الفصل الثالث
الاتجاه الواقعي النقدي
الاتجاه الواقعي النقدي.
الواقعية النقدية في قصص مبارك ربيع.
قضية الأرض – صورة من الواقع من منظور أيديولوجي.
قصص رفيقة الطبيعة.
قصص إدريس الخوري.
قصص محمد زفزاف.
***
(١) الاتجاه الواقعي النقدي
خاضت البرجوازية الناشئة في أوروبا، في القرن الرابع عشر، حربًا ضارية على ما تبقى من قيم وبنيات الإقطاع والاستبداد، وكانت هذه الحرب تستهدف استئصال الجذور القديمة التي باتت أشواكًا وعرقلة في طريق التقدم الذي تنشده الطبقة الصاعدة وتسعى بكل ما أوتيت من طاقات متولدة أن تنجزه لتقيم عالمها المتجدد والمتطور. وأمام ضراوة المواجهة لم تملك الأسس القديمة إلا أن تنهار أمام هذه القوة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، أي قوة البرجوازية الصاعدة.
وبالفعل، فإن البرجوازية كانت تملك سحرها وبريقها لأنها ارتبطت وولدت المشاعر القومية ونزعات التحرر الوطني وكسرت تحالف الإقطاع والكنيسة وضربتهما الضربة القاتلة في مصالحهما الاقتصادية، وجاء طموح رجالها وعالمها وإمكاناتهم الثرة لتضرب، أيضًا، طوقًا خانقًا على الإقطاع الذي أخذ يتردى وجودًا وقيمًا.
ورافقت الحركة الرومانسية هذه الثورة وعبرت عنها، إبداعًا، وبأشكال متفاوتة، فانطلقت عقيرة الفرد التي ظلت مخنوقة، لأن عهودًا طويلة مرت وهي تردد لواعجها وأشجانها الدفينة، ووجدت المشاعر المكبوتة والذات الفردية طريقها للإفصاح عن مكنوناتها، وإذا بنا في العالم الروائي للحركة الرومانسية أمام حملة من المظاهر والأجواء التي ذاب فيها جليد التزمت والقيم الكلاسيكية الفجة والرصينة، القاتلة للأنا ومبتغياتها، وتكسرت المرايا التي لم تكن تعكس سوى إرادات وشخوص متسامية، مثالية، متلبسة بحكمة السادة، متدثرة بمفاهيم وأحاسيس مستعارة، تشد العالم إلى قرون مغرقة في القدم. على حين اتجهت الرومانسية، وقد شحنت بمشاعر العصر المتغير واكتساح البرجوازية وهيمنتها على مراكز النفوذ فيه، اتجهت للإعلان عن الإرادة الإنسانية وجعلها سيدة نفسها، ودفعت بها للاصطدام بعناصر الخير والشر، ومجابهة واقعها، بملء طاقتها واختيارها، لتعاني ما قدر لها أن تعانيه.
غير أن قيم الحرية والكرامة التي جاءت البرجوازية مبشرة بها، داعية لها، سرعان ما أخذت تتراجع وتختفي مفسحة الساحة للطموح البرجوازي المتنامي ليأخذ موقعه الحقيقي في توجيه الأمور وتسيير المصالح الاقتصادية، بما يعود عليه بأكبر نفع وأضخم ثروة، إذ ما لبثت البرجوازية أن تحولت، بدورها، إلى طبقة اجتماعية مستغلة، نعم، تقول بحرية الفرد، ولكن، تخل بحرية الجماعة حين تصبح هذه ذات مطمح في العيش الكريم. تنادي بالتجديد والتغيير، ولكن ذلك الذي لا يضر بمصالحها ولا يعرقل عليها سبل جني الأرباح ومراكمة الادخارات وتحديد المصائر والاختيارات.
وهكذا فقد انحدرت البرجوازية إلى مهاوي التفسخ وأخذت بثور الفساد والانحلال تدب في جلدها وتتورم على سحنتها، وأفرغت القيم التي حملتها كل محتوى أصيل لها، وأصبحت مجرد معاني وكلمات جوفاء، وإذا بأوروبا، التي عانت قرونًا من العبودية والإقطاع، تجد إرادتها وكرامتها وقد أحاطت بها أغلال البرجوازية، وإذا بالقرن التاسع عشر يشهد ميلاد الرأسمالية وهي تضع أسس أشنع استغلال لم تعرفه البشرية من قبل وهكذا أصبحت الفائدة والربح ومراكمة الأموال صاحبة السيادة، وبدلًا من أن يحمل التطور الصناعي والتقدم التقني للبشرية، ربحًا رخاءً جعلها لقمًا سائغة في أفواه الرأسمالية، تلوك ثمرة جهودها وتسرق قوة عملها، وتدفعها في عواصف الفقر والاستغلال الهوجاء.
وما كان للرومانسية أن تكون قادرة على مسايرة هذا التحول الذي اعترى مسرح الحياة الأوروبية، أو بالأحرى، إدراك كنه التغيير الذي لحق، بل أنها، أحيانًا، أصبحت تمجد القيم السائدة، عن عدم فهم، وكأنها تجد فيها خلاص البشرية من القيود التي كانت تكبلها، وأعشى بصرها بريق الحرية دون أن تتبين الظلام الحالك الذي تتخبط في دياميسه الجماهير الكادحة المستغلة. باتت الرومانسية عاجزة عن أن تكون التعبير والتيار المطلوبين للعصر المتبدل، ذلك أن العزلة والإغراق في الذات واستكناهها لم يتيسر لهما أن يصمدا أمام التكالب البرجوازي والقيمة السائدة، آنئذٍ، أي أمام الملكية الخاصة وما تستثيره من حوافز وتولده من نتائج طبعت بصبغتها العصر وأناس العصر.
إن جدلية الحركة التاريخية والفكرية والإبداعية، ولدت، وبالحتم، نقيض الرومانسية، أي الواقعية كحركة فكرية شاملة، يهمنا هنا ما يرتبط بها من صلة بالإبداع القصصي.
جاءت الواقعية، إذن، رد فعل حاسم على انتكاس الرومانسية وتقلقلها أمام هذا العصر وسيطرة البرجوازية واكتساحها وما استنبتته من عوالم جديدة، وانتصبت لتكون شاهدًا على التردي الجديد والنهب الذي تمارسه البرجوازية، والتفسخ الذي تنشره وراء أقنعة التجديد والتطور.
وبالفعل، فقد تولد مجتمع جديد كل الجدة في سمياه وضروب سلوكه، متعدد الوجوه، متباين القسمات، غائر الجذور، واسع البنيان. يصطخب بجماهير ومصالح طبقية جديدة، وأضحى هذا التعدد والتباين والاتساع في حاجة إلى عين بصيرة، ورؤية استقطابية وأداة وصف بارعة تجمع شتاته وتحصر تعدده وتنضد فسيفساء مصالحه المتضاربة ووجوه التكالب والاستغلال فيه ولم يكن هناك من أداة أقدر ولا أصوب على القيام بهذه المسئولية سوى القالب الروائي، ولذلك لم يكن أمرًا عجيبًا أن يصبح القرن التاسع عشر هو مجلي الرواية الحقيقي وقادح زنادها. وقد استطاعت الرواية، والرواية الواقعية، بالضبط، أن تعطينا صورة شمولية وأصيلة عن هذا القرن بما لم تتولاه الفنون الأخرى أو تطمح إليه.
إن بروز الاتجاه الواقعي، منذئذ، هو الذي أهل المبدع ليكون شاهدًا على واقعه، متتبعًا لمظاهره وعناصر التغير في شبكية عينه الثاقبة، المتربصة، وأن روايات تولستوي، ديستويفسكي، على ما بينهما من تباين الرؤية، وروايات بلزاك وشارلز ديكنز واستندال وسواهم كثير، استطاعت أن ترسم خارطة العصر وتجعل من الأدب أداة تعبير وسلاح انتقاد في الآن عينه، فعبرت، جميعها، عن النفس الإنسانية في صراعاتها واضطرامها، وأبرزت الخطوط والمصائر البشرية ضمن حلقات الصراع الاجتماعي والقيم السائدة، مقدمة الدليل على حضورها واستشفافها لأدق التفاصيل وأعمق الأحاسيس والقضايا ترسبًا في كيان المجتمع البرجوازي، لقد استيقظ التعبير الروائي من جديد ليقيس مسافة الفعل والتطور التاريخيين ويباشر علاقته وتفاعله مع الواقع من منظور الصراع الاجتماعي الجديد، وضمن هيمنة البرجوازية المتصاعدة وهياكل وجودها وتجلياتها الاقتصادية والسياسية.
ولكن، وبعد أن تعرفنا على هذه الدينامية التاريخية، كيف يمكن أن نتعرف على الواقعية في الفن، وبالضبط، الواقعية النقدية؟
وبالنسبة للأدب العربي، فقد عرفت القصة العربية المنهج الواقعي بعد الحرب العالمية الثانية ومن الممكن القول مع ذلك أنها عرضت قبل ذلك، ولكن تأثرًا لا تجذرًا وعلى امتداد فترة الخمسينيات، وما بعدها، وذلك مع المعالم الحية للحياة التي برزت بعد الحرب وما خلفته من مشاكل وأزمات، وما صبغت به الواقع من أشكال وتكوينات جديدة، ثم مع الطبقة الوسطى، التي ازدادت اتساعًا وتناميًا، ومع تناميها هذا تكاثرت وتفاقمت وضعيتها ومشاكلها بصورة هيأتها لتكون الطبقة الأساس في المجتمع ولتحبل بعناصر التغير وتتركز فيها مختلف السمات التي تميز مجتمعا بعينه.
عرفت القصة العربية، والمصرية منها على وجه التخصيص، طريق الواقعية، وبعد أن كان القاص يقصد الموضوع الاجتماعي ليبين ارتباطه بالواقع وامتياحه منه، صارت نظرته ورؤيته تتحدد وفق معايير مدروسة، بدلًا من ارتكانها السابق والمطبوع بالعمومية والعفوية، في كثير من الأحيان، وأخذت هذه الرؤية تتألف من عناصر وتتركب من تكوينات تتقمص هوية الواقع وسمته، وتبرق وتتوهج بتلويناته وأصباغه وتتجدد فيها الهيكلية الأساسية للمجتمع، وتنبت فيها الأطراف التي ظلت مبتورة، فولدت الواقعية من أذهان ومواهب عرفت وخبرت الواقع وأمعنت النظر فيه، واختبرته مجهريًّا وتأمليًّا، وتشربته معاناة وإحساسًا. مواهب تجاوزت مرحلة الانطباع الحسي السريع، والنقل الحرفي العابر، والصورة الاجتماعية المباشرة إلى الصورة وما وراءها، وإلى تقديم السلوك وأبعاده ورسم الواقع وظلاله ونشر الحدث وترسيخ جذوره والكشف عنه والإيحاء بالهاجس والمتوقع، وأهم من ذلك كله بناء القصة بناء فنيًّا تترابط جوانبه وتتعانق صلاته وتستحكم أدوات تكوينه استحكامًا لا خلل فيه ولا ارتباك، وهو ما كان معدومًا أو كان متساهلًا بشأنه في القصة ذات النهج الاجتماعي عامة، والتي كان يخيل لكتابها أن طرق موضوع الواقع واحتواء صورة منه كافيان وحدهما بالتنويه، وقادران على ربط العمل القصصي بالفهم الصحيح.
لقد كانت أعمال تولستوي، ديستويفسكي، غوركي، في روسيا، واستندال وفلوبير في فرنسا، وأرسكين كالدويل وهمنغواي وسواهم هديًا للكتاب العرب في الطريق الوعر التي وضعوا عليها خطواتهم، وهي طريق المنهج الواقعي، وهو المنهج الذي رأوه أكثر قابلية وأشد فاعلية لإبراز الصورة الشائهة لمجتمعهم وتجميع العناصر المفككة وتقديم نموذج فني وثقافي يحمل شهادة عن العصر، ويستبطن الذات والمجتمع، في آن.
وهكذا، فقد وضعت روايات وقصص «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» و«عبد الرحمن الخميسي» و«محمد أبو المعاطي أبو النجا» وغيرهم، ثم غانم الدباغ وعبد المالك نوري وغائب طعمه فرمان في العراق، وعبد السلام العجيلي وأديب نحوى وحنا مينه وصدقي إسماعيل في سوريا، وغيرهم كثيرًا من اللبنات الأساس لقيام صرح القصة الواقعية، وهي إذا كانت تتفاوت، شأن التفاوت المعهود والمطلوب بين هذا القاص وذاك، في الرؤية والأسلوب، فإنها تتفق أو تكاد في احتذائها منهجًا متقاربًا وتلمسها طريقًا واحدة على وعورتها وجدتها، وهو الطريق الذي سيفتح للقاص العربي الوصول إلى المجتمع من الباب المشرع ويضع ثقافته وموهبته في خدمة المولود الجديد الذي خرج من أحشاء بلد مختمر بعد أن مر في مخاض ولما يخرج من محنته بعد.
وانطلاقًا من الفهم المشترك والمستمد من الوعي بالواقع، ووعي الفنان الخاص، أي من تزاوج الذاتي والموضوعي، ارتادت القصة الواقعية قلب المجتمع وحفلت بنماذجه الحية فصورتها أحسن تصوير، بلا مثالية ولا مساحيق خارجية، بلا مسكنة أو تلفيق، بل بصدق وأمانة، وضمن فهم جدلي للحياة والشخصية البشرية، يجعلهما متفاعلين، الفهم الذي ينقل الوعي والتاريخ عبر شفافية الصورة واللفظة الحية، ومن خلال العلاقات الإنسانية وأجوائها الصاعدة والمتردية، النقية والملونة.
وما لبثت القصة الكلاسيكية أن أخذت تتهاوى أمام هذه النظرة الجديدة خاصة بعد أن شرع النهج الواقعي النقدي ثم الواقعي الاشتراكي يتبلور بشكل عملي، صارم، وصحي، على يد كتاب مثل لويس عوض، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس وحسين مروة الرعيل الأول، ومن تلاهم من النقاد الشباب أمثال غالي شكري وصبري حافظ ورجاء النقاش وسامي خشبه، ثم ما لبث تأثيره أن أخذ ينتقل من قطر إلى قطر عربي لتتطور معه القصة العربية رؤية وقصة قصيرة، وتنشد نضجها وكمالها الفني والتعبيري.
ثم إنه كان لا بد للقصة المغربية التي درجت على درب النشأة الأولى والتمريس الفطري والسير البدائي أن تجد طريقها إلى التطور وتبحث لنفسها عن سبل النضج، ولا أقول الاكتمال. وقد أسلفنا القول بأن الموضوع الاجتماعي هو الذي كان هم جل الكتاب القصصيين وديدنهم، وكأن القصة ما وجدت فنًّا تعبيريًا إلا لتكون طيعة للمجتمع خادمة وفية لشئونه وهموم الناس فيه، ورأينا كيف أنها، في تلمسها لهذا الموضوع وسعيها لتصويره وبثه في النفوس والأذهان، سارت متعثرة متذبذبة تخطئ القصد أكثر من مرة وتجهر حين يلزمها أن تسر وتبوح حيث ينبغي أن توحي أو تتكتم، كما رأينا كيف أن معالجة الموضوع الاجتماعي كانت معالجة مسربلة بأردية فضفاضة ليست في مقاس الواقع ولا ملائمة لصخبه وعنف تحوله واستطالة أطرافه وتضخم حجمه، كما علمنا بعد ذلك، كيف أن انزياح بلبلة الحماس العارم، بعد الاستقلال، قد واجه الكاتب المغربي بواقع جديد بارز الأنياب متحفز المظاهر، متربص الوقائع والأحداث، يطغى فيه الظلم وتنعدم فيه قيم العدالة الاجتماعية، وتستشري فيه المفارقات الاجتماعية والطبقية استشراء كان يولد في النفوس أكبر الغيظ والأسى، ثم كيف استجاب القاص لهذا الواقع وتربص له وأخذ ينفس، من خلال القصص، التي سبقت دراستها، عن أزمة الفئات المسحوقة والمهانة في وجودها وعيشها.
ولكن تلك القصص التي أوردناها، فيما أسميناه بالاتجاه الاجتماعي، كانت لا تزال مرتفعة اللهجة، صاخبة الرنين، حرفية ومباشرة تنظر إلى الواقع النظرة الفطرية والميكانيكية، أجل أن فيها كثيرًا من الإدانة والتشهير، ولكنها، تعدم حس الإيحاء والتأويل، تجزئ الواقع وتفككه تفكيكًا فيما هو حي متفاعل، قاصرة في نفسها، بعيدة عن الدلالة وهاجس التوقع مكتفية بالجزئيات أو ما يماثلها، بينما الواقع شاسع الأطراف، غائر الجذور، فائر الانفعالات والأحداث.
كان لا بد من ضرورة تجاوز الصورة الحرفية وأحادية النظرة واللقطة ومحدودية الإدراك القصصي الاجتماعي والانتقال إلى رؤية أكثر اتساعًا وتلونًا بالفهم وأكثر تشربًا بالحساسية الفنية، أي كان لا بد للقاص المغربي من أن يجرب إمكانات جديدة على صعيد التعبير القصصي بأن يجد الموضوع المطلوب والحدث المبتغى والأرضية الصحيحة التي ترتكز عليها ثقافته ووعيه. وكانت هذه الأرضية والرؤية هما أتباع خطى المنهج القصصي الواقعي، والتمرن على نماذجه الدالة قصد تطوير الفن القصصي القصير ورصد صورة الواقع المتكاملة.
إن الانتقال إلى صعيد الرؤية الواقعية، واتخاذ الموقف الواقعي النقدي في التعبير القصصي، يعد، إذَن، تعميقًا للخط الاجتماعي، السالف الذكر، ومحاولة إخصاب لتربة بكر تنمو فوقها القصة القصيرة لتستوعب أطراف الصراع وتمتص ذبذبات الحركة الاجتماعية المتصاعدة والتي باتت أكثر غنى وتعقدًا وتعدد وجوه.
إن الواقع المغربي الجديد تشكل على امتداد الستينيات من نواحيه السياسية والاقتصادية والثقافية، أيضًا، وأخذت معالم الطريق الجديدة للمغرب المستقل تتضح ولو بصورة سلبية ومعاكسة لمطامح التقدم والنهوض، وتدافعت الأحداث السياسية بين مد وجزر، ولكنها، كانت منطبعة في مجموعها بضغط سياسة الإدارة وإحكام سيطرتها على المرافق الاقتصادية والاجتماعية، بمساندة برجوازية ورأسمالية وطنية، وكانت الجماهير، تحت هذا الضغط، وباختلاف تركيبها، تعيش هذا الوضع متأزمة قلقة، مضطربة النفوس والمصالح. وبين هذا الاضطراب وذلك القلق أخذت معالم الشخصية الاجتماعية في التشكل، شخصية الطبقة الوسطى، بصورة خاصة، وهي التي انعكس عليها الصراع بل وأصبحت محوره، ولذلك نجد القصة القصيرة تركن إلى هذه الفئات وتحتوي عالم عيشها ورؤاها فتجعل منه مكمن التجربة ونقطة الانطلاق، بل إن القصة القصيرة، كما أسلفنا في موضع سابق، والواقعية النقدية منها بصورة خاصة، سارت على امتداد مراحل إبداعها وتطورها تستخلص أهم نماذجها وتسعى، من خلال رصدها، إلى تقديم صورة متكاملة للواقع، تعريه وتفضحه، أحيانًا، وتكشف عن أحزانه وتتوهج بأفراحه، والقصة القصيرة ذات النهج الواقعي النقدي لا تستكين لهذه الصورة أو تقنع بها دائمًا، بمعنى أنها لا تقنع بصورة الواقع وقد انعقدت عراه واستحكمت أطرافه بل إنها تهز سكونيته وتدفع به في مجرى التيار القصصي معرضة إياه لأكثر من شرخ وهزة فيتراءى لنا المنشود من خلال إدانة وانتقاد القائم وترتعش إزاء أبصارنا مخايل الواقع البديل عبر إسقاط وخلخلة المستوي والمتكامل، وإذا كانت هذه العملية النقدية لا تتفق دائمًا إلا أنها تبقى هي مطمح كل قاص واقعي وهدفه، وغير خاف كذلك أن هذه العملية لا تتم إلا برفقة معالجة متطورة للكتابة القصصية ذاتها، أي من خلال استخدام أحسن وأدق لوسائل الأداء القصصي، ولذلك فالقصة الواقعية النقدية ليست مضمونًا فحسب بل هي عمل متكامل فكريًّا وفنيًّا إذا خف ميزان أحدهما اختل الآخر.
(٢) الواقعية النقدية في قصص مبارك ربيع
وفي عملية التلمس لملامح الواقعية النقدية في القصة القصيرة نسير بدءًا مع القاص مبارك ربيع، وذلك بمعالجة ثلاث قصص من مجموعته الستينية «سيدنا قدر»، مبتدئين بالقصة التي تحمل العنوان ذاته.
تنطلق القصة من استشعار حزن دفين في نفس الخادمة مفتاحة وعذابها اليومي، كخادمة، تتعرض لأقسى أنواع المعاملة التي تهدر كرامتها وتعرضها للتنكيل والألم يضاف إلى قسوة الحياة بلوى أخرى أصابها الزمن وهي مصدر شقائها الأصلي وفي زوالها يكمن خلاصها مما تعيشه من تعاسة.
في هذه القصة «سيدنا قدر» يدفع القاص بشخصية مفتاحة إلى عرين تجربة قاسية، أو بالأحرى يفردها وسط إعصار هذه التجربة ليبرز من خلال رصدها وضعية ظالمة تقهر الإنسان وتهدر كرامته، فيكون البعد الرئيسي، إذن، للقصة هو استجلاء جانب من الواقع المؤسي، والكشف عن خفايا الظلم الاجتماعي الذي يتعرض له الإنسان.
ويقدم لنا القاص هذه الشخصية في حالة حركة نفسية ومادية ضمن صراعها اليومي، وعبر هذا الصراع تنكشف لنا حالتها وتتعرى أمام أبصارنا سمات قضيتها وملامح أزمتها، متجنبًا الوقوع في الوصف التقريري أو الخطابية الفجة. إن الشخصية تتقدم في حالة فعل وضمن سياق درامي يتكون عبر منولوج داخلي حي ومتواتر برسم هيكل التجربة ويخط ظلالها، ويمتزج صوت الراوي مع الصوت الداخلي ولكنه لا يظهر ناشزًا، أو ناتئًا وحده، أبدًا، إنه الامتزاج الذي يؤلف وينسق ولا يفسد أو يكرر الصورة على أننا نحس، في النهاية، أن صوت البطلة هو الصوت العالي، وهو سيد التجربة والمتحكم في مسارها وتبلورها.
يطور مبارك ربيع في هذه القصة إمكانات الأسلوب السردي ويجعله قابلًا للتحول والنمو والتشكل في أكثر من أسلوب مما يدفع ملل ورتابة الحكاية أو الخبر العادي، ويسمح بتنامي الكتابة القصصية وفق خط التجربة وأفق القضية المراد طرحها، ويسمح، أكثر، بالإيحاء والتأثير المطلوبين، بخلق المسافة بين النص والمتلقي والمبدع، وهي مسافة مطلوبة وبانعدامها نسقط في المباشرة والخطاب الموجه الذي يفسد الشفافية ويقص جناح الأثر المنشود.
تنتهي قصة «سيدنا قدر» بهذه العبارات القليلة والموحية: «تقدمت مفتاحة نحو أسفل الدار … تقدمت ساهمة كأنها تفكر في بعيد» وذلك بعد أن صحت على الحقيقة وتكشف لها وهم ما كانت فيه، أو لعله لم ينكشف، إذ استيقظت من غفوتها الطويلة لتواجه مصيرها اليومي كخادمة منكل بها.
إنه، إذن، جزء من الواقع، صورة مقتطعة من مساحة الواقع الشاسعة، مقتطعة بعناية وبتركيز شديدين، ترسم التجربة من مناخين متقابلين بل ومتعايشين، الواقع والأسطورة، والشخصية المشدودة إليهما بالقسر. الأول لا يرحم، والثاني هارب في سرابه، والقصة تدينهما معًا، تدين شروط الظلم الاجتماعي والواقع والأسطورة المستلبين معًا، تدينهما همسًا لا صراخًا، فنيًّا لا تقريريًّا، فكأنها تدفعنا للبحث عن بديل حقيقي، تدفع دون أن تشير إليه.
من سفح الواقع وحضيضه ينتزع مبارك ربيع هاتين الشخصيتين ليجسم فيهما المفارقة التي تضعها الحياة من جانب وليبين لنا من جانب آخر كيف تضطر الحياة الأشخاص المنبوذين والمشوهين لاستثمار تشوههم وبؤسهم، لو صح التعبير، من أجل الآخرين ولقاء كسب قوتهم. وفي سبيل ذلك لا يستخدم القاص أي صورة من صور المسكنة أو أساليب استدرار الشفقة، إنه يقدم لنا الأشياء بحياد وتجرد تامين وعينه عليها، يلتقطها التقاطًا دقيقًا ويضعها حيث يجب أن تكون من سياق الحدث والقصة معًا وبلا تعسف أو إملاء قسري، وهذا مصدر انسياب القصة عند مبارك ربيع انسيابًا طبيعيًّا، لكن متوتر ومشحون، في الوقت ذاته، باللحظات الموحية والمعبرة، بصدق، عن أصالة التجربة وواقعيتها المتدفقة من خلال السرد المتنوع أو الحوار الحركي والتلقائي، الذي يتنامى مصعدًا معه موجة الحدث وأطرافه تصعيدًا تشع، بواسطته، ومن خلاله، الحركة القصصية وعناصر التأثير والفعالية والإيحاء في القصة. وهذه الأدوات جميعها تكسب القصة القصيرة لدى مبارك ربيع النضج المطلوب والتميز الفني المفتقد وتهيئ لها أسباب الوصول إلى ثنايا الواقع الدفين والمركب، فتستطيع، هذه، أن تتلبسه وتتزود منه وتندمج فيه اندماجًا طبيعيًّا خاليًا من كل زيادة أو ابتسار. وهذا بعض ما كانت تفتقده القصة القصيرة ذات القصد الاجتماعي، وتضل في البحث عنه دون جدوى فلا تطاله، لأنها، أساسًا، لم تكن مزودة بالأداة الفنية المصقولة والمشحوذة، والقادرة على استبطان التجربة الاجتماعية واحتواء عناصرها.
إن ما كانت القصة الاجتماعية تتوجه إليه عامدة ومتشنجة تقصد إليه القصة الواقعية النقدية برفق ولين وكأنها تريد سواه.
هل تقصد مبارك ربيع مخلوفًا أم اتخذه واجهة لفضح وإدانة ما يخفي خلفه؟ إن الأمرين معًا يتداخلان ويتقابلان حينًا آخر، حتى ليصعب القول أن الواحد منهما هو القصد والمبتغى، وسواء كان هذا أو ذاك، فالقصة تحقق قصدها الفني بالقدرات الجيدة التي امتلكتها، فكشفت لنا عن هذه الشخصية المعذبة المشوهة والتي لا تستطيع أن تنعم بلحظة حزن أو فرح حقيقية (حين أخذ مخلوف يبكي من أجل أمه نهرته معلمته ليكف عن البكاء لأن الوقت للفرح)، ومن خلال تشوه الشخصية نواجه تشوه الواقع ودمامته وقسوته التي لا ترحم، وعن طريق المتاجرة بهاته الدمامة يغدو في الطريق المسدود، أو أن هذا هو البادي، وهو خير من الترويح بأمل كاذب أو تفاؤل مفتعل كثيرًا ما يلجأ إليه صغار الكتاب أو من يتلبسون نزعة واقعية حرفية، فيضحون بالصدق الفني لدغدغة القراء وترشيح المغزى الخلقي، الذي وإن كان مطلوبًا، إلا أنه لا ينبغي أن يسقط من حسابه اعتبارات الأداء والفهم العاليين.
قصة «الشيخة» إذَن، تقدم لنا، أولًا، نموذجًا بشريًّا عاش الصدم والمفارقة في حياته، نموذج منتزع من الواقع، ولكن، اكتسب ثقله وكثافته في سياق التجربة ومناخها، فأصبحت له أكثر من دلالة، وكف بذلك عن أن يكون محدودًا أو متقلص الأبعاد أنه نموذج بشري يكشف عن الواقع حين يكشف عن مخيلته، أو بالأحرى ينزع الغطاء عن وجه من الواقع محجوب ومتستر بالضحكات والبهجة والمصطنعين، فتصبح تلك الشخصية المنتزعة من واقع الجماعة صورة لحياتها ورمزًا لسلوكها ونفسيتها عامة.
ثم إن القصة، من وجه ثان، تقدم لنا نموذجًا إنسانيًّا في صراعه مع الزمن، ومع أسباب الحياة والبقاء، وإذا كان لنا أن نعاتب القاص على أن الشخصية هذه، بمحدودية إدراكها، وقصور فكرها، يصعب عليها أن ترقى إلى هذا المستوى الذهني والنفسي في تصور أزمتها والشعور بها، فإن امتلاكه لأداته الفنية وإحكام سيطرته على سيولة الإحساس الباطني للشخصية جعلها تتقدم أمامنا ثرية بالمعاني كثيفة بالأحاسيس المتضاربة، مقنعة ومؤثرة وممتلكة شرط الصدق المعنوي والفني.
إن ازدواج وتكافل هذين البعدين في الشخصية، أي البعد الواقعي والآخر الإنساني، ضمن مناخ تجربة إنسانية وبشرية واحدة، يغذي القصة القصيرة الواقعية بشريان من الحياة والنضج غزير، وذلك حين يسمو بها إلى مرتبة الشخصية النموذجية ويقيها مساوئ التسطيح والضحالة، واستعارة صوت الكاتب الجهير، الذي، غالبًا ما ينتزع من الشخصية وجودها الحي، فيعدم بذلك حضورها وحيويتها وتتحول إلى نسخة منه، لا غير، عوض أن تكون صوت نفسها ودليل وجودها وقيمها، هذه المساوئ تنعدم أو تكاد في طرح الشخصية عند مبارك ربيع بحيث تبدو، هذه، وقد احتلت مكانها في مضمار التجربة والتحمت بأطراف القصة وتلبست المعاني والأحاسيس التي تنبض فيها، ويكتسب هذه أهمية خاصة بالنظر لكون الشخصية هي محور القصة القصيرة ومدارها عند مبارك ربيع.
ولكن هذا الاحتفال بالشخصية لا يؤخذ لذاته، بل باعتبارها جسرًا للعبور إلى العوالم المخفية من الواقع، وباعتبارها، أيضًا، تستجمع قسماته وتجاعيده، وغضونه، أي للدلالة التي تملكها ولكونها مفتاحًا للكشف والتعرية وبواسطتها يتسلل القاص من الأبواب الموصدة ليدخل أوساطًا يعمرها الأسى والحرمان، فتتجلى لنا أوضاعها ومناخاتها من خلال معايشات البطل وانعكاساتها في نفسه.
ولنا أن نطرح، بعد هذا، في تقييمنا التجربة القصصية عند مبارك، تساؤلًا يمس جوهر اهتمامه القصصي، وهو يقوم على أن اهتمام القاص موجه إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم «النموذج الهامشي»، في المجتمع، أو الذي يراه المجتمع كذلك، إننا في قصص ربيع لا نلتقي بشخصيات مثيرة أو ذات حضور مثير في الجماعة البشرية، كما إننا لا نلتقي مع الشخصيات التي تركز عليها القصة القصيرة، دائمًا، وهي نماذج الطبقة الوسطى بقلقها وتمزقها وأزماتها المادية والروحية، بل غالبًا ما نلتقي بمن هم دون هذه الطبقة، أي بأفراد منبوذين في وسطهم أو بمن يطلق عليهم «حثالة المجتمع» فهذه «مفتاحة» الخادمة و«القرعاء» في قصة «سيدنا قدر» ومخلوف الذميم الخلق والبهلوان في قصة «شاي يا مخلوف» فيامنة الندابة والضحوك في آنٍ واحد، ثم «الشيخة»، هذه التي لا تحظى عادة باحترام المجتمع بل تعتبر في عداد الساقطات، وشخصية «زعطوط» في القصة التي تحمل العنوان ذاته وهو بائع متجول معرض لمطاردة الشرطة واضطهادها له ومطاردتها لرزقه، ثم «أبا إبراهيم» في قصة بالاسم نفسه، حارس إدارة ورجل يصلح للقيام بجميع المهام بدون استثناء.
هذه الشخصيات وأمثالها هي ما يؤلف أركان العالم القصصي لمبارك ربيع، هي التي تحيا بداخله وتمارس فيه طقوسها وتنشغل بهمومها وممارساتها اليومية التي تخلو من طعم البهجة، بل تتراكم فيها الأحزان والأتراح، وهي نماذج حياتها مشروطة بالحرمان والضياع المادي، مطبوعة بالنبذ والانسحاق، تعيش صراعًا وعنادًا يوميًّا من أجل اللقاء، وهناك، دائمًا، قدر ما يتهددها ويتربص بها ولا تجد منه مهربًا أو ملاذًا.
وأيًّا كان الأمر فليس ذلك مما ينتقص من قدر القصة القصيرة عند كاتبنا، بل على النقيض من ذلك بحيث استطاع أن يوظف فنه لخدمة فئات اجتماعية مغلوبة، رغم ما قد يلابس ذلك، أحيانًا، من نظرة فولكلورية أو نزعة في الفهم ذاتية، كما استطاع أن يتوفق في التقاط مشاهد حية من واقع متمرغ في اليأس والحرمان فيجعلها معروضة أمام القارئ عرضًا حيًّا متوترًا قادرًا على التسلل إلى النفوس ومخاطبتها وإثارة شتى العواطف والاستجابات فيها، وهو ما لم تبلغه قصص سابقيه أو من حاولوا استثمار القضية الاجتماعية واستخدام المنظور الواقعي.
أما القطب الثاني في تركيب العالم القصصي عند مبارك ربيع، والأساس الذي يستند عليه البناء الفني فهو اعتماد المفارقة وعنصر التصادم بين مظهرين أو عالمين متواجهين، ومن هذا المنطلق يجري حبك كل القصص أحداثها وأجوائها، بالصورة التي تنتهي كلها إلى اللحظة التي تصطدم ورسم فيها الأشياء، لكن، ليس ذلك الاصطدام العنيف، وإنما ذلك التشابك الخفي الذي يولد في النفس أكثر من إحساس وإثارة، ويبلغ قصده بدون ضجة: في قصة «الشيخة» تتجسم المفارقة حية بين «الفقرية» (السكة القديمة) وبين الراقصة الجديدة التي استولت على مكانتها في قلوب الناس، وكلتيهما صدى لزمن مصطخب ومتصارع أيضًا.
مرة أخرى تتم المفارقة وتكاد تعتري الجسد قشعريرة ويحصل الإحباط الأليم الذي يتجسم فيه مغزى القصة كلها، والذي لا يجهر به القاص أو ينفخه، إنه يتجسم بهدوء وبدون إصباغ أو صراخ. وهذا، بالضبط، هو الفن الواقعي، أي الأسلوب الذي يرسم العالم المصغر ويرصد اللحظة بكثافتها الكاملة في نقاء وصفاء واضحين، وتظهر الجروح مفتوحة ومن خلفها السماء والسهم الذي أصاب، لكن دون شروح أو تفسير ودون خطابية.
إذا كانت هذه هي ملامح الواقعية النقدية في قصص مبارك فإنها تتخذ عند عبد الكريم غلاب وجهًا لا يتغير في العمق ولكن يكتسب صفات ومميزات رهن بالعالم القصصي لهذا القاص ودنياه الفكرية وأفقه النظري.
(٣) قضية الأرض – صورة من الواقع من منظور أيديولوجي
يعد المنظور أو زاوية الرؤية عنصرًا أساسيًّا في تشكيل العملية الإبداعية وتركيب محتواها الداخلي ورسم معالمها الخارجية، وتوفر هذا المنظور هو الذي يكفل للكتابة، في أي نوع من أنواعها، بل وللتعبير الفني عامة، قاعدة في الوجود وأرضية تمتد فيها جذوره وتنبت فوقها الأغراس الفنية والفكرية، وبانعدام هذا المنظور يصبح المحتوى هزيلًا، خفيف القيمة، خاليًا من رصيد الفهم للحياة والواقع. وإذا كان المنظور بهذه الأهمية فإنه من الطبيعي أن يكون منطلق كل تجربة فنية جادة تنشد لها الرسوخ والتأثير على امتداد مسافة الفكر والمجتمع، وإننا نجد هذا الفهم قد رقى إلى ذهن ووجدان كل القصاصين المغاربة في الستينيات، وعلى اختلاف رؤاهم الفنية والفكرية، بل ربما أمكن القول إنه كان موجودًا قبل ذلك وأن بشكل عفوي منظم أو خاضع لأي توجيه أو أحكام، ولكن، انطلاقًا من الستينيات، ومع تبلور الوعي الاجتماعي وبروز معالم الصراع الطبقي واختمار الإحساس بقسوة الواقع ومعاناة الفئات الاجتماعية المتوسطة والمسحوقة أخذنا نلحظه يتحدد بكيفية منتظمة، وانتظامه هذا هو الذي ساعد على ضبط التجربة الفنية لدى كل قاص وجعلها تسير وفق خطة وقالب معلومين.
وهذا المنظور يتركب محلوله، في اعتقادنا، من علاقة الكاتب بالواقع الخارجي، أي بمنظومة الحياة الاجتماعية والسياسية والقناعات الناشئة على ضوء العلاقات السائدة، ودرجة انفعال وتفاعل المبدع بمكونات هذه المنظومة ثانيًا، من المطامح الذاتية للمبدع وحجة آرائه التي كونها عن الإنسان والحياة عمومًا. ويمتزج كلا الأمرين في سبيكة واحدة أو محلول واحد، ومتى تفاعلا وتمازجًا تمازجًا حيويًّا أمكن لهذا المنظور أن يتبلور ويجد طريقه في النص الأدبي والتعبير الفني واضحًا وصار هو المصب والمنبع.
فالأرض هي قضية غلاب، وعنها تتفرع جميع المواضيع التي تشغل مركز الصدارة في القصص، هي المركز والمحيط وما عداها أطياف تحلق حولها وتقف على خدمتها وإيضاح كامل قسماتها. لكن، أي أرض هذه التي يكرس لها عبد الكريم غلاب أداة القص والتصوير؟ وفي أي إطار يندرج رصده لها كسيدة لرؤيته ومنهجه؟ وما موقعها من مجمل الصراع الدائر في المجتمع؟ وما موقعها في النهاية من مجمل الرؤية الواقعية النقدية، محتوى وشكلًا؟
سنعتمد للإجابة على هذه التساؤلات ثلاث قصص من المجموعة المشار إليها، وهي: «الأرض حبيبتي»، «الضاوية»، «استرجعتها»، والتي سنجد أن الخيط المشترك بينها أو المادة الخام فيها هي الأرض في ارتباطها بوضع أسروي وبشري، وما يتفرع عن ذلك ملابسات وأزمات للأفراد والمجتمع.
في البداية، وعلى صعيد نظرة تحليلية مبسطة، نجد أنفسنا تجاه خبر حكائي تمثل فيه الأرض محور الصراع ومركز الأزمة ومصدر العذاب لكل من الزوج والزوجة. فبالنسبة للأول يحس أن هناك قوة طاغية ومتسلطة لا فكاك له منها، شهيتها مفتوحة لابتلاع الأرض، ولذا فبيعها خير من الطرد والاغتصاب، وبالنسبة للزوجة تمثل الأرض مبرر الوجود وعنوان الكرامة، وبدونها تنقطع عرى الاتصال بالحياة والعشيرة.
هذا هو الخبر ومحتواه، لكن كيف يخلص القاص إليه؟ وكيف انتهى إلى هدفه من القصة؟
يمكن القول، ودون تردد، أن القصة القصيرة عند عبد الكريم غلاب تتلبسها نزعة وصفية مهيمنة تجعله يضيع القضية في مجموعة الأوصاف والصور التي يقدمها عن الجو البدوي، وهذه النزعة لا تظهر قيمتها في خدمة غرض تصويري ذي ارتباط عضوي بالموضوع القصصي، بقدر ما ترضي نزوعًا راسخًا في ذات القاص يريد به أن يبين فهمه وخبرته بالبيئة البدوية، والديكور الذي تتحرك فيه شخصياته، ومن نحو آخر نجد أن استغراقه في جملة التفاصيل الذيلية والهامشية التي تؤلف الصور الفولكلورية المعروفة عن القرية، أو الصورة السياحية، يكشف في العمق عن نزعة متعالية تحسب أن تقريب الهوة يكمن في التقرب إلى الوسط المعلوم والإحاطة به والتعاطف معه.
وفي مستوى ثالث نجد أن البناء القصصي ينسجم مع عقلانية القاص وروح فهمه وتصوره للمجتمع البدوي، وهو تصور ثابت ومرتب هندسيًّا. فهذا البناء مركب بآلية، يتكون من الوحدات الثلاث المعروفة، تقودك البداية فيه إلى الوسط فالخاتمة، وينعدم فيه الإحساس الدرامي المطلوب في القصة القصيرة. إنه، إذن، بناء محافظ، وهو لن يتسع لغير ذلك، وطابع المحافظة فيه متأتٍّ من نوع الفهم للقضية الاجتماعية، أي قضية الأرض، فالقاص يتعامل مع الموضوع تعاملًا وصفيًّا خارجيًّا بعيدًا عن أي تغلغل أو استبطان عميق، يجعلك تحس في العمل القصصي بوجود حي للشخصيات، للحدث في بدله ونموه، وبالتالي لا يخلق في نفسك إلا إحساسًا سرعان ما يتلاشى لأن الإطار والجو الذي ولد فيه العمل القصصي جو اصطناعي لا أصالة فيه ولا صدق إنساني، وإنما هو جو مختلف ومملى من الذهن، ولذلك فمن الحتمي أن يجيء البناء القصصي بالآلية والركود الموصوفين، وأن نفتقد فيه عناصر الحيوية.
إن الواقعية، عمومًا، عند غلاب تمر عبر منظور ذهني صرف، حتى ولو حاول تسريبها خلال ممرات الوصف الطبيعي والاختلاق التصويري وما إلى ذلك من الحيل الفنية القصصية، وهي إذا تأتي لها أن تحقق المبتغى الفكري، فإنها تحيد عن الغاية الفنية التي بدونها تبقى القصة عملًا مبتورًا.
وحول الرواية تتحرك مجموعة من الشخوص الهامشية والثانوية التي هي مجموع أهالي «المدثر» وتتلاحق الصور الطبيعية والأوصاف التي ترسم بانوراما البيئة البدوية بالنزعة ذاتها المشار إليها ومن المنظور نفسه.
ويجري التأكيد على الملكية الفردية في هذه القصة بشكل سافر، باعتبارها أساسًا للوجود، وبدونها لا شيء يستحق الحياة، وهذا الدفاع عن الملكية منسجم مع مبادئ الكاتب وأفكاره السياسية، كما أن اتخاذ موقف الدفاع عن الفلاح هو موقف مبدئي، الدفاع ولا نقول التبني التام. صحيح أن القصة تدين هيمنة الأجنبي وتحرش خلفائه الجدد، والسلوك الشره والاستغلال، ولكنها تفعل ذلك من موقع حماسي متعاطف.
هذا من جهة المحتوى، أما الشكل فهو مستمر في ترديه وتقلقله، فقصة «استرجعتها» هذه تنعدم فيها كثافة اللحظة القصصية، وهذا ما يسقط عنها شرط القصة القصيرة، كما أن بنائها مضطرب وملفق، والحوار فيها مفتعل، والسرد ممل، والحوار، خاصة، لا يعبر عن حقيقة المشاعر الدفينة في نفوس القوم.
وإذا كانت هذه النزعة الوصفية تستند إلى مفهوم عن الواقع عند الكاتب ينسجم مع اتجاهه الواقعي الوصفي، أو عن تصوره الخاص لهذا الاتجاه، بحيث يرسم حدود البيئة ومعالمها ويجعلنا على بينة من الوسط الذي يتحرك فيه، وإذا كان ذلك مهمًّا ومطلوبًا فإنه لا يتأتى إلا بالاقتصاد والإيجاز، والأمر نفسه بالنسبة للحوار الذي يصر غلاب على نقله حرفًا وصوتًا.
وإذا استثنينا هذه العيوب نجد قصص الأستاذ عبد الكريم غلاب، وقد استندت إلى مفهوم خاص للواقع، قد حاولت تعرية بعض وجوهه وممارسة عملية نقدية لعيوبه، والوقوف في صف المضطهدين عامة، وذلك من المنظور الذي يرتكز على فلسفة الكاتب في الحياة والمجتمع. إلا أن القصة القصيرة عند غلاب تبقى محفوفة بالعثرات والمزالق الفنية التي تتعارض منهجًا وتقنية، وتنعكس، بالتالي، على المضمون، بالنسبة لمستوى التطور والنضج الذي بلغته القصة القصيرة آنئذ.
(٤) قصص رفيقة الطبيعة أو في البحث عن التفاعل بين الذات والموضوع
إن الموضوع في نهاية المطاف ليس هو بيت القصيد في العمل الأدبي، والدلالة الحقيقية وما يدخل في تنظيم خط فكري وفني معين هو المحتوى المنتظر وطبيعته، وطريقة الطرح لهذا المحتوى. ولا شك أن الجروح الغائرة في الجسد الاجتماعي، وملامحه النافرة وملامح التشوه والأسى في وجهه وواجهاته هي عنصر الثقل في المحتوى، وما جنح نحو ضرب فكري وتعبير آخر ما يلبث أن يصب بشكل غير مباشر في المركز الأساسي من ذلك المحتوى، وإن الجدل الفكري حول قضية الالتزام في الأدب وحول المسئولية الاجتماعية والسياسية للمثقف والأديب، وما عرفته البلاد أواسط الستينيات وما أعقبها من فداحة الوضع العام في البلاد وتدهوره، زاد ذلك كله في توجيه الكتاب التفاتًا صوب جذر المشاكل في وطنهم وحفزهم أكثر لكي تحمل كتاباتهم الإيقاع الالتزامي متناغمًا مع سير أكثر تطورًا للفنون الأدبية، ولفن القصة بصورة أخص.
وهكذا، فقد بقي المضمون الاجتماعي يحتل الصدارة وسط اهتمامات وشواغل القاص المغربي، إن لم نقل إنه اكتسح غيره. وتأتي الكاتبة «رفيقة الطبيعة» الصوت النسوي، في القصة المغربية إلى جانب خناتة بنونة، فتقدم إسهامًا في هذا المضمار بمجموعتها «رجل وامرأة» والتي نشرت متعاقبة، أو جلها، قبل ذلك بجريدة «العلم.»
هنا تبدأ التجربة العسيرة للزوجة التي تقدم لها الكاتبة بوصف إجمالي بدا دخيلًا على كيان القصة لتصل إلى الحدث الحقيقي لها، والذي هو مناط التجربة، إنه مرض الطفلة الذي يزداد استفحالًا، فيكون هذا المرض هو النبع الأسي الذي تأتي منه الخطوط التي تشكل إطار القصة وخلفيتها، وتنداح فيه سيول البؤس الذي يكتنف هذه الأسرة التي انحدرت إلى الفقر والإذقاع، وحين تصف الكاتبة مرض الطفلة لا نشعر، بتاتًا، أنها تعمد للوصف من أجل الوصف، ولا نحس أن صورة المرض لا تعنينا بل يشدنا انجذاب حقيقي إليها مبطن بألم صامت. فالكاتبة ابتعدت، تمامًا، عن التلميح إلى العلة في الوضعية الأليمة التي تعيشها بطلتها ومن ثم طفلتها، أو في نهج لون من الارتكاز على الماضي أو التبعثر بين جملة من المشاهد التي قد تبين بؤس الأسرة. إنها تبتعد عن هذا كله متفهمة المادة الخام للقصة القصيرة واعية بالحس الواقعي النقدي لتجربتها، متخذة من مرض الطفلة محور التقاء كل خيوط الحدث القصصي، ومركز الدلالة الأولى في القصة، ومصدر الإيحاء والتخمين.
بيد أن أزمة الذات لا تتوارى بسهولة داخل تلافيف الحدث الاجتماعي، بل تبقى نابضة فوق أديمه، وهي لذلك تريد أن تفرض حضورًا خاصًّا ومتميزًا في نطاق التجربة القصصية وذلك دون محو لكثافة الواقع. غير أن رفيقة الطبيعة تنجح في إيجاد مخرج لهذا التنازع بين الذات والواقع، فتستخدم كلا المادتين لتصوغ منهما أضمومة واحدة تلتقي فيها الأنا بالجماعة في مزيج واحد. إن قصة «رجل وامرأة» تحقق هذا الدمج والتوحيد للنفسين معًا، الفكرة والحدث.
والثاني: يتصل بمفهوم الواقعية، عند رفيقة الطبيعة، وهذا يبقى أكثر ارتباطًا بالعنصر الوصفي أو النزعة الطبيعية. والعنصر الوصفي نجده يتغلغل في ثنايا القصص جميعها، ويشغل، بجانب السرد، حيزًا هامًّا بالنسبة لكل قصة، وهو يتخذ وسيلة لعرض شرائح اجتماعية متباينة تفصح عن موقف ما من قضايا البيئة الواحدة، ومع أن الوصف عنصر من عناصر الواقعية في الفن وأدواتها إلا أن الكاتبة لا توظفه توظيفًا عضويًّا في نسيج القصة القصيرة أو في إبراز ملامح السمات والشخصيات. وبصفة أخص في إلقاء الضوء على القضية المحورية في القصة.
(٥) تجربة الواقعية عند إدريس الخوري ومحمد زفزاف
على مثل نبرة الاحتجاج عند رفيقة الطبيعة تمضي قصص قصيرة أخرى جاعلة من أهدافها استقطاب اللحظة الاجتماعية التاريخية، ضمن رؤية قصصية فنية ومتطورة، تملك نفسها الخاص المعبر عن مبدعها وعن همومه، وتهجس، بل، وتسجل ذبذبات الصراع الاجتماعي وفق منظور معين يختاره القاص ويراه متوافقًا مع عناصر الواقع وعناصر الإبداع الجمالي للقصة القصيرة، ومتناغمًا في العمق مع موقعه الفكري والوجداني من الحياة.
كما إنه ليس بدعًا، بتاتًا، أن نجد قصاصين عديدين يخطون على النهج الواقعي النقدي، وأن تأتي قصصهم متوافقة سماتها ونواحي الشد والجذب فيها. ذلك أن المدى الذي كانت تمتد فيه نظرة القاص بات يشتمل أكثر فأكثر على عينات تجسم تناقضات صاعقة تنهش الفرد والجماعة، بالتلازم، وتؤدي، من ثم، بمصير الإنسان في فترة تاريخية لم تعد عائمة كما كانت من قبل، ثم إن القاص بسبب من وعيه التاريخي المتزايد، وأيضًا بسبب من تواجده الطبقي ضمن الفئات المستغلة ألفي نفسه يعاني من احتداد الأزمة وتصاعد الصراع، ويرشح إبداعه لتعرية القشرة التاريخية لمجتمع استغلالي، غير أن هذا الترشيح أخذ ينزع في عمليتي الاستقراء والاحتجاج إلى مجاوزة الوصف المعمم نحو عالم متعدد القسمات، متباينة فيه مواقع الإثارة والتأزم، وبات يلتفت إلى استقراء مشاعر الفرد تحت وطأة سواحق عديدة، ويستجلي، ابتداءً منه، وخلال تتبع سيرته منطقة الحساسية الفكرية والفنية، وهذا مع استمراره في مسايرة الأسلوب السابق القائم على رصد الظاهرة المؤزمة والكشف عن مثالبها.
بيد أن هذا المنحى، شبه الجديد، هيأ للقصة القصيرة مرتبة تعلو فيها قليلًا عن مستوى الاحتجاج والإدانات المباشرة التي توقعها، بالحتم، في مزلة التقرير وتسطيح الفكر والأسلوب القصصي، ذلك التسطيح الذي يبقيها في مرحلة المحاولة، كما أن هذا المنحى جعلها تتوجه وجهة تتابع فيها ها وتطورها من ناحيتي الفن والمضمون.
(٦) قصص إدريس الخوري أو انبثاق صورة الفرد وسط الجماعة
إن هذا القاص يخطو على أرض فكرية وجد من مهدها، نظم بعض جوانبها، وحدد مهمة المبدع فيها، أو على الأقل، ألمح للشارات الأساسية التي تعني القاص أكثر من سواه. فقصص بوعلو – بيدي وغيرهما، والتي نبتت على أرضية الواقع التحتي، واستنبتت جذورًا فكرية جديدة، كانت قد وضعت القاص المغربي في نطاق العلاقة الجدلية، أو بالأحرى، الموضوعية، بينه وبين مجتمعه، وكانت قد وجهت الإبداع القصصي في الوجهة التي يتلاءم فيها مع الهموم الجماعية. وكان هذا التوجيه مصحوبًا وممزوجًا بممارسة جمالية عديمة النظير قياسًا لماضي القصة القصيرة بالمغرب، فكرس الجهد لمعالجة قصصية محكمة أو بالأحرى متوافقة مع الشروط المدرسية للقصة القصيرة. وبقي الميدان مفتوحًا لمبدعين آخرين كي يقدموا معالجاتهم ورؤاهم الخاصة، ضمن الإطار العام للقصة العربية وضمن السياق التاريخي المحلي.
والحق، أن ظروفًا موضوعية وشخصية توفرت لتمد النهر القصصي بقنوات جديدة. فمن ناحية كان إحساس الفرد قد قوى واشتد بأزمته وسط الحصار المضروب، وأخذ يتبين وضعه ضمن الشرط التاريخي القائم في الوقت الذي لم تكن إزاءه اختيارات متعددة، وإنما اختيار واحد يقوده رأسًا للارتباط بالمصير الجماعي، مع رغبة أكيدة في تأطير للذات وبحث عن التوازن الذي تميزت به الطبقة الوسطى منتجة هذا الجنس الأدبي.
ومن ناحية ثانية، وهامة، كانت المطابع المشرقية والغربية تقدم سيلًا من الكتابات يطفح جلها بمضامين إما أيديولوجية صارخة الاتجاه أو مضامين تتوخى وضع المبدع في المكان المناسب من الحركة الاجتماعية. وإلى جانب ذلك كانت الخطوط الجمالية تسير نحو التآلف والتكامل.
داخل هذا الفهم الكلي، تتقدم قصص إدريس الخوري رويدًا إلى الحلبة، حلبة الواقع الاجتماعي. تريد صياغته في إطار فني ذي أصالة وتميز. ومن الآن بوسعنا القول إنها تنحو نحوين مختلفين أو تتخذ لها مسارين اثنين يفضي الأول منهما إلى الثاني دون انفصال أو تباعد.
المسار الأول، هو القصة القصيرة ذات الرؤية الواقعية، المرتبطة، أساسًا، بواقع الجماعة وبما تعاني فيه من مربكات العيش ومعوقات التطور، وفي هذا المسار تقف الذات المبدعة، إلى حد، في منطقة الظل أو متخفية من وراء العبارات والأحداث. مكتفية بالالتقاط وتوجيه الحوار، وبتنسيق السرد والتهييء للموقف القصصي.
أما المسار الثاني، وهو القصة القصيرة ذات الرؤية الازدواجية، أي التي تستمد تأليف كيانها من المزاوجة بين الحافز الاجتماعي والحافز الفردي، أو بالأحرى فإن هذا الأخير يحاول أن يستخلص لنفسه قاعدته الخاصة في امتداد القاعدة العامة، وداخل الشروط التي تتحكم فيها.
لكن في كلا المسارين تشق القصة القصيرة لنفسها طريقها باحثة عن شكلها وقوامها الفني، آملة في الجمع بين البعدين الجمالي والفكري، وفي المسار الأول لا تنعدم اللمسات الذاتية التي تعمل لتعددية شبكية الخطوط في القصة ولتوسيع مجال الرؤية والموقف، ونجد هذه الجهود، في النهاية، تخدم عملية إبراز «البطل» وإثبات حضوره، بشتى أنواع هذا الحضور، اتصل ذلك بالوصول أو بالإحباط، بالظهور أو بالاختفاء. إن بطلًا جديدًا كان يتحرك في رحم الطبقة الوسطى آن له أن يخرج إلى فضاء العالم.
وتقودنا القصة بعد هذا الاستبطان النفسي للعامل الدكالي إلى المرحلة الثانية للحدث حيث يلتقي بزملاء العمل وأصدقاء العمر، الذين أحسوا ضرورة اتخاذ موقف تضامنًا مع زميلهم. وبهدوء، يتقدم بنا القاص إلى العالم الأسروي للدكالي وإلى دخيلة نفسه وإلى غمرة التساؤلات التي أخذت تحتدم في ذاكرته. بجمل قصيرة وعبارات موجزة يرسم القاص الوضع المأساوي لبطله ويلفت النظر إلى سر الأزمة التي يوجد فيها: «كان الأولاد قد تحلقوا حول أبيهم، وكان أصغرهم يلعب في حضنه، وكان وضع الدكالي وهو متكئ على الجدار يوحي بألَّا أمل في العالم، ما دام هناك رجال يسرقون ابتسامات وأعمار الآخرين». إن هذا يتأكد حين يفشل إضراب زملائه، ويبقى الدكالي، في النهاية، عرضة للضياع مثل آلاف العاطلين، مثله. وتعطينا القصة في النهاية معنى كبيرًا اسمه الضياع، وهو ضياع متجذر في الأرض والنفس، في الباطن والظاهر: ضياع الإنسان داخل الشروط الاستغلالية لمجتمع مستغل، وضياع ثانٍ يكاد يولد الأول ويتجاوزه ليصبح الضياع في الكل، اللامعنى.
وهكذا نرى القصة وإن هدفت إلى توصيل معنى اجتماعي محدد، فهي لم تواجهنا بابتسار نظري مجرد أو افتعالي، ولم تعُد إلى الصراخ أو الاستصراخ، بل اعتمدت الحوار لإنجاز الحدث وتطوير الموقف واتخذت السرد ولغة الاستبطان النفسي لتصور لنا نفسية «البطل المنهار». وبين لحظة الانهيار الأولى «الطرد من العمل» ولحظة الانهيار الأخيرة «فشل الإضراب» تمتد حركة نفسية وفعلية حادة يتنازع الحدث فيها الوجود أو اللاوجود، الضياع أو ثبوت المعنى.
الوجهة الثانية التي تأخذها قصص إدريس الخوري تبدأ من محاولة شق طريق شخصي وسط الطريق العمومي، ومن محاولة رصد الملامح الخصوصية ضمن الملامح الكلية، وذلك بغاية إبراز وضع بشري محدد بسمات خاصة، وتركيز الاهتمام على معاناته وسط زخم المعاناة العامة للمجتمع. إن هذا يبدو لأول وهلة هو مناط اهتمام كاتب القصة القصيرة، ولكن الحالة هنا مصحوبة بهذا الفهم تميل إلى توليد التجربة الذاتية والالتصاق بها وتوجيهها لتسير في السياق العام لحركة الحياة، ولتبلور، بالتالي، مفهومًا معينًا لأزمة اجتماعية أو معضلة بشرية.
في الوجهة الأولى كان الموضوعي يحملنا إلى الذاتي، أي أن الحدث الجماعي الذي يمثل المعضلة الكبيرة يحتضن بداخله اللحظة الخاصة، أو الأزمة-الذات، أو الأزمة-الفعل، أو غيرها، وكانت هذه تحفر لنفسها مجراها متلبسة بما تمر به، مكتسبة من رؤية القاص وتجربته عناصر تكوينها الفردي، التي لا تنفصل في جملتها عن الإطار الكلي للتجربة بل يتشبث كل منهما بذيل الآخر ويستمد منه القدرة على الوجود والإقناع.
أما في الوجهة الثانية، فإن القاص يضع أدواته الإبداعية والفكرية، من اللحظة الأولى، لصياغة أنموذج أو شخصية ذات بعد نفسي أو فكري، متميز، وبصفة خاصة، ذات بعد اجتماعي، أي ذات ارتباط عضوي بوضعية اجتماعية لها سماتها المأزومة، وبوضعية طبقية لها مربكاتها وتضاريسها المدينة، والتي تفرض تأثيرًا نفسيًّا وفكريًّا على البطل، وبذلك يتحصل لنا في نهاية المطاف كيان قصصي تتصدر فيه الذات المأزومة، غالبًا، الواجهة الأمامية وتركن وراءه — أي الكيان — جملة الظروف المادية الفاعلة في توليد الحدث وتكوين الشخصية وتوجيهها.
إن القصة القصيرة، انطلاقًا من الفهم السابق، تتحول إلى معبر حي عن الطبقة المتوسطة في محنتها الفردية والاجتماعية، وفي تذبذبها الدائم بين إرضاء الطموح الذاتي والجماعي، وبين الوقوع في إسار القلق الفردي أو بين الانفلات من هذا الإسار، والانطلاق في الأفق الاجتماعي المفتوح رغم معوقاته.
إن هذه اللحظة الفكرية في القصة القصيرة بالمغرب ستجد لها شساعتها وامتدادها عبر نتاج غزير وكثيف أحيانًا، ونحن هنا مع قصص إدريس الخوري لسنا إلا في بداية طرح المسألة والدخول في مجالها الواسع.
نعم كانت سعاد تريد الحب، تطمح إلى خلاص فردي متمثل في فتاها الطيب الذي قررت أن تعود إليه، إنه خلاص بسيط وساذج، ولكنه وثيق الصلة بدرجة الوعي الاجتماعي للبنية التحتية للبطلة. حقًّا إن القاص لم يقدم لنا الواقع القصصي في صورة مركبة، بل اكتفى بتسطيح الحدث وتسطيح الشخصية التي انعدم عندها كل بعد نفسي أو فكري. غير أن صورة الواقع في منظور القاص من ناحية، وصورته في سياق حركته، آنئذٍ، لم تكن لتتجاوز إمكانية الحركة الأفقية التي يمتد فيها الفعل القصصي، على شكل مشاهد، لا على شكل توترات حادة، والتي لم تتخط مرحلة الرؤية الثنائية والمتقابلة إلى المرحلة التركيبية التي تحيا بداخلها الاحتدام والصراع. وهذا، أصلًا، هو ما جعل القصة تسير وفق إيقاع سردي رتيب ومتسلسل يجري فيه الحدث ويتدفق، ويصل إلى النهاية ليتوقف، دون أن يثير أي تساؤل جدي، ودون أن يحدث أي تحريك في البناء القصصي يخرج به عن آليته.
في القصة الأولى يواجهنا البطل باندفاعة متذمرة يعلن فيها سخطه على كثير من ضروب السلوك التي تصادفه في مجتمعه، والتي تتجلى أكثر في مظاهر الرياء والخداع ونكران الحقوق، ويعلن: «أني ظللت ولا زلت مجهول القرار والعمق طوال وجودي على هذه الأرض مثل شخص ليس لديه ورقة تعريف»، إن هذا الإعلان ليس مجاهرة بالضياع، بقدر ما هو استنكار واحتجاج يقدمه البطل الذي تصور القصة انهيار الماضي في ذاته، هذا الماضي الذي يعادل البؤس والعوز، والبطل الذي يقدم إلى المدينة حاملًا بين جنبيه أمل الخلاص، لكنه يصطدم بتفاهة المدينة وزيفها، غول كبير يلتهم بلا رحمة: «إن المرء هنا في هذه المدينة لا يلتفت إليه إلا إذا كان أنيقًا. وإذا لم يكن كذلك فإنهم يمجونه، ذلك لأنه عادي. أنا ممجوج لأني عادي، مدينتي لا تحب العاديين لأنهم في منطقة أخرى.»
إن البطل يواجه بالعراقيل التي تعترض المرء وهو يسعى لتأسيس مركز له في هذا العالم. إننا هنا أمام تطلع جديد يمثل رغبة الفرد في الانبثاق والانعتاق من وسط الجماعة البشرية لتأسيس وضع خاص. وهذه الرغبة، وهي في مضيها، لا تهادن، إنها، من جهة، تقابل برفض إطلاقي وإدانات عديدة تكبح فيها طموحها، فتكون من نفسها رد فعل تهجمي ينحي باللوم والسخط على المجتمع والفئات المعرقلة فيه، إن «اعترافات رجل في المدينة» هي كومة من القذف والإدانات للمدينة بوصفها طبقة مهيمنة مستغلة وقمعية يتلاشى فيها ابن الطبقة المسحوقة أو الطبقة المتوسطة، هذه التي أخذت تنبثق من أحشاء المدينة القديمة وتبحث لها عن مساحة وفضاء تحقق فيهما وجودها وهويتها.
إن هذا الإحساس بالتفرد والتميز ناتج ولا شك عن تأثر ثقافي فلسفي ونقلي، لعل هيكله مستقى من النماذج الحديثة في الرواية الغربية والوجودية، على الخصوص، وهو إذا كان في تلك الروايات مؤطرًا ومقنعًا فهو هنا عند إدريس الخوري يجمد عند حافة الإعجاب والنقل الحرفي الفاقد لمعناه في السياق الموضوعي والاجتماعي، وتبقى له دالة واحدة هي التي ترسم الخط الفكري الوحيد، وهي دالة التعبير عن الفئات المتوسطة، هذا التعبير الذي لا يتجاوز — من خلال القصتين السالفتين — مرحلة إعلان السخط والتذمر إزاء أوضاع وحالات تتسم بالتجريد والشمول، بعيدًا عن كل ترتيب أو تقديم منسق.
إن المضمون القصصي، إذن، يحتوي، في الجملة، على مفهومين اثنين، المفهوم الأول وهو الذي يجسده البطل في معاناته الخاصة. والمفهوم الثاني وهو ما تمليه هذه المعاناة على الصعيد الاجتماعي، من جهة أنها تعبير عن وعي وسلوك طبقتين، حتى ولو لم يستشعر القاص ذلك أو يتضح لديه سلفًا كمنظور.
(٧) التجربة القصصية باتجاه الواقعية النقدية في قصص محمد زفزاف
إن التجربة القصصية محملة في المضمون الواقعي النقدي تقدم لنا أوجهًا متعددة من الواقع، وأشكالًا متباينة من وجوه الحياة والناس في انحناءاتها وتفاعلاتها وشموخها، وتبلور لنا فيما بعد تصورات شتى لا تنقطع دلالتها عما يعيشه الأفراد وتحياه الجماعة، وأهم من ذلك، كيفية نقل هذا العيش من منظور القاص. فالرؤية القصصية وطريقة العرض والبناء القصصيين هي القادرة، في النهاية، على وضع الكتابة في اتجاه الواقع، بل وتجاوزه، وفي مسار الكشف عن خباياه ومعاني النهوض والسقوط فيه.
وقد سعى كتاب القصة القصيرة، عندنا، سعيًا غير هين لفهم هذه النواحي وتمكين كتابتهم من التقاط تلك العناصر، واعين من ناحية بما يجدر بقصصهم أن تحمله من مضامين وتقدمه من مشاهد، ومدركين، من ناحية ثانية، ما تتطلبه القصة القصيرة من أناة وتبصر في تخطيطها، وإحكام بنائها، وإجادة في تركيبها، إجادة تحفظ للفن بريقه ونظامه، وتقي المضمون من التردي في هاوية الضجيج والتعميم.
وقد وجدنا أن الكتابة الواقعية في هذا الاتجاه لا تلتزم خطًّا واحدًا ولا ترتدي دائمًا الأردية نفسها شأن قصاصينا الأوائل، ممن وجهوا عنايتهم شطر الحياة حولهم، أو شأن كتاب أوائل الستينيات، قبل بوعلو أو بيدي وغيرهما ممن كانوا يلتقطون الموضوع الاجتماعي كمكسب أساسي ثم يصبونه في قالب قصصي واحد، قل أن يتبدل أو يتفرع في ألوان وأركان تشكيله.
إن القاص الواقعي هنا يعب من معين الواقع الفياض، ولكنه، يمرر مستقياته من أنابيب تصفي ما علق به من أوحال وترسبات، وتعزل ما لا يتصل اتصالًا وثيقًا بالتجربة المرصودة، أو ما لا يعد وترًا أساسيًّا من أوتار العزف فيها، متجنبًا ما أمكن الوقوع في مزلق الوصف التعميمي الذي قد يلصق على كل شيء، وليس بالضرورة على الشيء المعني بالضبط، حريصًا، حسب درجة التمكن من أدوات مهنته وعمق نظراته، على محاورة الواقع وكشفه من خلال حدث أو موقف مضبوط ومحدد، هذا الموقف الذي لم يعد بعد مجلوبًا بتعسف ليكون صدى لفكرة أو مغزى خلقي أو نضالي، بل، أصبح، يأتي طبيعيًّا وهادئًا من عمق تجربة الشخصية، أو من جملة الظروف التي تكون الحدث القصصي، متكافلة، في نهاية الأمر، على إيجاد القصة القصيرة التي لا يخل أسلوبها بمضمونها، ولا تضيع تقنيتها بين دروب الموقف والحدث القصصيين.
وضمن هذا المسار يقدم لنا القاص محمد زفزاف مساهمته القصصية خلال الستينيات، والتي جمعت إلى جانب الاستفادة من التجارب السابقة عليه مسحة خاصة من الأصالة والجدة في المسيرة الطويلة التي سيقطعها هذا القاص خلال مراحل عدة من كتابته للقصة القصيرة.
إن مساهمته في هذا الاتجاه لها تمييزها، سواء في الشكل أو في المحتوى. إنه يتجه رأسًا إلى موضوعه دون كثير من الدوران بعيدًا عنه، بل إنه يصنع محطات صغيرة وهو في الطريق إليه تضع فيها الشخصية بصماتها الأولى ويأخذ فيها الحدث تلوينات خاصة، ثم يستأنف السير من جديد ليصب الكل في بؤرة واحدة، تتيح لنا، فيما بعد، أن نستطلع مشمول الرؤية والتجربة وجماع المواقف والإحداث، إن التقنية القصصية لا تبدو عند زفزاف قالبًا مفرغًا ومعدًا ليصب فيه مضمون معد ومنسجم، بدوره، سلفًا، كما إنها ليست تلفيقًا لحيل في الأسلوب، والبناء القصصي تم اصطناعها لتتأتى لفكرة أو موقف أو انطباع مسبق، كلا، وإنما نجد المحتوى يأخذ لبوسه الحي، والحدث والشخصية يتحركان ويشكلان بارتباط مع التقنية التي لا تكاد تلحظ لبساطتها وسيلانها في مخيلة القاص وعلى يراعه وليدًا قصصيًّا فيه من قصد الموضوع قدر ما فيه من تناسب القص وأحكامه.
ولعل أهم شيء هنا هو أن موضوع الواقعية لم يعد تجميعًا لأمشاج من الصور واللقطات والسمات البشرية لتعبر عن مضمون معين، بل غدا وجهًا مكتملًا من وجوهه الكبيرة وكثيفة الدلالة، التي تستمد منها نفسها ومن تعميق رؤية القاص فيها لا من خارج دائرة التصوير والقص، بالاعتماد، كما هو معروف، على شريط لا ينتهي من الإسقاطات الذاتية، أو من التخفي وراء قناع الكاتب — الراوي — إن المعنى في القصة القصيرة هنا والتقنية يتوجهان معًا جنبًا إلى جنب، بإطراح كل الزوائد ما أمكن، لصياغة النموذج القصصي في وضع اجتماعي أو إنساني محدد، بارزة منه ومنبثقة من أطرافه ظلال القطاع المراد وصفه أو العناصر المادية والنفسية المراد تحديدها أو الرمز إليها، وهذا العمل كله يتوخى إقامة حوار مسترسل بين الذات والآخر من طرف، والذات والعالم من طرف ثان.
إن ثلاث قصص لمحمد زفزاف، مكتوبة في فترات غير متباعدة، ستكون هدينا لاستكشاف أغوار هذا العالم الفني الذي يسعى هذا القاص لإقامته، محددًا عبر رؤيته الفنية والاجتماعية، التي سيعتريها، خلال عقد كامل، تطور جد محسوس.
وهذا المنحى سنجده في قصص أخرى عند زفزاف، كما سنلاحظ أنه سيأخذ شكلًا جديدًا في مرحلة قصصية لاحقة من كتابته، ولا بأس إذا قلنا، منذ الآن، إن التركيز على الفرد، والفرد لذاته، في همومه وأحزانه، وهواجسه عامة، هو ما يشكل محور قصص محمد زفزاف وأن على درجة من التفاوت من جهة الفهم والعمق والفنية، أيضًا.
والقاص في مرحلتنا من الدراسة، هذه، يطل برأسه من كل جهة ويدفع بنفسه في كل اتجاه، ولكن، لا ليكون صوت العالم، بل ليهجس بهموم الجموع.
هذه المصائر الأربعة المنوعة على لوحات أربع نحس بها تتضام في النهاية، وفي الوقت الذي تختزن فيه موضوعًا اجتماعيًّا يستمد عناصر تكوينه من مجموع مشاعر وانسحاقات تعيشها المرأة، كفرد ومجموعة، واقعة تحت ضغط حياة ومعاناة قاهرة، ومن خلال صور تتجاوب فيها نغمات الأسى والبؤس المادي والنفسي، وفي ذات الوقت، نجد المضمون يصنع انطلاقًا منه، جدرانه وسقفه، كل شيء فيه، مكونًا في النهاية معمارًا بانوراميًّا محتويًا على أركان كبرى، لإعطاء نموذج قصصي تام، ليس الموضوع وحده، بل نزيف الحزن الساري في ظروف التجربة القصصية المقدمة، التي تستمد من الواقع هيكلها وقوامها، وتكون المعاناة الذاتية الإنسانية لحمتها وسداها، ويكون موضوع الواقعية، بناء على ذلك، هو امتصاص أشد اللقطات تعبيرًا في الواقع، وتأطيرًا لجوانبها تأطيرًا تامًّا، يحمل أعمق دلالاته. ثم لا تقف هذه اللقطات منفردة بنفسها، قائمة بذاتها، بل بقدرتها على الانشداد إلى عالم أوسع، والإيحاء به، فتتكامل التجربة الفنية بمدى الترابط الحي الموجود بين الجزء والكل، كما يكف عن الوجود في غياب الأجزاء التي تتألف منه.
ولعل العديدين هنا اطلعوا على كثير من القصص التي اتخذت لها موضوع التسول أو البؤس عمومًا، مجالًا للقصص والتصوير الدرامي، كما أن القصة القصيرة المغربية، لم تعدم من بين قصاصيها الأوائل والمتوسطين من رصد لهذا الموضوع قصة منفردة، غير أن الموضوع عند زفزاف يعرف تطورًا كليًّا سواء في الرؤية أو في التعبير.
إن الأمر يبدو، هنا، في شكل رصد لوضعية بشرية، مأزومة، تتكون ملامح تأزمها من أوصاف دقيقة، شبه هندسية، ومن توليد نفسي حاد ينبثق من ذات البطل المأزوم: «لاحظ إبراهيم بعد فترة من الوقت أن الزقاق خاوٍ إلا منه ومن شبح قمامة أزبال تقبع أمامه عن كثب، وفكر أنه لا يزيد عنها طولًا، بل هي أطول منه. ودار برأسه خاطر غريب … أن يأتي وبش من الأوباش الآن ويحمله إلى تلك القمامة يضعه فيها بعد أن يسرق منه نقوده». على هذه الشاكلة يبلور زفزاف إحساسه بهذه الوضعية البشرية، فيتجنب استدرار أي عطف أو إثارة أي انفعال زائد. فهذه الوضعية كائنة في حدودها على صعيد الإنسانية، والمتسول يعاني مرارته وحده، و«كلثوم» المرأة التي تقود به العربة تحب النوم كثيرًا ولهذا تغيب عنه غالبًا، ولا يبقى أمامنا في النهاية سوى وجودين اثنين، المتسول والعربة الصغيرة، والعالم الذي يصنعه القاص هو النسيج الكثيف الرابط بينهما، وهذا النسيج الذي يعكس ظلالًا مأساوية تعلن عنها اللقطة وهي مقدمة في حياد تام. واستكناه ذلك يقودنا للتعرف على المستوى الثاني وهو التعبير، حيث نجد القاص يعمد إلى عرض الواقع عرضًا موضوعيًّا بجملة من العبارات والأوصاف النابعة من حقل التجربة، والتي تحس أنها صادفت مكانًا ملائمًا لها، عبارات وأوصاف ترسم الجو ونطاق القصة، دقيقة ومرتبة، خالية من أي شحنة انفعالية، فتستحيل اللغة، حينئذٍ، جهاز رصد لاقط وعاكس ليس غير، وهذا يخدم القصة من حيث إنه يبعدها عن الوقوع في أجواء الخطابية أو الحماس الأجوف، خاصة، والموضوع يغري بذلك، وهذا الحياد الذي تقفه اللغة هو الذي أدى إلى إنجاح القصة وجعلها قادرة على تقديم هذا الوضع البشري المأزوم، وإعطائه الأبعاد النفسية والمادية، الخصوصية والعامة، وتتخذ الصورة مكانها ضمن أدوات القص الفنية إذ يوليها أهمية خاصة بحيث تعتمد في رسم الجو وتقديم الشخصية ورصد الحدث، وتأطير المشاعر والأفكار المتداولة ضمن التجربة القصصية. وهذه الصورة بدورها تترى أمام أنظارنا حريصة على النقل المتأني دون مغالاة أو تقصير، وهي تحدد اتجاه الرؤية لدى القاص.
هوامش
• لوكاتش، دراسات في الواقعية، ترجمة نايف بلوز، ط۲، دار دمشق، دمشق، ١٩٧٢م.
• ج. لوكاتش دراسات في الواقعية الأوروبية، ترجمة أمير إسكندر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٢م.
ونريد أن نثبت، خاصة، مقطعًا من كتاب «دراسات في الواقعية» وهو جزء من رسائل متبادلة بين آنا سيغرز وجورج لوكاتش، وتقع في الكتاب من ص١٦٢ إلى ص٢٠٤.
يقول لوكاتش:
«إن على النقد الصحيح أن يبين مجددًا دومًا من خلال التحليل الفني والتاريخي والاجتماعي ما هو ممكن اليوم موضوعيًّا في الواقعية. ولا تستطيعين أن تفعلي هذا إلا إذا كان لديك مقياس «الواقعية إطلاقًا» وإلا سيكتفي المرء بما يعتبر اليوم بصورة عامة واقعية (وحتى وإن كان الميل الأساسي معاديًا للواقعية) وسيعمد إلى قوننة أخطاء وأضاليل وتشوهات زماننا والميول الانحطاطية التي لا تزال حية فيه وتكريسها «كواقعية اليوم». طبعًا ثمة في كل مكان عناصر واقعية (تفاصيل واقعية … إلخ) حتى في الأعمال المعادية للواقعية. إن نزعة معادية للواقعية متماسكة تمامًا تكاد تكون فنيًّا غير ممكنة كما هي غير ممكنة فلسفيًّا النزعة الفردانية المطلقة المتماسكة تمامًا التي تكلمت عنها في مناقشتنا».
وقد أفدنا، بخاصة، من الفصل الذي يحمل عنوان: «المسألة تدور حول الواقعية» من الكتاب نفسه، ص۱۱۷–١٦٢.