الفصل الأول
التطورات السياسية والاجتماعية في المغرب وأثرها العام على حركة الفكر والأدب وارتباط كل ذلك بنضج القصة القصيرة
مدخل تاريخي.
خطوات التطور القصصي وأسبابه.
القصة القصيرة الفنية في المغرب من خلال اتجاهاتها البارزة.
***
(١) مدخل تاريخي
يلزمنا قبل الإشراف على عالم القصة القصيرة الفنية والخوض فيما طرحته من مفاهيم جديدة أو متطورة، ومن أساليب في التعبير والتصوير، أن نستطلع الأجواء العامة التي نمت فيها الملابسات المختلفة التي رافقت وأحاطت بتكونها وصاحبت خطواتها وهي تخطو بين السير الوئيد المطمئن والتعثر المعرقل، أو هي تتذبذب بين الحالات والصور المشعة، الناصعة، والأخرى الباهتة أو الحائلة.
ولا حاجة للتذكير، مرة أخرى، بأهمية التعرض لخلفيات ومرتكزات الواقع، فهو مجال التجربة الإبداعية ومناط العرض والتصوير، وفوقه وفي ثناياه ورحمه يولد جنين هذه التجربة وينمو ويترعرع، وبالتعرف على مناخه وملامح تكوينه ووجوه بروزه وتعدده يتاح لعمليتي التحليل والنقد للأثر المدروس أن تأخذا شكلهما المتكامل وسندهما الضروري، خاصة والأمر في هذه المرحلة متصل بوضع تطوري ونقلة اجتماعية تاريخية، على مداها وبسبب منها، مباشر وغير مباشر، سيأخذ الأدب المغربي والقصة القصيرة فيه مظهرًا ومعاني إن لم تكن جديدة تمامًا، فهي متطورة لما سبق ومساوقة لظروف الفترة التاريخية. إن هناك، إذَن، مجموعة من العوامل السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، ساهمت كلٌّ منها على حدة في غزل النسيج الكثيف للمجتمع المغربي والمناخ الثقافي الذي نما فيه نسيج القصة القصيرة وأزهر فيه عودها:
لقد كانت هذه الحركة السياسية، دون ريب، التفافًا لقوى الشعب المهضومة الحقوق، من عمال وفلاحين وتجار صغار وحرفيين وموظفين متوسطين وطلاب، وفي شكلها الفعلي تجسيدًا للطبقة المتوسطة التي تمارس عادة أشد الأدوار تأثيرًا وحركية على صعيد التحول الاجتماعي، كما كانت طموحًا لنشر فرش جديد على الأرضية الاجتماعية تمتد فيه مطامح هذه الطبقة وتعبيراتها المختلفة، والتي من أهمها، طرح شعارات التقدمية والديمقراطية الصحيحة والتحرر الوطني على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إلا أن القوى المضادة للواقع المتقدم كانت تقف بالمرصاد، فلم يتيسر للعمل الوطني التقدمي أن يحفر مجراه العميق ويغرس أسس وجوده، فقد عصف بمشروعه تحالف القوى المضادة لحركة التاريخ، واستمرت البلاد تتخبط في خليط من المشاريع والمخططات وأشكال التمثيل الديمقراطي المزعوم، والوقوع في شرك التبعية الاقتصادية والاستعمار الجديد الضامن لمصالح البرجوازية الوطنية وحلفائها، والابتعاد عن كل ما قد يهدف لخلق الشروط الإنسانية والعادلة لحياة السكان. وقد أدى هذا كله إلى اتساع الهوة بين الحاكمين والمحكومين من جهة، وإلى تعرض الحركة التقدمية لسلسلة من الضغوط والمضايقات لم تثنها كلها عن عزمها ومسيرتها في قيادة حركة التحرر الاقتصادي والاجتماعي والمناداة والعمل من أجلها، من جهة ثانية.
ويمكن القول، وبشكل مركز، إن فترة الستينيات شهدت على امتدادها استعراض قوتين رئيسيتين ذاتي جيوب واستطالات عديدة، قامت بدور هام وواضح على مسرح الأحداث وتوجيه مسارها ومن ثم تشكيل منظومة الواقع، إنْ عمليًّا أو في صيغة طموح نظري مرتبط بممارسة يومية، فهناك:
التشكيل الرسمي أو السياسة الرسمية التي عرفت برامج مختلفة ووضعت خططًا عديدة في ميادين الاقتصاد والفلاحة والاجتماع والتعليم والثقافة، وهي التي أثمرت حاليًّا فئات التقنيين والبيروقراطية الإدارية وعززت من صفوف البرجوازية الصغيرة وبلورتها كشبه طبقة تحلم بالصعود إلى ذلك الغنى الفاحش الذي حصلت عليه البرجوازية الوطنية وريثة مكاسب الاستعمار والمستفيدة من تمركز التجارة والقطاع الخاص عمومًا في المدن. وواضح مدى التشابك في تركيب هذه الفئات، التي، وإن اتفقت على صعيد واحد، فإننا لا نجد ما يجمع بينها سوى المصلحة المشتركة، مصلحة الاستفادة والإثراء على حساب الغالبية من السكان.
وبدهي، كذلك، إن الثقافة التي يمكن أن تنتجها هذه الفئات هي ثقافة محافظة في جوهرها، مكرسة لواقع استغلالي، على الرغم من روافدها. ويمكن، بشكل اختزالي، أن نصف ثقافة هذه الفئات بأنها ثقافة تلفيقية انتقائية، فهي بالنسبة للإعلام المحافظين والحراس على هيكل الدولة ومتاعها، دينية عربية «أصيلة» مستمسكة بأهداب السلف الصالح والتراث العربي الإسلامي (أي تراث؟) مستهجنة لأساليب التجديد والتطوير وفي الفكر والتعبير، متحاملة على كل ما يخدش قيم الخنوع والاستعباد ويسعى لإسقاطها. وهذه الثقافة، بالنسبة للفئات الأخرى، عصرية متجددة، تتعالى على المجتمع وزراياته وتبطن في دخيلتها مقتًا للقيم العقيدية والتراثية، وإن أبدت ظاهريًا، وبحكم مصالحها، الولاء لهذه القيم والانصياع لمقاصدها. وأن عصريتها هذه تقصد إلى الاحتفال بمظاهر الحياة الغربية وثقافتها وأنماط وجودها، لكن في حدود بنية وإطار الليبرالية، ولذلك فعداؤها للفكر الاشتراكي واضح وتبعيتها واستلابها هو أشد ما يميزها أيديولوجيًّا. إن الثقافة الرسمية التي نعتناها بالتلفيقة والانتقائية هي، إذَن، ثقافة الطبقة السائدة، الطبقة السائدة وحدها وليس كل الطبقات الموجودة في المجتمع كما تحاول هي أن توهم بذلك، وهي لهذا الأمر تعلي ما يوائم مصالحها ويشد عضدها، وتصد بل وتجهز على كل تعبير ثقافي مغاير ومناوئ. وبما أن هذه الثقافة متحجرة، تصد عن الانفتاح والتجديد العميقين، فقد جاءت أشكالها التعبيرية نماذج مكرورة تفتقد في الفن الصفاء والصدق والقصد، وفي الفكر العمق والوضوح والمنهج العلمي المتطور.
وإذا كان ذلك هو التشكيل الرسمي فإن هناك الطبقات والفئات الأخرى التي يأتي ترتيبها أسفل السلم الاجتماعي والمادي، والتي لم تجن من الاستقلال شيئًا، بل أصبحت ولا تزال، لحد الآن، نهبًا لشتى ضروب الاستنزاف، وهذه بدورها تفتقد التجانس ووحدة النسيج الاجتماعي، وإن كانت تلتقي في الجانب المادي والطموح للأحسن ونشدان التغيير إنها تتركب من العمال والفلاحين وصغار التجار والحرفيين والفئات التي أخذت تنمو بعد الاستقلال وعلى امتداد الستينيات، أي الطلبة وأعداد كبيرة من الموظفين الصغار والمتوسطين، على أن هذا التنكيل يضم، بصفة عامة، الطبقة المسحوقة والأخرى المتوسطة، والتي تقترب في بعض ملامحها وسلوكها من البرجوازية الصغيرة. إن هذه الفئات جميعًا، والتي ازدادت تناميًا وتبلورًا عبر سنوات الاستقلال وعلى امتداد العقد السادس من هذا القرن في المغرب، هي التي ما انفكت تعيش الصراع وتكون عنصره الحاد والذي لا يلين، والطرف الذي تعرض المحن والأهوال وما يزال، ويمكن، إلى حد، ومن بعض النواحي، اعتبار حوادث مارس ١٩٦٥م الشهيرة تجليًا وتجسيمًا لقوة هذه الفئات وتعبيرًا عن موقفها الاجتماعي، إذ أظهرت في مجموعها رغبة واحدة، التغيير وبشكل عاصف.
ويمكن القول، وبصورة عامة أيضًا، إن الطبقة المتوسطة لعبت دورًا رئيسيًّا في تشكيل وتوجيه خطوات الأحداث عبر مرحلة الستينيات وفي صياغة أيديولوجية، سياسية وفكرية، والتي ما لبثت أن استقامت متفردة ثم تصلبت واخشوشنت بأن اتخذت لها صفوفًا من التنظيمات السياسية، التي وإن تفاوتت أصولها وركائزها، فهي تلتقي، جميعًا، في وحدة الهوية التقدمية.
وإن الثقافة الصادرة عن هذا التركيب الطبقي لتعبر، إلى حد بعيد، عن هويته وتعطي من نواحي مختلفة صورة مغايرة للثقافة الرسمية، على الرغم من أنها ليست هي البديل الحقيقي أو النهائي، وليس غريبًا بعد هذا أن تكون الأجناس الأدبية الجديدة قد خرجت من رحم هذه الطبقة وانطبعت بطابعها وخصائص تكوينها وتطورها، إن هذه الأجناس ومن ضمنها القصة القصيرة جاءت لتكون التعبير الفني عن هموم هذه الطبقة ومشاغلها الفردية والعامة، في محيط اجتماعي تتصارع فيه القيم والمصالح المتضاربة وتسقط فيه القوة الاجتماعية الصاعدة مرات عديدة تحت ضربات قوى أكثر قهرًا وجبروتًا، وهي في كل ذلك ما تفتأ تعاني وتتسنج وتعي أيضًا في أحيان كثيرة، وهذه الحالات كلها أعطت التصعيد الفكري لحركة الواقع السائرة إلى أمام رغم ما يعترضها من عراقيل.
هذا المناخ العام، الذي قصدنا أن يكون عرضه هنا عامًّا، انتعشت فيه القصة القصيرة ووجدت فيه بعد بحث طويل شكلها الحقيقي ومضامينها الأصلية. ومعرفة هذا المناخ بأجوائه المختلفة أساسي وهام في توحيد فهم النصوص القصصية وفي إدراك إلحاحها على قضايا دون أخرى، وأيضًا، في استغراقها في بعض الهموم الحساسة.
(٢) خطوات التطور القصصي وأسبابه
إن النتاج القصصي الذي يمثل مرحلة النشأة، وما تلاه، على الرغم من تعدد مضامينه وتداخل أشكال كتابته، لم يستطع أن يبلغ الحد الذي يضع فيه قدمًا راسخة على أرض الأقصوصة، فبقيت، بذلك، جل القصص تفتقد صلابة الهيكل وتماسك البناء القصصي، إن لم نقل إنها لم تتوفر على عناصر تكوينه الأساسية فظلت تعاني من فقر شديد في تمثل أبسط الأسس التي تؤلف التقنية القصصية القادرة على ضم أطراف العمل ضمًّا يبرز المضمون ويفي بمعالجته دون أن يخل بالقياسات والتقديرات الفنية.
لقد نبت الفن القصصي، في المغرب، في أرض غريبة عنه، ليس فيها ما يهيئ لتقبله ويمكن من ذيوعه ويساعد على نمائه ونضجه، ومن ثَم، لم تتمكن النبتة القصصية من الإزهار والتجذر في نفوس الأدباء والقراء أو في رحاب ما كان يكتب مما تداول الكتاب والمنشئون المغاربة على نسجه من مقالات، وتدبيجه من خواطر نثرية، الشيء الذي جعلها — أي النبتة القصصية — تبقى ضائعة ومحجوبة وسط مساحة شاسعة من الأعشاب البرية أو الكتاب التي لا تعرف من المقصة سوى «رُوي» و«كان» و«ويُحكى أن» و«أخبرني أحدهم»، وعلى نحو من الفهم والتفسير يشوه القصة والنثر معًا، ولا تمت بأي سبب فني للقصة في شكلها الذي أخذناه عن الغرب في العصر الحديث، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مقدمة هذا البحث.
وقد مرَّ زمن ليس باليسير، سواء في المغرب أو في المشرق العربي، ضل فيه كثير من الكتاب طريقهم إلى التعبير القصصي الصحيح وبقوا يعانون آلام تكوين جنين قصصي سليم، ورأينا كيف تعاقب الجيل الأول في فترة الأربعينيات على كتابة القصص في جهاد وعناد مستميتين وعلى تكييف إنشائهم النثري لهذا القالب الفني الجديد ولوضع اللبنة الأولى لإشادة بنيان القصة.
وعلى الرغم من المحاولة العنيدة وجهد الاستماتة، فهم لم ينشئوا قصة قصيرة حقيقية.
كانت المقالة القصصية، أولًا، التي تطرق موضوعًا يقتضيه ظرف أو حادث ما، والأغلب أن تكون للوعظ وبإسداء النصح أو للحديث عن واقعة عارضة يراد بها أن تكون بنت الواقع بالنية أو بالتعسف، وتحاط المقالة بسياج يراد له أن يكون هو الإطار القصصي ويدفع بحدث أو حكاية تكون مشجبًا ومناسبة لترديد وتوجيه العظات والنصائح وسيل الأوصاف والنعوت المنتقدة انتقادًا عشوائيًّا للناس ومحيطهم، الأمر الذي أنتج، في النهاية، وفرة من الكتابات ذات القصد القصصي يحار الناقد في تصنيفها وفي تلمس عناصر تكوينها الأولية، ولكن، في النهاية، ينقاد تحت ضغط ما يراه متواترًا ومستحكمًا بها إلى النظر إليها بحكم أنها مقالة قصصية، وخطوة عاثرة على درب طويل، والمقالة ذاتها فن نثري جديد في الأدب المغربي والقصة القصيرة لا تزال نطفة ومنها خرج الشكل الأول وهو على هجنته يرسم خط السير للأقصوصة المغربية ومدها بالنفس لتصل إلى المرحلة الثانية، أي إلى الصورة القصصية، وهي، إلى حد قريب، مجلي لبعض الملامح القصصية الفنية. أن الحكاية تصبح فيها، إلى حد، كاملة متسقة، قريبة في ترابطها وانسياقها إلى الأذهان والنفوس، وهي إن لم تنجح في تقديم الواقع في شكل محبوك وفن مركز كثيف تلتقي فيه عناصر الخلط والإيحاء والتدمير والتكوين، فإنها، لم تخل من رؤية فكرية وفنية متساوقة مع مستوى الفهم المحدود للقصة وللحياة الجديدة لدى الكتاب يومئذٍ.
وقد تخلصت الصورة من قيود التقريرية المقيتة والرأي المملى الذي يلخص صراع الإنسان والعالم والمجتمع في عبارة واحدة، زد على تبسيطهما وإفراغهما من كل محتوى إنساني أو واقعي. تخلصت الصورة إلى العبارات ذات النفس والتلوين التصويري والقصد التحليلي الذي يهدف أن يجوس في الذات ويستطلع المعالم الخارجية لها، ومن وحيهما وعلى نسقيهما، تأتي الكتابة القصصية وفي طويتها أن تكون مشبعة بروح الفن، متسنمة لبعض ذراه.
على أن ما قدمته المقالة القصصية والصورة القصصية من محاولات ونماذج، إلى بداية الاستقلال، لم يتمكن من دفع حركة الفن القصصي شوطًا بعيدًا. لقد كان النموذج واحدًا رتيبًا، والواقع منسوجًا مرات لا حصر لها، والقلم الذي يدبج هذه القصص مغموسًا في دواة واحدة. وقليلة هي المحاولات التي تلفت النظر بجدتها أو تطورها، فأحمد عبد السلام البقالي، الذي أتت قصصه تتويجًا لمرحلة هامة في تاريخ القصة القصيرة المغربية، لم يستطع أن يخترق حزام السرد العادي الذي تنطوي بداخله الحكايات تلو الحكايات وتقفز فيه موهبة البقالي في الإشارة الساذجة واللقطات البهلوانية والإسهاب الممل، لدرجة أشرفت القصة القصيرة أن تفقد على يديه دلالتها ومبناها.
ولم يكُن منتظرًا أن تحدث المعجزة بعد الاستقلال إذ لم توجد العوامل أو الينابيع الجديدة والثرة التي تصب في نفس الكتاب قطرات من الفن الجديد تساعدهم على التطور وتدفعهم إلى النضج والتجديد.
فالسنوات التالية مباشرة للاستقلال تكاد تكون فقرًا من كل نتاج أدبي شعرًا أو نثرًا، فلم نظفر منها بما تظفر به الأمم من كتابها عادة بعد النصر، والحق أن الحماس الوطني والتباس كثير من الظواهر حالًا دون وضوح القصد وسهولة التعبير، وما كتب وقتئذ لم يتجاوز بعض الخواطر الرومانسية والإشعار الحماسية، أما في القصة فقد اتفقنا على أن ندعوها بالمرحلة الانتقالية، أي الجسر الذي عبرت عليه القصة بعد ضياعها الطويل وسياحتها الهائمة في البحث عن هويتها. وحين نذكر هذا لا نعني بأن مطلع الستينيات هو الذي يمثل البداية الزاهرة للقصة القصيرة في المغرب، وإنما نذهب إلى أنه انطلاقًا منها، بدأت حركة القصة تسير في الاتجاه الذي تلتقي فيه بهويتها وتكتسب سمتها ووقارها ولتخوض بعد ذلك في مغامرات الفن اللانهائية.
إن هناك أسبابًا معينة جعلت القصة في نظرنا تخطو خطواتها الحاسمة وتنتهج النهج الذي ييسر لها الظهور متماسكة راسخة أو تكاد. وهذه الأسباب بعضها متصل بالفن والثقافة بذاتيهما وبعضها وشيج الصلة بالعامل الاجتماعي والمحيط الحياتي الذي تحيا فيه الفنون والأجناس الأدبية وتنتعش أو تذبل فيه وتموت، وإن كانت هذه الأسباب، في الحقيقة، متكافلة فيما بينها تتبادل التأثير.
لقد تهيأ من الأسباب والظروف ما جعل الفترة الأولى من عمر الاستقلال، كما ذكرنا آنفًا، تعمر بالمظاهر الاحتفالية وأشكال النصر التعميمية وتتأجج بحماس وهيجان من ناحية، وهيمنة وتكالب الفئات المستفيدة من باكورة الاستقلال من ناحية ثانية، وساعد هذا إلى حين على اختفاء القيم الأصيلة لحركة التحرر الوطني وإلى نشر سمة من الأوهام والوعود السرابية قبع السكان، تحتها، ينتظرون انفجار الغيوم وتهاطل الخيرات. لقد تميزت هذه الفترة، إذَن، بالتعميم في محتواها والتجريد في شكلها الخارجي، وهما خاصيتان تخفيان بروز معالم الواقع بشكل محدد وجلي وتسدلان ستارًا من الصمت على مكامن المحيط ومحتوياته الداخلية كما لا تسمحان ببروز النموذج الفذ الذي يختزل في تشكله ويبرز في كيانه جملة من القيم ووحدة من المصائر، أو يعكس في حركة سلوكه وضرب ممارسته شريحة فذة هي الأخرى من الشرائح الاجتماعية. وهذه عناصر وجوانب تعد أساسية ومتطلبة لخروج القالب القصصي القصير من مخاض تشكله العسير ولامتلائه بالمحتوى الضروري والدلالة الفنية والفكرية.
وقبل ذلك، أي في العقدين السابقين ونيف لبدء فترة الاستقلال الوطني، كان المجتمع المغربي منجرفًا مع تيار الحماس العارم الذي كان ممتلكًا النفوس والأفئدة، باسطًا نفوذه على العقول والاهتمامات كلها أو جلها، وقبل اشتعال جذوة هذا الحماس ودخول البلاد في حمية ومعمعة الصراع مع المستعمر كانت البنية الاجتماعية والبنية القومية، كانعكاس فكري لها، تخوض صراع المواجهة مع المظاهر الحضارية والفكرية الدخيلة وتتصدى لعناصر التجديد المقصود به تشويه «الخصوصية» المحلية، ولأسباب التبدل التي من شأنها أن تذهب بريح الراسخ المتعارف عليه، قاعدة الارتكاز الفكري والوجداني، ولم يكن لها من سلاح في عملية التصدي تلك سوى شدة التمسك بالقديم في مواجهة الجديد والانكفاء على الأصيل الوطيد أمام زحف الدخيل وتسلله وتقدمه الذي لا ينقطع، أي أن رد الفعل ساعد على ازدهار القيم الأصلية وإعطائها المناخ الذي تحيا فيه من جديد، رغم تبدل ريح العصر، ولعلنا واجدون في هذا ما يفسر صمود الروح التقليدية في ضروب التعبير الأدبية، وكذا، تعثر المنشئين في الأدب بين الأشكال النثرية وتوجسهم، الذي نجد له أمثلة إلى وقتنا الحالي، من الحلل الجديدة ومولدات الفكر المستحدثة.
إن لهاتين الناحيتين، ولا شك، أثرهما النافذ في تنحية النموذج القصصي بعيدًا عن مجلي الظهور والتشكل المكتمل والطافح بألوان النضج ومخايل النضوج، وهما معًا، يجعلان تيار الحركة والغليان ينحسر مخليًا الحلبة، كما أن لعامل السيطرة الاستعمارية، على وجه الخصوص، دورًا شديد التأثر في سيادة نمط واحد من الممارسة الاجتماعية، التي وإن تبدلت بحكم تواجه كيانين حضاريين متباينين، فإن المظهر الغالب عليها والمستحكم فيها هو الفعل النضالي وشعور الحماس والغليان الوطني، الذي يضفي بدوره سمت التعميم على الواقع ويخمد، إلى حين، مكامن الاختلافات ومناحي التناقضات بين الفئات الاجتماعية ويقدم المحيط الاجتماعي وبنياته المتعددة والمختلفة في تشكيله، وإن كانت متطاحنة عمقًا، فهي متجانسة شكلًا ومتآزرة في الاتجاه الواحد مواجهة المستعمر، وهذا التجانس على الصعيد الاجتماعي هو بدوره لم يكن، بأي حال، ليساعد على تبلور القالب القصصي الفذ أو يدفع إلى انبثاقه، لأن القصة القصيرة، التي تشترط العنصر الدرامي أساسًا لا مناص منه لتكوينها، لا تزهر في مناخ ذي ميسم واحد متماثل، وهذا يعطينا تبريرًا أكيدًا، من بين تبريرات أخرى، لتأخر ولادة الشكل القصصي بالكيفية التي تكفل له اعتراف وتقدير الفن وتهيئته ليكون أكثر مما مضى أداة تعبير تستبطن الحياة وتحفل بصورها ومعانيها.
فإذا تجاوزنا هاتين الفترتين كلتيهما وتطلعنا إلى مطلع الستينيات فإننا سنجد عناصر أخرى أخذت تصنع لها مواقعها وتفرس جذورها اجتماعيًّا وتاريخيًّا.
إن هذه الطبقة التي سيشتد عودها ويمتن نسيجها ويتكاثف، على امتداد الستينيات، هي التي قدمت وما فتئت تقدم المادة الخام والنماذج الأكثر قابلية على التشخص والتشكل في القالب القصصي القصير. لقد هيأت نوعية حياتها وأسلوب سلوكها وممارستها والوجوه المختلفة لوجودها، وعبرت كذلك عن الأزمة، المفتاح بالنسبة للقصة القصيرة.
فالعجينة التي يتشكل منها هذا الجنس الأدبي الحديث تستقي نفسها من الشرائح الاجتماعية التي تكون هذه الطبقة ومن البيئة التي تتولد منها أزماتها المشحونة، والقوية الدلالة، والقص القصير اقتناص واهتبال خاطف للحظة معيشة وسيطرة على ظرف أو وضع أو سلوك معاش، بكثافة واختزال، وذلك، بتسليط الضوء على مناطق بذاتها من الواقع وما هو بمثابة مركز الصدم والإثارة فيه، ولكنه يبقى في الغالب ناتئًا بأزمة الفرد وعذاباته في خضم دوامة الحياة الاجتماعية والإنسانية، وهي عذابات مصدرها ضغوط تكالب طبقي يخنق حس التطلع ويحبط طموحها ووعيها الشقي أحيانًا، وذلك، في محيط اجتماعي استقام هيكليًّا واتضحت عبر فضائه وبنياته الأطراف المتصارعة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية المستغلة والمستغلة.
إننا لم نعد هنا أمام سديم من العلاقات والقوى والقيم، ولا أمام نمط للعيش تختفي تناقضاته ويتاح فيه الظهور لعنصر واحد فقط، نحن هنا أمام واقع ذي أبعاد وهيكلية جديدة نسبيًّا، وهذا ما يعطي للقصة القصيرة فرصة حقيقية ترشحها لتكون الجنس الأدبي الأقدر من غيره على استشفاف وتمثل العلاقات الجديدة وتكثيفها فنيًّا لتكون الواقع، الدلالة، الواقع، الإمكان.
إن القصة القصيرة، وهذا سواء في المغرب أو في المشرق العربي وفي غيرهما من البيئات التي ظهر فيها هذا الفن ظهورًا طبيعيًّا وشرعيًّا، تمتح مادتها وصورها وأحداثها وتستعير نماذجها من محيط تلك الفئات وما تضطرب فيه من عيش ومعاناة، وهو ما استطاعت أن تذهب في اتجاهه وتصل إلى مشارفه مع مطلع الستينيات وكان إيذانًا بانطلاقتها الصحيحة.
ثم إذا انتهينا من هذه العوامل الموضوعية فإننا واجدون أسبابًا ثقافية وفنية كان لها أثرها الحاسم، هي الأخرى، في تطور الشكل القصصي وتوفير عالمه ونماذجه وصوره وأحداثه الأصدق والأقوم والأكثر لصوقًا به من غيره من الفنون والأجناس الأدبية.
ويأتي على رأس هذه الأسباب غنى واتساع ثقافة القاص وتنوع مصادرها، يضاف إليها ما أخذ يسمح به الواقع الجديد من رؤية شبه واضحة ووعي سابق، وأن من العوائق التي اعترضت سبيل تطور القصة عندنا منذ نشأتها ضحالة الثقافة وما يمت إليها لدى منشئينا القصصيين، إذ كانت ثقافتهم تعتمد، مركزيًّا، على التراث الأدبي والفكري العريق للعرب مشارقة ومغاربة وأندلسيين، وكتابتهم موسومة بمياسم النثر العربي، على اختلاف عصوره، وبتفاوت بين الكتاب، وهمهم الأكبر أن يحتذوا النماذج الأم وأن يصوغوا على منوالها حتى يعترف لهم بالفصاحة والبيان.
فإذا تجاوزنا ذلك فإلى بضع نصوص متفرقة من أدب الحديث لأدباء النهضة الحديثة أمثال طه حسين وأحمد أمين وعبد الرحمن الرافعي ومصطفى المنفلوطي وسواهم ممن حملوا عبء وضع سبائك جديدة للغة العربية تلائم روح العصر وتعبر عما ضاقت به صدورهم وامتلأ به وجدانهم، وتراهم يزعمون أنهم قرءوا محمد تيمور ومحمود تيمور وإن كان حظهم من هذا الأخير قليل. ثم تجدهم بعد ذلك يزعمون أنهم قرءوا لمشاهير كتاب العصر أو الروائيين المشهورين أمثال بلزاك وتولستوي وديستويفسكي وتشيخوف، وهم في الحقيقة لم يصيبوا منها سوى النزر اليسير مما كانت تطلعهم عليه المجلات الشرقية من قبيل مجلة «الهلال» القاهرية أو بعض الصحف في المغرب مثل صحيفة «السعادة» و«الوداد» ملخصًا ومترجمًا ترجمة مشوهة لا تمت إلى أولئك المشاهير بصلة تذكر، ولو كان ما زعموا صحيحًا لوجدنا صدًى لهذه القراءة ولساعدهم نهلهم وتلمذتهم على تهذيب وصقل مواهبهم وإنشائهم القصصي.
وعلى خلاف ذلك نجد الكتاب المغاربة ذوي التعبير الفرنسي قد قطعوا شوطًا كبيرًا في تلمس الكتابة القصصية، قصيرة كانت أو روائية، ووضح منهجهم فيها وبان تفوقهم، حتى كادوا يعدون من أساتذتها، بل اصطنعوا لأنفسهم طريقة متميزة ونهجًا متفردًا من حيث الرؤية والوعي والصياغة الفنية، بل وفي كيفية التعامل مع اللغة التي سعوا بشتى الوسائل لتحطيمها وتخطيها إلى لغة بديل داخل اللغة. وأن كتابًا مثل إدريس الشرايبي وأحمد الصفريوي، في المغرب الأقصى، وكاتب ياسين ومحمد ديب، في الجزائر، يقدمون مثالًا فريدًا على التفوق والجودة التي بلغها نضج الفن القصصي على أيديهم، مما جعلهم ينتزعون الإعجاب والتقدير بلا منازع ولا شك أن السر في ذلك، فضلًا عن موهبتهم الأصيلة، يعود إلى امتياحهم مباشرة من المصدر الأصلي للأدب القصصي وذلك في الوقت الذي اضطر كتابنا مشارقة ومغاربة إلى عبور جسر الترجمة أولًا، ثم، تقليد الكتاب العرب في المشرق المتأثرين بدورهم بهذا الفن الوافد من وراء البحر. وفي الوقت الذي استطاع فيه إدريس الشرايبي أن ينجز رواية فذة، مبنى ومعنى، وهي روايته «الماضي البسيط» سنة ١٩٥٧م، كنا في المغرب نعدم، تمامًا، أي نص روائي، بله لم نكن نتوفر بعد على النص القصصي القصير المستلهم روح الواقع وخصائص الفن الناضج.
على أن هذه الثقافة الفكرية والأدبية الأجنبية جاءت، مرة أخرى، وافدة إلينا عن طريق المشرق العربي الذي أتيحت له ظروف للاتصال والاستيعاب والنقل لم يتح لنا مثلها، أي أن ثقافة الغرب جاءت إلينا مترجمة وخاضعة للمناخ الأدبي والثقافي في المشرق الذي كان ينقل ما يماشيه ويستجيب له، وبذلك لم يتح لنا الاطلاع على الأمور في مظانها لأن أغلب قصاصينا لبداية الاستقلال وما أعقبها لا يلمون بالفرنسية أو سواها وإن وجد من بينهم من قرأ شيئًا فإن هو إلا إلمام سطحي لا ينفذ إلى الفور، وبذلك عشنا فترة طويلة، أخذت تنحسر الآن، ونحن عرضة لاختيار الآخرين وأذواقهم.
هذا، وقد وافق القصص الاجتماعي والفكر الاجتماعي المترجم ميلًا في نفوس كتابنا لدى مطلع الستينيات، وافق هوى في أنفسهم والتقى بوعي جديد متولد في أذهانهم ومحيطهم.
ألم يكُن القاص المغربي يبحث عن المادة الخام التي يعجن منها مادة الحياة وينحت بها ملامحه وأشكاله المحددة المبرزة لحدوده والمجلية لما ينطوي عليه من آلام وبؤس ومصاعب، وما يتعثر فيه من أزمات ومزالق ذاتية وموضوعية، وبذلك جاء القصص المترجم ذو البعد الاجتماعي أو الأدب القصصي العربي الذي أخذ هذا المنحى واحتذاه «نجيب محفوظ، أبو المعاطي أبو النجا، يوسف إدريس، توفيق الحكيم … إلخ» ليعطي القصة المغربية نفسًا جديدًا ويهبها أدوات للنمو والتطور، حاجتها إليه ماسة وأكيدة.
ثم نجد المذهب الثاني الذي سارت فيه المترجمات القصصية وهو الأدب الذاتي والوجودي، بصورة خاصة، وهو الأدب الذي نجد له أمثلة في قصص جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامي وكافكا وغيرهم، وقد جاءت هذه المترجمات في هذا المذهب لتغذي بدورها وجدان وثقافة القاص عندنا مضافًا إليها العناصر السابقة، والحق أن الفلسفة الوجودية وفلسفة الضياع والعبث كانتا قد اكتسبتا ذيوعًا واسعًا أثر الحرب الكونية الثانية في أوروبا وفرنسا خاصة، نتيجة لما أصاب الفرد من انسحاق وما تعرضت له القيم الإنسانية غداة الحرب من دمار وانجراف. وفي المشرق العربي وجدت لها مرتعًا لدى كتاب البرجوازية الصغيرة والمناهضين لفكرة الالتزام والتقيد بالفكر والأدب الاشتراكي الواقعي فدغدغت ميولهم الليبرالية وأمزجتهم «المتحررة» ووجدوا فيها انطلاقًا جامحًا للذات المأزومة وفي قيمها ورؤاها متنفسًا لهم ومستراحًا، فعكفوا على ترجمة آثارها وتيسيرها للناس.
وقد أصاب القاص المغربي حظًّا غير قليل من أدب هذه المترجمات كما وجدت سبيلًا ممهدًا إلى كتاباته، بينة حينًا، ملتبسة متشعبة في كثير من الأحيان. وفي كلتا الحالتين كان لها دورها في زرع بذور فكرية جديدة في تجربة القاص الكلية وفي تطويع أداته الفنية. أليس القاص المغربي ابن الطبقة الوسطى التي أفرخت عقب الاستقلال وتمزقتها شتى الهموم والأوصاب، وهو يحس بروحه تنسحق وبمطامحه وتطلعاته التائهة تهوي وتصعد ولا مرتكز له ولآماله. لا غرو إذا انجذب القصص الوجودي وعكف على قراءته واستلهامه، ولا غرو بعد ذلك إذا وجدنا في القصص المغربي طغيان الروح الفردية والنزعة الذاتية.
بعد هذا، نستطيع أن نقول واثقين بأن عنصر التثقيف القصصي كان له، بدرجة أساسية وحاسمة، أثره الفعال في إنماء التجربة القصصية المغربية وفي بلورة مفاهيم ومضامين بذاتها، وكذلك، في اصطناع القالب القصصي القصير وبروز هيكله وتكامل مبناه ونستطيع أن نقول أيضًا إن القصة المغربية القصيرة، وانطلاقًا من أوائل الستينيات، تهيأ لها أن تتطور بحكم هذا الاغتراف والتأثر، فاكتمل لها بذلك شرطان أساسيان ذاتي، وتمثل في تكوين القصاصين وميولهم، وموضوعي وظهر فيما قدمه الواقع من أشكال الوعي والحركة، وما ساهمت التيارات الثقافية في تمريره من مفاهيم وقيم فكرية وجمالية.
وبانفراج أفق الاستقلال وانطلاق طريقه قليلًا كان لا بد للثقافة والفكر من أن يصيبهما بعض التحول الذي أخذ يصيب المحيط الاجتماعي ومن أن يمسهما ما أخذ يمس غيرهما من البنيات مما هو لصيق بهما، مؤثر ومتأثر بهما أيضًا. واتسعت دائرة الاهتمام أمام الكتاب واتضحت، إلى حد، أطراف الصراع وعناصر الأزمة، وبات لزامًا على الكاتب وكل من دفع بنفسه في تجربة الإبداع من أن يتقصى أدواته ويثقفها كي يصيب حظًّا مما ينشد ويبلغ آية ما يهفو إلى بلوغه في مضمار الفن وإن شق المسعى وشط المنال.
إن بزوغ فجر الاستقلال وسطوع شمسه جلب إلى المغرب إشعاعات كان دونها ألف حجاب، كما فتح الباب لدخول التيارات الثقافية من الغرب أو المشرق العربي ولوفود الكتب والمجلات والصحف التي شكلت وتشكل، لحد الآن غذاء أساسيًّا لمثقفينا وكتابنا أكثر من أي شيء آخر. لقد كانت هذه التيارات والغذاء الثقافي مصدرًا هامًّا من مصادر التجربة والخبرة الثقافية للقاص وتعد، بلا ريب، مكمنًا من مكامن نتاجه وطريقًا لفهم أسلوبه والمضامين المبثوثة في قصصه.
لقد أتاحت هذه الثقافة، إذَن، للقاص المغربي سعة الأفق الفكري من ناحية وساعدته على تطوير تجربته وأمدته بالأمثلة الفذة التي يستطيع على ضوئها وبوحي منها صقل موهبته والدفع بها في سبيل النماء والتعبير المكتمل.
(٣) القصة القصيرة الفنية في المغرب من خلال اتجاهاتها البارزة
إن دراستنا للقصة القصيرة في المغرب، في مرحلتها الجديدة والتأسيسية انطلاقًا من الستينيات، ستتم كما هو الشأن بالنسبة للمراحل السابقة، من خلال رصد وتحديد مجموعة من الاتجاهات. هذه الاتجاهات التي تبين بعد فحص النصوص وتقليبها على شتى الجوانب والتحقيق في تلاوينها الفنية وعناصر محتوياتها، وعلى امتداد ما يقرب من عشر سنوات، تبين أن القصة القصيرة تتوزع عبرها وتتنوع في مختلف هياكلها تنوعًا متطورًا ومتجددًا.
- (١)
إن منهج الدراسة الذي هو منهج نقدي متكامل، يعتمد الأفكار والمحتوى كما يعني بالناحية الفنية والجمالية، وعنايته بهما عناية متكاملة لا تفصل هذا عن ذاك، ولا تحفل بهذا مع التضحية بسواه، إنه منهج يرصد النصوص ويحككها معالجة ونقدًا من زاويتين أساسيتين.
- (٢)
إن هذا المذهب وجد سبيله إلى البروز والتحقق، في هذه الدراسة، عن طريق وضع اليد على المناحي الرئيسية والتي تنصب فيها مادة القصاصين وتجاربهم، وبذلك ففي ظل هذه التجارب، متعددة ومصنفة متسلسلة تحقق له الوجود وأمكن بواسطته الخروج بالاستنتاجات والانتهاء إلى الخلاصات الأساسية.
- (٣)
انطلاقًا من النية التي رسخت عندي بدراسة وحصر الأفكار والقضايا التي دارت في فلكها قصتنا القصيرة وبملاحقة التطور الفني أو التكتيكي الذي تخللها عبر مراحل سيرها المختلفة، فقد تبين لي أن خير مدخل لذلك هو دراسة القصة منضوية تحت عناوين بارزة ومواضيع كبرى تفردها وتهبها تميزها ووحدتها.
- (٤)
إن هذه الاتجاهات أو العناوين الكبرى لم يتم رسمها ورصفها رصفًا متعسفًا ولم تستعر من أفكار سابقة، على وجود التشابه والتطابق مع مواد قصصية خارجية أخرى، وإنما أتينا بها من صلب المادة المتوفرة ومن وحي ما تقره تجربة القاص، وعلى هدى من المعاني والمضامين التي تجسدها الآثار القصصية في نهجها ورؤيتها الإبداعية والقيم التي تحتفل بها.
- (٥)
إن هذه الاتجاهات ليست ضربًا من التفكير، كما أنها ليست جملة من المضامين والقيم الاجتماعية والفكرية فحسب ولكنها إلى ذلك رؤية إبداعية وتشكل فني. فتكريس كاتب ما نفسه لقضية أو فكرة بعينها، بطريقة ما، تجعل كتابته تتسم بميسم أو مياسم تضعها، بالضرورة، في خانة من الخانات وتفرض عليه الكتابة بأسلوب وتقنية تنسجم مع غرضه ورؤيته.
- (٦)
لذلك فدراسة القصة القصيرة، من خلال اتجاهات بذاتها، يقصد بها، فضلًا عن التنظيم والتأطير اللازمين، معالجة العمل القصصي في وحدته المكتملة والمتناغمة وفي نسيجه المحبوك والمتفاعل.
- (٧)
إن هذه الاتجاهات ترسم خطًّا في التطور على صعيدي الشكل والمضمون كما قطعته القصة القصيرة في المغرب، انطلاقًا من الستينيات إلى آفاق السبعينيات، وهي لذلك ترسم الخط البياني للمفاهيم والرؤى والقيم التي سادت وترعرعت وتكونت على صعيد الواقع والحياة الاجتماعية عمومًا كما التقطتها عدسة القاص وامتلأت بها مخيلته الفنية.
- (٨)
إن وجود هذه الاتجاهات بما تحويه ليس بالضرورة تعبيرًا عن واقع معيش، كما أن العناصر الفنية المجلية لها ليست كذلك، وبالأساس، أصيلة فيها. لأن عامل التأثر والاقتباس ذو نفوذ بالغ فيها ولذلك نجد تعايش أكثر من اتجاه في فترة واحدة.
- (٩)
وأخيرا فإن تصنيف هذه الاتجاهات لم يضع في اعتباره كل النصوص القصصية، فهذه عملية قد تتكفل بها أنطلوجية خصوصية، ولكن استهدف إدماج الكتاب الذين ثبت رسوخهم وتأكدت استمراريتهم وبرزت لهم وجهة نظر مكتملة من خلال نصوصهم، فكانت القصة القصيرة مجال تعبيرهم الأجلى والأوثق لهمومهم الذاتية وانشغالاتهم الفكرية، واستطاعت كتاباتهم أن تصنع الخارطة الفنية والفكرية لهذا الجنس الأدبي في تصميم منسق أو قريب منه.