح في إلحاق
الهزيمة بهم جميعًا بما يملك من وسائل التسليح الحديثة،
ولقي كل سكان القرية حتفهم إلا «عائشة» بنت حاكم القرية
وخطيبة أحد الفرسان الذين ماتوا: «وهي فتاة في السابعة عشرة
من عمرها، اسمها عائشة في عينيها بريق، وفي لفتاتها دلال،
وفي محياها سحر يخلب الأبصار»
٥ بقيت عائشة وحدها في الحصن: «لقد رأت بعينيها
المرعوبتين أباها يمزقه الرصاص وحبيبها يعصف به الموت،
وأقرباءها في القرية يتساقطون رجالًا ونساءً دون الحرية
والاستقلال، فمزق الألم أحشاءها حتى قتل فيها الخوف والعطف
والتردد، وتنبهت فيها غرائز الفتك والانتقام
والافتراس.»
٦ وتنبري عائشة للحامية التي احتلت الحصن فتحصدها
عن آخرها مظهرة شجاعة قل نظيرها، منتقمة لذويها شر انتقام
متحولة بعد ذلك رمزًا وحكاية في الشجاعة والبطولة.
في هذه القصة التي ينعدم فيها الأصل الأسطوري، يميل
الكاتب إلى استيحاء جو الفروسية وبعثه في جو العمل القصصي،
بل وتضخيمه في شخصية عائشة، التي أبادت قوة بأكملها، مقدمًا
لنا بذلك البطل الفرد، الأسطورة، في مواجهة المجموع، كما هو
الشأن في قصص الخوارق. ويبدو هذا التضخيم ضروريًّا، إذ هو
بمثابة الجسر الذي يعبر فوقه الخبر البسيط والحدث المألوف
ليتحول إلى رمز يثير الأذهان، ويخلب الألباب ويشحذ النفوس
فتصدى إلى ما يشفي غلتها، إلى رمز عظيم تستأنس به في
مسيرتها الكفاحية نحو النصر والحرية. والقاص كان حذرًا في
تقديم هذه الشخصية البديل؛ إذ إنه حرص على رصد تحركها
وشعورها فأعطاها بعضًا من ملامح هذه الشخصية الواقعية، قبل
أن تطفر إلى المستوى الخارق: كانت نظرات عائشة متركزة من
الكوة في مدخل القرية، حتى إن أهدابها الطويلة لم تكن تطرف،
وخصلات شعرها الوكف المتموج فوق خدها الأيمن لم تكن تتحرك،
ولم تكن هي نفسها تشعر مطلقًا بما يحيط بها من دماء وأشلاء
وأطلال، وإنما كان كل وجودها متركزًا أو منحصرًا في مدخل
القرية.
٧ ويستمر، في القصة الرصد الواقعي للمكان
والأشخاص، غير أنها ليست سوى الواقعية أو الرصيد الحرفي
لشجاعة عائشة وهي هنا رمز لشعب لا يقبل الهزيمة، ولروحه
المكافحة أبدًا، وهذا ليس إلا مسلكًا للوصول إلى الفضاء
الذي ستنطلق فيه البطلة وقد غدت رمزًا أسطوريًّا أو ما يشبه
الأسطورة: «واستفاض الحديث عنها في كل مكان إلى أن استحالت
إلى فكرة في ضمير الشعب، وكان الرعاة والمسافرون يزعمون
أنهم يبصرونها تمرق بين أشجار الغابة فوق ظهر جوادها … وبدأ
ينتشر عنها خبر غريب، إذ بدأ الناس يفهمون أنها أخذت بثأر
أبيها وخطيبها وقريتها، ولكن عائشة لن تموت إلى أن تأخذ
بثأر حريتها وللحرية راية ضخمة سوف ترفعها عائشة فوق قمة كل
جبل من جبال الأطلس الخالدة.»
٨
وحبذا لو وفر علينا القاص هذا الشرح المستفيض الذي يظهر
فيه بطلته وقد غدت رمزًا للحرية، فلم تكن لنا حاجة به، وهو
الذي قدمها في سياق يقودها حتمًا لتكون رمزًا للحرية، أو
ليستشف من سلوكها ذلك الرمز، ولكن أبى ذلك، وإن كان في
حقيقة الأمر مخلصًا إلى القالب الذي يكتب ضمنه والذي لا
يلزم بحذف الشرح والتعليق، بل يعطيه المجال لرسم الواقع
بكافة ظلاله الأساسية والثانوية، وغرس الروح النضالية في
شعب كان يعاني من ويلات المستعمر وبطشه.
وفي قصص أخرى يستمر هذا المضمون نفسه في الحركة
والانسياب (الأسيرة)،
٩ (الغريب)،
١٠ لتتموج عبره الروح النضالية التي يسعى القاص
لبثها في مواطنيه، وليبين عن صمودهم وشدة بأسهم وليعلن،
وهذا أمر له بال، عن حضور الكاتب المغربي في المعركة التي
يخوضها وطنه، فهذه القصص تشجب الغياب وترفع لواء الحضور في
ساحة النضال العارم ذي الأشكال المتعددة، واضعة المثقف في
طليعة هذا النضال. وإذا كان الكاتب المغربي قد اتجه، فيما
قبل، إلى الرمز التاريخي وإلى حوادث الماضي ينفض عنها غبار
السنين ويشحنها بروحه المتمردة المقنعة، كما هو الشأن في
القصص التاريخية المدروسة آنفًا، فهو هنا يسفر عن وجهه،
ولعل اشتداد حمى النضال وعلو مستوى الوعي دفعاه إلى ما ذهب
إليه، يسوق إلينا أخبارًا وقصصًا تستمد جذورها وطقوسها من
واقع حي وطري، وليس من بين أنقاض التاريخ، كما ينسج قصصًا
تموج بالحركة والحس النضالي المتقدم، الذي تشتبك فيه
الأحداث وتحاك ضمنه العلاقات والأسباب، وتنكشف فيه ستر
الظلام، وتتضح فيه الشخصية الوطنية، تبعًا لذلك، وهي تخوض
غمار استرداد حريتها والذود عن حماها منتصرة غير متردية أو
منكسرة. وهذا، بالضبط، ما يريده عبد المجيد بن جلون الذي
يخلل قصصه بروح التفاؤل والحماس، منفلتًا من وثائقية
التاريخ، جامحًا في شعاب التخيل وسطوة المطامح اللاهثة.
فقصصه كلها تسودها روح التفاؤل وتتردد فيها أصداء النصر تلو
النصر، ولا ضير في هذا ما دام القاص يعرف، وفي تلك الفترة
من تاريخ الوطن أنه يغمس قلمه في واقع مصطبغ بالدم والدمار،
ويسجل ما قد يذكي النفوس ويزيدها صبرًا وبسالة وانتصارًا
على البغي والدسائس والاستعمار المتخفي، الذي يرصد له القاص
في قصته (غريب)
١١ هذا الغريب: «الفرنسي» الذي جاء يهيئ الجنود
الفرصة للانقضاض والذي يحوز على ثقة سكان المدشر، بل يتولى
أمورهم ثم ما يلبث أن يسفر عن وجهه الحقيقي فيطغي ويكشر عن
أنياب المستعمر، فتنكشف حقيقته للفلاحين البسطاء، ولكنهم
أخيرًا يُردونه قتيلًا: «في صباح اليوم التالي عثر الخفراء
في حفرة بعيدة من المزرعة على جثة معفرة هي جثة أندريه، لقد
تسلل إلى المزرعة في ظلمة الليل غريبًا تسوقه عاصفة هوجاء:
ثم خرج منها في ظلمة الليل غريبًا يسوقه الموت.»
١٢
وإلى جانب عبد المجيد بن جلون في صوره القصصية
النضالية، يلقانا محمد الخضر الريسوني، بمجموعته أو كتابه
«ربيع الحياة»
١٣ الذي تضمن عددًا من القصص مكرسة المضمون
الكفاحي النضالي، والريسوني سبق أن تعرفنا عليه في نطاق
معالجتنا للمقالة القصصية وكذا الصورة الرومانسية، فهو
الكاتب الذي حرص، وبالعبارة التقليدية، أن يدلي بدلوه في كل
الأمور، وأن يخوض قلمه في كافة المظاهر والوقائع التي تشغل
بال الأفراد والمجتمع عمومًا.
وفي مضمار الصورة القصصية النضالية نجد له في كتابه
«ربيع الحياة» قصصًا نحت منحى التعبير النضالي والتصدي
لقضية الوطن المستعمر وهي أقاصيص جد قصيرة حجمًا ونفسًا،
يزدحم فيها الخبر بالحوار بالمحتوى المكشوف عنه، وتضيق
ضيقًا شديدًا يتعذر معه الاستجابة لمقتضيات القص الفني،
فتستحيل النصوص في النهاية، إلى مقاطع أو مشاهد مبتسرة لا
تدخل في أي سياق، اللهم إلا السياق الفكري المفترض أو
الوقوف عند مستوى النية الصادقة في التعبير، إنها مشاهد
مبتسرة شديدة التعميم، كثيرة التجريد، الواقع فيها مفترض،
والحدث فيها متمحل، والحوار اعتباطي غير مدروس، والأحداث
فيها لا ترتبط برابط منطقي، ولا تتسلسل بحسب قانون العلة
والمعلول، ولا توجد ذلك الوجود الحي الذي يشرئب من أعناق
الكلمات والعبارات فيرقص على ساحة الذهن ويحيا في خيال
ووجدان القارئ، وعلى الرغم من أن الموضوع في القصة النضالية
مثير ومهيج، فلا أثر هنالك للمعاناة الحية التي تمتص
الانفعال الزائد والهيجان المتدفق فتحيله من مادته الدسمة
السائلة إلى كتلة غير صماء، صلبة متماسكة ومشعة، فتجذب إلى
الاقتناع وتميل إلى التشكل، على إننا لا نستغرب صدور هذه
الهفوات من قاص كالريسوني، الذي سبق أن عرضنا لأسلوبه في
القصة ولكيفية بنائه لها
١٤ ونذكر هنا، على الخصوص، انطلاقه من فكرة خلقية
يسعى جاهدًا لنشرها بين السطور، وإقناع القارئ بها، بحيث
يأتي القص خادمًا لا مخدومًا، وتتخذ الفكرة متبوعة لا
تابعة، على خلاف ما نعرف في الفن القصصي الصحيح، الذي يتوخى
من الكتاب الإجادة في الأسلوب والحبكة ومختلف عناصر العمل
القصصي دون أن يهملوا الغاية الفكرية والخلقية التي تأتي
متلبسة في معانيهم، غير مفروضة ولا متعسفة بل طيعة بحسب
طواعية أدوات التعبير، وكذا بحسب التمكن من التعبير
الفني.
وفي قصصه النضالية التي سنعالج بعضًا منها، تواجهنا،
مرة أخرى، هذه الملحوظة، أي أسبقية الفكرة على النص،
والتخطيط على التأليف. القصة الأولى «أرضنا العزيزة»
تتصدرها هذه العبارات: «إن نداء الوطن يدعوني، فسأمضي يا
أماه بعيدًا لأساهم مع إخواني في النضال»، وهذه العبارات
توجهنا رأسًا إلى الموضوع القصصي وإلى المنحى الذي سيحفره
الحدث ويسير فيه، مما يئد في نفوسنا بدءًا حافز التأمل
والتخمين وحسن التوقع وما يعقبه من انبهار وانشداه، وهذا
الإشعار الأول ما يلبث أن يتحول ديدنا للكاتب في سائر
القصص، وطريقًا يخطو عليها بهدوء ووثوقية في قصته، غير أنه
لكيلا يكون فجًّا تمامًا، ولكي يحتمل القارئ المعنى الخلقي
المتسلط يتجه إلى بعض المقدمات الوصفية راسمًا بها اللمسات
الأولى للصورة: «على أحضان الأطلس العظيم ترقد قرية خضراء
تحفها الأشجار وتخترقها السواقي، ومن بين أبنيتها يقوم بناء
شامخ …»، ثم نعرف الخبر المتعلق بالأرملة التي تسكن هذا
البناء مع ابنها الذي يشتغل في الحقل، أي إنه مرتبط بالأرض،
وهذا تهيُّؤ لا بأس به، ولا يلبث القاص أن يوقعنا في علاقة
يقيمها بين الشاب وبين فتاة حسناء تمر به فيتبعها إلى النبع
ويملأ جرتها، وتبدو هذه العلاقة مقحمة إقحامًا منفرًا، ولعل
ولع الريسوني بالحب أو عاطفته هو ما يقوده دومًا إلى هذه
العاطفة نحو قصصه: «إننا بالحب نبني صرح الفضيلة، وبالحب
نشيد دعائم وحدتنا وكياننا، وبالحب نمضي في طريق لا شوك
فيه»،
١٥ ثم ما يلبث أن يقفز بنا فوق الزمن وبالطريقة
الساذجة التي لا تخضع الزمن لتسلسل فني وإنما لمنطق الطفرة
«ومضت الأيام سريعة، فكانت عجلاتها تدور في قوة وعنف تحركها
أصابع الزمن، وتعصف بالشعب أنباء خطيرة جاءت من الرباط»
بهذه الكلمات ينقلنا من جو الطبيعة ومن غمرة اللقاء
العاطفي، ليزج بنا في صلب الموضوع، أي في مصير النضال الذي
سيختاره الفتى «بن عيسى» الذي ظل سر اختفاء والده معلقًا،
عليه إلى أن ينكشف، وبانكشافه يبدأ كل شيء ويتضح، أيضًا:
«الآن يا أماه عرفت كل شيء أنك تخفين عني مصير والدي وموته،
على أني أدركت اليوم الحقيقة المؤلمة، لقد مات أبي تحت سياط
الظلم والعذاب … قتلوه لأنه لم يتنازل عن أرضه الغالية إلى
«المسيو بوفال» ليجعل منها مزرعة يستغل خيراتها، مات تحت
سياط الجلادين المستعمرين.»
١٦ ويقود القاص الفتى إلى الاتجاه المرسوم سلفًا،
إلى طريق الكفاح والجهاد: «إن نداء الوطن يدعوني، فسأمضي يا
أماه بعيدًا لأساهم مع إخواني في النضال، النضال يا أماه ضد
العدو المغتصب، من أجل الملك، النضال من أجل أرضنا
الطيبة.»
١٧ وبهذا المصير يكتمل للقاص الموقف الذي ود
تسجيله والقضية التي استهدفها: التضحية من أجل الأرض
والوطن، وجاءت قصته على ما فيها من ثغرات وما شابها من عيوب
فنية عديدة، صورة بارقة ضمت إليها، دون أن تستقطب أو تكشف
همًا من هموم المجتمع، وعبرت عن تطلع الإنسان المغربي إلى
التضحية من أجل أرضه، وإن جاء هذا التعبير ساذجًا عفويًّا
مخلًّا بقيم الفن.
وفي قصة «حب وإيمان» يظل الريسوني وفيًّا لشعاراته التي
تتصدر كل النصوص: «أليس من العار أن نبقى كالجلاميد …
كالصخور؟ ألا نتحرك؟ ألا نتحدى الاستعمار بعزائمنا
وإيماننا؟»
١٨ من هذه العبارات يخطو الخبر خطوته الأولى
وخطواته المتتابعة، والتي ستقود: بالحتم، إلى مصير معلوم:
فالسيد علال، أحد شخوص القصة أو شخصها الرئيسي، بل هو القصة
ذاتها، يعتريه شعور قلق وكئيب إذ «كان كل شيء مظلمًا قاتمًا
أمام عينيه برغم زرقة السماء وشروق الشمس، فالحياة تافهة
بالنسبة إليه زادها تعاسة ما لمسه ويلمسه من استهتار بكرامة
الشعب، فمنذ أيام امتدت يد الاستعمار في وقاحة إلى جلالة
ملك المغرب محمد الخامس وساقته إلى كورسيكا ونصبت مكانه
إمعة.»
١٩ من هذا الشعور يدخل السيد علال في دوامة أسئلة
عديدة تحيره ويستخف بوضعيته كزوج وأب، ويستصغر سعادته
المزيفة، ويقرر أخيرًا رغم تحذير زوجته وتنبيهها له ولمصير
أولاده من بعده، يقرر التضحية بنفسه في سبيل القضية الكبرى:
«في زوال يوم ١١ سبتمبر سنة ١٩٥٣م سجل تاريخ الفدائية في
المغرب حادثًا اهتزت له الدنيا، ذلك أن علال بن عبد الله
تحدى الاستعمار الفرنسي بقوة إيمانه فكان بذلك الشهيد
الفدائي الأول.» وواضح هنا أن الريسوني استوحى قصته من
تاريخ الفداء بالمغرب، ومن حادث استشهاد علال بن عبد الله
الفدائي المعروف، دون أن يبذل أي جهد في تعمق تلك الشخصية
البطولية في القصة ويرسمها في أبعادها المختلفة بحيث تتجسد
لنا حية وحاضرة فتحيا في الصورة الفنية كما كانت حية في
الواقع، وأكثر، ويبدو أن الريسوني كان ينفعل بالأحداث ذلك
الانفعال العابر الذي لا يتيح له تأملها واستيعابها بعد ذلك
بشكل جذاب ومقنع. على أننا نرى أن أكثر ما طمح إليه
الريسوني في قصصه، تلك، أو في غيرها مما سبقت معالجته، هو
تسجيل الموقف ونقل اللحظة التاريخية، والإصلاح بكل أشكاله،
يقول الريسوني: «واليوم ونحن على أبواب ثورة اجتماعية عارمة
يجدر بنا — نحن الأدباء الشباب المغاربة — أن نتقدم بخطوات
ثابتة في ميدان الإصلاح الاجتماعي.»
ولا مراء بعد هذا في أن الصورة القصصية ذات المضمون
النضالي تبدو متفوقة عند عبد المجيد بن جلون منها عند
الريسوني، وذلك بسبب عناية الأول ببنية النص القصصي وجهده
لتوفير الحبكة المتينة ولربط الأحداث ربطًا يأخذ بأعناق
بعضه، وأهم من كل ذلك هو دأبه للإخلاص إلى الفن والقيم خدمة
متكاملة لا يسقط الواحد منها على حساب الآخَر.
وعلى الجملة، فإن الصورة القصصية النضالية جاءت لتعبر
عن شعور القاص المغربي تجاه المستعمر كمواطن يحرص على حرية
وطنه، وجاءت لتلتقط مشاهد من كفاح الإنسان المغربي، وهو
يخوض معركة الاستقلال، وهذه الصورة إلى جانب سابقاتها تقدم
شهادة عن واقع وحياة شعب وتاريخ، يرتفع فيها أحيانًا منسوب
الفكر على منسوب الفن، ويرتفع هذا، أحيانًا، ليتداعى
الآخَر. وكيفما كان الأمر فإن وجود هذه الشهادة القصصية أمر
يُعتد به في وقت كان جل الحماس تمتصه القصيدة الشعرية،
وقلَّ مَن يلتفت أو يروم نفثه في نص نثري، وسيمضي بعض الوقت
حتى تكثر القصص التي يتوجه أغلبها لاستذكار التاريخ الوطني
وحوادث الفداء في قصص المرحلة التي أعقبت الاستقلال.
هذا وينبغي أن يكون واضحًا، ونحن في خاتمة هذا الفصل،
أن النضال الذي رأينا هذه القصص تعبر عنه وتتبناه، لا يخرج
عن الحماس الوطني العارم الذي يجتاح النفوس مع مواجهة
المستعمر وبالتصدي لوجوده واجتياحه للبلاد ماديًّا
وروحيًّا.
ونحن نؤكد على هذا حتى يزول كل الْتباس وكيلا ينصرف
الذهن إلى النضال كحركة سياسية واجتماعية ذات منظور مذهبي
متقدم، ووفق تدبير نظري وعملي يروم التغيير الشامل، ذلك أن
مفهوم النضال كان مطروحًا، من جهة، طرحًا ساذجًا وعفويًّا
يقفز فوق كل التناقضات الاجتماعية القائمة ويتبلور من خلال
جبهة شعبية متماسكة رصت صفوفها على الرغم مما بينها من
فوارق وخلافات طبقية، ولأنه، جهة ثانية، كان عند الحركة
الوطنية، ممثلة في حزب الاستقلال، وفي أطره المحافظة
والبرجوازية، بوجه خاص، والتي اعتمدت الأسلوب السلمي أكثر
من أي شيء آخر، وكما سيتضح ذلك بجلاء عقب نيل الاستقلال،
كان دفاعًا عن مصالح طبقية بذاتها، مصالح اجتماعية
واقتصادية جاء الاستعمار فعصف بها وأقام صرحه وسلطته على
حطامها. وإذا لم يكن هناك شك في خلوص النية وصدق الطوية
الوطنية لدى الأطر المذكورة الفئات التي تعبر عن مصالحها،
فإن وازع الهيمنة كان قائمًا والرغبة في الانفراد بغية
الاستقلال سرعان ما ظهرت آثارها بدون خفاء. إن الرجوع إلى
السنوات الأولى التي أعقبت ١٩٥٦م وخلاله مطلوب هنا بإلحاح
حتى يتبين المرء أن النضال الذي خاضته جماهير الكادحين من
العمال والفلاحين الفقراء والفئات المتوسطة في المدن قد تم
التألب عليه ونهب عطائه الفذ لصالح البرجوازية الوطنية،
وهو، أيضًا، النضال الذي لن يفنى أو يفت في عضده بل لن تلبث
حركة التاريخ ومسيرة الوعي السياسي والحركة الاجتماعية أن
تسفر عن أحد أهم وجوهه المشرقة وعلاماته الراسخة ممثلًا في
إفراز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انطلاقًا من ١٩٥٩م،
الذي سيكون بمثابة الإطار السياسي، النظري، والفعلي، للرفض
الجماهيري ولإرادة التغيير التي كانت قائمة قبل الاستقلال
وكمنت في مواجهة الاستعمار، ثم ما لبثت مع تولد شرارة
الصراع الطبقي أن اشتعلت يلهبها في نضال ذي مفهوم متطور
ومتقدم سيأخذ خلال الستينيات معاني خصبة وسيجد صداه،
بتفاوت، في قصص المرحلة.
هوامش