الفصل الخامس

بين الصورة والأقصوصة الفنية

مدخل لأدب الاستقلال.

في الطريق إلى القصة القصيرة الفنية.

مضمون الكفاح الوطني وصورته في القصة.

المضمون الاجتماعي وصورته في قصص الاستقلال.

محمد أشماعو، صورة من الواقعية.

عبد الكريم غلاب وقضية الأرض في سياق الواقعية.

عبد الجبار السحيمي والبطل المأزوم.

خلاصات.

***

(١) مدخل لأدب الاستقلال

جاء استقلال المغرب سنة ١٩٥٦م ليضع حدًّا لسيطرة المستعمر السياسية وليفصل بين مرحلة التسلط وفقدان الحرية، والمرحلة التي ستشع في أفقها الحرية والكرامة. ويخطئ الذين يعتقدون أن إعلان الاستقلال وحده كفيل بتغيير الأحوال وتبديل موازين الأمور، وأن من شأن الحصول عليه الانتقال إلى طور جذري مختلف تمامًا عن سابقه، ذلك أن المهام الحقيقية للتغيير والتحرير الاقتصادي والاجتماعي والبناء الثقافي لا تتم بين عشية وضحاها، بل تتطلب أعوامًا إن لم نقُل أحقابًا، وهذه المهام هي التي تبرز حقيقة الاستقلال وتعطيه صفته وهويته الحقيقية. كما أن هذه حقيقة مشهودة ومتواترة لدى كل البلدان التي كسرت طوق الاستعمار حديثًا.

وتبعًا لهذه المسلمة فإن فجر الاستقلال في المغرب لم يكُن ليأتي بالكثير، وخاصة في الحقل الثقافي، أو بالنسبة للعقلية الثقافية والأدبية السائدتين آنئذٍ؛ إذ بقيت تلك العقلية على مستواها السابق، واستمر نفس المستوى والإمكانات الأدبية.

كما أنه لم يكن من المنطقي أن ننتظر من هذه الفترة أي تحول جذري على صعيد البنية الثقافية بالنظر إلى أن البنية الاقتصادية والاجتماعية لم يكن قد مسها أي تغيير، كما أن موجة الحماس وملابسات الاستقلال والغموض الذي شمل كثيرًا من الأجواء، عاق عن إفساح المجال لرؤية مجهرية موسعة، لذلك، كان النتاج الأدبي ضئيلًا، إن لم نقُل معدومًا، فنظرة إلى المجلات والجرائد التي كانت تعنى بعض صفحاتها بشئون الفكر ونشر النصوص الأدبية، تمكن من ملاحظة هذه الضآلة، وما نظن في هذا غرابة، فقد كان أدباؤنا في حاجة إلى فترة تأمل وتدقيق لما جد حولهم، حتى يتاح لهم استيعاب المناخ الجديد، وحتى تتبدى لهم ألوية الاستقلال، وإلى ضآلة الإنتاج، هذه، أشار الكاتب عبد الحي عمور في مقاله «على هامش الأزمة الأدبية» قائلًا: «إن أقلامنا قد جفت وإن أدباءنا قد انسحبوا من الميدان في أيام عصيبة وظروف متشابكة، وإن أدبنا يعاني من جراء ذلك أزمته الخانقة.»١
وقد كدنا نعدم الأصوات التي ترتفع لتجب الصمت وترسم سواء السبيل، وتهدي الأدباء، شعراء وقصاصين، نحو سبيل الإبداع ومشاغل الأفراد والجماعات. وعلى امتداد السنوات الأخيرة لما قبل الاستقلال لا نكاد نعثر على ما يغني في هذا الشأن أو ما يبين عن وقوف الناقد جنبًا إلى جنب مع إبداع الأديب، اللهم بعض الخطرات النقدية والكلمات التوجيهية لعل من أهمها ما كتبه الأستاذ أحمد زياد في مقالته: «نريد أدبًا يمثلنا»٢ ومنها نقتطف هذه الفقرة التي تنتقد وضعية وتشير إلى طريق: «أن إنتاجنا الثقافي يجب أن يكون قطعة لا تتجزأ من حياتنا العامة، وإنه من الخير لنا أن يكون أدبنا منتزعًا من صميم نفوسنا ومن مكامن البيئة المغربية، ولست أدعو إلى أدب ضيق وإنما أدعو، على العكس من ذلك، إلى إنتاج صادق يمثلنا أصدق تمثيل ويعبر عن حياتنا بأصدق عبارة ويصور من خلاله لونًا من ألوان إنسانيتنا التي هي بالتالي حلقة من سلسلة صور الإنسانية في كل أنحاء الدنيا.»

أما في السنوات الأولى للاستقلال، فقد خفت صوت النقد لجمود الأدب، ولا نكاد نعثر على ما يغني منه أو ما يسدد خطى الأدب في المغرب المستقل، عدا المقالة التي كتبها «محمد الحبيب الفرقاني» في مجلة رسالة الأديب، المراكشية، والتي تعد بحق المقالة التي استشعرت واقع الفكر والأدب عمومًا في المغرب لما بعد الاستقلال، والتي نجد في ثناياها رصدًا فكريًّا وتوجيهًا ثقافيًّا وأدبيًّا مديدًا، يخاطب ضمائر الكتاب ويضع اليد على الواقع الحي الجدير بالتعبير والبلورة، وهذه المقالة إذا كان لها ثقلها في ميزان النقد النظري، فإن لها ثقلًا أكبر يتمثل في إرهاصها للمضمون الاجتماعي الواقعي الذي تبنته كثير من قصص الاستقلال، وفي أنها مهدت للتحول الأدبي الذي ساد فيما بعد.

ولا معدى لنا، إذا أردنا أن نعرف ذلك كله، من إيراد أبرز فقرات هذه المقالة الغنية، يقول الأستاذ الفرقاني:٣
«… ونحن نعيش الآن ثورتنا في مرحلتها الثانية هذه، وإذا كان على قادة الثورة وموجهيها ألَّا يدعوا ثورتنا تنعكس على نفسها في مفهومها الأخلاقي ومظهرها السلوكي للأفراد، وللجماعات، وللدولة، وفي ترسيم المناهج والخطوط التي بها يتحدد مستقبل الأمة والوطن على الشكل الذي تريد الثورة وتهدف أن يكون، فإن الأدب أيضًا مسئول عن تحديد مناحي هذا السير وتجلية معالم هذه الخطوط وشحن القلوب والضمائر بطاقات الخير والاندفاع. والأديب المسئول مهما يكن لون أدبه وإنتاجه هو خير مَن يعبِّر بل أقدَر مَن يعبِّر عن مظاهر الحياة في واقعها وفي تعقيداتها ومشاكلها، وفي مباهجها ومآسيها، بل هو أقدر مَن يجلي القوى المعنوية التي تختمر بها النفوس. والنظرات الجماهيرية التي بها تمتهد الحياة لما سيكون. وترتسم بها خطوط المستقبل.»٤

وإن هذه الصيحات والتوجيهات لم تذهب سُدًى؛ فقد وجدت آذانًا صاغية لدى ثلة من أدبائنا وقصاصينا، فاتجهوا يغرفون من الواقع ويقبسون من ضيائه، وسجلوا لنا تراثًا قصصيًّا لا يستهان بثقله الاجتماعي والوطني، سيكون موضع الدرس، الفني والفكري في الصفحات التالية.

(٢) بين الصورة والأقصوصة الفنية أو في الطريق إلى القصة القصيرة الفنية

أي النصوص القصصية التي تعد من ناحية التقييم الشكلي والمعالجة الفنية وسطًا بين الشكل القديم، أي القالب المقالي وقالب الصورة القصصية، وبين القصة القصيرة في شروطها وعناصرها المكتملة.

وبعبارة ثانية، إنها النصوص القصصية التي عمل كتابها جاهدين، من ناحية، التخلص من الشوائب القديمة التي كانت تعتري محاولات القصة القصيرة وهي في بداية الطريق متلكئة متعثرة، مفتقرة إلى العناصر الفنية الضرورية، التي تجعل منها مقبولة جماليًّا وفكريًّا، ومن ناحية ثانية، للوصول إلى الشكل الفني المصقول، واستيفاء شروط القص الفني القصير استيفاءً لا يخل بأحد جوانبه أو يجعلها ناشزة غير مواتية.

وإننا إذ نميل إلى اعتبار ما كتب من قصص بعد الاستقلال إلى مطلع الستينيات مرحلة وسطى، فلأننا نطلق هذه الملاحظات: سعى الكاتب الجاد لتلمس الطريق السوي للقصة القصيرة، بدلًا من التحنط في ضروب شتى من التعبير، كالمقالة أو الصورة أو الحكايات المبذولة للجميع، بحيث إن النصوص التي سندرسها ضمن هذه الحلقة، تشكل في جزء منها، وخاصة عند التناني، نماذج وقطعًا مكتملة، أو تكاد، من ناحية النمو الفني، وتمام خصائص النسيج القصصي في شكله المدرسي التيموري، (نسبة إلى محمود تيمور).

ومن غير شك فإن هذا التطور كان ضروريًّا بعد مسيرة ما يقرب من عقدين من الزمن شقتهما القصة القصيرة أو ما اصطلحنا، تجوزًا، على تسميته، كذلك، في الأدب المغربي الحديث.

هذا التطور كان ضروريًّا بالنظر إلى التجارب الأولى المتردية، والتي ما فتئت أن أخذت تنزع عنها السمات الهجينة لتبرز، في أخرى، أبعد عن التردي، وأدنى إلى النمو. فقد كانت المقالة القصصية، كما أسلفنا، هي اللون التعبيري الأول في مضمار هذا الجنس الأدبي (القصة القصيرة) بالمغرب، تمازجت فيها المباشرة بالحكاية والخطابة بالخبر، والتصريح بما يقرب التلميح، وتداخل الإطار الوصفي والتسجيلي بنبرات الوعظ والتهديد والوعيد. ولم يكن ثمة مهرب من هذا اللقاء المتنافر أو المتداخل، الذي يعد نتيجة تلقائية لتصادم القديم بالجديد والوارد المستحدث العريق المتمكن في الفكر والوجدان، كانت المقالة القصصية، إذَن، تعبيرًا عن هذا اللقاء بين أسلوبين ورؤيتين وفهمين متباينين للقص، وهي على ضعفها وعجزها عن امتصاص إمكانات التعبير القصصي الحق والذوبان في مناخه، تتهجى الأبجدية الأولى في القص القصير، هذه الأبجدية التي ما لبثت أن أخذت، عبر تداخلات والتباسات عدة، ترتبط وتتناسق في صيغ من الكلمات والأوصال، فتشكل منها ما أسمينا، أو اصطلح على تسميته، صورة قصصية، تتضمن الخبر المسرود برتابة مملة في كثير من الأحيان، إلا في النادر، وترصد الجو وتقدم الشخصية، في غير ما فنية أو براعة تذكر، تقديمًا يكتسح صوت الكاتب فيه صوت الشخصية، ويرى خلفه أصابعه وهي تشبك وتحبك، ولا وجود، حقًّا، بعد ذلك للأسماء التي تعج بها القصص فقد وضعت، شكلًا، ليطلق من خلالها هذا القاص فكره الثاقب أو الرث، وليس لها بتاتًا، أن تملك مصيرها، لتقنع القارئ أن دماء الحياة تجري فيها وأنها ليست تماثيل من الشمع كما أراد لها منشئها أن تكون.

ثم إن الصورة القصصية تنشد اطلاعك على وضعية أو جو ما، من علو لا يتيح لك رؤية العلاقات المتشابكة والأسباب المتداخلة، ولا يتوجه إلى صنع العقدة القصصية، نقطة ارتكاز القص الكلاسيكي. ثم يلاحظ طغيان التعميم دون التخصيص، الذي يشف عن لحظة مشعة أو عن مشهد منفرد من مشاهد المجتمع، بطريقة تقود من الذاتية إلى الموضوعية، ومن الفردية إلى النموذجية.

وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الصورة القصصية هي التي استجمعت، ولا شك، أكبر سمات النمو والدأب الفني في سياق نمو قصتنا القصيرة، ولذلك قلنا، باعتبار ما سبق، أن التطور كان ضروريًّا. فهذا التراث، على قلته، كان ولا غرو جسرًا للعبور إلى رحاب في التعبير أقل ضعفًا وأقرب إلى القص الفني المطلوب ولو في حدوده الهندسية.

وقد فتح الأدباء المغاربة أعينهم على قراءات جديدة، فأتاح لهم الاستقلال أن يطلوا على كثير من مصادر الثقافة القصصية والنقدية وهناك أسئلة عديدة وجهناها، لهؤلاء القصاصين،٥ أجابوا عنها بأنهم قرءوا الكثير من القصص العربي والمترجم، من محمود تيمور إلى يحيى حقي ونجيب محفوظ وغيرهم، ومن تشيخوف وجوركي وموبسان وتولستوي وكتاب آخرين لا حصر لهم، على أن الكثيرين منهم يقولون ذلك على سبيل التفاخر والادعاء، وإلا فأين تأثير ذلك الاطلاع وتلك القراءات فيما كتبوا؟ وأيًّا ما كان الأمر فقد ساعدهم ذلك على تلقيح كتابتهم وتطويرها بمقدار.

أما المادة القصصية فلم تتعرض لتغيير، أو لعل إضافة طفيفة قد لحقتها في البداية، ثم ما لبثت أن عرفت تطورًا كبيرًا فيما بعد.

والقصص التي تمثل هذه المرحلة تندرج في مواضيع ثلاثة يمكن وصفها مجتمعة بالمضمون الوطني:
  • القضية الوطنية (قصص الكفاح والنضال).

  • قضية الأرض والكرامة.

  • قضية الظلم الاجتماعي.

يضاف إليها نزوع ذاتي في بعض القصص، في بداية تلمس الفرد لأزمته الذاتية.

وهكذا ستتم دراسة القصة القصيرة لهذه المرحلة، إذَن، من خلال معالجتنا لتلك المواضيع، عبر نصوص تمثلها فكرًا وقالبًا، وستبرز لنا سمات القصة وفكرها وتلويناتها الخاصة والعامة.

(٣) مضمون الكفاح الوطني وصورته في القصة

«أخيرًا مات شهيدًا»٦ بهذه القصة نبدأ معالجتنا لمضمون الكفاح والنضال الوطني في القصة القصيرة بالمغرب، إبان الاستقلال، وتسرد علينا القصة خبر جندي مغربي متقاعد من الجيش الفرنسي، شارك في الحرب الكونية الأولى وحمل مع غيره النصر للفرنسيين. وتأخذه الحسرة والغضب وهو يرى هؤلاء الذين حارب في صفهم يغتصبون حرية وطنه ويسفكون دماء بني جلدته: «تعود به الذاكرة إلى الوراء؛ أربعين عامًا إلى عهد الفتوة والشباب، فيرى نفسه واقفًا أمام الراية الفرنسية يحييها وتهز أذنيه أنغام نشيد «لامرسييز» ثم يرى نفسه في طابور الأعداء.»٧ وتأخذ «عبد الجبار» فورة انفعال وألم، حين يرى نفسه طريح العجز والغزاة ينتهكون كل شيء والماضي يثقل عليه بوطأته، ماضيه وشبابه الذي ذهب هدرًا مع الفرنسيين، دون شهادة أو فخر يذكر: «لقد ضيع المسكين زهرة شبابه محاربًا فما مات ولا قتل، وما قيمة موته عند الله ما دام لا يدافع عن بلاده، هل يسمى قتيل تلك الحروب شهيدًا؟»٨ ويستقر عزم عبد الجبار على أمر ذي بال: «يجب أن يفعل شيئًا يكفِّر به عن دفاعه القديم عن الفرنسيين، يجب أن يدافع عن بلاده كي يموت شهيدًا.»٩ وينطلق لينفذ مخططه، فتكتب له الشهادة أخيرًا وهو يردد: «الحمد لله، لقد قتلت أخيرًا وفي سبيل الله.»
تقدم هذه القصة وأخرى للقطيب التناني، صورة من صور النضال والتضحية التي عرفها المغرب أيام كفاحه المستميت من أجل حريته، وهي تأتي لتسجل من الذاكرة ومن المخيلة وجهًا من هذا التاريخ الحافل بالبطولة والكفاح فترشح الكتابة بذلك في جانب الالتزام بقضية الشعب الذي سلبت منه حريته، كما تقف إلى جانب أدوات أخرى لتساهم في بعث الروح الوطنية واستعادة الهوية القومية التي عمل المستعمر على النقيض لإقبارها. تستيقظ هذه الروح وتنبجس في شخصية «عبد الجبار» الجندي المتقاعد والمُسِن: «كان عبد الجبار شيخًا في الستين، أثقلت كاهله السنون، وحفرت جبينه أخاديد تنم عما بيد الزمان من مفعول في الإنسان، وكانت لحيته المسترسلة بيضاء كأسلاك الفضة، وقد تكور في ركن بيته بجانب المذياع يداعب مفاتيحه بأنامله المعروقة الهزيلة.»١٠ عبد الجبار الذي عرف كل شيء وبات لا يهمه سوى الانتقام: «كره الغناء، وأصبحت أذنه لا تستسيغ إلا الآهات والبكاء وأضحى صوت انفجار الرصاص عنده أشبه بالنعيق.»١١ ويقوده القاص تدريجيًّا، وعبر تساؤلات ومناجاة للنفس محرقة ومؤلمة إلى وطيد العزم على التضحية بالنفس.

ويعتمد التناني، في قصته هاته، كثيرًا على استعمال الحوار الداخلي للتعبير عمَّا يجول في باطن الشخصية من هموم وأفكار، وهو حوار أقرب ما يكون إلى المناجاة، وعن طريقه تنمو القصة ويكبر الحدث، فالبطل لا يتزحزح عن موضعه إلا في نهاية القصة، وكل شيء يكاد يجري في دخيلته.

في البدء يؤدي الحافز الخارجي إلى خلق الانفعال الأول، نقطة البدء: «كان المقرئ يردد الآية: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا» ويأخذه انفعاله بالآية وتأثره بها، فينتقل إلى منولوغ يتألف من مجموعة من التساؤلات التي تتضمن موضوع القصة، وتقوده تلك التساؤلات نحو الفعل: «صوب فوهة مسدسه نحو الخارج وضغطت يده على الزناد، مرة واحدة، فسمع صيحة ثم ارتطام جسم، واستخف بالأحداث، وأبى إلا أن يفاجئ الأعداء، وأخذت أنامله تضغط مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة.»١٢

ويتم تطور الشخصية عبر حالتها الانفعالية التي تتنامى وتحتد في لحظة واحدة، وهي لحظة أو زمن نفسي، هو الذي يؤدي إلى الحدث في الزمن الخارجي أو الفعلي. ولا يسعنا إلا أن نحمد للقطيب التناني قدرته هذه على تنمية الحدث وخلقه على صعيد نفسية البطل، دون أن تظهر الخيوط التي تحرك الحدث على سطح القصة، مما يجعلنا نشعر أن الشخصية تملك دورها وتصنع مصيرها وحدها دون وجود قوى خفية تحركها، وقلما نعثر في نماذج القصة المغربية، على شخصيات من هذا القبيل، إذ جلها لا تعدو أن تكون أشباحًا أو أفواها كبيرة تردد ما يمليه المؤلف عليها. إن عبد الجبار يبدو لنا هنا وقد ملك زمام أمره، ووفر له القاص كل الظروف ليقود نفسه تجاه مصيره الحتمي، إلا وهو الاستشهاد، فتكتمل فيه الشخصية الفنية بالنموذج البطولي.

ومما يلاحظ، أيضًا، أن ذبذبات المشاعر الداخلية الفائرة وحركة اللحظة النفسية تنقطع بين تارة وأخرى، فيتدخل الراوي ليفسر ويوضح ويربط بين الداخل والخارج، في غير ما تكلف: «أغاني موسيقى، فلهؤلاء الناس ما زالت الأهواء تسير بهم، رغم الأحداث، هل نحن في وقت موسيقى؟»١٣ هنا يتدخل الراوي مباشرة قائلًا: «إنه يضيق بالطرب والمطربين، لا لجماد في فكره، أو لأنه لا يتذوق الموسيقى، ولا الغناء …»١٤

إلا أن هذه الأدوات المستخدمة كلها لم تنجح في إنتاج عمل قصصي بحبكة متينة ولم تخلق حركة فعلية نابعة من صلب العمل القصصي، المركَّب من عنصري السرد والمنولوغ، والذي استغرق القصة في مجموعها، فإن القصة لم تصل لتبلغ بنا لحظة التأزم أو تنتهي لتترك لدينا تلك الدهشة أو ذلك الانطباع والتأثر الأخاذين.

إن قصة «وأخيرًا مات شهيدًا» لم تُكتب لتفعل فينا هذا الفعل، ولكن لتقدم صورة لنموذج بطولي من واقع كان ينبض بالألم والظلم والقتل، والقصة مرسومة سلفًا والقصد من ورائها واضح. تبتدئ بآية قرآنية وتنتهي إليها، وما بينهما إثبات لحق وتدليل عليه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. وفي هذا ما يدل على أن القطيب التناني، ما يزال متشبثًا بالنزعة التعليمية وبمذهبه في الإيضاح والتبليغ، بالعبارة المباشرة، بل والتي تضرب على وتر العاطفة الدينية.

في قصته الثانية «قائمة أخرى»١٥ يؤلف السرد عنصرًا رئيسيًّا من عناصر القصة القصيرة عند القطيب التناني، فبواسطته يعرض القسم الأكبر من القصة، مع مزاوجته بالحوار الداخلي، أحيانًا، كما يساعد الحوار على دفع تطور الحدث وأن بنسبة أقل.

والقصة عند التناني تتألف، دائمًا، من تلك البداية الطبيعية المألوفة، والتي تقوم بدورين: فهي من جهة تهيئ القارئ وتأخذه تدريجيًّا إلى طريق العقدة التي هي في هذه القصة تأخر «حماد» الأب، في العودة من السوق على غير عادته حيث يبيع ماشيته، وتتأزم العقدة حين يقبل أحد رعاته لاهثًا يحمل السر بين جنبيه.

وهي عدا كونها مدخلًا يرسم الجو الذي سيحرك فيه القاص شخصياته وتدور فيه أحداث قصته، وإن كان هذا التقديم الوصفي يطول أحيانًا حتى ليكاد يقودنا إلى فكرة أو حدث غير الذي رسمه الكاتب سلفًا، وحتى لتكاد المقدمة أن تتحول إلى لوحة إنشائية: «كانت الشمس في النزع الأخير، وقد خضبت السماء بدمائها، والعصافير تزقزق عائدة إلى أعشاشها، وكأنما تعزف في الجو أنغام الحزن على غياب الغزالة أخت يوشع … وبدأ نسيم أواخر نوفمبر يلفح وجه «عائشة» الغض، فتبدو به شفاهها وقد ازرقَّت، وأناملها الخائضة في الماء أعصابًا جامدة. وما باب عريش غير بعيد عنها تطل امرأة في الأربعين قد وَخَطَ الشيبُ رأسها، وحفر في وجهها أخاديد. وقد عَلَت محياها بسمة مشعة، بينما أناملها الدقيقة المعروقة تمر بحبات مسبحة في يدها اليمنى، وشفتاها تتمتمان بذكر الله، وقد اقتربت منها «عائشة» تتواثب كأنها الغزالة، ثم تعلقت بها مقبلة الجبين المغضض بفعل الزمان، وانسابت من شفتيها كلمة «أمي» عذبة لذيذة.»١٦
وكل هذا التقديم يبدو بعيدًا عن صلب القصة، وهذا الوصف الفائض لعائشة وأمها لا غنى فيه للقصة، وكنا نستحبه لو كانت الأم ستحتل دورًا ذا بال في مسار الحدث وتطوره، وما يبدو لنا مبررًا لذلك الإسهاب، هو تهييئنا للتعاطف معها «عائشة» حين ستحل بها الكارثة التي ستؤدي بأمها وأبيها نتيجة لغارات العدو: «وشيعت القرية مع القتلى جثمان «رقية» زوج «حماد» وأصبحت عائشة بين يوم وليلة يتيمة الأبوين … وجمدت الدموع في عينيها بينما شرع جيرانها في معالجة الجرحى وترميم الأنقاض.»١٧ غير أن التبرير الحقيقي في نظرنا لهذا يرجع إلى أن قاصنا هذا وغيره، لم يكن يعرف ما هو مفيد لقصته وما ليس مفيدًا، ما يدخل في صلب تكوينها وما هو زائد لا خير من ورائه، كما أن القصة القصيرة كانت ما تزال أبعد عن الاقتصاد في العبارة والتركيز في أداء المعنى.

وقصة «قائمة أخرى» من جهة مضمونها تمثل مظهرًا آخر من مظاهر العدوان والوحشية التي كان يواجه بها المستعمر السكان الآمنين وما كان يلقاهم منه كوارث وآلام إنها قصة غارة ليلية تشنها طائرة العدو على قرية من القرى الهادئة الآمنة فتصيبها بالويل والدمار: إنها هي طائرة المغيرين التي كان ضحية قنابلها «حماد»، بهذا صاح رفيق حماد، والذي حمل خبر هلاكه إلى زوجته «رقية» وابنته. على أثر صياحه: «ارتفعت العيون إلى تلك الطائرة كأنها تهم بالانقضاض عليها، وإن أفكار بعضهم لتشك فيما تسمع الآذان من أقوال هذا الغريب، لماذا تقتل إخوانهم الطائرات المغيرة؟ ماذا فعلوا؟ … إنها تقترب من الأرض كثيرًا … ما هذا؟ إن نارًا تنزل منها، وقبل أن تعي عقولهم ما ترى العين، صك آذانهم دوي انفجار هائل … وتفقد الواقفون أنفسهم فإذا كل ما يحيط بهم آهات وأنات.»

على هذه الشاكلة يصور التناني عدوانية المستعمر، ولكي تبرز وحشيته بصورة أضخم، يجعل مسرح هذا العدوان تلك القرية الآمنة الوادعة التي يغمرها الود والسلام، لا تعرف الحرب ولا العدوان، بل أنها تعيش في ظلال رومانسية حالمة: «لقد حل الظلام بالقرية وبدا أهلها يفدون إلى المسجد للصلاة، وارتفعت عين الأم إلى السماء، فهالها ما خلفت الشمس من احمرار، وخلا الجو من العصافير، وبدأ صوت المؤذن ينساب في أنحاء القرية فتردده الأجراف السعيدة صدى يعيده إلى القرية مرة أخرى واهيًا يتناثر في الآذان.»

والحق أن القاص المغربي مولع بوصف ما تقع عليه عينه، وبالقرية خاصة، متخذًا منها مسرحًا لكثير من قصصه وحوادثها، فقد سبق أن لمسنا ذلك في قصص الكفاح الأولى، عند عبد المجيد بن جلون في قصته «عائشة» و«غريب» وقصص أخرى من مجموعة «وادي الدماء»، وهذا الولع يخفي في عمقه نزوعًا رومانسيًّا دفينًا في باطن وجدان القاص المغربي، كثيرًا ما يهب للتعبير عنه واختلاق الفرص لإظهاره، وذلك في كثرة تعلقه بصورة القرية والإسهاب في وصف بعض مشاهد الطبيعة كما نجد عند التناني في قصته «قائمة أخرى.»

ومع القاص المغربي الأستاذ عبد الكريم غلاب، الأديب والصحفي، نلتقي بتصوير آخر لنموذج من نماذج البطولة والكفاح الوطني، من خلال مجموعته القصصية «مات قرير العين»١٨ التي تعلن في مقدمتها أنها تمثل جانبًا من الأدب المغربي الملتزم، أي أنه يرشحها، منذ البدء، لتبني قضايا أساسية، قضايا الوطن والمجتمع. وكأنما استشعر عبد الكريم غلاب أن رصيده في الفن دون رصيده في الفكر وإدراك الموضوع، فكتب بلهجة المعتذر في نفس المقدمة: «وإذا اختلفت آراء قرائها «المجموعة» ونقادها حول أهميتها الفنية فإني لا أظن أنها تختلف حول أهميتها من حيث إنها تصور جانبًا من أدب الكفاح الوطني والاجتماعي في المغرب»١٩ وغلاب يضع كتابته مسبقًا لخدمة الحياة وتصويرها بنماذج حية عرفتها حياتنا النضالية زمن الاستعمار: «من الجحود ألا يكون للأدب دور في تصوير جوانب هذه الحياة، ومن الجور ألا يقرأ القراء هذا الأدب، وألا يكون نقطة انطلاق لأدب يصور حياتنا الكفاحية.»٢٠

وتصوير الحياة الكفاحية هو ما يعنى به غلاب في قصته «مات قرير العين» التي تقدم لنا نموذجًا آخر للبطولة الفردية التي تضحي بالنفس والأهل، من أجل قيمة الوطن ومستقبله، ويتكرر نموذج البطولة الفردية، هاته، عند غلاب كما عند غيره، دون أن يستطيعوا جميعًا تكثيف صورة البطل وجعله يحمل ملامحه وملامح الجميع فيه، فيشع ببريقه الخاص في الوقت الذي تصدر منه إشعاعات وأباريق الآخرين الذين هم مجموع الشعب المكافح وحين نعثر على بعض هذا الإشعاع فإننا نجده باهتًا أو يشع لينطفئ مرات، وإذا بنبرته تعلو بحيث يخطب باسم الجميع أو تنطلق على لسانه عبارات معممة تفيد أنه هو والمجموع سواء. ولعل التركيز على البطل الفرد يعود إلى التأثير السحري الذي يخلقه الأبطال في النفوس، وإلى وعي خاص، قاصر يحسب التاريخ من صنع الأفراد وليس المجموع.

أيًّا كان الأمر، فهذه البطولة الفردية هي التي يمجدها عبد الكريم غلاب في «مات قرير العين» حيث يسرد علينا قصة محمد، المناضل الذي ترك زوجته وأولاده وذهب يقاوم الاستعمار وينفذ الخطط الفدائية، وبسبب ذلك أصبح مطاردًا يجري البحث عنه في كل مكان، وحين يأتي خفية لزيارة أسرته، هذه الزيارة الموقوتة مع عمارة سيتم نسفها، يشعر به مطاردوه فيحاصرون البيت والشارع، ولا يتبقى له سوى أن يستسلم، دون مقاومة، ولكن استسلامه لن يجديهم فتيلًا إلا: «من إصبعيه في جيب سترته، وانتقلت الإصبعان، في غير ارتعاش، إلى فمه، وسلمى تنظر إليه في إشفاق وفي عينيها دمعتان حائرتان»،٢١ فقد ابتلع السم حتى لا يخرج من فيه تحت التعذيب، وحتى يبقى وفيًّا لعهد الفداء والتضحية: «ومن باب الزنزانة قذفوا به فوقع على وجهه مغشيًا عليه، ولم تدرك منه الشرطة بعد ذلك، إلا جثة هامدة بثت حياتها في الآفاق وظلت في ضمير الشعب تحث به الخطى للتضحية في سبيل الحرية وسبيل الاستقلال.»٢٢
والقصة هذه لا تطرح معاني بعيدة الغور أو أفكارًا في المقاومة غير مسبوقة، إنها ترسم، فحسب، وبطريقة ريبورتاجية، سلوك بطل مناضل يتجشم التضحية من أجل الوطن، وليس هناك معنى أبعد، وبسبب ذلك يعمد القاص إلى شخصية الزوجة في محاولة لاستبطانها وقياس نبض النضال عندها وانعكاسه على نفسيتها الاجتماعية. ولعل هذا الاستبطان لنفسية «سلمى» هو الذي يمنح القصة بعض الثقل الفني، ويجعلنا ندخل رحاب الفن القصصي: «ولو من باب ضيق، ونتابع تطور الحياة والحدث من الزاوية التي التقطها القاص:
«ماتت الحركة من حولها، وساد السكون أركان الحي، فلم تعد تسمع حتى وقع الخطوات الثقيلة المجهدة التي كانت تدلف إليها من خصاص النافذة الوحيدة المطلة على الزقاق. لقد كانت هذه الخطوات تؤنس وحدتها بعد أن تنام الطفل والطفلة فتشعر أنها ليست وحدها في زقاقها، وأن ثلة من الجيران ما تزال عيونهم ترعى هذا المنزل الذي احترموه وأحبوه وأكنوا له من التقدير ما لا يزال يبرهن عنه سؤالهم عن صاحبه، واستفسارهم عن مدى غيبته، والشيء الذي لم يكن يستطيع تفسيره هو هذا الانفعال الذي يهف بنفسها كلما سمعت وقع الخطوات الثقيلة المجهدة في سكون الليل البهيم.»٢٣
بهذه العبارات الهادئة الموحية تنطلق القصة، وقد اجتمع فيها التقديم البارع والجو الموحي بغير جلبة، والكلمات الوجيزة التي تسوق إليك الشخصيات التي ستعمر القصة وجو التوقع الذي ستحيا فيه. وتلي هذه البداية نقلة إلى ذات «سلمى» فتبدأ عملية الاستبطان والكشف التدريجي للأزمة التي تشغل عقدة القصة، والتي هي غياب الأب: «إنه يؤدي رسالته … أصداؤها … ما تزال ترن في آذاني، احفظه يا رب … ساعده يا إله العالمين حتى يعود إلى طفله وإليَّ … إننا غرباء، منذ ودعنا …»٢٤ ولكن الراوي، أي القاص يعييه صبره، فما يلبث أن يأخذ الزمام من «سلمى» وإذا بالمنولوغ يختلط بالسرد اختلاطًا منفرًا، حتى لا نكاد نعرف عمَّن يصدر الكلام: «أين هو الآن يا رب؟ أتراه بلغ الغاية من كفاحه؟ إن آماله عظيمة، سيعبئ جيشًا من المجاهدين يحيل حياة المستعمر إلى جحيم … لقد بدا قلقًا منذ اعتقلت الجماعات المتعددة من أصدقائه وزملائه … لم تفارقه رقته وحلمه، ولكنه كان ذلك ثائرًا ومصممًا العزم على أن يكون جماعات أخرى من الفدائيين»٢٥ إن الحوار الداخلي يتحول مرات إلى بوق ينفخ فيه القاص ما بفكره، يساعده ضمير المتكلم الذي يوهم بأن الشخصية القصصية هي التي تعبر عن خوالجها وهواجسها، والحق أن القاص المغربي سيجتاز مرحلة أطول حين يدرك فنية المنولوغ الداخلي وأسرار استخدامه والاستفادة منه، بحيث لا يبقى في مستوى المناجاة الإنشائية، بل يتحول أداة رئيسية من أدوات التبليغ الفني القصصي.
كما إن الحوار يظهر شاحبًا غير طبيعي، لا يكاد يغني وجوده عن عدمه، لا تستخدم فيه الكلمات المناسبة في المكان المناسب، ولا يناسب الشخصيات بتاتًا، فحين يخاطب الأب العائد، من طرف طفليه، بقولهما: «وعدتنا بأنك ستعود مع الصباح وقد عدت قبل ضياء الصبح» يجيب الأب: «سأذهب مرة أخرى، ولكني سأعود عند الفجر الباهي المشرق»٢٦ وهو حوار متكلف لا رواء فيه، ولا يمت بصلة إلى الحوار القصصي المركز والدال، لنتأمل هذا المقطع الآخر: «كيف حالك — حالي كما ترين يا سلمى — أقصد الحركة، فقد رأيت في منامي قبيل مجيئك أنك تقود فيلقًا من رجال التحرير على فرس بيضاء، كان منظرك يبعث على الارتياح.»٢٧

وقد كان محتملًا أن يظهر ما سبق مجرد هفوات محسوبة، ولكن طول القصة غير المبرر جعل منها كثيرة بارزة للعيان، مخلة بالتسلسل القصصي والتركيز الفني. فالقصة هذه، تبدو نتيجة للطول مفككة الأوصال لا تحافظ على التوازن بين أجزاء التجربة القصصي، تطول البداية طولًا مسفًّا، وكان ممكنًا الاقتصار على المقطع الآنف الذكر، وتطول المناجاة ويستفيض الحوار الفائض، لكن يبدو ألَّا معدى من تجمع هذه الهفوات كلها في جعبة غلاب، الذي تدفعه حماسته للموضوع إلى الخطابية والأسلوب التقريري المعهود و«مات قرير العين» مليئة بالشواهد على ما نزعم.

وإن كثيرًا من الملاحظات التي سقناها عن التناني تنسحب أيضًا، على قصص عبد الكريم غلاب الوطنية وأحمد محمد أشماعو بعدهما، وتعزى كثيرًا من أخطائهم إلى أنهم كانوا ينقلون عن الذاكرة، دون معاناة أو مكابدة، محاولين، بجهد عسير، إضفاء طابع تصويري على حقائق خارجية، حاسبين أنهم بذلك قادرون على صياغة القصة الفنية مع الوفاء لقضية الوطن والالتزام بالكفاح، ولا غرو فغلاب يعلن في غير ما حرج، في مقدمة مجموعته، بأن هذه المجموعة التي منها القصة المدروسة: «لم يكن فن القصص فيها إلا أسلوبًا للتصوير والتقديم، ولذلك كان اهتمامي بالنموذج البشري وبتحليل النفس الإنسانية أقوى من اهتمامي بالفن المجرد.»٢٨
ويساهم «أحمد محمد أشماعو» في توضيح خريطة هذه الملاحظات من ناحية، وفي إبراز سمات الأدب القصصي المكافح لهذه الفترة المدروسة من الفن القصصي القصير، من ناحية ثانية، فقد احتوت مجموعته «قدر العدس»٢٩ جملة من القصص الوطنية، جاء عنها في غلاف الكتاب: «والأقاصيص الوطنية في هذا الكتاب على الخصوص تصور بعض الظروف التي كانت السبب في حصول نكبة الاستعمار، وتصور أيضًا مشاهد في مقاومته، وهي بذلك تخلد ذكريات من الحركة الوطنية ومن الصراع التحريري المجيد مما لا يجوز أن يهمله التاريخ أو تتناساه الأجيال.»

هذه الأقاصيص لا تختلف عن سابقاتها في كثير، فالموضوع المطروق واحد، وهو الكفاح الوطني وتصوير استبسال المقاومين في مكافحة المستعمر وتضحياتهم، والغاية واحدة وهي تمجيد هذا الكفاح وأولئك الذين قدموا دماءهم فداء الوطن، والطريقة متماثلة أو تكاد وهي تتم برصد شخصية بطل من أبطال المقاومة وإبراز سلوك التضحية حيًّا مجسمًا بواسطة عقدة، غالبًا ما تكون بعيدة عن التماسك، أو باقتطاع مشاهد عن الحياة الاجتماعية يبرز فيها اصطدام قوى الخير بقوى الشر.

فقصته «خذها يا عدو الله»٣٠ تحمل الكثير مما ذكر، كما تبلغ قصدها النبيل في التحدث عن الفداء والوطن، وهي على عكس القصص الأخرى تتعرض لقيمة الوطنية من الاتجاه المضاد، أي عن طريق شخصية «حماد» الذي يخون قضية الوطن ويقف في صف المستعمرين، خائنًا وعميلًا، ويقدم القاص وعلى الطرف الآخر منه في مواجهته شخصيتي «عباس» وأخته ممثلين للإخلاص والوطنية الحق. وهما يتصديان ﻟ «حماد» الخائن الذي يبتهج أيما ابتهاج لنفي السلطان فيرسل برقيات التهنئة إلى أسياده، بينما يفر عباس، بعد أن مزق البرقيات ولم يرسلها إلى خلايا المقاومة بالدار البيضاء، وتتبعه زوجة الخائن وأخته بعد أن أجهزتا على العميل وقتلتاه فتلحقان بدورهما بالمقاومة.

والقصة كما تبدو متعددة الشخصيات، الحدث فيها مجز أو ممتد ينحو نحو الوصف الخارجي، وهي تقدم إلينا جاهزة وممتلئة لا مجال لشرحها أو تعميقها بتنسيق مع الموضوع، وهي تتحرك وتنفعل بطريقة آلية، والشيء نفسه يلحظ على الحدث، فلا وجود لأية حركة درامية، والعمل يبدو مرتبًا وفق خطة مرسومة سلفًا، خاصة وأن الغاية تقتضي تمجيد الفداء والكفاح ضد القيم الاستعمارية والعميلة.

وينفرد أشماعو من بين كتاب القصة الوطنية بانفلاته من الوقوع في منزلق الخطابية والتقريرية الفجة والحماس المنبري، المتجلي في ترديد الشعارات وتسطير العبارات الطنانة التي تشيد بالوطنية والوطنيين، وهو يفلت منها بسبب اعتماده على توجيه فكري مسبق لقصصه بالرغم ما يبدو فيها من حياد المؤلف أو تنكره على الأقل. ويبرز هذا التوجيه في تقديمه لقصته تلك وقصص أخرى عالمًا منشطرًا إلى واجهتين أو عنصرين متضادين، فحماد الخائن يواجهه أخوه وأخته وزوجته الوطنيون في الطراف النقيض، ومثل هذه المواجهة الصارمة والمتعسفة معيبة، على الرغم من أنها تنقذ القاص من المباشرة الكلامية المسفة.

وانكشاف هذا التوجيه الفكري وبروزه بذلك التعارض يفقد القصة كثيرًا من أصالتها ويضيع على الكاتب جزءًا كبيرًا من الحماس الفني الذي يضيعه الابتسار الفكري والإجهاد الفني لاحتواء هذا الابتسار وتبديده.

وهكذا نجدنا عند أحمد محمد أشماعو نقف عند نهاية الشوط للقصة القصيرة ذات المضمون الكفاحي الوطني، مع كتابها الذي تعرفنا على بعض نماذجهم فيها، والتي كشف لنا من خلال معالجتها سماتها العامة والخاصة التي انطبعت بها وانسحبت، بالتالي، على تكوين القصة القصيرة بالمغرب بعيد الاستقلال.

وقد تبين لنا من خلال الدرس العام لتلك القصص ولأخرى غيرها لم نشر لها أن قيمتها، على الأغلب، لا تتجاوز دورها في تسجيل مرحلة حارة حاسمة من تاريخنا الوطني، بحيث يصعب تقديرها فنيًّا كما تقدر القيم التي تبنتها ودافعت عنها بإيمان وصدق، ولو أن هذا، وحده، لا يعد مسوغًا لجعل القالب القصصي هو حامل الموضوع النضالي.

إن القصص النضالي، يبدو وقد انحصر في خانة التاريخ وتجاهل أو جهل الفن وأقيسته، والفرق بين الفن والتاريخ شاسع ومعلوم. والفن الفذ يحتوي حقائق التاريخ، يمتصها ويعيد اكتشافها وبعث الحياة من خلالها زاهية مصقولة. هذا التصور للفن لم تدركه القصص الوطنية فجاءت صورًا معتمة تتحمس لقيم النضال وتجهد للانحشار في القالب القصصي المكتمل، وبين هذا وذاك فشلت في امتلاك هويتها واستحقاق أصالتها.

ولا شك أن مفهومها للنضال، كشعور وطني ساذج وتلقائي، بعيد عن تصورات محددة، خلا زوال العهد الاستعماري، هو ما جعل قصص هذا الاتجاه تأخذ المجرى الذي رأينا وتتسم بسمات التعميم وتفتقد أبعاد التحديد وحيوية التشخيص والقص.

(٤) المضمون الاجتماعي وصورته في قصص الاستقلال

يوازي المضمون الوطني المبثوث في قصص الاستقلال مضمون آخر يحاذيه وإن كان مفترق الطرق بينهما هو أن الثاني ينطلق من الحاضر، على حين كان الأول يستمد مادته وعناصر وجوده من الماضي.

إن هذا المضمون الثاني جاء، ولا شك، امتدادًا لذلك الماضي، ولكن في الأساس تسجيلًا لحاضر الوطن وللصورة العامة التي تبلور فيها، أو على الأقل إنه طمح لالتقاط خطوط هذه الصورة والاستمداد من ألوانها وطقسها العام، بحيث يثبت للأدب حضوره وللفن القصصي تشبثه بأرض الواقع والتصاقه بما جد واستحدث فيه، وهي لعمري خصلة متواصلة في الأدب المغربي الحديث، لم يشذ عنها منذ نشأته، وعلى امتداد مسيرته المتطورة إلى أيامنا هذه.

هذا المضمون الثاني هو المضمون الاجتماعي، أي جملة الأفكار والأحداث والوقائع والقيم التي تدور حول مجتمع الاستقلال، تترصد صورها، وعمليات التسجيل والرصد والتصوير تتم، أحيانًا، متفرقة وأحيانًا أخرى مجتمعة بحيث تتعدد النظرة وتتلون تلاوين مختلفة، فتنقل إلينا، تارة، الحياة والواقع عبر هذه الوسائل جميعًا من رؤية مركزة وثابتة وجياشة، تحفل بالحياة والمعنى وإن بدت فيها الدلالات أو الدلالة الواحدة شاحبة تلتصق باللحظة فلا تفوتها إلى أفق منفتح، وتارة أخرى نجدها تقنع برؤيا العين وحرفية اللحظة ومحدودية اللقطة، تنقل المرئي بأمانة وتكل في الوصول إلى المخفي، تكشف الظاهر ويعز عليها التوغل في الباطن، تمر بملابسات الحياة وما تحفل به من عقد وصراع فلا يلفتها منها إلا وجهها بملامحه الكبيرة وقسماته الهندسية المتآلفة، بينما تعمى عن رؤية الندوب والخدوش والجراح التي تدمي جسد المجتمع وتحفر فيه أكثر من معنى وأغزر من دلالة … إن هذا المضمون يبرز المجتمع في القصص التي سندرس، في أطره الكبرى وظواهره الإجمالية دون القدرة على تبين العلاقات الخفية التي تبرز وجه الصراع الحقيقي وتفيد في إبراز مكامن الداء وسر العلاج.

ومن المفيد القول إن هذه النظرة الأخيرة، هي التي تصنع جدارة القصة القصيرة وتفرد لها أصالتها وقيمتها التعبيرية، وستتضح لنا هذه الملاحظات بتفصيل أكبر من خلال المعالجة المنفردة، لأبرز من عنوا بهذا المضمون ودفعوا بأقلامهم في اتجاهه.

(٤-١) القطيب الثنائي والظاهرة الاجتماعية

لعل من بين الوسائل التي يمكن بها التعرف على دلالات نصوص الكاتب في نقلها وكذا وزنها الفني، معرفة الحافز إلى الكتابة وما يجعل الكاتب يغمس قلمه في هذا الموضوع دون ذاك ويلتفت إلى هذه الواقعة ويغفل تلك، وبالضبط ما يحدد مناط اهتمام الكاتب أو القاص.

وبالنسبة إلى القطيب التناني فإن الاتجاه إلى الواقع والنهل منه متأصل في كتابته، أساسي عنده، متغلب على ما عداه، ويرجع ذلك إلى أمرين اثنين:
  • أولهما: سابقًا، امتلاء بقضية الوطن وطموحه إلى الاستقلال والتحرر، وحاضرًا، انتماء سياسي محددًا أملى عليه اختيارات بذاتها، كان من أهمها وضع مشاكل الناس والمسحوقين منهم خاصة، فوق كل اعتبار، ولذلك جاءت جل قصصه إن لم نقل كلها وفية لهذا المبدأ ملتزمة به، لا تحيد عنه، بتاتًا، لتنجرف نحو نزوع أو ميل ذاتي خصوصي، والقصص التي سنعالج هنا تشي عناوينها ومضمونها بهذا الالتزام والإخلاص لقضايا الناس (المتسولة، بائعة الحساء) وغيرهما.
  • ثانيهما: إن التناني يكتب القصة القصيرة انطلاقًا من باعث خارجي يجد في نفسه قبولًا وهو المسيس الملتزم، فينصرف إليه إذا وجد فيه بغيته وقصده من معالجة أموال الناس وأزماتهم، وقد ذكر لي القطيب التناني أنه كتب كثيرًا من القصص لسماعه أو معرفته ببعض الحوادث التي تقع هنا أو هناك ويلحق فيها ضرر بالناس وجور، فقصة «سوف تستيقظ»٣١ استقى موضوعها من حريق شب بأحد الأحياء القصديرية بالدار البيضاء، فشردت فيه كثير من الأسر وذهب بسببه كثير من الضحايا، والتناني يؤكد أن ما ليس ملتصقًا بمشاكل الشعب لا يعنيه في شيء.
وتفيد هذه الملحوظة نوع فهم التناني للواقع والواقعية، ومن غير أن نبدأ أي نقاش هنا، يمكن أن نقول إنه فهم متخلف، بعيد عن روح الواقعية العميق، شديد الصلة بالفهم الساذج للواقعية التي تقول بالحرفية والمعاينة التامة،٣٢ ولا شك أن هذا التصور الساذج كان سببًا في إعاقة نمو القصة عند التناني، وفي أحداث خلخلة البناء القصصي، وفي الافتعال الذي يسم كثيرًا من مقاطع السرد والحوار.

كما يفيدنا الأمران السابقان معًا، في أن نظرة التناني القاص لا تتغلغل إلى أعماق الواقع ولا تلج مساربه البعيدة، فتلتقط منه ما هو قريب المنال داني القطاف ولذلك جاءت قصصه، من زاوية المنظور الفكري، لصق الظاهرة الكبيرة والحادث الواسع الإطار، قاصرة على إبراز الوجه الشبحي الظاهرة، دون الوصول إلى هويته الحقيقية.

وتكشف لنا قصة «المتسولة»٣٣ عن صورة هذا الفهم وطبيعته والقصة تطرق موضوعًا عالجته أكثر من قصة في مختلف الآداب، فهو إذا موضوع مستهلك، وتكراره يتطلب التجديد في تقديمه وتناوله وتحميله مضمونًا أغنى، غير أن التناني يقف عند حد المادة الخام دون أن يضيف شيئًا يذكر. إنها قصة امرأة اضطرتها ظروف الفقر والإذقاع، إلى سلوك طريق البغاء متقمصة قناع المتسولة، والقاص لا يعرفنا على هويتها الحقيقية لأول وهلة، بل يأخذ بيدنا ويجعلنا نتتبع هذه البغي المتسولة عن كثب فنلاحظ سلوكها الغامض وتقلبها من حال التسول إلى حال البغي: «كانت تمشي متخاذلة كأنما تنوء قدماها بسلاسل من حديد، وتقف أمام كل مارة مادة يدها اليمنى بمذلة، وشفتاها تتمتمان: حسنة لله يا سيد، وإن السامع لعبارتها هذه والناظر لها ليرق ويعطف ولا يملك إلا أن يمنحها تلك الحسنة»٣٤ ثم وهي تغير مسلكها لتسفر عن مقصدها الحقيقي، ونحن نتعرف على وضعيتها من خلال اهتمام «أحمد» بها وانفعاله لحالتها، فهو ينخدع الوهلة الأولى ويرثي لحالها بينما صديقه «سعيد» عارف بأمرها لا يعيرها الْتِفاتًا. ويخاطب صديقه قائلًا: «إنك مغفل يا صديقي، إن أمثال هذه المرأة لا كبرياء لهن، إنهن أفاعٍ.» ويدفع هذا إلى اقتفاء أثر المرأة فيتكشف له أمرها ويصعق باكتشافه ويصيح بها: أيتها الخائنة، فتجيبه: خذني إلى حيث تريد: فقد أعيتني طرق البحث عن الطعام لهؤلاء (أي لأبنائها) مددت يدي طالبة منكم الحسنة، فامتنعتم عن إعطائها، تريدون مني عطاء بعطاء كرهتم مني الحسنة لوجه الله، وإنكم لتعطونني أكثر مما أطلب في سبيل إرضاء غرائزكم الحيوانية … خذني إلى حيث تريد فجيبي ليس فيه من حسناتكم شيء»،٣٥ وبهذه العبارات ينهي التناني قصته، ويكشف عن سر المرأة وموضوع الثقل في قصته.

كما تبين القصة عن مغزاها الخلقي-الاجتماعي، فالمتسولة نموذج حي ملتقط من مجتمع انعدمت فيه العدالة الاجتماعية ولم تعط فيه للأفراد حظوظ العيش الكريم، فلم يجدوا من ينصفهم، فلجئوا إلى التسول وإلى البغاء لينقذهم من الهلاك جوعًا.

لكن بأي فهم يقدم لنا التناني «المتسولة» من أية زاوية ينظر إليها؟ إنه يعجز عن استكناه الأسباب الحقيقية لمصيرها، وبدلًا من أن يضع يده على مكمن الداء، يئول الأمر تأويلًا خلقيًّا ويقف ببطلته عند حدود اليأس والشفقة، وهذا الفهم لم يطور الموضوع المطروق كثيرًا، ولم يضف عليه أي بعد جديد، نتيجة لرؤية تعميمية تسجيلية غير واعية بأسباب الظاهرة وركائزها، ومن ثم يغيب فيه عنصر الصراع الذي تتطلبه القصة القصيرة، وظهرت شخصياته شبحية هزيلة تنطق بأفكار وكلمات معلومة منتزعة من قاموس الأخلاق والتهذيب، وجاء الحدث فيها يتطور، ببطء، وارتباك، فالقاص مرتبك بين وسيلة القص وغاية الوعظ، والحوار فيها جاف متكلف يضحل النص عوض أن يغنيه، والمقطع الآتي كاف للتدليل على ما نقول: «اقترب منها قائلًا: أتريدين معينًا لك على حمل أحد الطفلين؟

– ولم هذه المشقة؟

– يؤلمني عذاب الجميل».٣٦

وهل يكفي التناني جهدًا أن يقول على لسان أحد أبطاله في نهاية القصة: «أحسست قلبي يتمزق حزنًا عليها، وقد أمنت بصدق وصف صاحبي لها … إنها أفعى كثيرة السموم، وازداد الكون أمامي ظلامًا، أي وباء يعيش فيه مجتمعنا؟» هل يكفيه جهدًا، قوله ذاك لكي يكون قد كتب قصة اجتماعية؟ لا أحسب أن هذا بمقنع ولا يخالف الظن متذوق للقصص الاجتماعي ما في ذلك من تكلف وبعد عن روح الواقع وأسلوب النظر إليه وتصويره.

وفي قصة أخرى «بائعة الحساء»٣٧ نقف مع التناني على صورة أخرى من صور الواقع الظالم المستبد بمعالجة قصصية تجهد في أن تكون متقدمة موحية، غير مفتعلة، فتعرف هذه البائعة التي تنطلق منها خيوط القص والحدث الأولى وتنتهي بها وإليها: «وقفت عائشة تجاه البحر تمعن النظر في أمواجه المتلاطمة الهادرة وفي زرقته اللامتناهية، وتجيل طرفها متنقلة بين البحر ورصيف الميناء، حيث تمتد آلات حمل الأثقال كالعمالقة، والسفن في عرض اليم ساكنة تثقلها السلع … ولمعت الشمس، شمس الصباح منعكسة على مياه البحر فسطع بريقها في عيني الواقفة تجاه البحر … إن الوقت ضحى، والهدوء شامل، وهذه ظاهرة لم ترَ لها عائشة مثيلًا طول حياتها على جانب الميناء: «كان ضجيج الآلات يقض مضجعها، وهدير العمال يثير أعصابها، وزعيق السفن الآتية والذاهبة يهز أذنيها، فكيف استحال كل ذلك في هذه الساعة إلى سكون.»»٣٨
بهذه العبارات الوضعية لنا التناني إطار الصورة ويأخذ بيدنا لندخل معه مناخ التجربة ومنعرجاتها، وهي عبارات دالة، وقد وظفت لخدمة غرض مقصود، فلم تأتِ ركامًا من الأوصاف أو التنميقات التي عهدنا قصاصنا الأوائل ينساقون إليها انسياقًا حينما وجدوا إزاء منظر أو لوحة طبيعية، إن التناني يوظف كل ذلك ليقدم للقصة رصيدها الأول من غنى التجربة، فننطلق مع عبارات وصفية واضحة غير مفرقة في التخيل ومنسجمة مع ما سيتلوها، مع الحدث، مع حركة الشخصية (البائعة) والشخصيات الأخرى، أي العمال، يترك التناني للحدث أن يتشكل انطلاقًا من ذات الشخصية، دون أن يتخذها بوقًا له، فتأخذ في التساؤل عن سر غياب العمال وسكون الميناء، وهي لمن ستبيع حساءها؟ وإلى هذا الحد يكون القاص وفيًّا تمام الوفاء للبداية التقليدية للأقصوصة، بل هيأ بها خيوط العقدة الأولى، وينكشف لها السر حين يخبرها العمال أنهم مضربون: «ولم تسأل عن معنى كلمة «الإضراب» ولا عرفت معنى لها بخلو الميناء»٣٩ ويأخذ الحدث بعد ذلك في التطور بتزاحم مشفوع بإظهاره لأطراف الصراع: العمال الذين يطالبون بحقوقهم، والشرطة التي تتربص بهم لقمعهم وتحذيرهم أيضًا، في صورة «الشخص في لباس أنيق، حليق الوجه، تدل حالته على الرخاء وعيش النعيم» ويأخذ القاص خيوط قصته في مجال واحد ليقود الشخصيات، وقد قررت مصيرها، وتوحد مصير «بائعة الحساء» بمصير العمال، فوضعيتهم واحدة، وسار الجميع يصرخون ويرددون الشعارات والمطالب.

ولم يكُن منتظرًا أن تنتهي القصة بغير ذلك، ولم يكُن للصراع أن يتخذ شكلًا أو سبيلًا غير الذي ظهر، ذلك أن التناني متحمس لقضية الناس المستغلين، يجب أن تكون مسموعة لا مهموسًا بها، ظاهرة بجلاء لا مستترة. ولذلك ردد العمال في الخاتمة القصة:

– نريد عدالة تنبثق جذورها من آلامنا.
– نريد عيشًا لا بيع فيه لكرامتنا …

ثم إنه لا ينبغي أن يغرب عن أذهاننا أن التناني، الذي يعيش في مدينة الدار البيضاء الصناعية، وبحكم حس الاهتمام الموضوعي لديه بالقصة الاجتماعية، كان من الضروري أن تلتقط يراعته هذه الظاهرة، ظاهرة الإضراب، وهو المولوع بالظاهرة الاجتماعية.

وهو حين يقدم لنا هذه الظاهرة ضمن إطار قصصي، قل أن يستقصي أبعادها أو يعمد إلى استبطان أطراف الصراع فيها، بل غالبًا ما يقدم لنا صراعًا سطحيًّا وشخصيات مسطحة، وجودها معزو لخدمة القضية، أولًا، قبل أن يوجد كشرط فني، ولذلك بدا واضحًا كيف أنه في هذه القصة عمد إلى خلق تضامن متعسف بين البائعة والعمال، بل وخلط بين موضوعين اثنين في لقاء واحد، نعم قضية واحدة، ولكن سبل اللقاء تمت بتخطيط فكري وجاهز وليس باجتهاد فني يقتضيه القص الفني.

إلا أن الفكرة العامة التي كونَّاها عن الشخصية في قصص التناني أو عن وصفها، أنه وصف واقعي يرسم الإرهاب الخارجي، ويقدمها تقديمًا بعيدًا عن التزويق، منسجمًا مع قصده ورغبته في تقديم النموذج الواقعي والصورة المنتزعة من العالم الخارجي بحذافيرها.

ووصف الشخصية يوحي عند التناني ببعض التقدم والفهم للشخصية القصصية، خلافًا لما كنا نجده عند الكتاب السابقين الذين كانت جل أوصافهم مستعارة من القواميس والتعبيرات البلاغية، وافقت الطبيعة أو خالفتها، تلاءمت مع الشخصية أو شدت عنها، إذ كان اعتقادهم أن الشخصية في القصة، وخاصة إذا تعلق الأمر بالمرأة، ينبغي أن تكون في أبهى وأصفى مظاهر البهاء والجمال.

(٥) محمد أشماعو، صورة من الواقعية

لم يقنع أشماعو بالانحسار عند حدود ذكريات الماضي وحوادث الكفاح والوطنية التي حفل بها مغرب الاستعمار والمقاومة، وذلك في القصص التي سجلت تلك الذكريات وذلك الماضي، وإنما امتدت نظرته وعدسته القصصية لتحيط بأطراف الواقع الجديد، وتلم بعض وجوهه وعناصره مما يعكس صورة للواقع ويسفر عن ملامحه وتجاعيده. وقد كان أشماعو دائمًا وفيًّا لملمح الواقع هذا، يقف عنده ويتتبعه في أطره الكبيرة وجزئياته الدقيقة، وفي حركته الحافلة بالنماذج البشرية على اختلاف الاهتمامات التي تتوزعها، وهي جميعًا تتحرك داخل دائرة الصراع ضد المستعمر ومع الوطن، قصص «خذها يا عدو الله/ احميه يا دولة البلجيك/ تحرير رقبة … ثم قدر العدس».

إن أشماعو هنا يدس أنفه في دروب الحياة إزاءه والتواءاتها ليلتقط منها المادة التي تسعفه في تقديم تصور معين عن الواقع وإظهاره في قالب فني مستجيب لرغبة الفنان، وهو عنيد ملاحق، ولذلك لا عجب في أن يتبع «السيد بلخير»٤٠ ويراقبه في الحديقة التي يحضر إليها يوميًّا ويصبر طويلًا ويكابد قبل أن يتكشف سر هذا الرجل اللغز، وهو يترقبه ولا يتوانى في وصفه الوصف الدقيق: «غالبًا ما كان حضور هذا السيد في فترة ما قبل الزوال يتبع فيها نظامًا واحدًا لا يتبدل، يدخل إلى الحديقة بقامته المتوسطة الهزيلة، وعلى رأسه عمامة بيضاء، يرخي جزءًا طويلًا منها على قفاه …» ويتابع هذه الشخصية الغامضة إلى أن تصطدم مع العقدة ثم الحل، فينكشف لنا عن شخصية متسلطة من مخلفات العصور الماضية، تبدلت الحياة وأبت هي أن تتبدل أو تحتجب.
ويقودنا أشماعو في يسر وطواعية إلى دروب المدينة وأجوائها ومنتدياتها ويضعنا وجهًا لوجه أمام خشبة الحياة، حيث تجري الحوادث والمشاهد الطريفة وتتكون المفارقات التي تعكس غرابة الحياة وتعقدها ووجوهها المتباينة أبدًا، ففي دكان الحلاق، من قصة «أصدقاء الحلاق»،٤١ تلتقي شلة الأصدقاء من سكان الحي، غالبيتهم من الشيوخ، والكهول، الذين قضوا وطرهم من هذا العالم، ونفضوا أيديهم من متاعب الحياة وأوصابها، ولم يبق لهم إلا التندر والتنكيت، وملاحقة أخبار سكان الحي والتعريض بنسائه على الأخص: «سار بخطوات خفيفة متزنة إلى دكان المعلم الحسين، وهناك وجد الجماعة مكتملة، كل فرد جلس كما يحلو له، هذا متكئ، وذاك مقرفص، والذي بجواره في جلسة بين القيام والقعود، والآخر مستسلم لوثارة الكرسي الناعم، والكل موجه النظر إلى رفيق الجماعة الأصغر «الهادي» الشاب الوسيم، اللبق، صاحب الغزوات الموفقة في قلوب النساء ومعيد الذكريات السعيدة الغابرة إلى نفوس الكهول والشيوخ من أصدقاء المعلم الحسين»٤٢ وهناك يكتشف «سي عمر» السر في تغيب زوجته الطويل في الحمام، ويصعق وتتم المفارقة، فهو الذي يأتي إلى دكان الحلاق للتندر بأخبار الناس يصبح موضوع هزء، فنعلم أن زوجته تتذرع بالذهاب إلى الحمام، لممارسة متعها الخاصة، فيكشف لنا أشماعو، مع هذه المفارقة، والتي هي من مبتغيات القص القصير الناضج، عن صورة هذا الواقع المتآكل، المتضارب، بين تقواه وفساده، وبين خموله واستهتاره، لكن أشماعو المغرم بالواقع وبما يخبئه من أسرار وعجائب لا يستنكف أو يتردد في التسلل إلى الداخل، إلى بيوت الناس بعدسته القصصية يلتقط صورة حياتهم ويسجل ضروب عيشهم وآثار الدهر عليهم، أي إنه يقصد إلى تقديم الصورة الأمينة عن حياة الناس، فهموم وطرق عيشهم هي شاغله، وهو يحس إنه إذا أراد أن يتحدث عن هذه الهموم فليس عن طريق التقرير أو الخطابة المباشرة التي تنفجر فيها المعاني الخلقية والوعظية ببؤس الناس ونفسياتهم، شأن أسلافه من كتاب القصة، ولكن بواسطة النقل الأمين، والرصد المتأني الذي ينقل لك إطار الصورة لينتقل إلى تشكلاتها وأوضاعها الداخلية حيث تقبع الحقيقة ويكمن اللب.
ويأخذنا محمد أشماعو في قصته «قدر العدس»٤٣ إلى جو من هذه الأجواء الداخلية لنتعرف على بُعد آخر من أبعاد صورة الواقع، لنتعرف على أسرة مكونة من أب وأم وتسعة أبناء، يرصدها القاص في لحظة من لحظاتها المثيرة، أي وقت تناول الطعام وأي طعام: يرسم لنا القاص، أولًا، إطار الواقع الصغير وبدقة متناهية: «المنزل بسيط حقير، جدرانه عابسة خربة، وفناؤه المستطيل مبلط برخام عتيق أحمر تآكل وذهب بريقه، أما الحجرة الوحيدة بالمنزل والتي تستعمل في آنٍ واحد للطبخ وللنوم والأكل فقد سترت أرضها بمفروشات متلاشية، وزينت بأثاث لا قيمة له»،٤٤ إلى هنا يكون أشماعو قد أعطانا فكرة عن مستوى الأسرة المادي والجو الذي تعيش فيه، ويتابع نسج الصورة لنتعرف على حال هذه الأسرة وما سيكون عنصر الأزمة بداخلها، يتابع في نبرة حكائية معروفة: «رغم مظاهر البؤس هذه، فإن الأسرة كانت تسودها حيوية خارقة، خصوصًا الأطفال الصغار؛ فقد كانت أمهم نصبت قدرًا عند غروب الشمس على مجمر مشتعل، فغلت القدر وانتشر بخارها في أنحاء الحجرة، يجعل نكهة الأبازير فواحة إلى خياشم الجالسين فيزيد شهيتهم إشعالًا»،٤٥ ويتلو هذا الملمح الواقعي رصد لحال الأسرة وهي مقبلة على الطعام وكيف يتهافت الأطفال على صحونهم فيلعقونها دفعة واحدة، ويظل دبيب الجوع ساريًا في معداتهم، وكيف يستأثر الأب والأم بأكبر حصة، بينما الحرمان والجوع نصيب الأطفال، «تمددوا وبقيت عيونهم تدور في أنحاء الحجرة من خلال الثقوب، فعزوز والمدني يحرسان القدر مترصدين، فمن من الأبوين سيتحف نفسه بصحن آخر من العدس؟»٤٦ وبينما الأسرة في هذا الجو المزحوم إذا بالشابين، الابنين الغائبين، يعودان وقد أصبحا جنديين عريضين، يحملان البشر إلى الأسرة الفقيرة وينقلان إليها إشراقة الأمل بما حملا من هدايا: «تصورتها الأم المحرومة من دجاجة محمرة تشفي فيها الغليل، وتخيلها الأب في كيس مليء بالدراهم أما الصغار ففي اللباس، اللباس الأنيق والأوسمة الذهبية البراقة»٤٧ إنها، إذَن، صورة أخرى من واقع يعيش البؤس والخصاص، ذات ملمح واقعي من حيث منبتها وكذلك من حيث أدوات التصوير القصصي، فالنسيج القصصي في الأقصوصة ينقل الحدث نقلًا يكاد يكون حرفيًّا، الوصف أمين لحال الأسرة والسرد يتبع حركة الشخصيات وانفعالاتها، والحوار بدوره معمق لجذور هذه القصة، مثبت لها في أرضيتها المتربة البائسة.
غير أننا إذا تأملنا بعيدًا، ونزلنا، قليلًا، تحت سطح الظاهر فسنجد أن الشخصيات في قصة «قدر العدس» وفي قصص أخرى له، وكذا الأحداث، تتحرك وفق مشيئة معينة يبتغيها القاص وحسب توجيه غير سافر يتقصده هذه المشيئة وهذا التوجيه يبرزان فيما يحاول القاص إضفاءه على قصصه من انشطارية وثنائية متقابلة تجمع بين الشيء ونقيضه في وحدة سهلة ومتكاملة يرى سعد الله ونوس، إن «معظم الأقاصيص يختزلان الثنائية الكونية المعقدة: الأبيض والأسود، الخير والشر، بحيث يصبح الصراع عندئذٍ موطئًا لتقرير عن المستقبل. ولا شك أن توضيع الحياة، وسط هذا التناظر القاسي بين الأبيض والأسود، لا يخلو من مفهوم خطابي وساذج عن الحياة، لأن الواقع أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط الطبوغرافي»٤٨ وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فإن الصراع الذي يقيمه القاص في خضم التجربة القصصية وبين أطرافها سرعان ما ينتهي إلى الحل الذي توقعه له القاص، بحيث ينعدم كل فعل جدلي، ونجدنا أمام واقع أو واقعية ملفقة أو أمام أحداث أريد لها أن تكون واقعًا، ولذلك فالصراع القائم في القصص ما يلبث أن ينفرج بطريقة مطمئنة، تعود فيها الحياة إلى مجاريها، فالأسرة الفقيرة في «قدر العدس» والتي طالما عانت من شغف العيش وقهرها الفقر والنكد، وهي تتخطف صحون العدس ولم يعرف أبناؤها الشبع يومًا، يأتي إليها الفارس المجهول، أو الفارسان، الولدان القادمان من الجندية، يحملان طيف الأمل وبارقة المستقبل المشرق، وهذا ليس محض صدفة، فمثل هذه الحادثة تتكرر أكثر من مرة في قصص أشماعو، مما يجعل كافة إشكالات الواقع تندحر أمام بسمة الانفراج التي تحدث بقدرة قادر يقول سعد الله ونوس، تبعًا لفكرته السابقة: «كان ممتعًا حقًّا أن يوقن المرء ببساطة العالم وتميز انشطاره … لولا أن ذلك غير ممكن، ومعاينة بسيطة تفصح عدم الإمكان، ولهذا فإننا حين نحاول إعطاء نظرة تفاؤلية للحياة، نخسر كثيرًا من رصيد الفن بتجريد الموضوعات على هذا النحو المبسط، كما أننا ننزلق إلى طوبائية لا مجدية تتمطى لتسحق السواد بالأوامر وبحسن النية، وبسبب اللهفة العاطفية الحافلة بردود الفعل المباشرة، ونتيجة للضغط الشديد الذي راكمته العهود المظلمة فوق كواهلنا انتشر بين أوساطنا هذا الضرب من التفاؤل السريع والساذج القائم على تعرية الواقع من تعقيداته وتداخل جزئياته، وتوضيعه في تقابل سهل حله وسهل التبشير من خلاله.»٤٩

(٦) عبد الكريم غلاب وقضية الأرض في سياق الواقعية

كانت الأرض وما تزال عند عبد الكريم غلاب هي الموضوع الذي ينظر من خلاله إلى المجتمع ويختصر فيه أو يكاد عناصر التأزم والصراع فيه، فقد كتب فيها نصوصًا أولى، ومقالات وقصصًا، وكتب عنها، حديثًا، مجموعة كاملة «الأرض حبيبتي». وتوجه غلاب إلى هذا الموضوع بالذات، ليس اتفاقًا، كما أنه لا يصدر عن ميل طبيعي، ينبع، أصلًا، من عقيدة القاص الاستقلالية التي ترفع شعار «الأرض لمن يحرثها»، ويحرص غلاب على جعل التعبير الأدبي متضمنًا ومعبرًا عن التفكير العقائدي، ولذلك نجده يطرح القضية كأزمة فردية يعاني منها أفراد، شأن نظرته الحزبية التي تخلو من التحليل العلمي للواقع ذي الارتكاز والأساس الطبقيين، إن هذه النظرة تنعكس حرفيًّا في سياق الحدث القصصي وعلى صعيد التجربة الشخصية، فتقدم لنا الإنسان الذي هو ابن مجتمع بعينه، وهو يعيش قضية اغتصاب لأرضه من طرف قوى ظالمة متحيزة، يبحث عن خلاص فردي لأزمته، دون أن تثار عناصر الصراع الحقيقية أو يكتسب الموضوع كثافته المطلوبة، بتجسيم المستغل (بكسر الغين) والمستغل (بفتحها) ووضعهما موضع الإدانة، بدلًا من ذلك يميل غلاب إلى تجريد القضية وتفكيك أوصالها، وهذا يفضي به إلى تمييع الجو وعناصر الإثارة، فتنكفئ الشخصية على ذاتها وتستسلم لأشجانها، فتتوزعها الهموم والآلام، وهذا ما يفتح للقاص منفذ الدخول إلى ذات الشخصية «المظلومة» مثلًا، فيبعده عن وضع الصورة في إطارها الصحيح لينزلق إلى الانفعال والشفقة والتعاطف بدلًا من الفهم والإدراك والوعي، الشيء الذي يحرف الحافز إلى الكتابة ويضع غلاب في صف القصاصين ذوي النزعة الرومانسية، الذين ينفعلون لآلام الآخرين ويأسون لحالهم، يقول غلاب في قصته «المظلومة»: «تكررت زياراتها وألح عليَّ الألم الذي ينبع من عينيها كلما شربت، وقد كانت لا تستطيع أن تفتر عن الشرب، وأصبحت أجد في نفسي شعورًا إنسانيًّا نحو هذا القلب الجريح، أرثي له في ضعف أو تغافل، ولكن سحر العينين المحزونتين أخذ يغمر جوانب نفسي حتى رأيتني أسألها عن سرها.»٥٠

فما سر هذه المظلومة؟ إنها في قصة غلاب الفتاة التي وجدت نفسها تحترف البغاء مدفوعة بقهر الفقر والعوز وتألب الدهر. لقد كانت سليلة أسرة مرفهة تملك أرضًا وعزًا وخيرًا، ولكن طمع الطامعين ذهب بكل شيء، فانتزعت الأرض غصبًا، مات الأب وتلته الأم، وبقيت الأسرة محطمة فنزحت إلى المدينة، وهناك صادفت أخلاقًا جديدة وأسلوبًا مغايرًا في السلوك والعلاقة البشرية، فما كان منها إلا أن انساقت، لا وراء نزواتها، ولكن وراء مطالب العيش القاسية، ومصدر الأزمة والعقدة فيها هو ضياع الأرض وما ترتب عن ذلك من تشريد وانحراف.

وكما صنع غلاب في قصته «مات قرير العين» حين عمد إلى جعل الزوجة منطلق الحديث القصصي من خلال مناجاتها ودفع «زهرة» في «المظلومة» لتنقل لنا وتروي الفاجعة وأثرها، غير أن غلاب هنا يستخدم طريقة القص القديمة المعروفة في الحكايات والأخبار معتمدًا الراوي في الخبر: «حدثني الصديق حديثها قال: «… والخبر يسرد على لسانها تحكيه كما تروى كل الحكايات، رغم ما يحاول القاص أن يدخله من تلوين ووصف لدخيلة الشخصية، هذا الوصف الذي يظل عند حدود الصورة الخارجية، والذي يريد به إضفاء المسحة الواقعية لما يحكيه، فجاء فهم الواقعية لديه جد مبسط، بعيدًا عن صفاته الأولية التي تتعمق الشخصية والحدث وتستقرئ التجربة الفنية بدون افتعال أو تمحل، فتجيء في مقياس الواقع، تعلن عنه وتحبل بدلالات تتجاوز المرئي المعاين، بحيث لا يجمد الواقع في العمل الفني بل يمسي مصدر إشعاع دائم للحياة والقيم والأحاسيس ومثار تنازع في الفهم والتأويل، تقول ناتالي ساروت: «هناك نوعان من الواقع والواقعية، بالنسبة للكاتب، الواقع الذي يعيش فيه ويراه الناس جميعًا منذ الوهلة الأولى، وهذا الواقع هو الذي تعيش فيه الحياة اليومية، وهو أيضًا الذي درسته واستخدمته وعبرت عنه مرارًا الأشكال الأدبية المطروقة، وهذا الواقع اليوم مجال الصحافة ويعتمد التعبير عنه على الوثائق والتحقيق الصحفي، ولكن هذا الواقع ليس المجال الذي تعمل فيه طاقة القصاص الخلاقة، فواقع القاص هو ما لم يعرف بعد، وهو بالتالي لا يمكن التعبير عنه بالأشكال المطروقة والمعروفة بل يقتضي إبداع طرق جديدة للتعبير وأشكال فنية جديدة. إن الفن كما يقول بول كلي: «لا يرينا ما هو منظور بل يجعل ما لا نراه منظورًا.»»٥١
لكن غلاب يصرف النظر عن هذا كله ويختلط فهمه لحكاية فنية القصة القصيرة فيسرد علينا حديثًا طويلًا على لسان البطلة، وبدلًا من أن يتولد الحدث ويتحرك أمام أبصارنا تتم تغطيته من فوق، فإذا بين التجربة القصصية والخبر المسرود هوة سحيقة لم تستطع الأحداث سدها فبقيت مفتوحة لتمتلئ بالشوائب والعيوب، فالزمن، مثلًا، لا يتطور تطورًا طبيعيًّا ولكن يخضع لمنطق الحكاية والطفرة، بدون تعليل أو تسلسل «وتعاقبت الأيام سراعًا» و«مرت شهور من شتاء قاسٍ مرير». والفعل القصصي يأتي كمحصلة لخبر مسرود ببرودة «وهكذا تلفتنا نحن الأخوة الثلاثة فوجدنا أنفسنا وقد سلبتنا الأقدار، عطف الأبوين وعز العائلة ومجد الثروة وتجربة الحياة»٥٢ … «ثلاثة أطفال جردتهم الحياة من كل وسيلة الصراع والمقاومة … لكن أمامهم شبابًا يندفعون نحوه بكل ما يملكون من قوة الحياة، ومن حول باديتهم مدن تزخر بالنشاط تجتذب إليها قلوب الشباب والشابات الذين ينطلقون إلى حياة أكثر رفاهية، أو الذين لفظتهم البادية وحياتهم القاسية، إلى المعامل والمصانع وإلى الخدمة في بيوت المغاربة والأوروبيين.»٥٣
وتجربة الشخصية والإفصاح عن ذاتيتها يستحيل ملصقات من الكلمات يجوز أن تستخدم في أكثر من موضع وسياق. وليس بالضرورة عن «زهرة» ومأساتها: «تعلمت أن أحتقر الحياء والخجل فبدأت أصحب الشباب لأقضي معهم فترات من أوقات الفراغ ولأسمع في زهو وخيلاء إلى نشيدهم الذي يرتلونه على مذبح الفضيلة والكرامة والعفة.»٥٤

ولأن غلاب لم يمتلك بعد ناصية القص الفني وما زال خاضعًا لحرفية الواقع مخلصًا للفكرة أكثر من الفن، فهو لم يتورع عن إنهاء قصته بمقطع بلاغي وخطابي شبيه بمقاطع المنفلوطي الوصفية الوعظية، بعيدة كل البعد عن النفس القصصي، منفصل عن التيار الحدثي المشلول أصلًا، وفي، ولا غرابة لمناخ المقالة القصصية ونهايتها: «أتريد أيها الفضولي أن تعرف سر حياتي؟»

إنه سر الزهرة اليانعة التي نبتت في الحقل الخصب المزهر فقطفتها يد أثيمة في قوة وعنف لتلقي بها في الوحل المدنس، وما هو بذنب الزهرة اليانعة، أن تدنست أعطافها وفاحت منها رائحة كريهة تعمر ما كان ينبع منها من عبق طاهر كريم ولكنه ذنب اليد الأثيمة! ابحث عنها فستجدها في كل ما يحيط بك من أجواء وفي مجتمعك الذي تعيش فيه، أو أكرهت، أن تعيش فيه.»٥٥

لم نكُن مغالين حين زعمنا أن قصص ما بعد الاستقلال لم تستطع أن تتواجد ضمن القالب القصصي القصير، وإنما ظلت تتعثر في محاولة الانضباط داخله، تغزوها السمات والرواسب القديمة فتلجم ما قد يكون من طموح لدى القصاصين لتجاوزها، وإن فعلوا ذلك أحيانًا.

وفي الجملة تبقى قضية الأرض شاغل غلاب الأساسي، فكأنما وجد هذا القاص ليتبناها ويتخذ من فنه أداة للذود عن مغتصبيها. في قصته «ابن مجهول.»٥٦ نلتقي ثانية، بنفس الموضوع، الأرض التي تغتصب ويتعرض الفرد من جرائها للضياع والتشرد، بل والسجن أيضًا، هذه هي أزمة عبد الرحمن، إنهم يلفقون له جريمة ويودعونه السجن «عشر سنوات»، وتغتصب أرضه، وحين يطلق سراحه يلقي الضياع والتشرد من جديد إلى أن يحتضنه السجن ثانية.
في هذه القصة، وعلى صعيد المضمون كعنصر بارز، يوفق غلاب في الربط بين الموضوع الرئيسي، ضياع الأرض، وبين فقدان الحرية كنتيجة فيلتقي الأمران، معًا، في رؤية فكرية متكاملة تجعل في ضياع الأرض فقدانًا للحرية، ومن ضياع هاته سبيلًا لتلك بل وأهم من ذلك حين تتحول الحرية إلى مرادف للعبودية في مجتمع بلا ضمانات ولا فرض للعيش فيه: تحررت من دنيا السجون، ولكني أصبحت سجينًا في دنيا الحرية … ما مقامي بين هؤلاء الذين أراهم فيتجاهلونني، وأنتسب إليهم لينكروني، وأتوق إلى الحديث إليهم فيزدروا بي؟ مع من سأعيش في دنيا الناس هذه؟ البؤس والحرمان يتهددني»٥٧ هذه الدلالة تجتاح القصة وتشرق في سمائها، ولتكون المحمدة الوحيدة في هذه القضية، ﻓ «ابن مجهول» لا تقدم لنا عملًا فنيًّا تحكمه حبكة متماسكة وإنما تعطينا، بسخاء، فقرات خطابية كاملة، وغلاب بدلًا من أن يعمد إلى التصوير وتجسيم الانفعالات الشخصية ودفعها في سياق الصراع، بين الشد والجذب، يملي عليها أفكاره وآراءه، وشحنها بانفعاله وحماسه، فتنطلق هادرة بالكلمات الرنانة والعبارات ذات النبرة الخطابية والدلالات التقريرية: «كل تلك الأرض التي تركها أجدادي بجهود عضلاتهم وسقوها بعرق جسمهم حتى أخصبت وأينعت وأضحت تهوى لثمارها أفئدة الطامعين … كل تلك الأرض أضحت في يد عصابة … من … من … لا أقولها»٥٨ «سأكافح … في عروقي دماء من آبائي الذين كافحوا الفقر والجوع والبؤس حتى شبعوا واغتنوا وتنعموا فلم يركبهم الدهر، ولم يذلهم الزمان ولن أكون دونهم، سأكافح، سأغتني، سأنتصر على البؤس والحرمان والفقر.»٥٩

فالخطابية توقف تيار الحدث وتشله فتأتي أجزاؤه متباعدة، وبدلًا من أن يتحرك في سياق منتظم ومن أجل قصد للتعبير عن الأزمة، نجد إطار القصة ينفصل ويتفكك تدريجيًّا حتى ليكاد يتحول إلى لوحة إنشائية فضفاضة، وهذا عائد، أصلًا، إلى عدم التناسب بين عناصر البناء القصصي وإلى انعدام التركيز، وهذا يؤدي في النهاية، إلى إضحال حصة القصة من الفن وانحباسها ضمن أطر الفكر والتعبير المقالي، وهي مرحلة متجاوزة، وكان حريًا بغلاب أن يوفر لموضوعه بناءً معماريًّا أكثر تماسكًا ولغة قصصية بعيدة عن النبرة الخطابية وعن السرد التقريري.

على أن وراء كل هذه الشوائب فقدان الفهم الحق لروح الواقعية ومعنى الالتزام بقضايا المجتمع في الفن، وهذه بلا شك، قضية شائكة، لم يكن بوسع غلاب أن يجيب عنها آنئذٍ، بل إنها ستستعصي على من أتوا بعده من قصاصي الستينيات، ممَّن تطرح كتاباتهم هذه الإشكالية.

والقصاصون الثلاثة الذين وقفنا عندهم في مضمار القصة ذات المضمون الاجتماعي عالج كلٌّ منهم الواقع من منظار خاص وبقناعة فكرية متميزة، ولكنهم، اتفقوا جميعهم، تقريبًا، في النظر إلى موادهم بعين محايدة وبإحساس يتسم ببعض البرود، فسجلوا الواقع تسجيلًا حرفيًّا دون أن يتخلل ذلك التسجيل أي عنصر ذاتي، وهذا التخيل أو المزج هو ما يقترحه القاص المغربي عبد الجبار السحيمي على مسار القصة القصيرة المغربية في هذه الفترة المدروسة.

(٧) عبد الجبار السحيمي والبطل المأزوم

تبدو قصص عبد الجبار السحيمي للدارس، منذ البداية، ومع اعتبار مع سبقها من نصوص قصصية، وكأنها تسعى إلى الالتقاء بالواقع والالتصاق معه بدون وسيط، أي بعيدًا عن أي إملاء ذهني أو تخطيطي مسبق يحدد لها قناة عبورها ويربك تتابع خطواتها. وما يجذب السحيمي إلى الواقع ليس الظواهر البارزة فيه أو الوقائع المثيرة، بل إن ما يلفت حسه القصصي هو وضعية الفرد وأزمته ضمن الظاهرة أو الأزمة، وهو يتوجه إلى مخاطبة هذا الفرد واستكناهه، وجعل معضلته مجسدة على مسافة الواقع الممتد. غير أنه لا يقف عند حدود هذه المرحلة التي قد تزيغ به عن قضية الواقع ككل، بل إنه، وفي حدود قيمة التجربة القصصية وجماليتها، ينمي الأزمة ليجعلها تكتسح ما حولها فتصبح هي قضية المجتمع الأولي. ويكون في مستوى التخمين، على الأقل، قد كسب الأمرين معًا: أي زاوج بين الأزمتين كلتيهما بتذويبهما في عجينة واحدة تكونت في رحم الذات والواقع. وأهمية هذه العملية تأتي لتثري الواقع وتنفث فيه حياة لم تكن فيه، فالقصاصون السابقون كانوا يقدمون لنا، إما حالات متيبسة كالصخر ومن منظور محايد بل جامد، من غير أن يضعوا يدهم على موقع النبض والرعشة في الحياة أمامهم، منطلقين في ذلك من مفهوم متيبس للواقع والواقعية، يعتقد بحتمية نقل الظاهرة بحذافيرها، أو يتقمص أقنعة الوعظ وتكرار السرد التقريري الخطابي. أما من وجدنا عندهم غير هذا، فقد كانوا يغرقوننا في سبيل من الآهات واللوعة في إهاب رومانسي رث، لا ينتهي لا إلى القصة ولا إلى الخاطرة.

على أن هذا كله يعزى إلى منطق المحاولة التي تخطئ وتصيب، وقد كان القاص المغربي يتلمس طريقه وسط ذلك كله، وكان رصيده من الطموح أقوى من رصيده في الفن، وفي الفن القصصي لا بد من الدربة الطويلة والعين اليقظة المتربصة، والرؤية الجزئية الكلية. ونحن لا نزعم بأي حال بأن عبد الجبار السحيمي قد امتلك هذه القدرات ولكننا نذهب إلى أنه، خلافًا لسابقيه، حاول أن يقرب الشقة بين الخاص والعام، وأن يتسلل إلى هذا العالم من منطلق الأزمة الخاصة التي تملك في عناصر تكوينها الأولى، قابلية النماء والشمول، ويبقى هذا في حدود المحاولة وليس في مستوى الإصابة وبلوغ المرمى المنشود؛ إذ إن قصص السحيمي هي الأخرى تحفل بكثير من شوائب النماذج التي سبقتها وتلتقي بعثرات مر بها من قبله ولم يتجنبها، ولذلك فما قصدناه يوجد، فقط، على صعيد الرؤية، وليس مطبقًا في أقسام العمل القصصي، مما يمكن استشفافه والوقوف عليه في كثير من قصص الواقعية المجددة في الستينيات.

يقدم لنا عبد الجبار السحيمي في قصته «رجل له قيمة»٦٠ حكاية الشيخ إدريس في الحارة الصغيرة التي لا تعيره اهتمامًا ولا توليه اعتبارًا، وقد صادفت هذه اللامبالاة من السكان ميلًا جارفًا لدى الشيخ في طلب الاعتبار، والشره في اكتساب القيمة، أن يكون الإنسان ذا قيمة في المجتمع: «إنني لا أبحث في هذه الدنيا إلا على أن أكون رجلًا له قيمة» مما أذكى ميله وصعد أزمته، وقد كان يعمد في سعيه لاكتساب القيمة إلى توزيع «الريالات» على أطفال الحارة: «عندما كنت ألهو في الحارة مع زملائي الصغار، وعندما كان يطيب لنا أن نسخر منه بعض الشيء، فنتقدم إليه في صف طويل، لنمضي بتقبيل يده «الكريمة» ولنظفر ببعض الريالات التي كان يمنحنا إياها مقابل أن نقبل يده»٦١ وعن طريق ملاحقة الصبي الشيخ إدريس الذي ليس سوى متسول بالأحياء الأوروبية، يستجدي صدقات الأوروبيين والميسورين لتنزف منه في جيوب الأطفال المترددين إليه.
وتبرز أول قيمة لهذه القصة في كونها اتجهت منذ البداية، حاشدة كل إمكانيات السرد والحوار، وبتركيز على الشيخ وعلاقته بسكان الحارة، لإبراز المفارقة المذكورة، هذه المفارقة هي التي تأتي لتكشف ناحية عن التنافس المريع في شخصية «الشيخ إدريس» المأزومة والكامنة أزمتها في البحث عن القيمة، ومن ناحية ثانية في إلقائها الضوء على النموذج البشري الذي تصطرع بداخله الرغبات، ويتضاد طموحه بواقعه، ويقوده فقر الواقع وشحه إلى خداع للذات يتلهى به عن أزمته الحقيقية، فلا تجديه البذلة العصرية فتيلًا بدل الجلباب، كما لا يجديه الزواج ولا الريالات المبعثرة، فقد: «كانت نفس الابتسامات الساخرة التي يوجهها إليه الصغار والكبار، ونفس الإهمال الذي كان يعرفه قبل أن يرتدي بذلته العصرية. وقبل أن يتزوج، وحين تنسد أمامه جميع السبل لتحقيق القيمة المفقودة، يفكر جادًّا في نصيحة الكاتب التي جاءت على لسان الفتى: «مت يا شيخ، اقتل نفسك، افعل أي شيء لتنتقل من هذا العالم إلى عالم الموتى.»»٦٢ هذا هو الحل الذي يرتضيه القاص ويرى فيه حلًّا لأشكال هذا الفرد، الذي لا موضع له في الأرض، في عالم الصراع الحقيقي لا الوجود الزائف: «حقًّا إن الموتى رحمهم الله، يتمتعون بقيمة يحسدون عليها، إن جميع الناس يتحدثون عنهم حتى الذين لا يعرفونهم، آه … إنني عندما أموت، سوف يقول الناس: «لقد كان الشيخ إدريس رجلًا ذا قيمة، لقد كان رحمه الله …»»

إن «رجل له قيمة» بتوفيقها في رصد المفارقة وتشخيصها، على النحو الذي رأينا، تكون قد شكلت صورة قصصية، انسجمت فيها عناصر التشكيل القصصي وتماسكت لتبرز لنا صورة هذا النموذج-الواقع، في الظاهر وفي العمق، ودون أن يظهر ذلك على سطح هذه الصورة أي نتوء خارج من صميم التجربة وأصالتها.

وفي قصة أخرى «عائلة شريفة»٦٣ يقدم السحيمي بطلًا آخر يعاني أزمة فردية تتولد منها الأزمة في المجتمع وفيها أيضًا يقصد إلى منطق المفارقة، ويتوجه إلى كافة عناصر القصة ومكوناتها، وفي الوقت الذي تمتد فيه يد القاص لحفر أزمة البطل تتسع الحفرة تدريجيًّا لتحتويه وتحتوي مجتمعه ف «هو» في «عائلة شريفة» يمثل حالة وجد وحب، لكنها بالنسبة للعائلة الشريفة، حالة ستلحق العار والخزي بالأسرة ومجدها التليد. إذ كيف يحب ويتزوج فتاة فقيرة من بنات الأحياء القصديرية، وحين تذعن الأسرة مستسلمة لأمره يحدث الشرخ وتتم المفارقة: «انتصر على عشرات الأجسام البضة البيضاء من أجل اللون الأسمر كأنه القمح، وذهب أبوه في سيارته المجنحة إلى حي القصدير؛ ليراه المرة الأولى في حياته، وأخبر أباها كأنه يأمره: إنه جاء ليخطب ابنته إلى السيد ابنه، ويطلب القرار بسرعة، فهو خجل من دخوله هذا الحي القذر، وقرر أبو الفتاة بسرعة، وألقى قراره بشفتين مزمومتين ووجه جامد «لا، إن مستواكم غير مستوانا، إننا عائلة شريفة!»»، ورغم ما يبدو من تلفيقية في هذه النهاية فإنها قد حملت الصراع في القصة وشارفت به حدود المفارقة الممثلة لعنصر درامي هام في القصة القصيرة.

وإذا كان عبد الجبار السحيمي يميل، كما ذكرنا، إلى المزاوجة بين البعدين الذاتي والواقعي، فإننا نجده فيما كتبه، لاحقًا، يتجه إلى تقمص أكبر للذات وبحث أعمق عن خصوصيتها وسعي أدأب لاستكناه خفاياها ولواعجها؛ إذ إنه بعد ذلك، يفك المعضلة ويتجاوز تلك الازدواجية لينتقل إلى الموقع الذي يلائمه أكثر ويطابق نفسيته وميله، وهو موقع معاناة وتأمل، حدس واستبطان، تضام للمرئي والمحسوس، والتفاف الواقع بالوجود، في بوتقة واحدة تصهر كل تلك العناصر وتدمجها في بعضها وتصنع منها مخلوقًا جديدًا لم تعرفه القصة القصيرة المغربية من قبل ولم يسطع في أفق قصاص، فيما أحسب.

هذا المخلوق يتمثل في الرؤية الذاتية للواقع والوجود، حين تتحول هذه الرؤية إلى نسيج يحبل بتجربة جديدة في لغة بسيطة شفافة تشغف العين وتخاطب الوجدان، تنشد التبليغ وأداتها الهمس والتصوير، تعبر عن الذات وتطمح إلى أن تكون ذاتها محورًا لرؤيا الوجود وهواجس مخلوقاته.

«في المدينة»٦٤ هي القصة التي تحتفل بهذه الرؤية الذاتية وتذكي من محتواها لتجعلها تتسع فترفد الذات فيها الموضوع في محمول واحد، هو التجربة القصصية.
وأول ما يثير في هذه القصة أنها لا تقدم لنا الخبر الذي اعتدنا أن نعرفه في القصة القصيرة، كما أنها تتحلل من كل العناصر الكلاسيكية القص الفني، قاطعة الصلة بالوحدات الثلاث المعروفة. إذ إنها تنقل إلينا التجربة أو الحدث، إذا جاز أن يكون حدثًا، على صعيد تجريدي وفي زحمة الانفعال والشعور، والزمن الذي تتطور فيه القصة وتنمو زمن نفسي خالص: «ومن الساعة المعلقة عند طرفي الشارع انطلقت دقات كثيرة … مائة … مائتان ألف، كانت الساعة تحسب عمر الزمان … عمر الصمت والحزن في المدينة»٦٥ هو زمن نفسي لأنه يكسر الزمن الحقيقي ويتخطاه ويصنع مؤشراته الخاصة التي تتراقص على مسافة الحلم-الواقع، ويسمع دقاته من نبض الأحاسيس وذبذبات الشعور العارم الذي يكتسح النفس بموت الأب فموت الشمس، أو موت الأب-الشمس، تنطلق القصة من هذا الموت: «الشمس تموت في السماء شاحبة كما كان وجه أبي شاحبًا وهو يموت، قولي وصيتك أيتها الشمس، كما قالها أبي قبل أن يموت.»٦٦ هذه العبارات الأولى في نسيج اللوحة، وهي تحدد أول ما تحدد المرتكز الواقعي الذاتي للقصة، وتظللها للوهلة ببرقع رومانسي. وتكون العلاقة الثانية في محيط اللوحة هي المعضلة التي نتجت عن موت الأب، موت الشمس التي كانت تشرق على الأسرة: «أنا أحفظ وصيته، رأيت في عينيه صورة كبيرة لأمي وأخواتي الصغيرات، ثم قال لي: ارعهم أنت بعدي.»٦٧

تلك هي خطوط الأزمة في مظهرها الواقعي، كما عاناها البطل، ولو اقتصر الأمر على هذه الخطوط لما كانت للقصة أهمية أو لما توفرت على أية إثارة وجاذبية، فما أكثر القصص التي عالجت موضوع اليتم وما يخالفه فقدان الأب من نكبات وتبعات، ولكنها، كلها كانت، إما تحاول استدرار العطف والدموع، أو تنحي باللائمة على غبن الحياة ومظالمها. أما «في المدينة» فهي تقدم لنا هذه المعضلة ذاتها ولكن، وهذا هو الفارق الأول، من منظور ذات أي من خلال انعكاس الفعل الخارجي على الذات ورد الفعل إزاء مأساتها وفي رد الفعل هذا يكمن الفارق الثاني لينقل المأساة من حدود الذات المحاصرة بأزمتها الخاصة إلى امتداد فسيح هو الوجود بأكمله، وتحت ثقل الألم الكابس تتم عملية الإسقاط على الواقع الخارجي، الذي ينحني على الذات ليشف بأحزانها فيتخذ ميسمها وينطوي على مكامنها، وهذا، بالضبط، هو ما يشكل أزمة البطل ومعضلته.

من البدء يأخذ موت الأب صورة موت الشمس، فهما، معًا، قد ماتا وووريا التراب تاركين البطل لعذابه المتفرد: «لم يسألني أحد لماذا أبكي فهم لا يعرفون أن الشمس قد ماتت، ولم توصي بي أحدًا.»٦٨ هو عذاب متفرد رغم أساسية الموضوعي وشرط وجوده، عذاب خاص أكثر من حجم الواقع، بل إن هذا الأخير ينطوي فيه ويعنو له، وأزمة كهاته تحمل صاحبها لتقف به على حافة الاغتراب أو تجعله في وضع الشاة الجرباء من القطيع السليم: «ظلت قدماي تضربان أرض الشارع في المدينة الكبيرة الصامتة، والوجوه تمر بي سريعة، دون أن تقف، دون أن ترد على ابتسامتي.»٦٩

إنها الغربة إذَن وأي غربة هي؟ ما حقيقتها وما مصدرها؟ أو يكون موت الأب وحده حافزًا على هذا الامتلاء الغامر بالحزن وعلى استشعار هذه الوحدة الكثيفة: «المدينة فارغة تمامًا في الليل، والناس الذين مروا بي لم يردوا على ابتسامتي، لم يعرفوني» و«رحت أفكر في المدينة الكبيرة التي لا يبتسم أهلوها، لا يعرفون أحدًا لا يتحدثون».

إن الفعل الخارجي كل هذه السوداوية وما يجنح إليه القاص من التأكد على هوية الاغتراب، ومن تشكيل البعد الميتافيزيقي للموت، بحيث إن الرنين الذي يسمع في القصة بأكملها هو رنين الموت وما يرى هو شبحه وقد تسربل بكفن أحزان البطل ودفن مع الأب والشمس. ومما لا شك فيه أن قسمًا كبيرًا من هذه الأحزان مبعثه التأثر، إما بالأدب الرومانسي الذي يحتفل أيما احتفال بالعامل الذاتي والمأساوي منه على الخصوص، والتأثر أيضًا بالأدب الوجودي الذي يعنى بالفرد في عالم مزقته الحروب ونهشت ذاكرته وفتتت وجدانه، ويجعل منه محور كل شيء في مسيرة طويلة لتأكيد الهوية ونحو مزيد من الانفصال عن الواقع المضلل. ولا شك، كذلك، أن لمزاج الكاتب ونفسيته دورًا لا يمكن تجاهله أخيرًا.

ولعل هذه العوامل مجتمعة هي التي تضافرت لتقدم لنا «في المدينة» قصة تملك من نصيب الواقع «فعلًا» بسيطًا أخذ ينتفخ ويتضخم من خلال ذات مأزومة حتى استحال، بحق: نموذجًا لبطل مأزوم فوق واقعه، قصة تعتمد العبارات الشفافة والكلمة الشاعرية والخيال الشعري والصورة الموحية. وهي بعد ذلك، وفوق ذلك، حديث شجي لنفس معذبة لو لم يكن الموت مبعثه لتقدم إلينا في شكل خاطرة. ويخيل إلي أن السحيمي كان ينوي شيئًا آخر غير القصة، أحسب أنه كان مهمومًا بالقالب التعبيري الذي يناسب مزاجه ويوافق فيض ذاته، وقد وجده بالفعل، وتهيأ له فيه الكثير، حتى أصبح به صاحب اتجاه وذوق في كتابه المذكرات والخاطرة.

(٨) خلاصات

مع عبد الجبار السحيمي نقف عند نهاية كتاب هذه المرحلة من تاريخ القصة القصيرة بالمغرب وتطورها، وهذا لا يعني أنهم، وحدهم، كانوا في الميدان إبانها، وإنما كان اقتصارنا على من له كثرة من القصص ترسم خط تطور فكري وفني بذاته.

وقد تميزت هذه المرحلة في جانب معالجة الموضوع بمضمونين اثنين:
  • (أ)

    المضمون الكفاحي النضالي

  • (ب)

    المضمون الاجتماعي الواقعي

تميز الأول:
  • بالحماس الشديد للموضوع والانفعال لذكريات الكفاح والاحتفال بالبطولة والتضحية من أجل الوطن وقيمة الحرية.

  • بالروح التفاؤلية التي تجعل المستعمر يندحر في كل المواقف والوطنيين يحصدون بذور كفاحهم وشجاعتهم.

  • التركيز على البطولة الفردية، أي جعل الفرد محور البطولة والنضال وعلى يديه يتحقق النصر ويزهق الباطل.

(٨-١) وعلى صعيد الشكل الفني

يؤلف السرد أهم عنصر من عناصر القصة إذ بواسطته تتم رواية الخبر وتشكيل الحدث وتطويره والوصول به إلى لحظة التنوير. أما الحوار، فهو في غالب الأحيان يرد مكملًا للسرد منبثقًا عنه وتابعًا له، وقليلًا ما يسهم في إنماء الحدث أو شرح شعور الشخصية، وإن فعل، فالتكلف والابتعاد عن روح الفن، أو الحوار الفني سماته الأساسية.

وعلى الرغم من حرص القصاصين لتوفير الوحدات الثلاث لقصصهم، فإننا لا نجد أي تناسب بين هذه الوحدات، فالمقدمة تطول طولًا مسرفًا لا يتناسب مع حجم القصة القصيرة ولا ينسجم مع ما يعرف عنها من اقتصاد وتركيز. والعقدة لا يتم بناؤها بحسب التسلسل الضروري باعتبار العلة والمعلول، وإنما بصورة ناشزة ومفككة، أما الحل فغالبًا ما يأتي فجائيًّا حاسمًا ليضع حدًّا للباطل وإعلانًا للحق، بكيفية ساذجة، تظهر، في النهاية، تهافت الحبكة والشكل القصصي، الذي يظهر وقد استعار سمت الصورة القصصية حينًا والقصة التقليدية حينًا آخر، والمقالة القصصية في بعض الأحايين.

أما الشخصية القصصية فهي أشبه بتجويف خشبي قد مُلئ قشًّا، ووضعها على هذه الشاكلة يجعلها مفرغة أو تكاد، إذ لا تملك أن يصدر عنها أي فعل أو فكرة أو تدخل لأنها لا تقبض على عنان حركتها ولا تنمو بما يوافق خصوصيتها، ولا تستطيع أن تحقق هويتها بما يكفل لها الوجود الحي المتميز داخل النص، فهي مجرد أداة طيعة في يد القاص، عجينة يشكل منها ما يشاء وبالكيفية التي يشاء، ليجعل منها في الأغلب، بوقًا لأفكاره، ومصداحًا تنفجر منه حماسته وانفعاله، فيغمطها بذلك حقها ويتساهل في أصل وجودها، وينبذها نبذًا تامًّا، وحين يفعل ذلك فإنه يكون قد ساهم أو عمل على نبذ أهم ركن من أركان القصة.

(٨-٢) أما المضمون الاجتماعي الواقعي

فقد رصد الواقع وسعى للتعبير عن بعض جزئياته وعمومياته، ولكن التعبير عن الواقع وتبني القضية الاجتماعية لم يكن واحدًا عند كل من تناولوه: فمنهم من ارتكن إلى الظاهرة الاجتماعية يؤطرها ويحصرها جاعلًا منها، في قالبه القصصي، المعادل الجمالي للواقع ككل. ولذلك فهو من الناحية الأولى لا يقف عند جوهر اللقطة القصصية ومثار اهتمام القصة القصيرة التي ترصد التفصيل الصغير، واللحظة العابرة، تنتخبها من بين ركام الأحداث والصور، فتصقلها وتعرضها على مجهر الواقع النابض وتستشف منها الحاضر وتكون مرآة للمستقبل بحيث لا يتحول الواقع، حينئذٍ، إلى قطعة جامدة أو مادة كلسية عديمة الليونة والإيحاء. وهي من الناحية الأخرى، على الرغم من ارتكانها إلى الواقعية في التصوير، تميل إلى ما يسمى بالنمطية الفنية التي تختزل الشخصية في سمات فكرية عامة.

ومنهم من عمد، بغاية الوفاء للواقع وقضايا المجتمع.
  • أولًا: إلى تبني مفهوم ساذج للواقعية، حرفي، تسجيلي، يفهم من الواقع كل ظاهر منه ومشهور، فيتم سرد الخبر حسب نموذج الخبر العادي بتفصيلاته وجزئياته الزائدة دون تقصد أو اختزال.
  • ثانيًا: إلى التجول بالعدسة القصصية في زوايا وأركان مختلفة من حياة الناس والتقاط أدق أنماط عيشهم وسلوكهم وتقلبهم مع أحوال الدهر. ولكن العدسة تلتقط الكل وتضعه في لوحة ذات شطرين متعادلين ومنسجمين، تغطيهما في النهاية، ودومًا، غلالة الانفراج وتشرق في أفقها بوارق الأمل والخلاص.
  • ثالثًا: إلى استكناه خبايا الذات والاستقاء من معينها، مع سعي للالتقاء بخامة الواقع الخارجي، أحيانًا، في معادلة توازي بينهما، وتارة في احتلاب للمشاعر، مشاعر النفس الدفينة والإغراق في الذاتية التي تشحب الموضوع وتقلص من حجمه وسلطته.

أما الشكل الفني الذي رافق خطى هذه الواقعية وتلك النظرة المجتمعة فهو:

مستقى منها، مستنبت من جذورها وأشكال تبلورها، فالفهم الذي ساد أذهان قصاصي هذه الفترة للواقعية، والنظرة التي لونت نظرتهم للواقع، والمعنى الذي اكتسبوه عن المجتمع. كل ذلك هو ما لون وغلف كتاباتهم واصطبغ به الشكل الفني عندهم، كما يمكن إيجازه في التالي:
  • (١)

    اعتماد الوحدات الثلاث للقصة القصيرة، اعتمادًا متوافقًا ومتناسبًا أحيانًا، ومختلًّا في أحيان أخرى، غير متوازن، يطغي قسم منه على بقية الأقسام.

  • (٢)

    اعتماد عناصر النسيج القصصي من سرد وحوار ووصف وغيرها لعرض الخبر وتأسيس الحدث وإنمائه وتطويره، والدفع به إلى مصبه النهائي ومن الملاحظ أن هذه العناصر تستخدم بتفاوت كبير: فالسرد هو العنصر الغالب وهو متعدد عند مختلف القصاصين، ولكنه يتميز بإسهابه وتعميمه وبعده عن الدقة والاقتصاد المطلوبين في القصة القصيرة، مباشر وتقريري في كثير من فقراته، وهذا ما يفقده سمة الإيحاء وبارقة الإشعاع، يستخدم الكلمات والتعابير الطنانة، مما يلجم قدرة التصوير فيه ويجمده عند حافة التقرير السريع، ذي الدلالة الواحدة، وقليلًا ما نجد السرد يأتي ملائمًا لطبيعة التجربة القصصية، مطاوعًا لمقتضياتها.

    أما الحوار فينطبق عليه ما قلناه، سلفًا، من قصص الكفاح الوطنية، إذ هو استمرار للسرد، نادرًا ما يستقل بذاته ويكشف عن صميم تكوينه وتأليفه على إبراز الحدث وتكميله والإفصاح عن دخيلة الشخصية. كما لاحظنا سعي بعض القصاصين إلى استعمال الحوار الداخلي ولكنهم ينحرفون إلى المناجاة البسيطة التي تختلط بالتجرد في غالب الأحيان.

  • (٣)

    إن الشكل القصصي لهذه الفترة في مجمله سعى جاهدًا للتخلص من زعانف الشكل القصصي البدائي، وذلك الذي تطور عنه، وجهد أيضًا في سعيه للاتصال بالقالب القصصي القصير في شكله المتكامل الناضج، وهو إذا كان قد سار على هدى من خصائص القصة القصيرة الكلاسيكية، التيمورية ونظائرها في الشرق العربي، فقد عز عن بلوغ الجوهري في القصة القصيرة الكلاسيكية، والمتمثل في احتواء اللحظة العابرة واللقطة العارضة والإشارة البارقة، المعبرة عن الذات أو الواقع وإدخالها في قالب الفن الذي يشذب أطرافها الزائدة ويقدمها مصقولة تشع بالدلالات، أصيلة وفي بعد عن الهجنة، هجنة الأشكال المتداخلة التي قد تكون قصة وقد تكون أي شيء آخَر.

لقد كانت هذه المرحلة في الاستقلال ذيلًا لما قبلها، وهذا نتيجة أساسية، ولم يكن بوسع القصة القصيرة أن تظفر إلى صعيد أعلى، لم تكن الظروف الثقافية والموضوعية قد تهيأت له بعد، ولذلك فقد كانت شوطًا لا يستهان به في طريق القص الفني الذي سيتبلور في أشكاله الدقيقة والفنية وفي اتجاهاته ومضامينه المتطورة خلال المراحل المختلفة من الستينيات.

هوامش

(١) العلم، ع ٢٤٣٠، ١٧ يناير، ١٩٥٧م.
(٢) رسالة المغرب، مايو، ١٩٥٢م.
(٣) محمد الحبيب الفرقاني، من مواليد تحناوت بضواحي مراكش، في ١٨ دجنبر ١٩٢٢م.
(٤) رسالة الأديب، ع٤، أبريل، ١٩٥٨م، يزيد محمد الحبيب قائلًا في المصدر ذاته:

«… الأدب مسئول أن يعيش هموم الحياة وآلامها وآمالها، وينزل إلى الجماهير الكادحة الهاجعة ليحركها ويوقظها، ويبعث في جوانبها الحركة والتمرد والحياة والأمل. إن الأديب ليس فنانًا فقط، ولكنه حامل رسالة اجتماعية وأمانة إنسانية كبرى. ولذلك فهو فنان ومسئول، وإنما تقوم هذه المسئولية على استطاعاته أكثر من غيره بتحسس الحياة وما تعج به من آلام وآمال … وإن سلبية الأدب المغربي المعاصر، وانطوائية أغلبية أدبائنا قد أفقدت أدبنا كثيرًا من القيمة الإنسانية المتوخاة منه، وزاغت به عن الدور الذي عليه أن يضطلع به في ظروفنا الراهنة. إن على كتابنا وشعرائنا وفنانينا أن ينسجموا مع محيطهم وظروف مجتمعهم، وعليهم أن يعيشوا هذه الظروف، ويذيبوا عواطفهم في هذا المحيط، ليعلموا أمتهم أحسن ما يحسون، ويوحوا إليها في ظروفها الحائرة أفضل ما يشعرون، ويرسوا لعواطفها وآمالها الأمثولات، ويجددوا لثورتها المسالك والاتجاهات.»

(٥) أتاحت لي مشاركتي في حقل الكتابة القصصية بالمغرب، والوجود داخل اتحاد كتاب المغرب، وكذا حافز البحث، التعرف على عدد كبير من القصاصين. وقد كانت لي مع بعضهم جلسات أغلبها شفوي استجمعت خلالها عددًا من الملاحظات والانطباعات، عن قراءاتهم وتصورهم للكتابة القصصية القصيرة والأدب، عمومًا، ولم أشأ أن أثبت ذلك مقتصرًا على الإفادة منه كل ما سمح الظرف بذلك، ولأن اهتمامي كان بالأساس، منصبًّا على النصوص أقلبها وأستقرؤُها في سياق تطورها الداخلي والخارجي.
(٦) جريدة «الشعب» الجزائرية، ٤ نوفمبر ١٩٦٦م، سبق نشرها سنة ١٩٥٨م بجريدة العلم.
(٧) المصدر السابق.
(٨) المصدر السابق.
(٩) المصدر السابق.
(١٠) محمد القطيب التناني، من مواليد الدار البيضاء، حوالي ۱۹۳۰م، ومن الجيل الوسط لكتاب القصة القصيرة. يشتغل حاليًّا مديرًا لمدرسة ابتدائية بالدار البيضاء، وقد انقطع عن كتابة القصة.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) المصدر السابق.
(١٤) المصدر السابق.
(١٥) المصدر السابق.
(١٦) العلم، ٥ فبراير، ١٩٥٨م.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) المصدر السابق.
(١٩) مات قرير العين، دار الكتاب، الدار البيضاء، ١٩٦٥م، وهي قصص متفرقة نشرت قبل هذا التاريخ بكثير في جريدة العلم.
(٢٠) مات قرير العين، المصدر السابق، مقدمة المجموعة، ص٣.
(٢١) مات قرير العين، المصدر السابق، مقدمة المجموعة، ص٣.
(٢٢) المصدر السابق، ص٢٧.
(٢٣) المصدر السابق.
(٢٤) المصدر السابق.
(٢٥) المصدر السابق.
(٢٦) المصدر السابق.
(٢٧) مات قرير العين، المقدمة ص٤.
(٢٨) مات قرير العين، المقدمة ص٤.
(٢٩) قدر العدس، المطبعة الوطنية، الرباط، ١٩٦٤م، مكتوبة بسنوات قبل نشرها، يقول أشماعو في المقدمة: «صرفت أيامًا وشهورًا وأعوامًا عشرة في كتابتها وتنقيحها»، ص١١٩ من الكتاب المذكور.
(٣٠) قدر العدس، ص١٣.
(٣١) العلم، ٣٠ يونيو، ١٩٥٨م.
(٣٢) المصدر السابق.
(٣٣) مجلة رسالة الأديب المراكشية، س١، ع٤، أبريل، ١٩٥٨م.
(٣٤) المتسولة، ص١٢، المصدر المذكور.
(٣٥) المصدر السابق.
(٣٦) المصدر السابق.
(٣٧) بائعة الإحسان، جريدة الرأي العام، ٣ غشت ١٩٦٠م.
(٣٨) المصدر السابق.
(٣٩) المصدر السابق.
(٤٠) أحمد محمد أشماعو الوطنية، قصة السيد بلخير، قدر العدس، المطبعة الوطنية، الرباط، ١٩٦٤م، ص٥١.
(٤١) قدر العدس، ص٤٣.
(٤٢) المصدر السابق.
(٤٣) المصدر السابق، ص٧.
(٤٤) المصدر السابق.
(٤٥) المصدر السابق.
(٤٦) المصدر السابق.
(٤٧) المصدر السابق.
(٤٨) سعد الله ونوس، كاتب مسرحي وناقد سوري، دراسة عن القصة العربية، المعرفة السورية، ع٣٦، غشت ١٩٦٥م.
(٤٩) المصدر السابق.
(٥٠) المظلومة، مات قرير العين، ص١٣٨.
(٥١) حيدر حيدر، مجلة «المجلة»، القاهرة، أغسطس ١٩٧٠م، في مقال عن «القصة السورية».
(٥٢) عبد الكريم غلاب، المظلومة، مات قرير العين.
(٥٣) المصدر السابق.
(٥٤) المصدر السابق.
(٥٥) المصدر السابق.
(٥٦) ابن مجهول، مات قرير العين، ص٦٠.
(٥٧) الأمل الجميل، مات قرير العين.
(٥٨) العلم، ١١ نوفمبر ١٩٨٥م.
(٥٩) المصدر السابق.
(٦٠) المصدر السابق.
(٦١) العلم، ٨ يوليو ١٩٦٠م.
(٦٢) العلم، ٦ يناير ١٩٦١م.
(٦٣) المصدر السابق.
(٦٤) المصدر السابق.
(٦٥) المصدر السابق.
(٦٦) المصدر السابق.
(٦٧) المصدر السابق.
(٦٨) المصدر السابق.
(٦٩) بالإمكان الرجوع إلى جريدة العلم التي كتب فيها السحيمي مذكراته على امتداد الستينيات ثم «الخواطر الطائرة» خلال السنوات الأولى من السبعينيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤