الفصل الثاني

الاتجاه القصصي الاجتماعي

توطئة.

دراسة النقد العربي للمضمون الاجتماعي.

الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة المغربية.

الاتجاه الاجتماعي في قصص محمد إبراهيم بوعلو.

الاتجاه الاجتماعي في قصص محمد بيدي – محمد برادة.

***

(١) توطئة

نعالج فيه:
  • (١)

    علاقة الفن بالحياة عمومًا، كتوطئة.

  • (٢)

    صلة الأدب بالمجتمع في الأدب والنقد العربيين.

  • (٣)

    دراسة النقد العربي للمضمون الاجتماعي.

  • (٤)

    الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة من خلال قصص محمد إبراهيم بوعلو – محمد بيدي – محمد برادة.

(١-١) ملاحظة أساسية

آثرنا التعرض للنقط المشار إليها أعلاه لما لها من كبير أهمية في تبيان المكانة التي احتلها الموضوع الاجتماعي في الفنون الأدبية، وفي القصة بصورة خاصة وثانيًا لأن قصتنا القصيرة سواء ما كتب منها في المغرب أو في باقي أقطار البلاد العروبة لم تفلت، لحظة واحدة، ولو هومت في فضاءات التجريد والذاتية، من تنفس أريج مناخ اجتماعي بذاته وتستلهم بيئة معينة تكتسب سماتها وتتخللها طباعها وانشغالاتها.

ومن هنا جاءت إطالتنا المتعمدة وتحليلنا المفصل للنقط السابقة نظرًا لما ستفيد به الفصول اللاحقة كلها.

(١) تؤكل جل الدراسات الاستيطيقية حول الفن وثيق ارتباطه بالحياة وشديد تجاوبه وتفاعله مع أجوائها ومظاهرها، فالفن بدء أنبت هذه الحياة التي يضطرب فيها الإنسان ووليد ما تتمخض عنه التجربة البشرية في معاركتها وصراعها للطبيعة وقوانين العيش والبحث اللاهث عن محور ارتكاز للإنسان في العالم. ويفيد البحث العلمي والنقدي المتدرج صفة الحلول المتبادل بين منظومة الحياة كشمول للفعل والزمن والصيرورة وبين تجربة الفن كتفسير جديد ونظم خلاق للوجود ولصياغة محمول الدبيب والمخاض البشري في الحياة. وتأتي هذه الصفة متوهجة بلهب القبس الإنساني وحرارة المواجهة الدائمة والقائمة بين الإنسان الخلاق وبين عناصر الكون والشروط الحياتية الدقيقة، وإذا كان الفن يغور بنا في أعماق الذات ويدفع بنا في بحار ومسافات من التساؤل والحيرة الملحاح ويدوخنا في دوامة التشوف لمعانقة الطرف الآخر من الذات والتوحد بمطلق الوجود أو مرتكزاته في صياغة بديعة وخلاقة، فإنه، كذلك، وبالأصالة، يمثل عبورنا إلى محيط البشرية الصاخب فتنثال الحوادث والمشاهد، وتتفتق صور التعبير والفهم وتمتد على مدى منظور الذات المبدعة شرائح الوجود وحكايا الإنسانية المنهوشة بعذاباتها وفجيعتها، المتشوفة إلى أفراح بلا حدود.

وقد شدد كثير من الدارسين على العلاقة السببية الموجودة بين الفن والحياة وأحسوا بالتجاذب القائم بينهما. فهذا ﻫ. ريد يرى أن الصلة بين الفن والحياة «ليست مقصودة ولا متكلفة، ولكنها تلقائية، فالفن مظهر من مظاهر النشاط الاجتماعي المتعددة، فإذا جرى على تلك المظاهر تغيير أو تبديل تبعًا لضرورة ملحة، فكل هذا التغيير يجري على الفن أيضًا، ما دامت كل المظاهر قائمة على أساس دينامي واحد»١ هذه النظرة، على ميكانيكيتها، تفيد تماسك صلة الفن بالعالم الخارجي وبشروط الواقع المادية وبالتأثير المتبادل بينهما.
بيد أن الفن في ذاته يبقى عند عدد من الباحثين والفلاسفة مثالًا في نفسه وغاية في ذاته. إن رأي كانط حول الفن في عمومه يتسم بهذا الإعلاء باعتباره يستمد أصوله من جوهر الفنان وأنه يقع من عملية الإبداع في غاية صفائها وتألقها لأجل النبع الفياض الذي هو الفن، ومن هنا جاءت المدرسة المشهورة متخذة من آراء كانط الأساس والدعم الفلسفي لآرائها وكتابتها وتقرر دون تردد اعتبار الفن ذلك القبس الإلهي المتوهج والذي يستمد توهجه لا من حطب الأرض بل من نفسه وملء طاقته، كما تبين هذه النظرة عن إخلاص الفن لماهيته، فلا غاية ترتجي من ورائه ولا معاني يلزم تبليغها أو أخلاق إنسانية ينبغي بثها، «لا يحمل رسالة الإنسانية بل يفضي بصمتها ويجهر بصوت واحد هو صوت الفن.»٢
وفي هذه النظرة، ومن قريب، نلتقي مع بندتو كروتشه في فلسفته العميقة والمتسامية بالفنون، أنه يعتبر «الفن رؤيا أو حدسًا، والفنان إنما يقدم أصولًا أو خيالًا»٣ وهو يبعد عنه كل صفة نفعية أو وظيفية «الفن إذا نظرنا إلى طبيعته الخاصة لا شأن له بالمنفعة»٤ ويبقى علينا عندئذٍ أن تبعده عن ساحة الفعل التاريخي الإنساني لنعتبره تطابقًا بين الإبداع والمبدع، التحامًا للشعور ومولده أو نبعه، معانقة للفيض الداخلي والتشكل الفني، أو هو، إذن «التعبير عن شعور أو هذا التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة، أي بين الحدس والتعبير.»٥
ويخيل إلينا أن مثل هذا الفهم يفصم كل وشيجة بين الفن ومصدره الحقيقي الذي هو الحياة ويحيل فعل الإبداع إلى جزيرة معزولة عن التيارات وما يصخب به العالم من عنف وفجائع وأفراح أيضًا. غير أن كروتشه سرعان ما يبعد هذا التصور عن أذهاننا، وما يلبث أن يبدد الوهم الجاعل من الفن طائرًا أسطوريًّا يحلق في فضاء طليق، فما من فنان يخلق أثره حرًّا من شروط الزمان والمكان، ويذهب في رأي أكثر شمولية وعمقًا وإدراكًا لصميم العمل الفني إلى «أن كل تصور فني محض هو في الوقت نفسه هو الكون في هذه الصورة الفردية، هو هذه الصورة الفردية الشبيهة بالكون، كل كلمة تنفرج عنها شفتا الشاعر، وكل صورة من الصور التي يبدعها خياله، تنطوي على المصير الإنساني كله، وتضم كل الآمال والأوهام الإنسانية»،٦ بل يذهب كروتشه إلى أن الفن «يحوي صورة الواقع في صيرورته، في نموه الدائم، وهو يخرج من جوهر ذاته، عذابًا وسعادة.»٧

ثم جاءت مدارس وآراء فنية ونقدية أخرى، وقد اتفقت، في مجملها، على الصورة الحيوية للفن وأكدت على دينامية العلاقة بينه وبين الحياة، وهي إما أن تكون من حيث التأثير والإيحاء أو من حيث الوظيفة الاجتماعية والإنسانية العامة، أي بما يقبسه العمل الفني من الوجود، من عناصر تشكيله ودماء حياته وتجدده ومشاهد البشرية المتناقضة فيه، وأيضًا بالدور الذي يمكن أن يضطلع به في التنوير واتخاذ الموقف واحتضان أزمات الإنسان، بالتعبير والفهم والاقتراح الجديد.

وعلى أي فإن الفن في صورته الصادقة لا يمكن أن يمثل إلا الحياة ولن يستطيع الانفصال عن شرطها أو الانسلاخ عن مكونات الواقع ومولدات الإبداع، بل وحين يتمادى الفنان في تيهه الخاص ويسقط في الانكفاء التام على ذاته فإنه، آنئذ، وبشكل ما، يلفت النظر إلى وضع إنساني، إلى شعور أو إحساس ما متوافق مع الطبيعة الإنسانية، ومشع بأشرق لمعانها، وهذا ما يؤكد عبارة ه. لوفافر: «الأديب الحق يعبر عن الحقيقة الجوهرية بتعبيره عن ذاته بل يبلغ الفنان ذروة الروعة حين يصل بفرديته أعلى درجات الحيوية والإقناع.»

على أن هذه الصلة بين الفن والحياة، التي يسعى الأدباء لتحقيقها في أعمالهم، لم تعد كافية أو مقنعة، إذ جاء حين من الدهر اشتدت فيه المطالبات بتوجيه الأدب والفن عمومًا باتجاه المجتمع والواقع النابض ودفعه في بحران الحركة الاجتماعية لاستلهام أزمات الجماعات ومشاغلها ولاستقطاب الأحاسيس الموضوعية والكلية ولتقديم تشكيل موضوعي عن المصير الإنساني.

(۲) الحق أن العمل الأدبي ظاهرة موضوعية مهما أمعن كاتبه في الذاتية، وهذا العمل يستمد موضوعيته من قدرته على التسلل داخل المخبوء والمكنون في النفس وسط هيجان الناس وازدحامهم في العالم وتبعثرهم في الحالات البسيطة والمعقدة ومن إعلاء هذا الحشد إلى مرتبة الإنسانية الصاعدة.

وإذا استعرضنا تاريخ الأدب فسيمدنا الأدب والنقد الغربيان بالكثير حول هذا الموضوع، فنجد، انطلاقًا من بزوغ فجر الرومانسية كتيار أدبي في القصة والشعر، الانعطافة الجديدة تجاه الوضع الاجتماعي. فقد بقيت الكلاسيكية زمنًا طويلًا تجتر قوالب التعبير الأدبية الجاهزة من قديم وتتداول المفاهيم والأجناس الأدبية المتوارثة، ولم يكن يبدر منها ما يشي بأي تحول قد يطعم الفكر وينفخ روحًا جديدة في الأدب، لقد كانت الثورة الاجتماعية والفكرية مشروطة قبل أي انقلاب في النظريات والإبداع، وكان القرن الثامن عشر هو الميقات الموعود لانفجار الألغام في التقاليد والتراث ولإعطاء الصراع الاجتماعي تصعيدًا ثوريًّا، هو الذي تكفل بخلق مناخ ثقافي وأدبي، فجاءت الرومانسية لا لتكون دورة أدبية عابرة بل لتنادي بقيم اجتماعية وإنسانية تعتز بالعاطفة والوجدان الفردي ولا تغفل الهم الاجتماعي، تؤكد في أساسها النظري «روسو-فولتير» على قيم الحرية والتحرر بينما يلفحنا العمل الأدبي الرومانسي بنفس المجموعة البشرية في ضنكها وشقائها، في أفراحها ومباهجها الصغيرة وغيرها، وإذن، فالاعتراف بالقضية الاجتماعية واعتبارها من صميم المشروع الأدبي انتبه له مع الحركة الرومانسية وإن كان ذلك الانتباه قد انعكس في صورة هزيلة ومريضة وساذجة، على أن الأهم من ذلك هو أنه انطلاقًا من هذا الاعتراف سيبدأ تاريخ قضية جديدة في مضمار الخلق الأدبي ألا وهو علاقة الأدب بالمجتمع ومسئولية الكاتب في مجتمعه وإزاء ما يكتب.

مع ظهور المدرسة الواقعية، أصبحت الفكرة أكثر تبلورًا ووضوحًا، وبدا أنها ستتعمق في المستقبل الأدبي، وبالفعل، فقد أصبح الواقع اليومي مصدرًا لملاحظات الكاتب وأصبحت الرؤية الاجتماعية تملأ عدسة القاص وعينه الباحثة في الوجود. وتتابعت روايات بلزاك لتقدم الصورة الشمولية عن الواقع الاجتماعي وتركيباته. ولقد كانت الرواية الواقعية لبنة صلبة في بناء الأدب الاجتماعي، أو بتعبير آخر، فقد نبضت بحساسية الكتاب الشديدة وانشغالهم بالقطاعات الاجتماعية على اختلاف أوضاعها وتوتراتها. ومع المدرسة الطبيعية، سيطغى عنصر المعرفة النظرية العلمية على رؤية الواقع وسيغرق الكاتب في النظر إلى الحياة، لدرجة تدعو إلى تسجيل كل مظهر وملمح على أساس نظري علمي (إميل زولا، مثلًا، في الرواية التجريبية) Le Roman Experimental.

أما العصر الحديث فقد حمل معه إيقاعًا جديدًا شديد الرنين حول هذا الموضوع بل وسيأخذ فيه صبغة القضية ذات المرتكز الفلسفي والبعد والسند الأيديولوجيين.

إن القرن العشرين متفرد بروح جديدة تقمصت ثقافته وفنونه وانسحبت على طرق وأساليب النظر والبحث والخلق فيه. وكانت الروح الثورية هي المنبثقة من كل خلق فني وكل أطروحة نظرية. ولا جدال أن هذه الملابسة التغييرية مساوقة للتبدل المتسارع والطارئ على البنيات العامة للمجتمع، وعلى الهيكل الاقتصادي على الخصوص، كما أن اندفاعة الجماهير والمثقفين الثوريين في بقاع العالم المنهوبة وبين الطبقات المستغلة (بفتح الغين) فجرت أو ساعدت على تفجير كثير من بناءات وقوالب الفكر والعيش الجامدة والقهرية، كما أن الحربين الكونيتين ساهمتا، معًا، إلى حد بعيد في بروز منظومات ثقافية متحدية ومندفعة باتجاه التيار الجماهيري الصاعد وفي إبراز نظام من القيم والأخلاق الفنية والفكرية وفي توالد سلسلة من الأحاسيس والمشاعر ذات الحس التمردي والتلوين الثوري العلمي.

وفي هذا العصر ظهرت حركتان فكريتان وفلسفيتان كان لهما أخطر الأثر في تكوين ضمير هذا العصر وفي رسم صورته المادية والقيمية، وهما:
  • (١)

    الفكر الوجودي.

  • (٢)

    الأيديولوجية الماركسية.

ويهمنا منهما، في هذا المجال، التأثير الذي مارساه على الخلق الأدبي بمختلف فنونه وما دعيا إليه من قيم ومفاهيم.

أما الفلسفة الوجودية فقد نادت بفكرة الالتزام النابع من مسئولية الفرد في المجتمع وبملء اختياره الحر، الذي هو مسئوليته شرط وجوده. جاء هذا النداء بالالتزام ليضع الكاتب ضمن السياق العام لمجتمعه وليحمله تبعة مسيرته في الحياة وبات لزامًا على الأجناس الأدبية — باستثناء الشعر — أن تعانق القضايا الاجتماعية ومشاكل الإنسان المعاصر وتناقضات وجوده، ومن منظور ذاتي متميز، بالطبع. وعند الوجودية أن هذا الالتزام لا يبدد حرارة وجدان الفنان أو وجوده الخاص، ولكنه، بدلًا من ذلك، يلزمه يقول سارتر: «إننا نؤكد عاليًا أن الإنسان مطلق، ولكنه مطلق في وسطه، فوق أرضه، أن ما هو مطلق إنما هو ذلك القرار الذي لا بديل ولا مثيل له، الذي يتخذه في لحظة معينة، بمناسبة ظروفه الخاصة». ولقد سبق مايكا فوسكي وقبله جوركي سارتر في تكريسهما الأدب للتهليل بحرية الإنسان وانتصاره على الواقع المحاصر غير أن سارتر جاء ليجعل من الكتابة الأدبية في فلسفته الوجودية نظرية ويضع لها أهدافًا وغايات، ولا تخرج الصياغة النظرية في عمومها عن وضع الإنسان في البؤرة التي تصب فيها الينابيع الحساسيات الفنية وتكريس الأدب لخدمة القضايا الإنسانية وفضح أشكال الامتهان والاستلابات البشرية.

وغير خاف أن الدعوة السارترية خلفت أصداءها في الآداب العالمية وترددت كثيرًا على ألسنة النقاد والمتأدبين، من بينهم أبناء الشعوب المتخلفة.

على أن الاتجاه الثاني، أي الأيديولوجية الماركسية، هو الذي لقي الذيوع الأكبر بين المثقفين ومتأدبي العالم الثالث ومنظريه، بسبب تكريس جل أطروحاته للإجهاز على أوضاع الاستغلال والهيمنة لإقراره بالعدالة الاجتماعية والاشتراكية لقد جاءت الماركسية لتجب ما قبلها من قيم وتقاليد فكرية وقيود سلطوية، وأطلقت الفكر الإنساني من زنزانة التحجر ومن عقلية العناصر الأوتقراطية والبرجوازية ومن إسار التصورات المثالية، ووجد الأدب، من ثم، طريقه، وبوعي، يشق دروبًا جديدة على يد كتاب متشبعين بالتغيير الاجتماعي ومتنبهين لطبيعة الصراع الطبقي وما يطرحه من مواصفات نقدية وثورية جديدة، فتواترت روايات «جوركي» ومن قبلها قصص «تور جنيف» و«تشيخوف» واضعة العلامات الأساسية لمساحة المجتمع الروسي، ممتلئة بتطلعات وآلام الطبقة المستغلة (بفتح الغين). وقد اتجهت كتابات لينين٨ في الأدب والفن إلى وضعه ضمن السياق الاجتماعي وربطه بركاب الثورة الاشتراكية وخدمة المجتمع الجديد.

يقول لينين: «على الأدباء والفنانين أن ينتجوا للملايين من الأيدي العاملة أدبًا حزبيًّا بكل ما تحمله الكلمات من معان قوية.»

على أن الفكر الاشتراكي الماركسي ما لبث أن تبلور فيه تيار نقدي دعي ﺑ «الواقعية الاشتراكية» وقد جاءت هذه التسمية متوافقة مع الاتجاه الأدبي الذي ولد مع الأعمال الأدبية لمكسيم جوركي، وهي «تؤكد على اتجاه جديد في رؤية الواقع يستند أساسه الفلسفي على الماركسية كنظرية في الطبيعة والمجتمع»٩ وهي «تطالب الأديب بأن يكون له هدف مما يكتب فلا يهرب من واقع حياته وواقع مجتمعه فلا يهرب إلى تهويمات الخيال أو يتقوقع على نفسه، كما تطالبه بأن يكون له هدف من تصوير الواقع كما تطالبه بأن يتخير من الواقع ما هو أوسع وأعمق جدوى على الناس، ثم هي فوق ذلك تسعى إلى إبراز مواضيع القوة والصحة في المجتمع وأفراده.»١٠

(٢) دراسة النقد العربي للمضمون الاجتماعي

تبلورت فكرة الواقع وقيمة التواصل مع المجتمع لدى كتاب المدرسة الحديثة من القصصيين بمصر، لقد ولد فن هؤلاء الكتاب في خضم الصراع السياسي الذي عرفته مصر والتوترات الاجتماعية التي تفجرت مع ثورة ۱۹۱۹م، وبانهيار الفكر السياسي لتلك الثورة ومع بروز تشكيلة البرجوازية والطبقة المتوسطة على الخصوص كطبقة لها كيانها السياسي والثقافي وأزماتها الخاصة.

كانت القصة القصيرة لسان التعبير عن الأزمات والقضايا الاجتماعية التي برزت على الساحة الوطنية. وقد انتقل كتاب المدرسة الحديثة بالتعبير الاجتماعي إلى مستواه الفني وأبعدوه عن الانفعال والهيجان الخطابي، الذي نجده في الشعر، مثلًا عند حافظ إبراهيم، وفي المقالة أو القصة المقالية عند المنفلوطي وعبد العزيز البشري وطه حسين أحيانًا «لقد كان المضمون الاجتماعي في قصص كتاب المدرسة الحديثة، وخاصة لدى طاهر لاشين رائدها، يحتوي على صلب الأزمات التي تولدت مع نشوء الطبقة الوسطى، كطبقة نامية متصاعدة.»١١

وتتوالى قصص محمود تيمور، المتطلعة من فوق إلى تحت، والمنسجمة مع دعوة نقدية صريحة عنده ترى أن الأدب ينبغي أن يكون هادفًا مكرسًا لاحتضان مشاكل الناس وشواغل حياتهم وهمومهم عامة، وبالنسبة لتيمور فالناس هم البؤساء عمومًا دون تحليل مبني على فهم أسسي للطبقات الاجتماعية وبسبب غياب هذا الفهم تتلبس الكتابة الاجتماعية لتيمور بلبوس الامتياز والتعالي، على الرغم من هدفها السابق، وتبعًا لذلك تبقى دعوة «الأدب الهادف» دعوى عائمة وفاقدة لمرتكز نظري سليم، وبالمثل، تعبر عن فهم مرحلي للكتابة الاجتماعية والرؤية الفنية الواقعية.

وتتبلور الدعوة إلى الكتابة الاجتماعية بشكل أشمل لدى سلامة موسى، الذي ساد في اتجاهه العلماني المؤسس على الانهيار بعلوم العرب الحديثة وعلى جملة من المفاهيم الاشتراكية، ولم يكن سلامة موسى ناقدًا أدبيًّا بل باحثًا أو كاتبًا في العلوم الإنسانية، ولكنه إلى ذلك اصطنع لنفسه رايًا في الأدب وكيف ينبغي أن يكون، ولا ريب أنه ذهب أبعد من تيمور محمود. وفي كتابه «الأدب الشعب» نطلع على آراء نقدية، إن لم تكُن أدبية بحت فهي تستند على فهم أنضج للواقع الحقيقي أو الصحيح، وتنطلق كذلك من ساحة نضال فكري ومن مشمول ثقافي سياسي واقتصادي للمجتمع.

وقد استطاع سلامة موسى أن يؤثر في تفكير ونزوع جيل جديد أو نخبة فكرية مصرية أخذت تنبثق متشبعة بروافد ثقافة علمانية اشتراكية، هذه النخبة المتحررة هيأ لها سلامة الطريق وبث فيها من روحه وأفكاره ومنهجه، والذي يهمنا منها هو ما ساهم به في ميدان النقد الأدبي من مفاهيم وآراء، ولا شك أن كتاب «في الثقافة المصرية» يعد عمدة لآرائها النقدية ففيه تحدث محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس عن الأدب والنقد عامة تنظيرًا وتطبيقًا، وهما ينزعان إلى التأكيد على حتمية تبني الأدب للقضايا الاجتماعية كما يدعوان لاتجاه الواقعية الاشتراكية بديلًا عن الواقعية التقليدية والتعميمية المطبوعة بالسذاجة والسطحية، والتي كانت تغرق الأدب العربي في مصر.

بيد أن هذه الدعوة لم تجد لها صدى في النتاج الأدبي، فحسب، بل لاحظنا أن الأدب في مصر يشق دروبًا جديدة وقد وضع الأدباء من شعراء وقصاصين المجتمع ملء أبصارهم ونفوسهم، مطورين قضية الإنسان في الفن ولم يبق اليوم أي خلاف بين النقاد حول ضرورة التعبير عن الهموم الاجتماعية والإنسانية في كل أثر أدبي، بل ومسئولية ذلك بالنسبة لكتاب البلدان المتخلفة، بل إن النقد الأدبي العربي والقصصي خاصة تطورا في هذا المضمار تطورًا بعيدًا. وخاصة على مدى العقدين الأخيرين على أيدي دارسين ونقاد مثل محمود أمين العالم، وحسين مروة، ولويس عوض، وغالي شكري، وصبري حافظ، ونقاد آخرين ربطوا وسندوا منهجهم النقدي للأدب القصصي بآخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية.

(٣) الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة المغربية

رأينا فيما سلف من حديثنا عن القصة القصيرة في المغرب، في مرحلتها الأولية، كيف أن الكتاب القصصين التفتوا، بجد، إلى مشاكل الحياة والعصر حواليهم، وكيف جندوا أقلامهم لفحص وإظهار كثير من الأخطار والأوضاع التي كانت تعمل عملها في جسد المجتمع المريض، إن تلك القصص في أغلبها كانت تكتب انطلاقًا من فهم أخلاقي متزمت للواقع، ومن فهم شديد التخلف يحصر الحياة وملابساتها داخل أقانيم وقيم أخلاقية محددة. وإن نظرة مماثلة لا يمكنها أن تعطي إلا قصصًا أخلاقية أو كتابات وعظية، وفي أحسن الأحوال، قدمت أقسامًا حية من القطاع الاجتماعي العام مغطاة بضباب كثيف من النصح أو التوجيهات وبسياج من الذكريات الشخصية العائمة في السذاجة والفولكلورية، واختزال الرؤى الاجتماعية في شريط مطاطي من الحكايات الشعبية والأخبار البهلوانية الصفة، التي أريد لها أن تكون من صميم الواقع.

على أن ما نريده نحن بالاتجاه الواقعي في القصة القصيرة المغربية هو ذلك الفهم المتقدم للمجتمع والذي ينظر إليه، في إطاره الاقتصادي والسياسي ويتبين معضلاته بوعي سياسي وعلمي، إن أمكن، يضع الإصبع على مكمن الخطر والتعفن والتأزم، وكذلك ما يمكن أن يندرج في نشاط فكري واجتماعي مرتبط بأيديولوجية متقدمة تنهك الحاضر وترفضه رامزة إلى المستقبل مرهصة به. وهي من الوجهة الفنية رؤية تنسجم مع حجم ودرجة الفهم الاجتماعي متكيفة معه بينهما وثيق الصلة وشديد التأثير والتأثر، بل إن المقدرة الفنية والتكنيكية للعمل القصصي، هنا، تتدخل تدخلًا حاسمًا في رسم وتنسيق صورته العامة وإعطائه هويته.

وهذا الاتجاه أخذ يتبلور في القصة المغربية قبل الستينيات بقليل ليتمثل بعدها في أشكال متباينة من الوجهة الفنية. وهذا النزوع إلى الكتابة الهادفة لم ينبثق من فراغ بل اعتمد على عاملين أسهما بشكل فعال فيه:
  • أولهما: التراث الهام الذي دار حول هذا الموضوع، والذي فصلنا القول فيه، ولقد كان لهذا التراث بما تضمنه من مواقف ونظرات نقدية تأثيره الفاعل بالإسهام في تكوين المفاهيم الفكرية الأولى الجادة بخصوص القضية الاجتماعية أو بدفع الكتاب لخوض تجربة الالتزام بالهموم الأساسية للشعب، ولكي تتقدم التجربة الأدبية القصصية إلى ساحة الفعل التاريخي، وذلك بالكشف عن هموم الإنسان وظروف بيئته وما يلابس حياته المادية والنفسية.

    وقد كان قصاصو الستينيات دائمي الاتصال بينابيع وروافد الثقافتين الغربية والشرقية، سواء فيما يخص الخلق الأدبي أو النقد والتحليل الأدبيين، وكانوا يصنعون لأنفسهم ملامح ثقافتهم وتكوينهم الخاص ويشقون لهم دروبًا فكرية هادفة.

    ولما كانت القصة القصيرة في المغرب جنسًا أدبيًّا أخذناه عن المشرق العربي وتعلمنا كتابته من النماذج التي وضعها الكتاب المشارقة، وبقينا بعد ذلك نتتبع خطى سيرهم ونهج تطورهم ونجهد في الاقتراب من سبلهم التجديدية وطرائق تصويرهم لمجتمعهم وأوضاع بيئتهم ما وسعنا ذلك من صبر وفهم، وترك ذلك كله أثره على قصصنا. وذوقنا الفني وأسلوب تعبيرنا ورؤيتنا الفكرية.

    واشتد تواصلنا الأدبي بالمشرق عقب الاستقلال وكان الظمأ الفكري قد استحكم فينا، فاندفعنا ننهل من الأدب والقصة ما أمكننا، ولما كان الشرق العربي قد عرف توترات في الحياة السياسية والاجتماعية وتغيرات في الفكر والأدب، فقد كانت الكتابة باتجاه الحياة والالتزام بها ولها، تشبعنا نحن بذلك كله أو على الأقل، ببعضه مما أتيح لنا وإن لم يظهر أثره سريعًا فيما أنشأنا من قصص، إلا أنه تهيأ لنا الطريق لنخوض فيه ونندفع ونجدد.

    وقد أنعش هذا التأثر مطامح كتابنا وحثهم على المناداة بكتابة فنية تستمد نفسها من وحي الاهتمامات المحورية للناس وتستخلص مفاتيحها مما يزخر به واقع الاستقلال الجديد من تناقضات وأزمات. وهي مناداة قائمة على أساس من الفهم للدور الذي على الأدب أن يضطلع به في مجتمعات وبلدان تتأسس وتصنع مصيرها من جديد، ومرتكزة أيضًا على نظم ثورية أو تكاد للحياة والأدب، تستمد سمتها من طريقة في العمل والفكر. فقبيل الستينيات بقليل وجد من كتب في المغرب: «في القرن العشرين لم تعُد المشاكل الثقافية في ناحية والمشاكل السياسية في ناحية أخرى ولم يعد المثقف الأديب ذلك الذي ينعزل عن الأحداث في ركن شاعري بعيد عن المتاعب يتغنى بالجمال السلبي والإنسانية المشوهة»١٢ ويذهب الحديث في جرأة أبعد عندما يعلن أن على الكاتب: «أن يتخذ موقفًا إيجابيًّا بناءً ثوريًّا يلائم أوضاع بلاده والمرحلة التاريخية التي تجتازها.»١٣ وهذا عبد القادر الصحراوي يكتب آنذاك: «الأدب دائمًا للحياة، وعندما لا يكون تعبيرًا عن حياة أو عندما لا يكون عاملًا من عوامل بعث الحياة لا يكون أدبًا على الإطلاق»، مثل هذا الكلام يدل على ولادة وعي أدبي ونقدي جديد وصحي، لم يكن معلومًا أو مقبولًا في السابق. وأصبح مستدعى ليلائم الأدب مع المناخ السياسي الجديد وليضيء المسارب الشائكة التي كان الكتاب يترجرجون فيها غير متيقظين «بوعي» لأنفسهم ولما ينبغي أن تكون عليه قصصهم بعد سنوات الاستقلال الأولى، وبعد انتكاس الآمال وتقلص المطامح الشاسعة، غير أن الوعي النقدي الأدبي لم يكن ليتقدم لولا تحول الوعي السياسي ومع الحركة الجماهيرية المتصاعدة للعمال والفلاحين والطلبة.
  • أما العامل الثاني: فهو هذا التفكير السياسي الجديد المنحاز قليلًا عن الذهنية السلفية والنزعة الوطنية الحماسية في شكلها الطوباوي، والمتبلور مع الطلائع الأولى للاتجاهات التقدمية والذي تغذى من التربة التي غدت معجونة بعرق الطبقة الكادحة وبالأفكار التحررية الجديدة التي تسامعت بها الشعوب الخارجة لتوها من الاستعمار.

(٤) الاتجاه الاجتماعي في قصص محمد إبراهيم بوعلو من خلال مجموعته القصصية «السقف»١٤

تكتمل الرؤية القصصية عند محمد إبراهيم بوعلو حين يخرج من قوقعة التحليل القصصي الذاتي والسيكولوجي للأفراد١٥ ويتجه تصاعديًّا نحو فهم مؤطر تنظمه الرؤية الاجتماعية «المسيسة»، إنه يراهن بإمكاناته التعبيرية كلية لتهييء عمل فني، غير مسبوق، ينسي الشعب المقهور وقضاياه المزمنة، وليؤكد، بشكل ما، دوره كقاص اجتماعي، ومسئوليته كمعبر عن بؤس الجماعة وأزمات طبقته، وكشاهد متحسس لظرف تاريخي محدد، إنه اختيار مسبق يفرضه الكاتب على نفسه أو بالأحرى يفرض عليه انطلاقًا من قناعات حتمية وتلزم قلمه وتصوره ونتاجه القصصي بأكمله، وسيكون لهذا الاختيار نتائجه وآثاره على قصص بوعلو من الوجهتين الأدائية والمضمونية، كما سيخلف مناقص عدة وهنات تلحق تقنية القصة القصيرة وتمس بسبب مباشر الاتجاه الذي اتخذه القاص لنفسه.

يأتي النموذج الاجتماعي المقهور والذي يعاني من شتى ضروب الاستغلال والامتهان في مقدمة مرئيات القاص وشواغله، واختياره هذا النموذج منسجم مع اختيار الكاتب الفكري والسياسي ومتوافق مع نيته التعبيئية للقصة القصيرة في حقل النضال السياسي والثقافي، وبالنسبة لقاص كبوعلو، فإن صورة الواقع تجتمع كلها في محتشد واحد تلتقي عنده وتتفرع عنه ملامح البؤس والظلم الاجتماعي، وتصبح هذه الملامح مدار تجربة القاص، التي نادرًا ما يخرج عنها إلى غيرها، وهي طاقتها الأم، ولا شيء يوجد بعدها أو خارجها وهذا يعني تركيزًا على صورة الواقع تلك واعتبارها المعضلة الأولى والنهائية لبوعلو.

إن هذا يفيد، من نحو: تأكيد الاختيار الفكري وتقديم أرضية الواقع الأساسية. ومن نحو آخر، تأكيد، أساس الانطلاق في الاتجاه القصصي الاجتماعي، مما يلزم بوعلو بمسئولية بالغة غايتها الوفاء لنموذجه وقطاعه المختار، والوفاء أيضًا لأدوات القص حتى تكون قادرة على الوصول بالنموذج الاجتماعي إلى صعيد الإقناع والإيحاء. وذلك حتى لا يسقط نموذج الواقع في مهوى الاهتراء والتفتت ويقع أسير نصوص ممسوخة تزعم التعبير عن الحياة المتورمة ولكنها لا تمس سوى أطرافها البسيطة، وأخيرًا من أجل الوصول إلى إبداع قصصي متطور.

إن النموذج الاجتماعي المنهوش بالفقر والاستغلال يقفز فوق قصص بوعلو، ومختلف الأمراض التي تفتك بالمجتمع المتخلف تبرز ناتئة على مدار قصصه بأكملها ففي قصة «صياد»١٦ نتعرف على صياد بئيس يقتات هو وأسرة كاملة بما يجود به البحر من أسماك. وفي الطرف المقابل سائح أمريكي يمارس الصيد كهواية لجلب المتعة وترويح المزاج، وبين هذين الطرفين ينتصب التناقض القائم بين عالمين مدهشين وغريبين في التقائهما أيضًا: «وطلب منه الصياد أن يصحبه إلى مسكن ليشربا كئوسًا من الشاي … وقبل الأمريكي الدعوة شاكرًا، غير أنه فوجئ بالمسكن الخشبي المتداعي وتقززت نفس الزوجة وهي تدخل الأخشاب الوسخة، كانت كلها دهشة وهي تنقل نظراتها بين الأولاد الصغار والزوجة الهزيلة، وهي البقعة الضيفة الوسخة التي يسميها بيته.»١٧ ولم ينسَ الأمريكي أن يتصدق على الصياد ببعض المشتريات. وتأتي عبارة الصياد الأخيرة التي يسجل فيها عنوانه «هنا … البحر … المغرب» لترسم خريطة ضياعه، هذا الضياع المادي القاتل.
وتضيف أقصوصة: «الحذاء الجديد»١٨ ترنيمة أخرى في سمفونية البؤس والضياع، إن عباس يتوق إلى انتعال حذاء جديد يرى فيه، ببساطة، تحقيقًا لأمل طالما داعب نفسه: «فلقد صاحبه شعور خاص كلما رأى حذاءً جديدًا، حتى أنه كان مرارًا يتخيل بأنه ينتعله، لولا أن رجليه اللتين كانتا تتضايقان من بعض الحصى تذكره بأنه لم ينتعل بعد حذاء جديدًا، وأن عليه أن يدخر كل ما في وسعه ليحصل على حذاء جديد»، ولكن براثن البؤس لا تلبث أن تنهشه، فالبقال سينزع منه الحذاء، الذي تمكن من شرائه بعد جهد مستحيل، رهينة لديونه ويتركه معذبًا بحرمانه.
البغل في أقصوصة «البغل»١٩ هو رأس المال وأساس حياة العامل، ويصورهما بوعلو، حتى ليكاد الواحد منهما يشقى شقاء الآخر، ويظهر العامل في حالة الانهيار والحرمان الدائم انطلاقًا من وضعية مادية قائمة، دون أن يقدم حلولًا ونهايات براقة تدغدغ القارئ والواقع معًا.
وتأتي قصة «الكلب»٢٠ ذات النفس التشيخوفي أن في الأداء أو الفكرة لتفيض بالسخرية على مصير الإنسان ولتعرض لنا صورة تتزعزع فيها القيم ويتردى فيها المستغل (بفتح الغين) إلى دنية لا مثيل لها، بينما يسمو فيها كلب السيد المدير على أسرة كاملة تقتات من الفتات المتبقي هذا الكلب: «فالأسرة تحيط بالكلب الأسود الذي يتناول أكله في شيء من الشبع، والصغار من حوله يجمعون الفتات الذي يتساقط منه … وحتى الأب والأم، بين فينة لأخرى، يسمحان لنفسيهما باختلاس بعض الطعام». وعلى مدى المفارقة البشعة يقدم بوعلو صورة لأرذال الإنسان، للدرجة التي يتمنى فيها الخادم أن يمسخ «ليتني كنت كلبًا عند ابنة المدير» على أن الكلب في قصة تشيخوف الشهيرة «كلب الجنرال» أكثر إثارة ودلالة قصة بوعلو، فالأول يستخدمه ليكشف من خلاله من الطبيعة البشرية المتقلبة وعن سمات الهزء، من تطلعات الإنسان، وفي الوقت نفسه يسجل موقفًا من الضعة التي بلغها الإنسان في روسيا القيصرية، كل ذلك مع إبقاء الأقصوصة على درجة هامة من الإيحاء، بينما الثاني يهبط بقصته إلى مهوى سحيق في الإذلال والتلاشي للصفة الإنسانية.

وتمتد قصص الإدانة والاستغلال عند بوعلو لتسير في طريق آخر يدفع بالقصص على عجلات الرمز بدل التصوير المباشر للأحداث وحركة الشخصيات، ويتخذ الصراع فيها صورة قيم متعارضة يدفعها الكاتب ويحركها لتتجابه وتتصادم كيما يتبين الأصيل من الزائف، ولتصعد على مجلي الوعي شعارات الرفض والتمرد، ولن نسرف في التأويل إذا قلنا بأن جل قصص «بوعلو»، أن في بنائها العام، أو في أحداثها وتعابيرها، تركن إلى الاعتماد على الرمز كركيزة أساسية ومصدر كل مضمون وتقنية عنده.

في أقصوصة «الرجل … والصخرة … والزاوية المهملة»٢١ يسعى بوعلو جاهدًا ليجعل الصخرة تتقمص شخصية حية، تمثل اللامبالاة والتصلب في آن واحد، ويحاول الاقتراب منها، «الصخرة التي كانت أمامه دفعته إلى أن يصمت … أن ينظر إليها مدة طويلة تعتمل في نفسه انفعالات شتى من غير أن يفتح فاه بكلمة … وأن يركز فيها نظره من غير أن يتحرك حتى لكأنه بات صخرة لها عينان … وأحس بشعور جارف يربطه إلى الصخرة، فشاركها سكونها وصمتها، بل التحم معها تمامًا، ونسي العالم من حولهما.»٢٢ ويستمر عبر السرد والحوار الداخلي في الحديث عن نفسه وأزمته القائمة في عجزه عن تبرير وضعه في المجتمع والحياة، ومقيمًا من الصخرة شخصية مقابلة تبادله حوارًا صامتًا عقيمًا، يميت كل فعل قصصي يمكن أن يوجد، ويسقط الأقصوصة في تقريرية مقيتة وفي مناجاة خاصة: «وصمت عن الأسئلة التي كان يحاول أن يمطر بها صخرته وألقى عليها نظرة طويلة وهي بين يديه، ثم مشى وهو يحملها من غير أن يقول شيئًا». ونجد أنفسنا في النهاية ملزمين بأن نفهم أن الصخرة بديل للمسئولية وأنها أيضًا إرادة ممارسة الوعي الذي تقتنع به الشخصية في النهاية. لكن القاص يخفق في جعل الصخرة حية لها إمكانية تشخيص الفكرة، هذا بعد أن صعب عليه اصطناع حدث مناسب لذلك، ولم يتكفل الحوار الداخلي بوظيفة ملء الثغرات الكبيرة، ذلك أنه استحال إلى لوك للكلام غير ذي إيحاء أو أثر في خلق قصة قصيرة ذات بناء ناجح ومتماسك. فالحوار الداخلي، على الأصح، ليس هو تكثيف صوت الكاتب في مجموع من الجمل الإنشائية، ولكنه صيرورة الفكرة أو الإحساس، انطلاقًا، من صوت الشخصية وهي حرة تعمل على الصعيدين الخارجي والباطني.
ونجد القاص يعتمد الرمز في أقصوصة «ساعة الرفض» لكن عن طريق حوار حي بين شخصيتين متباينتي النزعة والطموح، الشخصية الأولى تقول:٢٣

«… في استطاعة الرجل الذكي ألا يترك الفرص تضيع منه … اعزم وسترى الكلمات التي تسميها مبادئ إنما هي ضرب من العبث.»

«… إن الشيء الذي يهمني هو أن يقبلوا الأرض بين يدي وأتلذذ بقلقهم.»

بينما الشخصية الثانية تتمسك بموقف النزاهة والبراءة وسلوك الاستقامة، ويقوم البناء القصصي في هذه الأقصوصة على الحوار، لكنه حوار مفرغ من دلالات التعبير والحركة والتطوير للفكرة أو الحدث ولا يكشف سوى عن ظواهر الشخصية، كما أنه بعيد عن الحوار الأساسي في بناء الأقصوصة، إنه حوار شبيه ﺑ «الريبورتاج» الصحفي غارق في التعميم والتجريد والكلمات الفضفاضة التي يبتغي القاص من ورائها الوصول إلى مقصده مثل «الكلمات الكبار»، «الأمور الناقعة»، «استغلال ذوي النيات الحسنة»، «الطبل دائمًا فارغ». وتثار في القصة أيضًا مشكلة الانحراف والتخلي عن المسئولية وواجب المواطن. ودور المثقف والتزامه. لكن إغراق القاص في التعميم انعكس على مضمون القصة فغدا الصراع فيها يقوم بين نقاء الضمير والنية الحسنة وبين الشر وانحراف الإنسان وما إلى ذلك من المعاني المجردة.

وبنفس الخلاص الساذج الذي يصل إليه بطل «ساعة الرفض» وبالاعتماد مرة أخرى على الهيكل الرمزي يصل «بطل السقف» الخادم إلى خلاص لازمته: «كان يعتلي السرير، حيث أثبت بالسقف شيئًا ثم أخرج إلى الشارع خيوطًا انبعثت منها أوامر الهدم، وسمع دوي هائل (…) وعندما وقف لاهثًا أمام زوجته قال لها وهو ينفض الغبار عن ثيابه: «لقد استرحنا من السقف.»»٢٤ ويكون الدافع للخلاص من «السيد» الذي يسكن «فوق» عبارة تأتي على لسان الكاتب نفسه: «للأسف الشديد ليست لنا كرامة» وعبارة ثانية: «لقد بات واضحًا أنه لا بد من مقاومة» ومن هذه القصة يريد القاص أن يرمز إلى طبقتين اجتماعيتين تضغط الأولى منهما على الثانية. ولنا أن نتساءل أولًا: ترى هل ينهار السقف، الذي يرمز للطبقة السائدة المعتلية، بالبساطة والبهلوانية التي عرضها القاص؟ ثم إن الحدث ثابت والذي يتحرك هو ذهن القاص، ونحس أنه في الوقت الذي يروم فيه بوعلو الابتعاد عن شخصياته وإطلاقها من قبضته كي تمتلك نفسها الخاص وتوحي بدلالات الرمز، في هذا الوقت يؤكد ويلح في تمسكه بها ولا يكف عن اغتصاب صوتها.
بيد أن ما يشغل بال «بوعلو» قبل وبعد كل اهتمام هو رصد أوضاع البؤس والانسحاق الطبقي والضياع المادي والرغبة في صنع التحدي، ولو بأسلوب السخرية كما هو الشأن في قصة «البناية الجديدة.»٢٥

(٤-١) تخطيط جمالي ومضموني لقصص بوعلو

  • النموذج البشري القصصي المميز نموذج اجتماعي مسحوق بئيس مهزوز، مضغوط داخل شرنقة اجتماعية واقتصادية.

  • نموذج منهوش من غيلان متعددة: الفقر – الضعة – الاستغلال – البؤس الفكري – المرض، (أمراض التخلف عمومًا).

  • البناء القصصي يقوم على الاستفادة من واقع جاهز لا أثر للصراع أو الصدم فيه يؤدي كنتيجة إلى تكوين بناء قصصي متجانس ومعد، سلفًا، وخال من التنوع والحركة القصصية المبدعة.

  • يتم تفصيل البناء القصصي بطريقة هندسية، حسب الأفكار والمقولات المراد تبليغها، مما يحيل الواقع، كمجال للعيش والصراع إلى مجموعة من القوالب والأشكال الهندسية الفراغية.

  • أن موضوعة الواقع عبارة عن دلالات حيوية غنية وباهرة بالإيحاء وليست خلاصات مدرسية وتلفيقات.

  • الواقع كأطروحة يفترض الجدل الذي هو في صميمه تشكيل من الإنسان والفعل التاريخي. وعندما تنقلب أرضية الإنسان ومحيط علاقاته إلى خشبة للمسرح يتحرك فيها الممثلون على طريقة الكراكيز، فإن الحياة تفقد بعديها أو أبعادها، وينتفي الواقع الجدلي لتصعد على المسافة العائمة وجوه تزعم الحضور ومباشرة الوجود، ولكنها سرعان ما تنسحب من ذاتها متحولة بذلك إلى إشارات أو معادلات رياضية.

  • إن هذا ينسحب على الحبكة القصصية ويخلف أثره فيها فهذه الحبكة تصبح جامدة ولا تستمد تكوينها من صميم العمل أو التجربة. ولكنها تنطلق، تقريبًا، من قولة إدغار أ. الشهيرة القائلة بالبناء قبل القصة.

أي شفيع يبقى بعد هذا، لعله الرمز ومحاولة تضخيم وإغناء التجربة وإنقاذها من التسطح بالرمز ودلالاته لكن كيف يفهم بوعلو الرمز و«الرمزية.»

هل الرمزية التي توحي وتحرك الوجدان وتبعث صور الذاكرة وأطيافها، تلك التي تخلق الامتداد وتشارف بالقارئ المستقبل؟

أم الرمزية التي تستحيل إلى سلسلة من العلامات والإشارات والألغاز التي ينبغي فكها، وبفكها ينتهي أفق الفهم والتخيل والإدراك؟

الرمز عند بوعلو وعاء للفكرة، لا يسيل ولكن يبقى أصم غير قابل الذوبان في صميم الحركة القصصية، فتمنحه هذه حيويته وخصوصيته.

الرمز ونتائجه كقيمة فنية: أنه بدلًا تكثيف لحظات من الواقع وجعل الزمن امتدادًا حيًّا ينبض بالفكرة أو الموقف الفكري، وجعل الشريحة المقتطعة مثالًا ونموذجًا متفتحًا يحدث المسخ للحظة والموقف ويجيء السرد بلا نص فني أو تنوعي، فترتبك الجمل السردية المبطنة لتجهض محصلة الواقع والرمز نفسه، وفي النهاية يستطع العمل كله ويتتابع في إيقاع رتيب ومخل يسري في القصص بكاملها.

ألا يعد هذا نقصًا فنيًّا وثقافيًّا له خطورته، من ناحية؟ ثم، ألا بعد، ثانيًا، افتئاتًا على الحياة المراد إدماجها وخلقها في صور وقصص ذات دلالة؟

إن القصة القصيرة كانت دائمًا، ولا تزال، خارج أي تأطير متعسف، وبعيدة عن أن تبتسر، كفن، في منظومات فكرية جاهزة.

إن الأخطاء والهنات السابقة تقود، في النهاية، إلى انتكاسة الواقعية كنتيجة حتمية للهنات الفنية والتعبيرية السابقة.

ثم ما الذي يتبقى من الفن؟ الحشرجة والاستصراخ، تهويل البؤس أشكال مبسطة، تدمير الواقع بطرق فانتازية وميلو درامية استهلاك الفكرة وتصنيعها ضمن حوار، ريبورتاج عادي، وفي الختام إعداد الحبكة القصصية كأكلة خفيفة جاهزة.

إلى أين يقود هذا كله القصة القصيرة عند بوعلو في مسار تطورها العام؟

أن بوعلو لا يقدم الجواب الشافي، فهو يستمر في نهج التقنية ذاتها على الرغم من شيخوخة هذه التقنية وتهرئها ونفاذ طاقتها.

ترى هل يقدم لنا محمد بيدي، الجواب الحقيقي فيما ساهم به من قصص ذات صبغة اجتماعية، والتي شقت لها طريقها بين الناس بما ترشح وتستبطن من قضايا فطرية ومركبة؟

(٥) الاتجاه الاجتماعي في القصة القصيرة عند محمد بيدي

سنعمد في دراستنا لقصص محمد بيدي إلى استعراض بعض هذه القصص، مما يسبر غور التجربة الاجتماعية، ونناقش بعد ذلك قضية المحتوى ثم ننتقل إلى قضية الشكل الفني لهذه القصص واضعين اليد على اللمسات الفنية المتميزة في تجربته وضمن السياق العام لمراحل هذا الاتجاه وسماته. ومن المهم الإشارة إلى أن قصص محمد بيدي، قيد الدرس، هي التي كتبت خلال السنوات الأولى للستينيات، بعضها منشور وهو القليل ومنها ما هو مخطوط في مجموعة قصصية لم يتح لها النشر وتوجد ضمن أرشيف اتحاد كتاب المغرب.

الخماس: ترصد القصة أزمة في الواقع وفي الإنسان نموذج هذا الواقع.

الواقع ممثلًا في وضعية البؤس والاستعباد التي يعيشها الفلاح المغربي الذي سرق الإقطاعي أرضه وتركه عرضة للضياع والكدح المميت، وليواجه المصير الحتمي في أن يكون قنًا أو خماسًا.

الإنسان نموذج هذا الواقع: مسحوق منهوك، منهوب، ضحية مصير لم يصنعه بنفسه، تسللت إليه أيدي الظلم والنهب إنه صورة عن طبقة الفلاحين الفقراء التي نهب المستعمر أرضها ولم يرد لها الاستقلال حقها في العيش والكرامة.

يوازي هذا الواقع ونموذجه واقع خير ذو صبغة طبقية، تسلقي وطموح، جارف الرغبة، مترف، يمثل المستفيدين من عرق الخماس، وهو واقع زائف غير حقيقي، مخادع ومحتال، ينكر الكدح ويؤمن بالمظاهر البراقة كقيمة أساسية من قيم تشكله الطبقي. والإنسان في هذا الواقع مسطح مفرغ من أي قيمة إنسانية حق، إنه مجرد صدى لرغبات عابرة تنعدم فيها الدلالة الإنسانية وتحفل بالشره. باختصار، فهي تمثل إفراز برجوازية المدن.

هذا الواقع يمسخ النموذج الصحيح النقي «ابن الخماس» فيجرفه نهر التسلق والصعود الطبقي لينكر طبقته مما يمثل ضياعًا لقيمة وظهورًا لقيمة جديدة مبتذلة. «ابن الخماس» الذي يحاول الذوبان في زيف المدينة وبريقها الخلب الذي يفصل الفرد عن أصوله ويبدد هويته الأصلية.

نحن هنا أمام واقعين متناقضين مقدمين بكيفية متقابلة وعن هذا التقابل تنتج المفارقة، هذه المفارقة التي تصل بمادة السرد إلى نقطة التحول والتي تعطي للقصة القصيرة عند محمد بيدي أصالتها وجدارتها، من الخماس أولًا إلى الإقطاعي المعمر، من الخماس، ثانيًا «وحل الأرض» وابنه «مصطفى» أمل المستقبل «الخلاص» إلى زيف المدينة وبهرجها الذي يضيع فيه مصطفى ويبيت متنكرًا لواقعه الأصلي، إنسانًا بلا جذور وقد ربطه تطلعه إلى برجوازية المدينة.

الرقصة الأخيرة: قصة أخرى ترصد مظهر آخر للاستغلال البشري وتقطع من المجتمع ملمحًا من ملامحه المفضنة الكئيبة.

قصة عامل قضى زهرة حياته في خدمة الرأسمال، في خدمة قوى تنهب رزقه وتستغل قواه لتراكم الأرباح من عرق العمال «ثلاثون عامًا قضاها في جوف الأرض تحت أكداس التراب … يملأ هو ورفاقه بمرافقهم الثقيلة بسياط المطر … الفوسفاط الذي يرمون فيها إليه مع عرقهم وزفراتهم … وها هي ثلاثون عامًا مرت كلمح البصر، وها هو يجد نفسه يتقاعد، ولكن الأمل يعبر قلبه إذ سيعود إلى أرضه في البادية وإلى عنزاته إلى أصله. لن يكون بعد اليوم أجير عند أحد.»

الدلالة الفكرية: ترتفع القصة في تصوير بديع لتعلن اغتصاب طاقة الإنسان وسرقة جهده، وهي إذ تتسلل إلى محيط العمال تكون، بذلك، قد ظفرت بهذا الرصد السباق لحياتهم، والذي قل ما وجدنا القصة المغربية تقتحمه أو تستشرفه على الرغم من رحابة مجاله وتشعب عناصر الصراع فيه، وعلى الرغم مما يمكن أن يوحي به من دلالات اجتماعية عديدة.

الرقصة الثانية تقدم لنا، ثانيًا، صورة عن اغتصاب أمل الإنسان في أن يعيش بالصورة التي يرتضيها طموحه وتميل إليها نفسه فهذا العامل الذي استنزفه استخراج الفوسفاط كان يريد البقاء في باديته «لم يكن يريد أن يعمل تحت الأرض لصالح أجانب وغرباء يبغون إهانته وهلاكه، كيف يعمل أجيرًا وهو يملك أرضًا وعضلات وبهائم، لمن يترك هذه بأي حق يقبره هؤلاء وهو بعد حي في ريعان الشباب، ولولا العنف لما انساق أبدًا لإرادتهم.»

الدلالة الثالثة تنبع من هذا الألم الحار والأسى المدمر الذي يجد متنفسه في ممارسة العامل للرقص كمتنفس وحيد مما يعانيه، كان الرقص وقنينة الخمر هما اللذان يصنعان الانفراج ويذيبان جليد الأسى.

طفل:٢٦ مظهر من مظاهر البؤس والتمزق الاجتماعي تلتقطه عدسة القاص وتبرز نواحي الضعف والمهانة فيه. طفل ممزق بين العيش وبين الكرامة، بين أمه التي تمتهن البغاء «سبق له مرارًا أن رأى من خلال ثقب المفتاح رجلًا يضم أمه في عنف …!» ووضعيته المهانة بين أقرانه وزملائه الذين يذلونه ويتهامسون عليه.

يضاف إلى الامتهان الأخلاقي والنفسي عنصر الفقر بديكوره المتكامل كما يقدمه لنا محمد بيدي، الحياة في كوخ قصديري، الجوع، البرد: «تأمره بأن يذهب لينام، وأنى له ذلك، الأخشاب المتداعية التي تقيه من المطر يتخيلها ساقطة على جسده الغض الصغير … فيتكور وهو يرتعد ويبكي في صمت حتى لا تسمعه أمه.»

ولا يقعد بالطفل أي تخاذل فهو يأسى لهذه الحالة، وفي تصرف أرعن يقدم ذات ليلة على إحراق الكوخ الذي كان يضم أمه وأحد خلانها ويرحل لينهي كل علاقة بالماضي.

وحين يكبر يريد أن ينتقم لماضيه وذلك في صورة العلاقة التي قامت بينه وبين أرملة التقى بها بعد سنين طويلة في حيهم القديم والتي تدمن الخمر وتتعثر في حياتها مع وليديها اليتيمين، فتنشأ بينهما علاقة وطيدة تنتهي بالزواج مما يجعله، مرة ثانية، مثار تهامس سكان الحي الذين لا يكفون عن ترديد هذه الكلمات: «مضبوع … مسحور … معتوه …»

العنصر الفكري الأول في القصة يتمثل في التقاط صورة للبؤس الاجتماعي من خلال رصد حياة طفل.

الدلالة الاجتماعية ترتفع فوق الدلالة النفسية، أي أن القصة تعتمد «الطفل» كوسيلة لإبراز المضمون أكثر من اعتمادها له كوجود محدد تنبثق من خلاله وعبر سلوكه ومعاناته ملامح الأزمة ومنحنياتها العامة والخاصة.

من المعاينة إلى المواجهة من خلال قصة: لعب أطفال: لا تخرج قصة لعب أطفال عند محمد بيدي عن سابقاتها، في الانطلاق من بين فكي أزمة خانقة يعيشها قطاع من الناس في حياة اجتماعية يلفها البؤس وقهر العيش وتتكالب عليها ظروفهما، غير أن مضمون هذه القصة يسعى لأن يدفع هذا المضمون باتجاه التفجير كيما يصبح البؤس والرفض معنى مجسمًا وليتخذ له سطوته الخاصة على ظروف الحرمان وأسبابها.

غير أن هذه المواجهة لا تستمد عناصر تكوينها من وعي موضوعي بشرط الواقع في إطاره الحي المتوثب ولكنها تمتح بدورها من سياق الصورة الاجتماعية كما تقدمها القصة القصيرة ذات الاتجاه الاجتماعي، من كيفية بلورة الواقع وتحديد أطراف الصراع فيه وهي كيفية ساذجة تتمسك بقشرة المرئي وحرفية المعاينة ولا تقتحم باطن الصورة وثناياها، إن الواقع المرصود هنا مشطور إلى الثنائية المعروفة: الخير والشر، أو هذا، على الأقل، ما توحي به القصص، فالخير هو البشر الذين يلوكهم الاستغلال وصنوف الامتهان، والشر هو القوة الاجتماعية الضاغطة والمهيمنة، قوى الاستعباد والقهر. إنها، إذن، نقيض الآمال والمطامح، والكابحة لكل تطلع للانعتاق، ومن هنا، ومن منطلق هذا الفهم، يتحتم التصدي لها، بطريقة سينمائية حتى يستتب الحق ويزهق الباطل.

هذا ما يبغي محمد بيدي أن يصل إليه من وراء قصته لعب أطفال، لكن ما هي القصة أولًا؟ إنها لا تكاد تشكل قصة قصيرة في بنائها وتتابعها لأنها مجرد لقطة بسيطة وساذجة، تبدأ من حالة سكون وتنتهي إلى حالة فعل مباشر، وبين الحالتين معًا تتتابع الصياغة القصصية للموقف القصصي ودوافعه. والموقف هو رغبة عارمة في الانتقام من المستغلين، كبار القوم «بعد أن أطلق رصاص مسدسه على شخصيتين مهمتين علمنا أن المجرم المجهول قد بعث برسالة تهديد إلى شخصية ثالثة يدعي فيها أنه سينتقم منها لكل الذين اغتصبت حقوقهم ظلمًا وتعسفًا». المنطلق هو الرغبة في الانتقام، والموقف هو الانتقام ذاته «توقفت السيارة الكبيرة عند باب الفيلَّا، على بعد خطوات منه هرول السائق يفتح بابها الخلفي، فانزلق منها رجل بدين كروي … ما كاد يخطو نحو باب منزله حتى روعته صيحة قوية مفزعة مجنونة تلتها فرقعة وتهاوى على الأرض.»

وما بينهما سيناريو قصير تتحرك فيه الشخصية القصصية وهي تظهر ما تبطن في داخلها من حقد طبقي «سار إلى الشارع بخطى وئيدة وهو يتفرس في ملامح المارة ويقف قليلًا عند واجهات بعض المتاجر حيث صففت بعناية فائقة، ثياب أنيقة تحمل أثمانًا باهظة، وبين حين وآخر يلقي نظرة داخل سيارة تتميز بفراهتها وتبطينها الداخلي الدافئ …» هذه الشخصية تحمل هوية الضدية والرفض. إنها ليست مطواعًا ولا منقادة، إنها مغتاظة مما حولها: «مواطنون أخيار … يستحلون الحرام … يثرون من عرق العباد … يذلونهم بلا خجل» لذا يجب تصفيتهم أي استئصال جذر الشر والانتصار للخير حتى يستتب الحق والعدل، وبما أن الموقف وهمي فسلاح الانتقام بدوره وهمي خادع، إنه مسدس من طراز لعب الأطفال، لا غير.

إن دلالة الرفض في هذه القصة سطحية ومفرغة من المحتوى الحق للموقف الاجتماعي الصحيح ذي الأبعاد المتباينة، والذي لا يقبل هذا الانشطار الثنائي السهل كما تبلور في وعي الشخصية وأبرز سلوكها وجسده الفعل القصصي، إن الواقع أعقد مما تخيله وأدركه محمد بيدي، ولذلك جاء رصده له وجاءت طريقة التصدي قاصرة عن بلوغ جوهر التناقض فيه. ومن ثم انعكس هذا الوعي القاصر على بناء القصة بحيث جرى الفعل بمعزل عن الفاعل وارتسم أمامنا إطارًا بدون حركة وصورة بدون مضمون عميق. الحدث مملي والشخصية مقحمة وبلا ملامح، إنها تجريدية تمامًا، وتجريديتها تؤكدها عمومية رفضها وسذاجة إدراكها وسلوكها ومنطلقها الذي هو منطلق القصة في هذا الاتجاه، منطلق المعاينة الخارجية العاجزة عن استبطان الواقع واختراق حجبه الخارجية للوصول إلى مركز دائرة الصراع الشيء الذي يتيح فعالية درامية أقوى ويسمح للشخصية القصصية والفعل القصصي بأن يتبلورا ويتحركا ضمن أفق تصونه رؤيتهما، بعيدًا عن التوجيه المتعسف والصياغة النظرية المبتسرة.

لقد توخينا أن نعرض هذه القصص، في البداية، حتى نستجلي محيط وركائز التجربة القصصية عند محمد بيدي، وهذه القصص، كجزء مما كتبه بيدي، ترسم إلى حد بعيد، إطار فهمه للقصة القصيرة وللغاية المتوخاة منها وتحدد بشكل بعيد عن الالتباس القضايا الرئيسية التي تعتبر مناط أعماله.

ولكي نقف على أهم عناصر هذه التجربة لا بد من أن ننظر إليها من زوايا ثلاث:
  • (١)

    زاوية المحتوى.

  • (٢)

    زاوية النموذج البشري المعالج.

  • (٣)

    من جهة الشكل الفني وكيفية ارتدائه ومساوقته للمحتوى.

(٥-١) المحتوى

تلح القصص ذات الاتجاه الاجتماعي على الاحتفال بالواقع الاجتماعي وسبر أغواره بصفة عامة. ولكن صورة الواقع بالنسبة إليها هي تلك الصورة التي تعيش التفكك والاضطراب والتي تكشف عن أزرى الأوضاع والحالات، وبذلك فاجتماعيتها مستمدة، لا من إحاطتها أو تسجيلها لما يزخر به المجتمع من أحداث وأزمات، ولكن انطلاقًا من فهم بذاته للواقع ومن تصور خصوصي للمجتمع، وهو فهم وتصور تولدًا من الإحساس بعذاب وآلام الأفراد وإدراك التباعد في حياة هؤلاء الأفراد واختلال التوازن في ميزان العيش بين الناس. إن هذه القصص تلح على إبراز الوجه الكئيب والواجهة المثيرة من وجه المجتمع، لا تلك البراقة المزركشة التي توحي بالهناء والطمأنينة، ترمي إلى إبراز الصدع والكشف عن مثالب الواقع فيما تحاول قوى أخرى طمس هذه المثالب والتمويه عليها. إنها، إذَن، الاتجاه القصصي الاجتماعي، التزام بقضية الإنسان المسحوق والمأزوم ومعاضدة له واستشعار لعذابه إزاء قوى الغبن والاستغلال التي تسرق منه قدرة العيش وطاقة الحياة وتتركه يتردى في مهاوي الضياع.

وفي قصص محمد بيدي نجد تأكيدًا على هذه المعاني ومعانقة حارة لهذه المشاعر واستمرارًا وتوطيدًا لهذا الخط، بما يكفل للقصة الاجتماعية الظهور وللقاص هوية الانتساب إلى المحيط الاجتماعي الذي أنجبه، والموضوع القصصي المطروح مستمد من وحي البؤس الذي تعيشه الفئات الأكثر محنة في الحياة، من حياة العمال والفلاحين ومن صميم اهتمام وعذاب هذه الفئات التي ظلت لزمن منسية مغفلة عن عدسة الالتقاط القصصي، وهي حياة ثرية بالتجارب حافلة بألوان الفقر مما يهيئ، ولا شك، مادة خصبة في يد القاص، ينقصها لكي تكون مؤاتية اليد الصناع التي تسبكها أحسن سبك وتظهرها في أبهى لبوس، فمحمد بيدي شأن محمد إبراهيم بوعلو، المنتميين، معًا، للطبقة الوسطى، وللجيل الذي عايش الاستقلال ودارت أمام عينيه شعاعات الأمل وانقشع عن ناظريه غشاوة الوعود البارقة والكاذبة، والذي لم ينَل من الاستقلال سوى الحسرة والخيبة، ثم رأى كيف انهدت صروح الأمل التي علقتها الجماهير على وعد الاستقلال، وكيف خدعت بعد ذلك في نضالها وتضحياتها حين انساقت مع شعارات براقة، كانت تخفي جشع الجشعين وتطوي أرزاق المستغلين، وبذلك فقد كانت جاذبية الفقر والهيمنة والعوز وظروف القهر المادي والنفسي هي صاحبة السيادة على ذوات وأذهان هذين القاصين الوفيين لطبقتهما وجذورهما الاجتماعية، واكتسحت هذه الجاذبية نتاجاتهما مركز الثقل فيهما، وأمكن للقصة القصيرة، بما قدماه في مضمارها ومع كتاب آخرين، أن ترسم لنفسها خطها الاجتماعي الواضح والمتمرد. وهذه الجاذبية، هي أيضًا ثقل الصورة الاجتماعية من منظور متدمر ورافض، ومن خلف حناجر مبحوحة بالصراخ والاحتجاج، تستنكر ولا تهادن، تزحزح ولا تطامن أو تسالم، وبوضعها الإصبع على أزرار الخطر ومكامن الداء تعلن عن نفسها وتفصح عن هويتها الفكرية والطبقية، بحيث تحدد مكانها وسط قوى الصراع الدائر في المجتمع، وإن جاء هذا التحديد، في الغالب، سافرًا تعسفيًّا وصارمًا، متخذًا أشكالًا وعلاقات ميكانيكية.

إن محتوى قصص محمد بيدي يعطي هذه الصورة ويرسم تلك الملامح. إن هذا المحتوى يلح على قضايا الاستغلال الطبقي والقهر والبؤس الاجتماعيين. كما يلح على هذا الإحساس بالتفاوت الذي يوقع الطبقة المتوسطة في جحيم رغبات التسلق حينًا «الخماس» والتنفيس حينًا آخر «الرقصة الأخيرة»، وفي قمة تأجج الشعور بالقضية يأتي سلوك التمرد كبحث عن الخلاص ولشق جمود الواقع «لعب أطفال».

وموضوع النقاش في هذا المحتوى هو كيفية الطرح وأسلوبه وهي كيفية تغلب عليها المباشرة ويطبعها الأسلوب الإعلاني وتتميز بقسماتها الفضفاضة ذات الصبغة التعميمية، وكذا بالأسلوب الهجائي، التحريضي، الأمر الذي ينفي عنها سمة التفرد والخصوصية ويجعلها دالة بنفسها، تكفي تقاطيعها للإيحاء بحدود الصورة وأبعادها، مجتزئة بنفسها عن غيرها مما يكملها أو يسد ثغرة النقص فيها، وهذا يعد، ولا شك، من عيوب الاتجاه الاجتماعي كما ظهر في القصة المغربية، إذ إن غلبة وازع القناعة الفكرية على سواها يجرف القاص إلى تربة غير تربته ويكاد يضعه في صف واحد مع الخطيب والباحث الاجتماعي.

غير أن لصوق القاص بواقعه وإدراكه التعميمي لأبعاد هذا الواقع هو سر هذا النقص، كما أن عدم اكتمال أداته الفنية وعجزه عن التوظيف السليم والكيفي لمادته القصصية، وتداخل خيوط التجربة وتشابكها بين يديه، وعدم بروزها متألقة ناصعة على مدى بصره ورؤيته، هذه الأسباب كلها هي التي تفسر ضحالة المحتوى وانعدام خصوصيته.

(٥-٢) النموذج البشري (القصصي)

انطلاقًا من فهم محدد للصراع الاجتماعي، وبوحي من إدراك أطراف هذا الصراع، فإن القصص التي تسلك في الاتجاه الاجتماعي خصت مضامينها بنماذج بشرية، دون غيرها، وجدت أنها القادرة، وحدها، على نقل شحنة التجربة وتوصيل كهربائية الفعل القصصي، ثم الإيحاء بمداها والتعبير عن المحيط الحقيقي الذي تتحرك وتحيا فيه، أي محيط القهر والاستغلال والفوارق الطبقية وانعدام تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وفي مغرب الستينيات فإن أثقال هذا الحمل وضغط هذه الظروف انصب بجهد وعنف على كاهل صغار الفلاحين والطبقة العاملة انصبابًا فعليًّا ويوميًّا وصاغ ظروفها وطبع بميسمه مظهرها ووجدانها وأسلوب عيشها ونضد علاقتها بباقي الطبقات الاجتماعية. كما أن المثقفين أو المتعلمين عمومًا من جيل الاستقلال والمنتمين منهم، بوجه خاص، إلى الفئات الاجتماعية المتضررة، هؤلاء المتعلمين والمثقفين تجوزًا، انعكست في وجدانهم صورة الواقع ومرآته المهشمة وانصبت في نفوسهم سيول الآلام والأحزان الخاصة والعامة، وألفوا أنفسهم عرضة للتمزق بين ما تمليه اللحظة وما يجنح إليه النزوع ويهفو إليه الطموح، فكونوا، مع العمال والفلاحين، الصورة المثلى المعبرة عن وجه الواقع الشقي كما تحب أن تبرزه عدسة القاص الاجتماعي وتغوص فيه.

الفلاح، العامل، المثقف، هذه هي النماذج الثلاثة التي ينظم محمد بيدي كل واحد منها في عقد نتاجه القصصي، والتي ظل وفيًّا لها لا يحيد عنها، إلى سواها، فقد ركزت قصة «الخماس» على هذا النموذج البشري المعذب والذي ضحى بكل شيء من أجل ابنه الذي اعتقد فيه الخلاص و«الرقصة الأخيرة» خلقت شعور الأسى لدى العامل الذي قضى عمره أجيرًا والذي ليس له من سلوة في هذا العالم سوى قنينات الخمر يفرغها في جوفه وحركة الرأس المتشنج يسيل في عرقها ما تكدس في أعماقه من كبت ولواعج. «لعب أطفال» تجد تعبيرها العميق في رغبة تكسير جدار العجز، والإقدام الانتحاري لصنع الحركة والتضحية بالنفس من أجل مطمح هارب.

وقصة أخرى هي «أوراق تحت المطر»٢٧ ترسم انحدار الأماني وضياع ما يملأ نفس «المتعلم» الذي تعذبه وحدته وواقعه وقراءاته: «أعقاب سجائر هنا وهناك والمطفأة مقلوبة، خبز وفواكه فوق كتب مبعثرة: الشيطان … الإله الطيب … المعذبون في الأرض … دنيا الله … الإنسان الثائر … العبث … أغاني الحياة … الوضعية البشرية» تعذبه أفكار هذه الكتب، كما ترسم من نحو آخر إطار شخصيته وتضاريسها الفكرية، وفي الطرف الآخر هناك الحقيقة الفاجعة: «الأماني الفسيحة بعد نجاحه في البكالوريا … الخيال المجنح … ثم دنيا الواقع … أبوه العاطل وسبعة صغار والبيت الوضيع ومشاكل لا تحصى … وتقلصت ظلال الأحلام الوارفة أمام شمس الحقيقة المحرقة.»٢٨

هذه النماذج الثلاثة المنحنيات الكبرى لتجربة محمد بيدي القصصية، وهي، في كل الأحوال، معذبة، منهوشة بالفقر، مخنوقة بالإحباط، مغتربة عن ذاتها ومطامحها الأصيلة، تجرجر أصفاد المهانة والكبت النفسي والاجتماعي، وتجر أذيال انكسارها وبؤسها.

وهي في وضعيتها تلك توحي بواقع غريب تنتمي إليه، وهو واقع حاضر وجاد، منحوت في مجرى التاريخ، وهي بمثابة شهادات على هذا الواقع. ومحمد بيدي يريدها كذلك ناطقة باسمه معبرة عن خباياه وأوصابه، وهي شخصيات منتمية بحكم ارتباطها بجذور واقعها وطبقتها الاجتماعية، منتمية في معاناتها وشقائها واحتجاجها، ومنتمية في نمط عيشها وبحكم انسحاقها.

غير أن هذه النماذج جميعها لا تصمد أمام ما يكبلها ولا تثبت إزاء جحيم الاستقلال؛ إذ سريعًا ما تهوى وقد غلبتها ظروفها وأوهنتها تجاربها. إنها نماذج مهزومة تستشعر الخيبة في كل خطوة وتتداعى عند كل صدمة: ففي قصة «الخماس» تذهب الأيام ﺑ «كدية»٢٩ ولد الضو ويتحول الأب إلى الإذقاع بينما يجرف الابن مع بريق التسلق والتنكر لجذوره. وفي «الرقصة الأخيرة» يموت البطل بعد أن عاش عمرًا من الاستعباد والحسرة، وفي عينيه خبا بريق التطلع إلى حياة هانئة بباديته. وفي قصة «النمل وظل المجهول»٣٠ يقضي البطل العامل عمره بأكمله في المنجم وليس له من سلوة في هذا العالم سوى التردد على بيوت الدعارة، ثم، وفجأة، يبطش به قدر عابر وينتهي، وكأنما لم يوجد بتاتًا دون أن يخلف أي صدى، إنها مصائر مفجعة هذه التي يقود إليها محمد بيدي أبطاله، وهي مصائر تكاد تكون مرسومة سلفًا كقدر لا فكاك منه، والأغلب على الظن أن محمد بيدي كان يتعمد النهايات المأساوية، والتي تبدو غير مقنعة، ولعله كان يفعل ذلك استمرارًا للشفقة وزيادة في الإشعار بفجيعة هذه الطبقة الاجتماعية، جلبًا للتعاطف مع الشخصيات القصصية، وكوسيلة، أيضًا، للاقتناع بالقضية التي كرس لها القاص نتاجه القصصي.

ولا يخفى كذلك، ما للإسقاط الفكري والنفسي من أثر في الصبغة الهزائمية التي تنسحب على النماذج القصصية، فمحمد بيدي المثقف وابن جيل الانتقال، والمفتوح على أفق فكري وثقافي جديد غريب عن بيئته، كان يسقط، ولا شك، بعض ما يترسب في نفسه نتيجة لقراءات خصوصية ومشاعر ذاتية، على مصائر الشخصيات. أليست قراءات إحدى الشخصيات هي «الوضعية البشرية» لمالرو وفلسفة العبث لكامو، و«المعذبون في الأرض» لطه حسين. يضاف إلى ذلك ما يتميز به جيل قصاصي الستينيات من تأزم وإحباط، ينعكس، بنسب متفاوتة، على كتاباتهم، عمومًا، ونماذجهم القصصية، بوجه خاص.

ويبقى أن ما يميز النموذج البشري، كما رصده وصوره محمد بيدي، هو أن هذا النموذج أصيل غير مستعار أو مستورد، غير مضخم ولا مقزم، بل هو من جنسه وبيئته. يحمل صورتها وينطق بمقدار آمالها وآلامها. أما انهزاميته، فإن تكررت وتعددت فإن لها جذرًا في التربة التي نمت فيها، على أن ما يمكن أن يعاب عليها هو أنها، كثيرًا ما تستعير صوت الكاتب وهو صوت جهوري في كثير من الأحيان.

(٥-٣) الشكل الفني

فماذا عن الشكل الفني للقصة القصيرة الاجتماعية كما كتبها محمد بيدي؟ ثم ألا يجدر بنا أن نطرح سؤالًا مباشرًا آخَر، سابقًا، وهو هل بإمكان المضمون الذي عالجته قصص بيدي أن يثير شكلًا متطورًا في القص؟

إن البناء الفني للقصة القصيرة هنا بناء تقليدي، بمعنى أنه يعتمد الحبكة القصصية الكلاسيكية ويحافظ على الوحدات الثلاث من بداية وسط ونهاية، محافظة أمينة ولا يكاد يخرج إلى غيرها، بل إن محمد بيدي رسخ الحبكة القصصية التقليدية وجاءت قصصه مع قصص محمد إبراهيم بوعلو، وقصاصين بعدهما لتجذر أسسها وتعطيها الرسوخ والثبات، ويرجع ذلك، من ناحية، إلى تتلمذ بيدي على رواد القصة الكلاسيكية أمثال جي دي موبسان وتشيخوف٣١ ولقراءته لما كانت تقدمه المكتبة القصصية العربية، وخاصة محمود تيمور وبعده جيل محمد أبي المعاطي أبي النجا ونجيب محفوظ، كما يرجع، من ناحية ثانية، إلى التقاط صورة الواقع في مقاساتها المحدودة المترابطة الحلقات، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن المضمون الاجتماعي، كما تضمنته قصص بيدي، فرض عليه ألَّا يحيد عن المعالجة المتسلسلة المرتبة والتي تفضي إلى نهاية محتومة، فالمحتوى، هنا، سابق للشكل، متقدم عليه، موجه له، ومتحكم فيه وسيطرة المعنى على فكر القاص وتقديمه له على سواه يجعله يحظى بالعناية ويتحكم في مسار وقالب العمل القصصي فالقصة القصيرة عند بيدي شأنها عند بوعلو تتوخي — أساسًا — الغاية الاجتماعية وتوصيل الفكرة ويأتي البناء مكيفًا ومنسجمًا مع هذه الغاية مما يفقد القصة مرونتها ويعطيها تماسكًا صارمًا وشكلًا هندسيًّا متكررًا لا يتبدل، تكون له آثاره على الحدث وتطوره وعلى الشخصية القصصية في أدائها لوظائفها المختلفة وعلى الإشعاع بالمعنى أو محتوى القصة ككل. غير أن هذه المعالجة الابتسارية تسقط الفن في الحرفية والنقل والمباشرة ولا تتيح له فرصة استجلاء وكشف الطريق الأصلح والأقرب إلى خصائصه وإمكانياته.

ونجد إلى جانب هذه المعالجة التقليدية أن السرد، وهو وسيلة تقديم الحدث وتسييره، وتقديم الشخصية وبلورة أفعالها وانفعالاتها، هو سرد واحد رتيب ليس فيه تنوع، وإن بدا أنه متوتر أحيانًا، متطور عن أسلوب السرد عند بوعلو. في حين لا يحتل الحوار إلا حيزًا ضيقًا من العمل القصصي. وهو معتمد كأداة ثانية إلى جانب السرد وإن جاء استمرارًا له لا يكاد يتميز عنه أو يستقل بقدرته الخاصة على التبليغ. ويميل محمد بيدي في قصصه، من أجل كسر هذه الرتابة، إلى استعمال المنولوغ الداخلي، وهو بارز بوضوح في قصته «أوراق تحت المطر» مثلًا، وفي قصتيه «الأماني الجديدة – المثلث المكسور» وهما معًا «قصتان مخطوطتان» كما يميل أحيانًا إلى اعتماد أسلوب المذكرات «لعب أطفال» وإلى استخدام تقنية تعتمد على التقابل والمفارقة المبنية على هذا التقابل في شكل مرايا عاكسة ليبرز من خلالها عنصر التضاد الذي هو لب التجربة «الطفل-الخماس».

هذه هي الأدوات التي يستخدمها محمد بيدي لصياغة تجربته القصصية وبلورة الاهتمامات والقضايا التي تشغله، وقد استخدمت استخدامًا جيدًا في إطار المحافظة على الشكل الكلاسيكي وبناء القصة القصيرة الفنية، التي بقيت متعثرة في أدبنا والتي تهيأ لها الرسوخ والنماء على يد جيل من قصاصي الستينيات. وقد كان هذا الترسيخ ضروريًّا لاكتمال القالب القصصي وامتلاكه لزمام قدراته التي كانت منفلتة منه فيما سبق. كما كان ضروريًّا لصياغة المحتوى الفكري للاتجاه الاجتماعي، فجاء البناء الفني معبرًا، في مستويين، عن طبيعة هذا المحتوى الفكري، متلائمًا معه ومرسخًا الأسس الفنية للقص الكلاسيكي في القصة القصيرة المغربية، وهذه المرحلة من سيرها وتطورها الأكيد.

(٦) محمد برادة/الباحث عن ضائع بدون اسم

لقد تهيأ لمحمد برادة، وحده، أن يكسر جمود ورتابة السرد القصصي التقليدي، وينوع في تصفيف البناء القصصي للقصة القصيرة، ذات الاتجاه الاجتماعي، ولا يرجع ذلك، في اعتقادنا، إلى الموهبة أو الاستعداد الفطري وحدهما، بل، وأيضًا، إلى المحصلة الفنية الثقافية لهذا الكاتب في ميدان القصة والنقد الأدبي، وإلى وعيه المبكر للارتباط الجدلي بين العملية الإبداعية والواقع الموضوعي وعلاقاتهما المتشابكة، مما هيأ له القدرة وشجاعة المبادرة لمباشرة تطوير وتنويع الكتابة القصصية التي اتخذت مادتها من الواقع المطروح أمامها، والتي جعلت هدفها تبني قضية الظلم الاجتماعي ورصد انعكاساتها في نفوس المواطنين وأوضاعهم المادية وبيئتهم الثقافية.

فالقصة القصيرة عند محمد إبراهيم بوعلو وعند محمد بيدي، وعند الأول منهما بصورة خاصة، في اتخاذها موضوع الظلم الاجتماعي محتوى أساسيًّا كانت واقعة في نغمة الرتابة والتكرار، خاضعة في البناء والحبكة إلى خطوط ورسوم معلومة قل أن يحيد عنها الكاتب أو يترك للحدث أن يتشكل بحسب ما يمليه مضمونه أو وجود الشخصيات ضمنه. كان كل شيء يخضع لعملية تخطيطية شبه هندسية بحيث تكتب القصة قبل أن تسيل على السطور، وإذا كان محمد بيدي قد حاول إدخال بعض التنويع والتلوين في نطاق التجربة القصصية من المنظور المتفق عليه، سلفًا، فإنه لم يستطع الخروج عن إطارها المكتمل، وظل حبيس الرؤية القصصية الاجتماعية، المكتملة، والتي حددنا عناصرها فيما سبق.

تهيأ لمحمد برادة، أن يكسر جمود ورتابة التناول القصصي للموضوع الاجتماعي وذلك عن طريق مده بشحنات ذاتية، ودفقات فنية كان في حاجة إليها ليينع ويرق جفافه ويلين تصلبه ويصبح أقدر على التأثير، وأكثر قابلية على استيعاب تداخل وجدلية المسألة الذاتية، الاجتماعية، بل، وبثها أنفاسًا شعرية وصورًا حالمة.

في قصتين اثنتين «الصيف المقبل» و«مذكرات سفر»٣٢ يحملنا محمد برادة برفق ولين، ولا يشد بتلابيبنا، كما يفعل غيره، ليلج بنا مناخ تجربته القصصية المحدودة كمًا، ولكن الوسيعة أجواء وأبعاد، ولنتلمس جميعًا طريق المعالجة القصصية للقضية الاجتماعية، كما ارتآها وسخر لها أدوات القص الفني. «الصيف المقبل»، يمكن أن يكون صيفًا واحدًا ويمكن أن يكون أي صيف، كما أنه يمكن أن يكون الفصل الحقيقي الذي ينتظره البطل ليحقق فيه طموحه الأبعد، والأكثر ثراء وعمقًا من الرغبة والأمل البسيط الذي يخامرانه، الأمل بأن يتزوج ابنها «المعلم» في المدينة بامرأة تملأ عليه حياته وتسعد بها قرة عينها أو بمن ستنجبهم من أطفال، والابن لا ينقطع عن مداعبة أملها هذا والتلويح بتلبيته مرة مرة. ولكن الحمداوي لم يكن خلي البال أو ممن ينتهي طموحه إلى زوجة، فها هو ذا يوضع في السجن من أجل قضية الوطن، ثم حين يخرج من السجن يرفض التخلي عن فضيلة الكفاح فيه، فيستمر في «مهمته الشريفة» كما وصفها الكاتب، وحين يسأله صديقه: «أما تزال تنوي تحقيق زواجك في الصيف المقبل؟ يجيبه الحمداوي بصوت اغترفه من أجواء الحلم العجيب: الصيف المقبل، سأبحث عن شيء آخر غير الزواج، شيء يغير من رتابة الأصياف المقبلة … شيء يعطينا صيفًا جديدًا.»

فالقصة تطلعنا على شريط متقطع من حياة معلم في المدينة تتصارع بداخله نوازع الواقع المر الذي يعايشه، وهو واقع ظالم لا يبعث على الرضى، ونوازع ذاته وآمال أمه، فأين يضع نفسه وسط هذا العباب. ولا يختلق القاص حدثًا مصطنعًا أو لحظات ميلودرامية، ولكن، بعبارات موجزة ومختزنة، يجعلنا نعي أزمة «الحمداوي» الرافض، والذي يمارس رفضه أيضًا فيحقق إيجابيته، كفرد، في سياق أزمة المجتمع، وحين تحتد على نفسه هذه الأزمة ويضيق عليها الزمن المعيشي الخناق يسعفه الحلم، يصعد مكبوتاته وزمجرته الداخلية إلى مستوى الحلم، وهنا، نشهد عناقًا لمستويين اثنين من الوعي الظاهر والباطن، وهما يتحدان في نسيج درامي واحد ويحققان للمضمون قدرة على الظهور والإشعاع باهرة. «… ولكن بصره علق بالعملاق الممتطي صهوة جواد أحمر، وماسكًا سوطًا يلعلع في شماتة ويسوط الأجساد العارية … وارتفع الصراخ وعلت قهقهة الفارس الأصم، فانتفض الحمداوي وجرى بجنون صوب الفرس فلمحه العملاق واستدار بسرعة ليصفعه بالسوط على وجهه فتفجر الدم وشخصت الأبصار ذاهلة من المشهد …»، لم ينته المشهد، ولكن القاص شخص في مخيلة بطله الحمداوي وقائع الصراع المكبوت في نفسه وأوجد، في الآن عينه، بديلًا للسرد التقليدي، الذي لم يجد القصاصون السابقون بديلًا عنه، وأوجد تنوعًا في رحم التجربة القصصية فبات بوسعها أن تنجب معاني القصة ومحتواها في قدر غير قليل من اليسر والبساطة والشاعرية وغيرها من المحامد الفنية التي تغني القصة وترجح كفتها في ميزان الفن ولا تجحفها حقها من جهة المضمون الذي أرادت توصيله أو الانطباع الذي يمكن أن تحدثه في المتلقي.

«متعب حتى الموت … أنا
غارق في سويداء الشيخوخة،
تلفحني الأوهام والخيالات،
وتعذبني الهواجس والصور،
صور الذين لن يعودوا؛
لأن أجنحتهم توقفت قبل نهاية المسير …
لنستمر نشيخ في صمت؛
إذ ما أقسى التعب
يلفحه الصخب ويخايله الموت!»

ومع هذه السوناتا الفاجعة يتململ بطل قصة «مذكرات سفر» في خطواته الأولى نحو المدينة، التي رحل إليها بحثًا عن بديل ما لفجيعته، وعذابه الخاص، في رحلة للاغتسال من أدران الحياة والبحث عن المثال، ربما المطلق الذي يسعى إليه ليتجسد ويخرج من ضباب الوهم والهواجس. يرحل البطل — المثال، ليصطدم أو ينحشر في الواقع الصلد والمباشر، الخالي من الوهم وضبابية الأوهام والحيرة اللتين تساوران نفس البرجوازي الصغير، وتحجب عنه وضعه الاجتماعي لتجذبه إلى جزر نائية يرتع فيها مع أحلامه وقلقه، وينصرف فيها عن أوجاع الآخرين — المعضلة الاجتماعية — وكروبهم.

و«البرجوازي الصغير» هذا، أو ابن الطبقة الوسطى، عمومًا، والذي يعد الوليد الشرعي للمجتمع المغربي بعد الاستقلال، وعلى امتداد الستينيات وما بعدها، يعد مركبًا أصيلًا لمختلف النزوعات والتناقضات والمطامح التي يعرفها واقع جديد خرج لتوه من الظروف الاستعمارية ويواجه مشاق الولادة ومصاعب صنع الدرب الجديد، ويتوزع بين ماض مشدود إلى التاريخ والتقاليد والقيم الجاهزة، وحاضر معتم ملتبس، ومستقبل أكثر غموضًا وأشد ضبابية، وتتحرك ضمنه، وبصورة خاصة، أزمة الطبقة الوسطى، والتي تعاني في قاعدتها الصناعية والفلاحية والحرفية ضغوط العيش والتطلع لحياة أفضل، وفي قاعدتها الثقافية من حيرة وقلق محرجين يجعلانها موزعة بين الاستجابة والانفتاح الإيجابيين. على مجتمعها والسير في ركابه ووضع طاقتها في خدمة قضية التغيير الاجتماعي، وبين إرضاء تطلعاتها الذاتية وجموحها الداخلي وفورتها الانفعالية التواقة إلى تحقيق آمال الذات المختلفة، والمغذاة بتيارات الفكر الغربي المنفتحة والتحررية.

حين يهم البطل بدخول المدينة التي لجأ إليها يقول: «أنا أبحث عن ضائع بدون اسم»، وبالفعل، فإن أزمة البرجوازي الصغير تكمن في هذا الضياع غير المسمى، والذي يعمر نفسيته بهذه السوداوية التي تطبع نفسيته ومشاعره وحين يدخل البطل المدينة — الواقع المغضن، لا يفتر عن إبداء سأمه والتعبير عن حيرته: «لست فاضيًا … أريد أن أبحث عن شيء …» عن لا شيء ربما … أو عن المطلق، «كنت حريصًا على أن أخرج إلى الشارع في أقرب وقت لأدفع عني الاختناق»، إلى آخر هذه العبارات التي تحفل بها القصة، والتي تعبر عن مكونات الحيرة والقلق الذاتيين.

على أن هذه المكونات لا تبقى أسيرة الذات أو حبيسة نفسية صاحبها، ولكنها تمتد لتخلق لها تولداتها الفرعية، وتحدث إسقاطاتها وظلالها على الجو الذي تغشاه والمحيط الذي تتحرك فيه وخلاله، فتظهر للقارئ وقد سادته روح البطل، وأصبح المحيط على الرغم من استقلاله موسومًا بمياسمه الخاصة، وعبر هذه العملية نكتشف نحن أيضًا المهرب الذي يختاره البطل، والذي لن يلبث أن يصبح مثار سام وحافزًا آخر للهرب والبحث عن الجديد.

من خلال المهرب الأول تنكشف أمامنا صور مجتمع مترد يعيش على الدعارة ويمضي في الفراغ وحلقات البله الذين يستعرضون عاهاتهم وينتظرون الخلاص، تستغرقهم أفكار توكلية وقوى خرافية لا حول لها، هي قوى الأولياء والصالحين، مجتمع مليء ﺑ «رجال لهم أعين تنظر نظرات خالية من أي تعبير، وتوحي لك بأن رءوسهم فارغة، وبأنهم لا يفكرون في شيء …» فهل تستطيع اللذة العابرة أن تطفئ الغلة، وهل يتاح للنفس المولهة والمعذبة أن تستريح في شط الأمان أو في حضن امرأة ما بمدينة ما؟ سرعان ما ترتفع علامات النفي مرددة: «نحن نحيا لأننا نريد أن نعطي لحياتنا معنى، لن نقبل أن ندور في اتجاه الدوامة.»

هو الرفض إذن، لواقع ملوث، وهي قصة تريد الإحاطة بمظاهر هذا التلوث من خلال القلق المدمر الذي سيدفع البطل للبحث والاستقصاء ومحاولة إيجاد مكان يرسو فيه وينشر به قلاع نفسه المضطربة، وهي أيضًا، قصة هذه النفس المعبرة عن جيل وعى قضيته في الانتقال بين تاريخين، وهو وسطهما حلقة جديدة في طور التكوين، ولكن البطل هنا ليس رافضًا رفضًا عشوائيًّا أو ذاتيًّا، إنه رافض من أجل مجتمعه، متذمر وشاك ﻟ «أجل أن يكون الإنسان سيد مصيره»، قلق، وهو حين تتجمع فيه أصداء الأمس وتتزاحم مشاعر الخيبة والرفض ينفض يديه من كل شيء إلا من رغبة واحدة تتجمع فيها القصة وتتشنج في عبارة واحدة: «لو أن العالم يتغير … يتغير … يتغير …»

أما التقنية والأسلوب القصصي فهما يرتفعان إلى مقام المضمون ومحتوياته، بحدة، فاستخدام أسلوب المذكرات، يعد، وحده، نزوعًا نحو التطوير، وسبيلًا للخروج من الإطارية الهندسية المعروفة، ووسيلة لمنح فضاء أوسع للشخصية تتحرك فيه، وتبرز خلاله فعالياتها وحضورها النفسي والفكري والوجداني، حتى إذا اختلطت القصة أو بدا أنها تختلط أو تنزلق إلى التعبير الذاتي على الخصوص، لم يكن ذلك عيبًا فيها ولا مأخذًا على كاتبها، وإنما يمكن أن يعد تلطيفًا وسقيًا للوصف الواقعي والسرد المتيبس.

إن قصتي محمد برادة، هاتين، وقصصًا أخرى قد غذتا، أسلوبًا وبناء ومحتوى، القصة ذات النهج الاجتماعي وقدمتا لها وجهة نظر خاصة في الرؤية والتعبير، وهي وجهة نظر جريئة في حينها، على ما علق بها من عيوب، مطورة ومجددة، وهذا ما كان يعوز الفن القصصي القصير.

هوامش

(١) غالي شكري، مذكرات ثقافة تحتضر، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت، ص١٣٦.
(٢) راجع في هذا الشأن: د. م. غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، ٣ ذ، دار النهضة العربية، القاهرة، ١٩٦٩م – د. عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، ط١، دار الفكر العربي، ١٩٥٥م.
(٣) جماعة من الأساتذة، المجمل في فلسفة الفن، ترجمة سامي الدروبي، دار الأوابد، ط٢، دمشق، ١٩٦٤م، ص٢٨.
(٤) المصدر السابق، ص٣٢.
(٥) المصدر السابق، ص٩.
(٦) غالي شكري، مذكرات ثقافة تحتضر، ص١٣٩.
(٧) غالي شكري، مذكرات ثقافة تحتضر، ص١٣٩.
(٨) لينين، في الأدب والفن، دار دمشق، دمشق، ۱۹۷۳م.
(٩) غالي شكري، مذكرات ثقافة تحتضر، ص١١٨.
(١٠) محمد مندور، حوار في م. الآداب البيروتية، يناير ١٩٦١م.
(١١) راجع تحليل د. شكري عياد. لإحدى قصص طاهر لاشين فن القصة القصيرة في مصر، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، ١٩٦٧م – سلامة موسى، الأدب للشعب، القاهرة، دار الجيل للطباعة والنشر، د. ت.
(١٢) زهور تيمور: القافلة تسير … جريدة التحرير، ع۱۷۸، ۲۷ سبتمبر ١٩٥٩م، س١.
(١٣) زهور تيمور: القافلة تسير، جريدة التحرير، ع۱۷۸، ۲۷ سبتمبر ١٩٥٩م، س١.
(١٤) نشرت مجموعة «السقف» سنة ١٩٧٠م عن دار النشر المغربية وهي تضم جل ما كتبه بوعلو طيلة الستينيات، والقصص المعتمدة في الدراسة هي التي نشرت في جريدة التحرير انطلاقًا من سنة ١٩٥٩م وما بعدها بقليل والتي تؤرخ لهذا الاتجاه.
(١٥) انظر قصة القرف، التحرير، ١٩٥٩م، ع۲۲۱.
(١٦) صياد السقف، ص۱۳.
(١٧) صياد، مجموعة السقف، ص١٣.
(١٨) الحذاء الجديد، مجموعة السقف، ص٢٩.
(١٩) المصدر السابق، ص٩٧.
(٢٠) المصدر السابق، ص٣٥.
(٢١) السقف، ص١٥.
(٢٢) السقف، ص٢٠ وما بعدها.
(٢٣) السقف، ساعة الرفض، ص٢٤.
(٢٤) السقف، ص٦٦.
(٢٥) السقف، ص٧٥.
(٢٦) مجلة القصة والمسرح، يونيو ١٩٦٤م.
(٢٧) مجلة أقلام، أبريل ١٩٦١م.
(٢٨) المصدر السابق.
(٢٩) الكدية بالعامية المغربية هي الربوة.
(٣٠) مجلة آفاق، ع٥، و٦، ١٩٦٧م. انظر لنفس القاص المساء الأخير، جريدة العلم، ١٥ يناير ١٩٦٦م، كما هي العادة، جريدة العلم، ۲۰ نوفمبر ١٩٦٤م.
(٣١) محمد بيدي من القصاصين المغاربة القلائل الذين يقرءون بالفرنسية وثقافته مزدوجة.
(٣٢) قصتان مخطوطتان كتبتا في ١٩٦٢-١٩٦٣م. وقد تحرج القاص من نشرهما لوازع نفسي من نحو، ولأنه كان يبحث، وقتئذٍ، عن الصيغة الملائمة لأكثر أشجانه من نحو آخَر ومحمد برادة، بعد هذا يتردد كثيرًا في نشر نتاجه، وهو يسمي نفسه تواضعًا، من كتاب «يوم الأحد» على الطريقة الفرنسية. والحق أن قصتيه المذكورتين وكذا مع ما اعتمدناه مخطوطًا لمحمد بيدي وإن كان يبدو أنه يخل بالمنهج المتبع، الذي يعتمد المنشور أساسًا، إلا أننا رأينا فيها مخايل تطور عجيب وإذا لم يكن قد حقن النتاج القصصي لزمانه مباشرة، فإنه يعد، بمفرده، علامة تطور خاص، واستطاع أن يتبلور، بعد ذلك على الشاكلة التي سنرى في أواخر الستينيات، بصفة خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤