الفصل الخامس
بين الصورة والأقصوصة الفنية
مدخل لأدب الاستقلال.
في الطريق إلى القصة القصيرة الفنية.
مضمون الكفاح الوطني وصورته في القصة.
المضمون الاجتماعي وصورته في قصص الاستقلال.
محمد أشماعو، صورة من الواقعية.
عبد الكريم غلاب وقضية الأرض في سياق الواقعية.
عبد الجبار السحيمي والبطل المأزوم.
خلاصات.
***
(١) مدخل لأدب الاستقلال
جاء استقلال المغرب سنة ١٩٥٦م ليضع حدًّا لسيطرة المستعمر السياسية وليفصل بين مرحلة التسلط وفقدان الحرية، والمرحلة التي ستشع في أفقها الحرية والكرامة. ويخطئ الذين يعتقدون أن إعلان الاستقلال وحده كفيل بتغيير الأحوال وتبديل موازين الأمور، وأن من شأن الحصول عليه الانتقال إلى طور جذري مختلف تمامًا عن سابقه، ذلك أن المهام الحقيقية للتغيير والتحرير الاقتصادي والاجتماعي والبناء الثقافي لا تتم بين عشية وضحاها، بل تتطلب أعوامًا إن لم نقُل أحقابًا، وهذه المهام هي التي تبرز حقيقة الاستقلال وتعطيه صفته وهويته الحقيقية. كما أن هذه حقيقة مشهودة ومتواترة لدى كل البلدان التي كسرت طوق الاستعمار حديثًا.
وتبعًا لهذه المسلمة فإن فجر الاستقلال في المغرب لم يكُن ليأتي بالكثير، وخاصة في الحقل الثقافي، أو بالنسبة للعقلية الثقافية والأدبية السائدتين آنئذٍ؛ إذ بقيت تلك العقلية على مستواها السابق، واستمر نفس المستوى والإمكانات الأدبية.
أما في السنوات الأولى للاستقلال، فقد خفت صوت النقد لجمود الأدب، ولا نكاد نعثر على ما يغني منه أو ما يسدد خطى الأدب في المغرب المستقل، عدا المقالة التي كتبها «محمد الحبيب الفرقاني» في مجلة رسالة الأديب، المراكشية، والتي تعد بحق المقالة التي استشعرت واقع الفكر والأدب عمومًا في المغرب لما بعد الاستقلال، والتي نجد في ثناياها رصدًا فكريًّا وتوجيهًا ثقافيًّا وأدبيًّا مديدًا، يخاطب ضمائر الكتاب ويضع اليد على الواقع الحي الجدير بالتعبير والبلورة، وهذه المقالة إذا كان لها ثقلها في ميزان النقد النظري، فإن لها ثقلًا أكبر يتمثل في إرهاصها للمضمون الاجتماعي الواقعي الذي تبنته كثير من قصص الاستقلال، وفي أنها مهدت للتحول الأدبي الذي ساد فيما بعد.
وإن هذه الصيحات والتوجيهات لم تذهب سُدًى؛ فقد وجدت آذانًا صاغية لدى ثلة من أدبائنا وقصاصينا، فاتجهوا يغرفون من الواقع ويقبسون من ضيائه، وسجلوا لنا تراثًا قصصيًّا لا يستهان بثقله الاجتماعي والوطني، سيكون موضع الدرس، الفني والفكري في الصفحات التالية.
(٢) بين الصورة والأقصوصة الفنية أو في الطريق إلى القصة القصيرة الفنية
أي النصوص القصصية التي تعد من ناحية التقييم الشكلي والمعالجة الفنية وسطًا بين الشكل القديم، أي القالب المقالي وقالب الصورة القصصية، وبين القصة القصيرة في شروطها وعناصرها المكتملة.
وبعبارة ثانية، إنها النصوص القصصية التي عمل كتابها جاهدين، من ناحية، التخلص من الشوائب القديمة التي كانت تعتري محاولات القصة القصيرة وهي في بداية الطريق متلكئة متعثرة، مفتقرة إلى العناصر الفنية الضرورية، التي تجعل منها مقبولة جماليًّا وفكريًّا، ومن ناحية ثانية، للوصول إلى الشكل الفني المصقول، واستيفاء شروط القص الفني القصير استيفاءً لا يخل بأحد جوانبه أو يجعلها ناشزة غير مواتية.
وإننا إذ نميل إلى اعتبار ما كتب من قصص بعد الاستقلال إلى مطلع الستينيات مرحلة وسطى، فلأننا نطلق هذه الملاحظات: سعى الكاتب الجاد لتلمس الطريق السوي للقصة القصيرة، بدلًا من التحنط في ضروب شتى من التعبير، كالمقالة أو الصورة أو الحكايات المبذولة للجميع، بحيث إن النصوص التي سندرسها ضمن هذه الحلقة، تشكل في جزء منها، وخاصة عند التناني، نماذج وقطعًا مكتملة، أو تكاد، من ناحية النمو الفني، وتمام خصائص النسيج القصصي في شكله المدرسي التيموري، (نسبة إلى محمود تيمور).
ومن غير شك فإن هذا التطور كان ضروريًّا بعد مسيرة ما يقرب من عقدين من الزمن شقتهما القصة القصيرة أو ما اصطلحنا، تجوزًا، على تسميته، كذلك، في الأدب المغربي الحديث.
هذا التطور كان ضروريًّا بالنظر إلى التجارب الأولى المتردية، والتي ما فتئت أن أخذت تنزع عنها السمات الهجينة لتبرز، في أخرى، أبعد عن التردي، وأدنى إلى النمو. فقد كانت المقالة القصصية، كما أسلفنا، هي اللون التعبيري الأول في مضمار هذا الجنس الأدبي (القصة القصيرة) بالمغرب، تمازجت فيها المباشرة بالحكاية والخطابة بالخبر، والتصريح بما يقرب التلميح، وتداخل الإطار الوصفي والتسجيلي بنبرات الوعظ والتهديد والوعيد. ولم يكن ثمة مهرب من هذا اللقاء المتنافر أو المتداخل، الذي يعد نتيجة تلقائية لتصادم القديم بالجديد والوارد المستحدث العريق المتمكن في الفكر والوجدان، كانت المقالة القصصية، إذَن، تعبيرًا عن هذا اللقاء بين أسلوبين ورؤيتين وفهمين متباينين للقص، وهي على ضعفها وعجزها عن امتصاص إمكانات التعبير القصصي الحق والذوبان في مناخه، تتهجى الأبجدية الأولى في القص القصير، هذه الأبجدية التي ما لبثت أن أخذت، عبر تداخلات والتباسات عدة، ترتبط وتتناسق في صيغ من الكلمات والأوصال، فتشكل منها ما أسمينا، أو اصطلح على تسميته، صورة قصصية، تتضمن الخبر المسرود برتابة مملة في كثير من الأحيان، إلا في النادر، وترصد الجو وتقدم الشخصية، في غير ما فنية أو براعة تذكر، تقديمًا يكتسح صوت الكاتب فيه صوت الشخصية، ويرى خلفه أصابعه وهي تشبك وتحبك، ولا وجود، حقًّا، بعد ذلك للأسماء التي تعج بها القصص فقد وضعت، شكلًا، ليطلق من خلالها هذا القاص فكره الثاقب أو الرث، وليس لها بتاتًا، أن تملك مصيرها، لتقنع القارئ أن دماء الحياة تجري فيها وأنها ليست تماثيل من الشمع كما أراد لها منشئها أن تكون.
ثم إن الصورة القصصية تنشد اطلاعك على وضعية أو جو ما، من علو لا يتيح لك رؤية العلاقات المتشابكة والأسباب المتداخلة، ولا يتوجه إلى صنع العقدة القصصية، نقطة ارتكاز القص الكلاسيكي. ثم يلاحظ طغيان التعميم دون التخصيص، الذي يشف عن لحظة مشعة أو عن مشهد منفرد من مشاهد المجتمع، بطريقة تقود من الذاتية إلى الموضوعية، ومن الفردية إلى النموذجية.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الصورة القصصية هي التي استجمعت، ولا شك، أكبر سمات النمو والدأب الفني في سياق نمو قصتنا القصيرة، ولذلك قلنا، باعتبار ما سبق، أن التطور كان ضروريًّا. فهذا التراث، على قلته، كان ولا غرو جسرًا للعبور إلى رحاب في التعبير أقل ضعفًا وأقرب إلى القص الفني المطلوب ولو في حدوده الهندسية.
أما المادة القصصية فلم تتعرض لتغيير، أو لعل إضافة طفيفة قد لحقتها في البداية، ثم ما لبثت أن عرفت تطورًا كبيرًا فيما بعد.
-
القضية الوطنية (قصص الكفاح والنضال).
-
قضية الأرض والكرامة.
-
قضية الظلم الاجتماعي.
يضاف إليها نزوع ذاتي في بعض القصص، في بداية تلمس الفرد لأزمته الذاتية.
وهكذا ستتم دراسة القصة القصيرة لهذه المرحلة، إذَن، من خلال معالجتنا لتلك المواضيع، عبر نصوص تمثلها فكرًا وقالبًا، وستبرز لنا سمات القصة وفكرها وتلويناتها الخاصة والعامة.
(٣) مضمون الكفاح الوطني وصورته في القصة
ويعتمد التناني، في قصته هاته، كثيرًا على استعمال الحوار الداخلي للتعبير عمَّا يجول في باطن الشخصية من هموم وأفكار، وهو حوار أقرب ما يكون إلى المناجاة، وعن طريقه تنمو القصة ويكبر الحدث، فالبطل لا يتزحزح عن موضعه إلا في نهاية القصة، وكل شيء يكاد يجري في دخيلته.
ويتم تطور الشخصية عبر حالتها الانفعالية التي تتنامى وتحتد في لحظة واحدة، وهي لحظة أو زمن نفسي، هو الذي يؤدي إلى الحدث في الزمن الخارجي أو الفعلي. ولا يسعنا إلا أن نحمد للقطيب التناني قدرته هذه على تنمية الحدث وخلقه على صعيد نفسية البطل، دون أن تظهر الخيوط التي تحرك الحدث على سطح القصة، مما يجعلنا نشعر أن الشخصية تملك دورها وتصنع مصيرها وحدها دون وجود قوى خفية تحركها، وقلما نعثر في نماذج القصة المغربية، على شخصيات من هذا القبيل، إذ جلها لا تعدو أن تكون أشباحًا أو أفواها كبيرة تردد ما يمليه المؤلف عليها. إن عبد الجبار يبدو لنا هنا وقد ملك زمام أمره، ووفر له القاص كل الظروف ليقود نفسه تجاه مصيره الحتمي، إلا وهو الاستشهاد، فتكتمل فيه الشخصية الفنية بالنموذج البطولي.
إلا أن هذه الأدوات المستخدمة كلها لم تنجح في إنتاج عمل قصصي بحبكة متينة ولم تخلق حركة فعلية نابعة من صلب العمل القصصي، المركَّب من عنصري السرد والمنولوغ، والذي استغرق القصة في مجموعها، فإن القصة لم تصل لتبلغ بنا لحظة التأزم أو تنتهي لتترك لدينا تلك الدهشة أو ذلك الانطباع والتأثر الأخاذين.
إن قصة «وأخيرًا مات شهيدًا» لم تُكتب لتفعل فينا هذا الفعل، ولكن لتقدم صورة لنموذج بطولي من واقع كان ينبض بالألم والظلم والقتل، والقصة مرسومة سلفًا والقصد من ورائها واضح. تبتدئ بآية قرآنية وتنتهي إليها، وما بينهما إثبات لحق وتدليل عليه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. وفي هذا ما يدل على أن القطيب التناني، ما يزال متشبثًا بالنزعة التعليمية وبمذهبه في الإيضاح والتبليغ، بالعبارة المباشرة، بل والتي تضرب على وتر العاطفة الدينية.
والقصة عند التناني تتألف، دائمًا، من تلك البداية الطبيعية المألوفة، والتي تقوم بدورين: فهي من جهة تهيئ القارئ وتأخذه تدريجيًّا إلى طريق العقدة التي هي في هذه القصة تأخر «حماد» الأب، في العودة من السوق على غير عادته حيث يبيع ماشيته، وتتأزم العقدة حين يقبل أحد رعاته لاهثًا يحمل السر بين جنبيه.
وقصة «قائمة أخرى» من جهة مضمونها تمثل مظهرًا آخر من مظاهر العدوان والوحشية التي كان يواجه بها المستعمر السكان الآمنين وما كان يلقاهم منه كوارث وآلام إنها قصة غارة ليلية تشنها طائرة العدو على قرية من القرى الهادئة الآمنة فتصيبها بالويل والدمار: إنها هي طائرة المغيرين التي كان ضحية قنابلها «حماد»، بهذا صاح رفيق حماد، والذي حمل خبر هلاكه إلى زوجته «رقية» وابنته. على أثر صياحه: «ارتفعت العيون إلى تلك الطائرة كأنها تهم بالانقضاض عليها، وإن أفكار بعضهم لتشك فيما تسمع الآذان من أقوال هذا الغريب، لماذا تقتل إخوانهم الطائرات المغيرة؟ ماذا فعلوا؟ … إنها تقترب من الأرض كثيرًا … ما هذا؟ إن نارًا تنزل منها، وقبل أن تعي عقولهم ما ترى العين، صك آذانهم دوي انفجار هائل … وتفقد الواقفون أنفسهم فإذا كل ما يحيط بهم آهات وأنات.»
على هذه الشاكلة يصور التناني عدوانية المستعمر، ولكي تبرز وحشيته بصورة أضخم، يجعل مسرح هذا العدوان تلك القرية الآمنة الوادعة التي يغمرها الود والسلام، لا تعرف الحرب ولا العدوان، بل أنها تعيش في ظلال رومانسية حالمة: «لقد حل الظلام بالقرية وبدا أهلها يفدون إلى المسجد للصلاة، وارتفعت عين الأم إلى السماء، فهالها ما خلفت الشمس من احمرار، وخلا الجو من العصافير، وبدأ صوت المؤذن ينساب في أنحاء القرية فتردده الأجراف السعيدة صدى يعيده إلى القرية مرة أخرى واهيًا يتناثر في الآذان.»
والحق أن القاص المغربي مولع بوصف ما تقع عليه عينه، وبالقرية خاصة، متخذًا منها مسرحًا لكثير من قصصه وحوادثها، فقد سبق أن لمسنا ذلك في قصص الكفاح الأولى، عند عبد المجيد بن جلون في قصته «عائشة» و«غريب» وقصص أخرى من مجموعة «وادي الدماء»، وهذا الولع يخفي في عمقه نزوعًا رومانسيًّا دفينًا في باطن وجدان القاص المغربي، كثيرًا ما يهب للتعبير عنه واختلاق الفرص لإظهاره، وذلك في كثرة تعلقه بصورة القرية والإسهاب في وصف بعض مشاهد الطبيعة كما نجد عند التناني في قصته «قائمة أخرى.»
وتصوير الحياة الكفاحية هو ما يعنى به غلاب في قصته «مات قرير العين» التي تقدم لنا نموذجًا آخر للبطولة الفردية التي تضحي بالنفس والأهل، من أجل قيمة الوطن ومستقبله، ويتكرر نموذج البطولة الفردية، هاته، عند غلاب كما عند غيره، دون أن يستطيعوا جميعًا تكثيف صورة البطل وجعله يحمل ملامحه وملامح الجميع فيه، فيشع ببريقه الخاص في الوقت الذي تصدر منه إشعاعات وأباريق الآخرين الذين هم مجموع الشعب المكافح وحين نعثر على بعض هذا الإشعاع فإننا نجده باهتًا أو يشع لينطفئ مرات، وإذا بنبرته تعلو بحيث يخطب باسم الجميع أو تنطلق على لسانه عبارات معممة تفيد أنه هو والمجموع سواء. ولعل التركيز على البطل الفرد يعود إلى التأثير السحري الذي يخلقه الأبطال في النفوس، وإلى وعي خاص، قاصر يحسب التاريخ من صنع الأفراد وليس المجموع.
وقد كان محتملًا أن يظهر ما سبق مجرد هفوات محسوبة، ولكن طول القصة غير المبرر جعل منها كثيرة بارزة للعيان، مخلة بالتسلسل القصصي والتركيز الفني. فالقصة هذه، تبدو نتيجة للطول مفككة الأوصال لا تحافظ على التوازن بين أجزاء التجربة القصصي، تطول البداية طولًا مسفًّا، وكان ممكنًا الاقتصار على المقطع الآنف الذكر، وتطول المناجاة ويستفيض الحوار الفائض، لكن يبدو ألَّا معدى من تجمع هذه الهفوات كلها في جعبة غلاب، الذي تدفعه حماسته للموضوع إلى الخطابية والأسلوب التقريري المعهود و«مات قرير العين» مليئة بالشواهد على ما نزعم.
هذه الأقاصيص لا تختلف عن سابقاتها في كثير، فالموضوع المطروق واحد، وهو الكفاح الوطني وتصوير استبسال المقاومين في مكافحة المستعمر وتضحياتهم، والغاية واحدة وهي تمجيد هذا الكفاح وأولئك الذين قدموا دماءهم فداء الوطن، والطريقة متماثلة أو تكاد وهي تتم برصد شخصية بطل من أبطال المقاومة وإبراز سلوك التضحية حيًّا مجسمًا بواسطة عقدة، غالبًا ما تكون بعيدة عن التماسك، أو باقتطاع مشاهد عن الحياة الاجتماعية يبرز فيها اصطدام قوى الخير بقوى الشر.
والقصة كما تبدو متعددة الشخصيات، الحدث فيها مجز أو ممتد ينحو نحو الوصف الخارجي، وهي تقدم إلينا جاهزة وممتلئة لا مجال لشرحها أو تعميقها بتنسيق مع الموضوع، وهي تتحرك وتنفعل بطريقة آلية، والشيء نفسه يلحظ على الحدث، فلا وجود لأية حركة درامية، والعمل يبدو مرتبًا وفق خطة مرسومة سلفًا، خاصة وأن الغاية تقتضي تمجيد الفداء والكفاح ضد القيم الاستعمارية والعميلة.
وينفرد أشماعو من بين كتاب القصة الوطنية بانفلاته من الوقوع في منزلق الخطابية والتقريرية الفجة والحماس المنبري، المتجلي في ترديد الشعارات وتسطير العبارات الطنانة التي تشيد بالوطنية والوطنيين، وهو يفلت منها بسبب اعتماده على توجيه فكري مسبق لقصصه بالرغم ما يبدو فيها من حياد المؤلف أو تنكره على الأقل. ويبرز هذا التوجيه في تقديمه لقصته تلك وقصص أخرى عالمًا منشطرًا إلى واجهتين أو عنصرين متضادين، فحماد الخائن يواجهه أخوه وأخته وزوجته الوطنيون في الطراف النقيض، ومثل هذه المواجهة الصارمة والمتعسفة معيبة، على الرغم من أنها تنقذ القاص من المباشرة الكلامية المسفة.
وانكشاف هذا التوجيه الفكري وبروزه بذلك التعارض يفقد القصة كثيرًا من أصالتها ويضيع على الكاتب جزءًا كبيرًا من الحماس الفني الذي يضيعه الابتسار الفكري والإجهاد الفني لاحتواء هذا الابتسار وتبديده.
وهكذا نجدنا عند أحمد محمد أشماعو نقف عند نهاية الشوط للقصة القصيرة ذات المضمون الكفاحي الوطني، مع كتابها الذي تعرفنا على بعض نماذجهم فيها، والتي كشف لنا من خلال معالجتها سماتها العامة والخاصة التي انطبعت بها وانسحبت، بالتالي، على تكوين القصة القصيرة بالمغرب بعيد الاستقلال.
وقد تبين لنا من خلال الدرس العام لتلك القصص ولأخرى غيرها لم نشر لها أن قيمتها، على الأغلب، لا تتجاوز دورها في تسجيل مرحلة حارة حاسمة من تاريخنا الوطني، بحيث يصعب تقديرها فنيًّا كما تقدر القيم التي تبنتها ودافعت عنها بإيمان وصدق، ولو أن هذا، وحده، لا يعد مسوغًا لجعل القالب القصصي هو حامل الموضوع النضالي.
إن القصص النضالي، يبدو وقد انحصر في خانة التاريخ وتجاهل أو جهل الفن وأقيسته، والفرق بين الفن والتاريخ شاسع ومعلوم. والفن الفذ يحتوي حقائق التاريخ، يمتصها ويعيد اكتشافها وبعث الحياة من خلالها زاهية مصقولة. هذا التصور للفن لم تدركه القصص الوطنية فجاءت صورًا معتمة تتحمس لقيم النضال وتجهد للانحشار في القالب القصصي المكتمل، وبين هذا وذاك فشلت في امتلاك هويتها واستحقاق أصالتها.
ولا شك أن مفهومها للنضال، كشعور وطني ساذج وتلقائي، بعيد عن تصورات محددة، خلا زوال العهد الاستعماري، هو ما جعل قصص هذا الاتجاه تأخذ المجرى الذي رأينا وتتسم بسمات التعميم وتفتقد أبعاد التحديد وحيوية التشخيص والقص.
(٤) المضمون الاجتماعي وصورته في قصص الاستقلال
يوازي المضمون الوطني المبثوث في قصص الاستقلال مضمون آخر يحاذيه وإن كان مفترق الطرق بينهما هو أن الثاني ينطلق من الحاضر، على حين كان الأول يستمد مادته وعناصر وجوده من الماضي.
إن هذا المضمون الثاني جاء، ولا شك، امتدادًا لذلك الماضي، ولكن في الأساس تسجيلًا لحاضر الوطن وللصورة العامة التي تبلور فيها، أو على الأقل إنه طمح لالتقاط خطوط هذه الصورة والاستمداد من ألوانها وطقسها العام، بحيث يثبت للأدب حضوره وللفن القصصي تشبثه بأرض الواقع والتصاقه بما جد واستحدث فيه، وهي لعمري خصلة متواصلة في الأدب المغربي الحديث، لم يشذ عنها منذ نشأته، وعلى امتداد مسيرته المتطورة إلى أيامنا هذه.
هذا المضمون الثاني هو المضمون الاجتماعي، أي جملة الأفكار والأحداث والوقائع والقيم التي تدور حول مجتمع الاستقلال، تترصد صورها، وعمليات التسجيل والرصد والتصوير تتم، أحيانًا، متفرقة وأحيانًا أخرى مجتمعة بحيث تتعدد النظرة وتتلون تلاوين مختلفة، فتنقل إلينا، تارة، الحياة والواقع عبر هذه الوسائل جميعًا من رؤية مركزة وثابتة وجياشة، تحفل بالحياة والمعنى وإن بدت فيها الدلالات أو الدلالة الواحدة شاحبة تلتصق باللحظة فلا تفوتها إلى أفق منفتح، وتارة أخرى نجدها تقنع برؤيا العين وحرفية اللحظة ومحدودية اللقطة، تنقل المرئي بأمانة وتكل في الوصول إلى المخفي، تكشف الظاهر ويعز عليها التوغل في الباطن، تمر بملابسات الحياة وما تحفل به من عقد وصراع فلا يلفتها منها إلا وجهها بملامحه الكبيرة وقسماته الهندسية المتآلفة، بينما تعمى عن رؤية الندوب والخدوش والجراح التي تدمي جسد المجتمع وتحفر فيه أكثر من معنى وأغزر من دلالة … إن هذا المضمون يبرز المجتمع في القصص التي سندرس، في أطره الكبرى وظواهره الإجمالية دون القدرة على تبين العلاقات الخفية التي تبرز وجه الصراع الحقيقي وتفيد في إبراز مكامن الداء وسر العلاج.
ومن المفيد القول إن هذه النظرة الأخيرة، هي التي تصنع جدارة القصة القصيرة وتفرد لها أصالتها وقيمتها التعبيرية، وستتضح لنا هذه الملاحظات بتفصيل أكبر من خلال المعالجة المنفردة، لأبرز من عنوا بهذا المضمون ودفعوا بأقلامهم في اتجاهه.
(٤-١) القطيب الثنائي والظاهرة الاجتماعية
لعل من بين الوسائل التي يمكن بها التعرف على دلالات نصوص الكاتب في نقلها وكذا وزنها الفني، معرفة الحافز إلى الكتابة وما يجعل الكاتب يغمس قلمه في هذا الموضوع دون ذاك ويلتفت إلى هذه الواقعة ويغفل تلك، وبالضبط ما يحدد مناط اهتمام الكاتب أو القاص.
- أولهما: سابقًا، امتلاء بقضية الوطن وطموحه إلى الاستقلال والتحرر، وحاضرًا، انتماء سياسي محددًا أملى عليه اختيارات بذاتها، كان من أهمها وضع مشاكل الناس والمسحوقين منهم خاصة، فوق كل اعتبار، ولذلك جاءت جل قصصه إن لم نقل كلها وفية لهذا المبدأ ملتزمة به، لا تحيد عنه، بتاتًا، لتنجرف نحو نزوع أو ميل ذاتي خصوصي، والقصص التي سنعالج هنا تشي عناوينها ومضمونها بهذا الالتزام والإخلاص لقضايا الناس (المتسولة، بائعة الحساء) وغيرهما.
- ثانيهما: إن التناني يكتب القصة القصيرة انطلاقًا من باعث خارجي يجد في نفسه قبولًا وهو المسيس الملتزم، فينصرف إليه إذا وجد فيه بغيته وقصده من معالجة أموال الناس وأزماتهم، وقد ذكر لي القطيب التناني أنه كتب كثيرًا من القصص لسماعه أو معرفته ببعض الحوادث التي تقع هنا أو هناك ويلحق فيها ضرر بالناس وجور، فقصة «سوف تستيقظ»٣١ استقى موضوعها من حريق شب بأحد الأحياء القصديرية بالدار البيضاء، فشردت فيه كثير من الأسر وذهب بسببه كثير من الضحايا، والتناني يؤكد أن ما ليس ملتصقًا بمشاكل الشعب لا يعنيه في شيء.
كما يفيدنا الأمران السابقان معًا، في أن نظرة التناني القاص لا تتغلغل إلى أعماق الواقع ولا تلج مساربه البعيدة، فتلتقط منه ما هو قريب المنال داني القطاف ولذلك جاءت قصصه، من زاوية المنظور الفكري، لصق الظاهرة الكبيرة والحادث الواسع الإطار، قاصرة على إبراز الوجه الشبحي الظاهرة، دون الوصول إلى هويته الحقيقية.
كما تبين القصة عن مغزاها الخلقي-الاجتماعي، فالمتسولة نموذج حي ملتقط من مجتمع انعدمت فيه العدالة الاجتماعية ولم تعط فيه للأفراد حظوظ العيش الكريم، فلم يجدوا من ينصفهم، فلجئوا إلى التسول وإلى البغاء لينقذهم من الهلاك جوعًا.
لكن بأي فهم يقدم لنا التناني «المتسولة» من أية زاوية ينظر إليها؟ إنه يعجز عن استكناه الأسباب الحقيقية لمصيرها، وبدلًا من أن يضع يده على مكمن الداء، يئول الأمر تأويلًا خلقيًّا ويقف ببطلته عند حدود اليأس والشفقة، وهذا الفهم لم يطور الموضوع المطروق كثيرًا، ولم يضف عليه أي بعد جديد، نتيجة لرؤية تعميمية تسجيلية غير واعية بأسباب الظاهرة وركائزها، ومن ثم يغيب فيه عنصر الصراع الذي تتطلبه القصة القصيرة، وظهرت شخصياته شبحية هزيلة تنطق بأفكار وكلمات معلومة منتزعة من قاموس الأخلاق والتهذيب، وجاء الحدث فيها يتطور، ببطء، وارتباك، فالقاص مرتبك بين وسيلة القص وغاية الوعظ، والحوار فيها جاف متكلف يضحل النص عوض أن يغنيه، والمقطع الآتي كاف للتدليل على ما نقول: «اقترب منها قائلًا: أتريدين معينًا لك على حمل أحد الطفلين؟
– ولم هذه المشقة؟
وهل يكفي التناني جهدًا أن يقول على لسان أحد أبطاله في نهاية القصة: «أحسست قلبي يتمزق حزنًا عليها، وقد أمنت بصدق وصف صاحبي لها … إنها أفعى كثيرة السموم، وازداد الكون أمامي ظلامًا، أي وباء يعيش فيه مجتمعنا؟» هل يكفيه جهدًا، قوله ذاك لكي يكون قد كتب قصة اجتماعية؟ لا أحسب أن هذا بمقنع ولا يخالف الظن متذوق للقصص الاجتماعي ما في ذلك من تكلف وبعد عن روح الواقع وأسلوب النظر إليه وتصويره.
ولم يكُن منتظرًا أن تنتهي القصة بغير ذلك، ولم يكُن للصراع أن يتخذ شكلًا أو سبيلًا غير الذي ظهر، ذلك أن التناني متحمس لقضية الناس المستغلين، يجب أن تكون مسموعة لا مهموسًا بها، ظاهرة بجلاء لا مستترة. ولذلك ردد العمال في الخاتمة القصة:
ثم إنه لا ينبغي أن يغرب عن أذهاننا أن التناني، الذي يعيش في مدينة الدار البيضاء الصناعية، وبحكم حس الاهتمام الموضوعي لديه بالقصة الاجتماعية، كان من الضروري أن تلتقط يراعته هذه الظاهرة، ظاهرة الإضراب، وهو المولوع بالظاهرة الاجتماعية.
وهو حين يقدم لنا هذه الظاهرة ضمن إطار قصصي، قل أن يستقصي أبعادها أو يعمد إلى استبطان أطراف الصراع فيها، بل غالبًا ما يقدم لنا صراعًا سطحيًّا وشخصيات مسطحة، وجودها معزو لخدمة القضية، أولًا، قبل أن يوجد كشرط فني، ولذلك بدا واضحًا كيف أنه في هذه القصة عمد إلى خلق تضامن متعسف بين البائعة والعمال، بل وخلط بين موضوعين اثنين في لقاء واحد، نعم قضية واحدة، ولكن سبل اللقاء تمت بتخطيط فكري وجاهز وليس باجتهاد فني يقتضيه القص الفني.
إلا أن الفكرة العامة التي كونَّاها عن الشخصية في قصص التناني أو عن وصفها، أنه وصف واقعي يرسم الإرهاب الخارجي، ويقدمها تقديمًا بعيدًا عن التزويق، منسجمًا مع قصده ورغبته في تقديم النموذج الواقعي والصورة المنتزعة من العالم الخارجي بحذافيرها.
ووصف الشخصية يوحي عند التناني ببعض التقدم والفهم للشخصية القصصية، خلافًا لما كنا نجده عند الكتاب السابقين الذين كانت جل أوصافهم مستعارة من القواميس والتعبيرات البلاغية، وافقت الطبيعة أو خالفتها، تلاءمت مع الشخصية أو شدت عنها، إذ كان اعتقادهم أن الشخصية في القصة، وخاصة إذا تعلق الأمر بالمرأة، ينبغي أن تكون في أبهى وأصفى مظاهر البهاء والجمال.
(٥) محمد أشماعو، صورة من الواقعية
لم يقنع أشماعو بالانحسار عند حدود ذكريات الماضي وحوادث الكفاح والوطنية التي حفل بها مغرب الاستعمار والمقاومة، وذلك في القصص التي سجلت تلك الذكريات وذلك الماضي، وإنما امتدت نظرته وعدسته القصصية لتحيط بأطراف الواقع الجديد، وتلم بعض وجوهه وعناصره مما يعكس صورة للواقع ويسفر عن ملامحه وتجاعيده. وقد كان أشماعو دائمًا وفيًّا لملمح الواقع هذا، يقف عنده ويتتبعه في أطره الكبيرة وجزئياته الدقيقة، وفي حركته الحافلة بالنماذج البشرية على اختلاف الاهتمامات التي تتوزعها، وهي جميعًا تتحرك داخل دائرة الصراع ضد المستعمر ومع الوطن، قصص «خذها يا عدو الله/ احميه يا دولة البلجيك/ تحرير رقبة … ثم قدر العدس».
(٦) عبد الكريم غلاب وقضية الأرض في سياق الواقعية
فما سر هذه المظلومة؟ إنها في قصة غلاب الفتاة التي وجدت نفسها تحترف البغاء مدفوعة بقهر الفقر والعوز وتألب الدهر. لقد كانت سليلة أسرة مرفهة تملك أرضًا وعزًا وخيرًا، ولكن طمع الطامعين ذهب بكل شيء، فانتزعت الأرض غصبًا، مات الأب وتلته الأم، وبقيت الأسرة محطمة فنزحت إلى المدينة، وهناك صادفت أخلاقًا جديدة وأسلوبًا مغايرًا في السلوك والعلاقة البشرية، فما كان منها إلا أن انساقت، لا وراء نزواتها، ولكن وراء مطالب العيش القاسية، ومصدر الأزمة والعقدة فيها هو ضياع الأرض وما ترتب عن ذلك من تشريد وانحراف.
ولأن غلاب لم يمتلك بعد ناصية القص الفني وما زال خاضعًا لحرفية الواقع مخلصًا للفكرة أكثر من الفن، فهو لم يتورع عن إنهاء قصته بمقطع بلاغي وخطابي شبيه بمقاطع المنفلوطي الوصفية الوعظية، بعيدة كل البعد عن النفس القصصي، منفصل عن التيار الحدثي المشلول أصلًا، وفي، ولا غرابة لمناخ المقالة القصصية ونهايتها: «أتريد أيها الفضولي أن تعرف سر حياتي؟»
لم نكُن مغالين حين زعمنا أن قصص ما بعد الاستقلال لم تستطع أن تتواجد ضمن القالب القصصي القصير، وإنما ظلت تتعثر في محاولة الانضباط داخله، تغزوها السمات والرواسب القديمة فتلجم ما قد يكون من طموح لدى القصاصين لتجاوزها، وإن فعلوا ذلك أحيانًا.
فالخطابية توقف تيار الحدث وتشله فتأتي أجزاؤه متباعدة، وبدلًا من أن يتحرك في سياق منتظم ومن أجل قصد للتعبير عن الأزمة، نجد إطار القصة ينفصل ويتفكك تدريجيًّا حتى ليكاد يتحول إلى لوحة إنشائية فضفاضة، وهذا عائد، أصلًا، إلى عدم التناسب بين عناصر البناء القصصي وإلى انعدام التركيز، وهذا يؤدي في النهاية، إلى إضحال حصة القصة من الفن وانحباسها ضمن أطر الفكر والتعبير المقالي، وهي مرحلة متجاوزة، وكان حريًا بغلاب أن يوفر لموضوعه بناءً معماريًّا أكثر تماسكًا ولغة قصصية بعيدة عن النبرة الخطابية وعن السرد التقريري.
على أن وراء كل هذه الشوائب فقدان الفهم الحق لروح الواقعية ومعنى الالتزام بقضايا المجتمع في الفن، وهذه بلا شك، قضية شائكة، لم يكن بوسع غلاب أن يجيب عنها آنئذٍ، بل إنها ستستعصي على من أتوا بعده من قصاصي الستينيات، ممَّن تطرح كتاباتهم هذه الإشكالية.
والقصاصون الثلاثة الذين وقفنا عندهم في مضمار القصة ذات المضمون الاجتماعي عالج كلٌّ منهم الواقع من منظار خاص وبقناعة فكرية متميزة، ولكنهم، اتفقوا جميعهم، تقريبًا، في النظر إلى موادهم بعين محايدة وبإحساس يتسم ببعض البرود، فسجلوا الواقع تسجيلًا حرفيًّا دون أن يتخلل ذلك التسجيل أي عنصر ذاتي، وهذا التخيل أو المزج هو ما يقترحه القاص المغربي عبد الجبار السحيمي على مسار القصة القصيرة المغربية في هذه الفترة المدروسة.
(٧) عبد الجبار السحيمي والبطل المأزوم
تبدو قصص عبد الجبار السحيمي للدارس، منذ البداية، ومع اعتبار مع سبقها من نصوص قصصية، وكأنها تسعى إلى الالتقاء بالواقع والالتصاق معه بدون وسيط، أي بعيدًا عن أي إملاء ذهني أو تخطيطي مسبق يحدد لها قناة عبورها ويربك تتابع خطواتها. وما يجذب السحيمي إلى الواقع ليس الظواهر البارزة فيه أو الوقائع المثيرة، بل إن ما يلفت حسه القصصي هو وضعية الفرد وأزمته ضمن الظاهرة أو الأزمة، وهو يتوجه إلى مخاطبة هذا الفرد واستكناهه، وجعل معضلته مجسدة على مسافة الواقع الممتد. غير أنه لا يقف عند حدود هذه المرحلة التي قد تزيغ به عن قضية الواقع ككل، بل إنه، وفي حدود قيمة التجربة القصصية وجماليتها، ينمي الأزمة ليجعلها تكتسح ما حولها فتصبح هي قضية المجتمع الأولي. ويكون في مستوى التخمين، على الأقل، قد كسب الأمرين معًا: أي زاوج بين الأزمتين كلتيهما بتذويبهما في عجينة واحدة تكونت في رحم الذات والواقع. وأهمية هذه العملية تأتي لتثري الواقع وتنفث فيه حياة لم تكن فيه، فالقصاصون السابقون كانوا يقدمون لنا، إما حالات متيبسة كالصخر ومن منظور محايد بل جامد، من غير أن يضعوا يدهم على موقع النبض والرعشة في الحياة أمامهم، منطلقين في ذلك من مفهوم متيبس للواقع والواقعية، يعتقد بحتمية نقل الظاهرة بحذافيرها، أو يتقمص أقنعة الوعظ وتكرار السرد التقريري الخطابي. أما من وجدنا عندهم غير هذا، فقد كانوا يغرقوننا في سبيل من الآهات واللوعة في إهاب رومانسي رث، لا ينتهي لا إلى القصة ولا إلى الخاطرة.
على أن هذا كله يعزى إلى منطق المحاولة التي تخطئ وتصيب، وقد كان القاص المغربي يتلمس طريقه وسط ذلك كله، وكان رصيده من الطموح أقوى من رصيده في الفن، وفي الفن القصصي لا بد من الدربة الطويلة والعين اليقظة المتربصة، والرؤية الجزئية الكلية. ونحن لا نزعم بأي حال بأن عبد الجبار السحيمي قد امتلك هذه القدرات ولكننا نذهب إلى أنه، خلافًا لسابقيه، حاول أن يقرب الشقة بين الخاص والعام، وأن يتسلل إلى هذا العالم من منطلق الأزمة الخاصة التي تملك في عناصر تكوينها الأولى، قابلية النماء والشمول، ويبقى هذا في حدود المحاولة وليس في مستوى الإصابة وبلوغ المرمى المنشود؛ إذ إن قصص السحيمي هي الأخرى تحفل بكثير من شوائب النماذج التي سبقتها وتلتقي بعثرات مر بها من قبله ولم يتجنبها، ولذلك فما قصدناه يوجد، فقط، على صعيد الرؤية، وليس مطبقًا في أقسام العمل القصصي، مما يمكن استشفافه والوقوف عليه في كثير من قصص الواقعية المجددة في الستينيات.
إن «رجل له قيمة» بتوفيقها في رصد المفارقة وتشخيصها، على النحو الذي رأينا، تكون قد شكلت صورة قصصية، انسجمت فيها عناصر التشكيل القصصي وتماسكت لتبرز لنا صورة هذا النموذج-الواقع، في الظاهر وفي العمق، ودون أن يظهر ذلك على سطح هذه الصورة أي نتوء خارج من صميم التجربة وأصالتها.
وإذا كان عبد الجبار السحيمي يميل، كما ذكرنا، إلى المزاوجة بين البعدين الذاتي والواقعي، فإننا نجده فيما كتبه، لاحقًا، يتجه إلى تقمص أكبر للذات وبحث أعمق عن خصوصيتها وسعي أدأب لاستكناه خفاياها ولواعجها؛ إذ إنه بعد ذلك، يفك المعضلة ويتجاوز تلك الازدواجية لينتقل إلى الموقع الذي يلائمه أكثر ويطابق نفسيته وميله، وهو موقع معاناة وتأمل، حدس واستبطان، تضام للمرئي والمحسوس، والتفاف الواقع بالوجود، في بوتقة واحدة تصهر كل تلك العناصر وتدمجها في بعضها وتصنع منها مخلوقًا جديدًا لم تعرفه القصة القصيرة المغربية من قبل ولم يسطع في أفق قصاص، فيما أحسب.
هذا المخلوق يتمثل في الرؤية الذاتية للواقع والوجود، حين تتحول هذه الرؤية إلى نسيج يحبل بتجربة جديدة في لغة بسيطة شفافة تشغف العين وتخاطب الوجدان، تنشد التبليغ وأداتها الهمس والتصوير، تعبر عن الذات وتطمح إلى أن تكون ذاتها محورًا لرؤيا الوجود وهواجس مخلوقاته.
تلك هي خطوط الأزمة في مظهرها الواقعي، كما عاناها البطل، ولو اقتصر الأمر على هذه الخطوط لما كانت للقصة أهمية أو لما توفرت على أية إثارة وجاذبية، فما أكثر القصص التي عالجت موضوع اليتم وما يخالفه فقدان الأب من نكبات وتبعات، ولكنها، كلها كانت، إما تحاول استدرار العطف والدموع، أو تنحي باللائمة على غبن الحياة ومظالمها. أما «في المدينة» فهي تقدم لنا هذه المعضلة ذاتها ولكن، وهذا هو الفارق الأول، من منظور ذات أي من خلال انعكاس الفعل الخارجي على الذات ورد الفعل إزاء مأساتها وفي رد الفعل هذا يكمن الفارق الثاني لينقل المأساة من حدود الذات المحاصرة بأزمتها الخاصة إلى امتداد فسيح هو الوجود بأكمله، وتحت ثقل الألم الكابس تتم عملية الإسقاط على الواقع الخارجي، الذي ينحني على الذات ليشف بأحزانها فيتخذ ميسمها وينطوي على مكامنها، وهذا، بالضبط، هو ما يشكل أزمة البطل ومعضلته.
إنها الغربة إذَن وأي غربة هي؟ ما حقيقتها وما مصدرها؟ أو يكون موت الأب وحده حافزًا على هذا الامتلاء الغامر بالحزن وعلى استشعار هذه الوحدة الكثيفة: «المدينة فارغة تمامًا في الليل، والناس الذين مروا بي لم يردوا على ابتسامتي، لم يعرفوني» و«رحت أفكر في المدينة الكبيرة التي لا يبتسم أهلوها، لا يعرفون أحدًا لا يتحدثون».
إن الفعل الخارجي كل هذه السوداوية وما يجنح إليه القاص من التأكد على هوية الاغتراب، ومن تشكيل البعد الميتافيزيقي للموت، بحيث إن الرنين الذي يسمع في القصة بأكملها هو رنين الموت وما يرى هو شبحه وقد تسربل بكفن أحزان البطل ودفن مع الأب والشمس. ومما لا شك فيه أن قسمًا كبيرًا من هذه الأحزان مبعثه التأثر، إما بالأدب الرومانسي الذي يحتفل أيما احتفال بالعامل الذاتي والمأساوي منه على الخصوص، والتأثر أيضًا بالأدب الوجودي الذي يعنى بالفرد في عالم مزقته الحروب ونهشت ذاكرته وفتتت وجدانه، ويجعل منه محور كل شيء في مسيرة طويلة لتأكيد الهوية ونحو مزيد من الانفصال عن الواقع المضلل. ولا شك، كذلك، أن لمزاج الكاتب ونفسيته دورًا لا يمكن تجاهله أخيرًا.
ولعل هذه العوامل مجتمعة هي التي تضافرت لتقدم لنا «في المدينة» قصة تملك من نصيب الواقع «فعلًا» بسيطًا أخذ ينتفخ ويتضخم من خلال ذات مأزومة حتى استحال، بحق: نموذجًا لبطل مأزوم فوق واقعه، قصة تعتمد العبارات الشفافة والكلمة الشاعرية والخيال الشعري والصورة الموحية. وهي بعد ذلك، وفوق ذلك، حديث شجي لنفس معذبة لو لم يكن الموت مبعثه لتقدم إلينا في شكل خاطرة. ويخيل إلي أن السحيمي كان ينوي شيئًا آخر غير القصة، أحسب أنه كان مهمومًا بالقالب التعبيري الذي يناسب مزاجه ويوافق فيض ذاته، وقد وجده بالفعل، وتهيأ له فيه الكثير، حتى أصبح به صاحب اتجاه وذوق في كتابه المذكرات والخاطرة.
(٨) خلاصات
مع عبد الجبار السحيمي نقف عند نهاية كتاب هذه المرحلة من تاريخ القصة القصيرة بالمغرب وتطورها، وهذا لا يعني أنهم، وحدهم، كانوا في الميدان إبانها، وإنما كان اقتصارنا على من له كثرة من القصص ترسم خط تطور فكري وفني بذاته.
- (أ)
المضمون الكفاحي النضالي
- (ب)
المضمون الاجتماعي الواقعي
-
بالحماس الشديد للموضوع والانفعال لذكريات الكفاح والاحتفال بالبطولة والتضحية من أجل الوطن وقيمة الحرية.
-
بالروح التفاؤلية التي تجعل المستعمر يندحر في كل المواقف والوطنيين يحصدون بذور كفاحهم وشجاعتهم.
-
التركيز على البطولة الفردية، أي جعل الفرد محور البطولة والنضال وعلى يديه يتحقق النصر ويزهق الباطل.
(٨-١) وعلى صعيد الشكل الفني
يؤلف السرد أهم عنصر من عناصر القصة إذ بواسطته تتم رواية الخبر وتشكيل الحدث وتطويره والوصول به إلى لحظة التنوير. أما الحوار، فهو في غالب الأحيان يرد مكملًا للسرد منبثقًا عنه وتابعًا له، وقليلًا ما يسهم في إنماء الحدث أو شرح شعور الشخصية، وإن فعل، فالتكلف والابتعاد عن روح الفن، أو الحوار الفني سماته الأساسية.
وعلى الرغم من حرص القصاصين لتوفير الوحدات الثلاث لقصصهم، فإننا لا نجد أي تناسب بين هذه الوحدات، فالمقدمة تطول طولًا مسرفًا لا يتناسب مع حجم القصة القصيرة ولا ينسجم مع ما يعرف عنها من اقتصاد وتركيز. والعقدة لا يتم بناؤها بحسب التسلسل الضروري باعتبار العلة والمعلول، وإنما بصورة ناشزة ومفككة، أما الحل فغالبًا ما يأتي فجائيًّا حاسمًا ليضع حدًّا للباطل وإعلانًا للحق، بكيفية ساذجة، تظهر، في النهاية، تهافت الحبكة والشكل القصصي، الذي يظهر وقد استعار سمت الصورة القصصية حينًا والقصة التقليدية حينًا آخر، والمقالة القصصية في بعض الأحايين.
أما الشخصية القصصية فهي أشبه بتجويف خشبي قد مُلئ قشًّا، ووضعها على هذه الشاكلة يجعلها مفرغة أو تكاد، إذ لا تملك أن يصدر عنها أي فعل أو فكرة أو تدخل لأنها لا تقبض على عنان حركتها ولا تنمو بما يوافق خصوصيتها، ولا تستطيع أن تحقق هويتها بما يكفل لها الوجود الحي المتميز داخل النص، فهي مجرد أداة طيعة في يد القاص، عجينة يشكل منها ما يشاء وبالكيفية التي يشاء، ليجعل منها في الأغلب، بوقًا لأفكاره، ومصداحًا تنفجر منه حماسته وانفعاله، فيغمطها بذلك حقها ويتساهل في أصل وجودها، وينبذها نبذًا تامًّا، وحين يفعل ذلك فإنه يكون قد ساهم أو عمل على نبذ أهم ركن من أركان القصة.
(٨-٢) أما المضمون الاجتماعي الواقعي
فقد رصد الواقع وسعى للتعبير عن بعض جزئياته وعمومياته، ولكن التعبير عن الواقع وتبني القضية الاجتماعية لم يكن واحدًا عند كل من تناولوه: فمنهم من ارتكن إلى الظاهرة الاجتماعية يؤطرها ويحصرها جاعلًا منها، في قالبه القصصي، المعادل الجمالي للواقع ككل. ولذلك فهو من الناحية الأولى لا يقف عند جوهر اللقطة القصصية ومثار اهتمام القصة القصيرة التي ترصد التفصيل الصغير، واللحظة العابرة، تنتخبها من بين ركام الأحداث والصور، فتصقلها وتعرضها على مجهر الواقع النابض وتستشف منها الحاضر وتكون مرآة للمستقبل بحيث لا يتحول الواقع، حينئذٍ، إلى قطعة جامدة أو مادة كلسية عديمة الليونة والإيحاء. وهي من الناحية الأخرى، على الرغم من ارتكانها إلى الواقعية في التصوير، تميل إلى ما يسمى بالنمطية الفنية التي تختزل الشخصية في سمات فكرية عامة.
- أولًا: إلى تبني مفهوم ساذج للواقعية، حرفي، تسجيلي، يفهم من الواقع كل ظاهر منه ومشهور، فيتم سرد الخبر حسب نموذج الخبر العادي بتفصيلاته وجزئياته الزائدة دون تقصد أو اختزال.
- ثانيًا: إلى التجول بالعدسة القصصية في زوايا وأركان مختلفة من حياة الناس والتقاط أدق أنماط عيشهم وسلوكهم وتقلبهم مع أحوال الدهر. ولكن العدسة تلتقط الكل وتضعه في لوحة ذات شطرين متعادلين ومنسجمين، تغطيهما في النهاية، ودومًا، غلالة الانفراج وتشرق في أفقها بوارق الأمل والخلاص.
- ثالثًا: إلى استكناه خبايا الذات والاستقاء من معينها، مع سعي للالتقاء بخامة الواقع الخارجي، أحيانًا، في معادلة توازي بينهما، وتارة في احتلاب للمشاعر، مشاعر النفس الدفينة والإغراق في الذاتية التي تشحب الموضوع وتقلص من حجمه وسلطته.
أما الشكل الفني الذي رافق خطى هذه الواقعية وتلك النظرة المجتمعة فهو:
- (١)
اعتماد الوحدات الثلاث للقصة القصيرة، اعتمادًا متوافقًا ومتناسبًا أحيانًا، ومختلًّا في أحيان أخرى، غير متوازن، يطغي قسم منه على بقية الأقسام.
- (٢)
اعتماد عناصر النسيج القصصي من سرد وحوار ووصف وغيرها لعرض الخبر وتأسيس الحدث وإنمائه وتطويره، والدفع به إلى مصبه النهائي ومن الملاحظ أن هذه العناصر تستخدم بتفاوت كبير: فالسرد هو العنصر الغالب وهو متعدد عند مختلف القصاصين، ولكنه يتميز بإسهابه وتعميمه وبعده عن الدقة والاقتصاد المطلوبين في القصة القصيرة، مباشر وتقريري في كثير من فقراته، وهذا ما يفقده سمة الإيحاء وبارقة الإشعاع، يستخدم الكلمات والتعابير الطنانة، مما يلجم قدرة التصوير فيه ويجمده عند حافة التقرير السريع، ذي الدلالة الواحدة، وقليلًا ما نجد السرد يأتي ملائمًا لطبيعة التجربة القصصية، مطاوعًا لمقتضياتها.
أما الحوار فينطبق عليه ما قلناه، سلفًا، من قصص الكفاح الوطنية، إذ هو استمرار للسرد، نادرًا ما يستقل بذاته ويكشف عن صميم تكوينه وتأليفه على إبراز الحدث وتكميله والإفصاح عن دخيلة الشخصية. كما لاحظنا سعي بعض القصاصين إلى استعمال الحوار الداخلي ولكنهم ينحرفون إلى المناجاة البسيطة التي تختلط بالتجرد في غالب الأحيان.
- (٣)
إن الشكل القصصي لهذه الفترة في مجمله سعى جاهدًا للتخلص من زعانف الشكل القصصي البدائي، وذلك الذي تطور عنه، وجهد أيضًا في سعيه للاتصال بالقالب القصصي القصير في شكله المتكامل الناضج، وهو إذا كان قد سار على هدى من خصائص القصة القصيرة الكلاسيكية، التيمورية ونظائرها في الشرق العربي، فقد عز عن بلوغ الجوهري في القصة القصيرة الكلاسيكية، والمتمثل في احتواء اللحظة العابرة واللقطة العارضة والإشارة البارقة، المعبرة عن الذات أو الواقع وإدخالها في قالب الفن الذي يشذب أطرافها الزائدة ويقدمها مصقولة تشع بالدلالات، أصيلة وفي بعد عن الهجنة، هجنة الأشكال المتداخلة التي قد تكون قصة وقد تكون أي شيء آخَر.
لقد كانت هذه المرحلة في الاستقلال ذيلًا لما قبلها، وهذا نتيجة أساسية، ولم يكن بوسع القصة القصيرة أن تظفر إلى صعيد أعلى، لم تكن الظروف الثقافية والموضوعية قد تهيأت له بعد، ولذلك فقد كانت شوطًا لا يستهان به في طريق القص الفني الذي سيتبلور في أشكاله الدقيقة والفنية وفي اتجاهاته ومضامينه المتطورة خلال المراحل المختلفة من الستينيات.
هوامش
«… الأدب مسئول أن يعيش هموم الحياة وآلامها وآمالها، وينزل إلى الجماهير الكادحة الهاجعة ليحركها ويوقظها، ويبعث في جوانبها الحركة والتمرد والحياة والأمل. إن الأديب ليس فنانًا فقط، ولكنه حامل رسالة اجتماعية وأمانة إنسانية كبرى. ولذلك فهو فنان ومسئول، وإنما تقوم هذه المسئولية على استطاعاته أكثر من غيره بتحسس الحياة وما تعج به من آلام وآمال … وإن سلبية الأدب المغربي المعاصر، وانطوائية أغلبية أدبائنا قد أفقدت أدبنا كثيرًا من القيمة الإنسانية المتوخاة منه، وزاغت به عن الدور الذي عليه أن يضطلع به في ظروفنا الراهنة. إن على كتابنا وشعرائنا وفنانينا أن ينسجموا مع محيطهم وظروف مجتمعهم، وعليهم أن يعيشوا هذه الظروف، ويذيبوا عواطفهم في هذا المحيط، ليعلموا أمتهم أحسن ما يحسون، ويوحوا إليها في ظروفها الحائرة أفضل ما يشعرون، ويرسوا لعواطفها وآمالها الأمثولات، ويجددوا لثورتها المسالك والاتجاهات.»