الفصل الرابع
خطوات الواقعية الجديدة
محمد زفزاف والطرح الواقعي الجديد.
محمد شكري ووجه الواقع المنبوذ.
***
(١) محمد زفزاف والطرح الواقعي الجديد
تطرح إعادة الالتقاء بالقاص محمد زفزاف، في هذا الفصل الجديد من دراستنا للقصة القصيرة بالمغرب، مسألة التطور الفني والأساسي الذي يعرفه المبدع في سياق إبداعه ومسار حياته الثقافية والإنسانية، وهي مسألة بالغة الأهمية لدى الجيل الجديد من قصاصي الستينيات، ليس في المغرب فحسب، بل وفي العالم العربي عامة، ذلك إن الأدباء الجدد ما انفكوا يعقدون مختلف الأواصر مع المدارس الفكرية والاتجاهات الفنية والتيارات القصصية التي تظهر وتتحرك في مناخ الأدب العربي والأجنبي أيضًا، ويلاحظ الدارس شغف قصاصينا وأدبائنا، عمومًا، بسعيهم الحثيث وجهدهم الدءوب لتخطي ما استقر عندهم وتجاوزه إلى ما هو أجد وأنضج، وبحثهم عن الأشكال والصيغ الجديدة والمتطورة التي تستجيب لحس التطور في الواقع وفي أنفسهم. والحق أن تاريخ الفنون كلها ما هو إلا هذه السلسلة المترابطة من الطموحات الفردية والجماعية للوصول إلى الأجمل والأكمل. إن الجيل الجديد من قصاصي الستينيات لم تقعد به همته، لحظة واحدة، عن استكمال مهمة البناء الفكري والجمالي لفن القصة القصيرة، كما كان على وعي بفتوة هذا الجنس من أدبنا وجدته على أمزجتنا وأذواقنا الفنية وأساليب القول عندنا، وعلى دراية بمسئوليته في ترسيخ أسسه وتشذيب زوائده وبتر طفيلياته من أجل إخراجه على صورة حسنة تعبيرًا وبناء وفكرة، ولذلك فنحن نعتبر كل قصة كتبت في الطور الثاني من عمر القصة المغربية محاولة لاستكمال النقص وإشادة البنيان ورأب ما حدث من صدع أو شروخ في الطور الأول، كل قصة نعتبرها مساهمة في دفع خطى هذا الجنس الأدبي نحو الطريق الفني السليم والصحيح، الخالي من التردد والهنات والعثرات، وفوق ذلك كله، وكمنشد أساس تجاوز المرحلة تقويم الاعوجاج وربط المتمزق في البناء والرؤية إلى خلق البديل واقتراح الجديد وصوغ الإبداع القصصي ذي النظرة الجديدة التي تساوق التطور الذي يعرفه الفرد والتبدل الذي يجنح نحوه المجتمع.
وعندي إن محمد زفزاف من هؤلاء القصاصين الذين شغلهم وسواس التطوير هذا، واستقر في نفوسهم طموح التجديد، وكرسوا له أدواتهم لبلوغ مرماه والارتقاء إلى ذراه.
لقد رأينا، سلفًا، كيف سعى هذا القاص، مع آخرين من كتاب جيله، إلى التقاط صورة للواقع المحيط به وتضمينها رأيًا وموقفًا، وكيف أنه، وبصورة خاصة، كان متجهًا في عمله، آنئذٍ، إلى إعطاء تلك الصورة الجانبية التي تشف عن واقع ذاهب في التردي، ذاهل في البؤس والضياع المادي، وذلك من خلال لقطات تفرد مصير أو مصائر الشخصيات والأناسي وتضعهم أمام أنظارنا وتجد، بقدر ما يملك صاحبها من إمساك خيوط تسييرها، في أن تتغلب على مقتضيات الحياة ومستلزمات العيش، كيف تغالب بؤسها وأساها، وكيف تقدم لنا، في خاتمة المطاف، صورة مجملة أو قل لوحة عن واقع من منظور شخصي لوضعية اجتماعية قاسية ومتذمرة يطوح بها البؤس في كل اتجاه. وعلى الرغم من محدودية تلك الوضعية كما رصدتها عدسة القاص، وعلى ما بالرؤية من قصور، فإنها استطاعت، هي وأخرى سواها، وبالقياس إلى سياق التطور العام الذي كان يعرفه المجتمع والقضايا الأساس التي كانت تبلبله وتزحمه، استطاعت أن تضع اليد على بعض جوانب الداء وتشير إشارات لامعة وذكية إلى مواطن التردي في الواقع وتخترق القشرة الاجتماعية التي تبدو ساكنة مريحة لمن على بصره غشاوة، فتستثير سكونها وتخوض فوق سطحها الناصع لتبلغ القاع الآسن وتدرك ما رسب فيه وتخثر. ورافق هذا المجهود في النظر والفحص والتصوير مجهود آخر في أسلوب إبراز الواقع وكشف بواطنه، أي المجهود القصصي والجمالي المبذول في صياغة التجربة، وهو، لعمري، مجهود جليل القدر في زمانه بعيد الشأو فيما مس جوانب الصياغة والتقنية القصصية، دليل على أن صاحبه لا يستهين بنطاق عمله بل يوليه ما ملكت مقدرته من حرص وحذر ومهارة لقنص اللقطة المثلى وإخراج القصة في الحلة التي تصنع للواقع خصاله ولا تهدر للفن القصصي شأنه ومرامه.
ثم نأتي إلى طور آخر يكون فيه محمد زفزاف قد استنفد ردحًا غير يسير من عمره الفني والثقافي، علمًا بأن أعمار الكتاب لا تقاس بسني حياتهم، وتكون تجربته الفنية قد اختمرت ورؤيته القصصية قد اتسعت وزاده من معرفة الواقع والحياة الإنسانية قد رحب وتضاعف، يأتي هذا الطور الجديد ليدفع بقاصنا في سبل ليست منبتة الصلة بما قبلها، ولكن في سبل معبدة ومنسابة، بعد أن اغتنى فكره وقلمه بقراءات عربية وأجنبية في فن القصة القصيرة، وتطورت أدواته الكتابية واستحكمت، وصار ما كان صعبًا في نسيج القصة وإحكام بنائها وشد أواصرها وربط عناصر الحدث فيها وتحريك شخوصها وبلورة الموقف والمغزى الفكري ضمنها، صار ذلك كله هينًا مطواعًا. وانتقلت ذاكرة القاص ورحل وجدانه ليحلقا، بعد هذا، في آفاق جديدة لم يكن ليجرؤ من قبل على اقتحامها أو التحويم حولها، وكأن هذا الاقتحام الذي امتد إلى تلك الآفاق هو ما يطبع تجربة كاتبنا بالخصوصية والتفرد ويهبها، بالتالي، نكهتها الخاصة. ونعني بهذه الآفاق العوالم الصغيرة-الكبيرة التي انخرط قلمه في صياغتها ومدها بالروافد والشرايين من كل اتجاه وصب عناصر الحياة والتنوع في قنواتها لتغذي صغار الأمور فيها وتافه الظواهر وغفلها في نسيجها، لتلحم الجزئي بالكلي وتصهرهما من بعد في قالب واحد ومتآلف، لتخلق من الحدث الظاهر الواقع-الظاهرة، ومن الواقعة العابرة ملتقى ومدار العلاقات الإنسانية، ومن المادة الغفل التكوين المنظم والبناء المشدود شدًّا وثيقًا، ممسكًا باللحظة البارقة كطرفة عين جاعلًا منها مساحة ضوء شاسعة فتستنير في ضيائها حيوات الناس وتتحرك أشباحهم وترتعش نفوسهم وتدب الحياة في أوصالهم، وإذا بنا أمام حياة بأكملها تبعث أثر رقاد طويل تشع منها عيون الناس وتتنفس فيها مسامهم، وتعرض أمامنا وقائع حياتهم البسيطة، البادية للعيان، ولكن التي تتخذ مع الرؤية التي تلتقطها وتنسجها شكلًا وروحًا جديدين، وتغدو وحدة في السياق الكلي للواقع والتجربة القصصية.
إن الطور الثاني من تجربة محمد زفزاف القصصية يتمثل، في نظرنا، وعلى الصعيد الفكري، في محاولة ضم شقين متكاملين لاستخلاص الحالة أو الصيغة التامة والموحدة للإنسان في العالم. ويتكون الشق الأول من الواقعة المعطاة في بعدها الاجتماعي الخالص، والشق الثاني من الواقع المعطى في بعده الإنساني الخالص، والبعدان معًا هما مدار التجربة القصصية الجديدة، من نحو، وهما ما يشكل من نحو آخر مفهوم الواقعية الجديدة على المستوى الفكري عند محمد زفزاف.
أما الشق الأول فهو المتمثل في حصر ما حدث أو اقتناص اللقطة ذات الطابع الاجتماعي، والتي تحمل في نسيجها وتركيبها، صورتها وظلالها، مظهرًا حياتيًّا ذا ارتباط بحياة الناس وهمومهم الصغيرة والكبيرة وعاكسًا لنوعية العلاقات التي تصل الفرد بالآخرين وهؤلاء به عند نقطة التقاء أو افتراق ما، في منفعة مشتركة أو في غبن مشترك ينضغط الكل تحت وطأته. ولكن رصد هذه اللقطة في نظرنا، عند محمد زفزاف، وفي هذا الطور الثاني من تجربته القصصية، يبقى مشدود النفس محدود البعد والتأثير إن لم تمتد له أذرع وظلال في مساحة أخرى من الشعور، أوسع وأعمق، وهذه المساحة الجديدة هي التي تكون مؤهلة وقادرة على إضفاء سمة الدرامية على قصته الواقعية.
إن هذه المساحة الجديدة هي الشق الثاني المتمثل في البعد الإنساني الخالص، كما أسلفنا القول، للموضوع القصصي الواقعي. فالقاص يعمد، بعد أن يقيم الهيكل المادي وينصب العمود الفقري لقصته، وبعد أن يكسوها لحمًا ويلقحها دماء، إلى إضفاء هالات خاصة على هذا الجسد الذي يبدو لأول وهلة مكتملًا وفق الرؤية القصصية التقليدية، فتجده يقنع بهذه المفاهيم والأحاسيس والصور المباشرة المعطاة، ولا يقعد به بحثه وطموحه في الخلق والتشخيص عند حدود التأطير ورسم المعالم والشخصيات وتداول الحوار والحركة حول المعلوم والمفهوم وما هو قادر على بث المغزى وخلق الانطباع العاجل، ولكنه ينتقل إلى مرحلة صنع الأبعاد والتعميق للواقع المعطى بغية سبر أغواره واستكناه بواطنه ودواخله للحصول، في النهاية، على الدرة الثمينة، أي المأساة الخصوصية، مأساة الإنسانية عامة، انطلاقًا من المأساة الفردية.
وليس غريبًا أن يرتبط جنوح محمد زفزاف إلى هذا الضرب من البحث المضموني في قصصه ببحث آخر على صعيد التأمل الخالص في قضايا فكرية وفلسفية ذات طابع تجريدي، كفلسفة الحياة والموت، ومقولة «الأنا» وغيرها من القضايا التي حبل بها الفكر الوجودي، فهذا البحث الذاتي من لدن القاص هو الذي يشكل الخلقية الفكرية والقاعدة النظرية لقصص هذه المرحلة، وهو الذي يغذي عروق العمل القصصي فيجعل دماءً جديدة تسري فيه مغايرة للدماء الراكدة، السابقة ورب ناقد يحتج قائلًا أن هذه الدماء غريبة عن جسم هذه القصص، نافرة منه، غير موافقة له، وأن الواقع الاجتماعي المصور من طرف القاص المغربي لا يعدو جوانب محدودة يكون من التمحل لحمها بقضايا مغرقة في التأمل الفلسفي، لو فعل فإن جوابنا هو أن أي واقع لا ينشد أو ينفصل عن جذوره الإنسانية، وأن حجم الصورة الواقعية يمكن أن يضيق ويتسع، يكبر أو يتضاءل، حسب كل مبدع واستعداده ومهارته في الانطلاق من الجزء إلى الكل، من البسيط إلى المركب، ومن اقتناص اللحظة البارقة وجعلها إشعاعًا غامرًا ولعل هذا هو الفاصل الحاسم بين الكتابة الوثائقية، الطافية، وبين الكتابة الرصينة والثرة، القادر على الاستمرار وفي ذاكرة التاريخ ودروب المستقبل.
- أما الأول: فهو الرغبة في كسر طوق الواقعية الفجة، القصيرة النفس، المحدودة البعد والسعي لاستجلاء واكتناه مناطق أخرى في الشخصية القصصية لم تصلها من قبل يد القاص ولم تطرق أبوابها. وهي رغبة آتية، ولا ريب، من ارتباط أوثق واتصال أكبر بالأدب القصصي الجديد في العالم العربي الذي يعني عناية خاصة بالتحليل النفسي للشخصية ويفرد لها الصفحات الطوال.
- ويتمثل الأمر الثاني: في نظرنا، في هذا الطريق المسدود الذي آلت إليه الحركة الاجتماعية في أواخر الستينيات، وبالضبط منذ منتصفها، وفي الإحباطات المتوالية، السياسية والاجتماعية التي تعرضت لها، وهي إحباطات كان لها، ولا شك، أثرها على شل توسيع الرؤية الواقعية في بعدها الاجتماعي الصرف وشد هذه الرؤية إلى جاذبية العناصر الإنسانية الخاصة وإلى فيء الظلال الجانبية، وسوف يكون لهذا الانجذاب مفعوله ونتائجه الحتمية على أساليب الصياغة القصصية خلال مسار التطور للقصة القصيرة في المغرب، كما تبلوره مجموع من النماذج التجريبية والقصص التي حاولت أو نهجت سبيل البحث عن قالب أكثر جدة ومرونة وانفتاحًا.
(٢) نماذج تطبيقية وصورة الواقعية الجديدة شكلًا ومضمونًا
«الموت وما بعده» قصة قصيرة مركبة من ثلاث بنيات وظلال عديدة، وتستمد هذه البنيات والظلال تأسيسها ومرتكزاتها من فكرة الموت الكبيرة في حجمها وبعدها الواقعي الصلد، المباشر والإنساني، والوجودي، المفتوح في اتجاه التساؤلات اللاإنسانية.
ثم تعطي القراءة المتأنية والمتأملة الاقتناع، لا بعمق الفكرة أو أصالة التجربة، فحسب، ولكن، وهذا ما يشغلنا، بالموهبة المتمرنة والحاذقة التي تمسك بين يديها خيوط التجربة ومناوي ولاداتها وتحولها، وتترصد لكل نأمة وشعور كي توجههما التوجيه الموافق والمنتمي للتجربة المرصودة.
«الموت وما بعده» ثلاثية البنيات، البنية الأولى هي الموت كحقيقة عادية يفرضها حكم الزمن وناموس الطبيعة. الثانية هي الأشياء والمثيرات التي يولدها الموت، والثالثة عالم ما بعد الموت، مادة وشعورًا. وتشكل كل واحدة من هذه البنيات عالمًا وطيد الصلة بالآخر في الوقت الذي تنفرد، وحدها، كمحفل مستقل منطو على اللحظة أو الفكرة المنتقاة، إن هذا الارتباط والاستقلال، معًا، هو ما يعطي صفة الوحدة والتركيب لهذا العمل القصصي، وهو ما يؤكد على خصوصية التجربة، وهو ما يجعلها، من جهة ثالثة، تستعصي على كل إيجاز أو تلخيص. وأننا لو فعلنا ذلك لكنا نقتل نطفة القصة قبل تكوينها، ونهوي إلى درك القص الواقعي ذي البعد الواحد. وبالرغم من ذلك لنفعل وسيتبين لنا عبث صنيعنا.
على أن هذا الطرح سيظل هو القاعدة التي ستقوم عليها البنيتان الأخريان لقصة «الموت وما بعده» وهي المنظور الذي يعزف إيقاع التجربة ويضبط أوتارها.
إن تساؤلنا هذا يهدف في جوهره إلى اعتبار العنصر المزدوج والتركيبي لقصة «الموت وما بعده» وإلى المنهج الواقعي الجديد المتبني فيها تقنية ومحتوى، فهي لا تعالج موضوعين أو فكرتين في نص واحد كما قد يتبادر إلى الظن، ولكنها، وهنا تكمن أصالتها، تعالج موضوع الحياة من خلال الموت نفسه، وفي اللحظة التي تتكشف أمامنا يد المنون وقد امتدت إلى العمياء، وهي العبء على الأسرة المدقعة، تتحدد في ذات الوقت شريحة الحياة المتردية التي تعيشها أسرة كاملة في كوخ عفن ومتداع، وهكذا يظهر لنا محمد زفزاف، حين يحتفي بفكرة مجردة يتخذها مصدر تجربة قصصية كيف يمهر في تطويعها أيضًا لتكتسب بعدها الاجتماعي اللصيق بالإنسان والحياة.
وتتحدد التجربة القصصية في «الموت وما بعده» في معمارية رصينة ومتماسكة، إن القالب الفني هنا يخضع الفكرة مثلما تتسع هذه لها، وهو قالب معتمد على نسج العلاقات الداخلية في البناء القصصي دون توان أو تململ، وينطلق أسلوب السرد وتقنية الأسلوب الارتدادي انطلاقًا انسيابيًّا يختزل المكان والزمان والحالة النفسية في جمل ولقطات مكثفة وبصيغة ماهرة وشفافية شاعرية لتصنع هيكل القصة وتكسوها لحمًا ودمًا، محافظة على أصالة الفكرة وعفوية الشخصيات وبساطتها، وليست هذه سوى السمات الأولى من فنية القص القصير عند محمد زفزاف. وستكفل لنا القصتان التاليتان التعرف على باقي أطراف اللوحة الكبرى.
«لهاث جريح ينبعث من أعماقه، وعرق جهنمي يتقطر من مسام جلده الضيقة المهترئة … كان يحس أن العرق المتفصد، لا من جراء الصيد، ولكن من جراء صعود الجبل، يسير ببطء بين شعيرات جسده الكثيفة … ويسمع لهذا العرق في عالم الصمت الذي يحيط به صريرًا مزهوًّا كخرير الغدران في الوادي، لا شيء غير الصمت، وخرير عرقه القاتل، وانهيار في الطريق، وتعب مؤنس، وامرأة ماتت منذ يومين ولم تدفن بعد.»
مقطع واحد، لقطة مركزة، طولية وعرضية، بانوراما للمكان والزمان، فيها بدء الحدث وأزمته وهويته، تجمع كثافة الشعور الداخلي المتفجر في الذات، وفوق سطح الواقع، وبعبارة أخرى، فإن هذا المقطع يرسم خريطة مركزية للتجربة المراد تصويرها ومن ثم فالقاص يقطع الصلة سلفًا مع التقنية القديمة المعتمدة على التسلسل الرتيب والتشويق المسف ما دامت غايته، من البداية، ووفق منهجه الفني ورؤيته القصصية المتجددة، ليست هي سرد قصة للعظة أو العبرة، وليست أيضًا اجتزاء مقطع من العلاقات الاجتماعية للتعبير عن واقع، متأزم في بعد واحد، وإنما اجتزاء لحظة اجتماعية في كثافتها الإنسانية وظلالها الخصوصية القادرة على مدها بالتعدد الدلالي والإيحائي، وكذا برعشات الفن الكهربية.
في القصة القصيرة، الواقعية الجديدة تواجه الشخصية في القصة التي يصوغها محمد زفزاف مصيرًا مفردًا وموحشًا، ويفرض عليها أن تجابه هذا المصير بكل قتامته وصلادته وتجد لنفسها بعد ذلك المخرج الذي ينقذها الخنق والضياع. وهذا المصير ينحت من قسوة الحياة الأرضية ومن أفق النفس التي تختنق في آلامها وإحباطها. إنه مصير تطبعه المأساة من جانبيها المادي والنفسي، وهو مصير «س» الذي فقد زوجته فواجه واقعه المؤلم واصطدم بظرفه المتوحد. ويزرع مصير الفقر والتوحد بذلك شرايين الرعشة المأساوية في قصة «الدفن» هذه الرعشات التي نحسها تتحرك وتدب في كل عبارة وصورة، ويساعد تركيب الجمل المتقطعة وارتباطاتها الظاهرة والخفية وإيقاعها المتوتر وصورها النابضة على تثبيت الإحساس العام بفجاعة الفقد ومأساوية التوحد: «لقد شعر أكثر من أي وقت مضى أنه أعزل، وأنه يواجه العالم بلا عون.»
إن هذا الخط لا يكف عن الاستمرار والتوالد عند محمد زفزاف، بل إنه يسلمنا ويمتد بنا في طريق سيصبح فيها هذا الخط والتجربة التي يرسمها أكثر انتظامًا وبنائية، ويغدو، أيضًا، أشد تماسكًا وتمايزًا واحتفالًا بقيم الفكر والحياة، وليتخذ، في النهاية، منهجًا فريدًا في معالجة القصة القصيرة لدى كاتبنا وليعطي للواقعية الجديدة عنده نسفًا ونكهة خاصتين.
توصل أوكونور إلى هذه الملاحظات الأساسية عن طبيعة ومجال القصة القصيرة من خلال دراسة متأنية ومتفحصة لنصوص كتابها الأفذاذ في روسيا وأوروبا والبلاد الإنكلوسكسونية. وكانت أهم ملاحظة استطاع أوكونور أن يصل إليها ببصيرته النقدية الثاقبة هي فرز مجال ومناط اهتمام هذا الجنس، هذا المجال الذي يهيمن عليه ما يدعوه بالجماعة المغمورة. وهي تلك الجماعة الهامشية، التي لا تقف على رأس هرم المجتمع ولا تكون معرضة للإشعاع أو الإبهار، فيمتد إليها منظار القاص ليضعها أمام الإبصار ويخرجها من الظل الذي عاشت فيه طويلًا، يبرزها كقسم هام وفاعل في المجتمع له أزماته ومشاعره الفردية وظروف عيشه الخاصة.
تبدو الجماعة المغمورة وقد احتلت مجال القصة القصيرة منذ ظهورها في القرن التاسع عشر في قصص غوغول، موبسان، تشيخوف، وقد اتخذت مكان الصدارة واستأثرت باهتمام هؤلاء القصاصين جميعًا، وكثيرين من الذين أتوا بعدهم، وبعد أن كانت الرواية تعالج بيئات وأوساطًا مكتملة، مرفهة أو متناسقة في مساحات طولية تحفل بالقضايا الكبرى والمشاغل العظمى للطبقات السائدة والمتحكمة، أي أن الرواية البرجوازية لم تستطع أن تتجاوز هذه الحلقات فتلتفت إلى ما يجاورها، والقصة القصيرة وحدها هي التي كانت قادرة على الالتفات إلى الهامشية، وإلى الفئات المحرومة والعناصر المأزومة في السياق البشري والاجتماعي والعكوف على محنها وأزماتها بالرصد والتصوير والإجلاء، وقد كان ذلك، كما سبق أن أسلفنا في مكان آخر من هذا البحث، مرتبطًا بنهوض الطبقة المتوسطة وبالدور الذي باتت تتولاه في القاعدة الاجتماعية والاقتصادية.
ولقد وعى قلة من القصاصين العرب هذا التوجه الذي اختارته القصة القصيرة، والذي يعد، في العمق، مجالها الحقيقي ومركز اهتمامها، وبدلًا من أن يتعرفوا على بغيتهم الأصلية ويوظفوا أقلامهم ومواهبهم في الموضوع الذي ينسجم مع هذا القالب الفني ويعنيه أكثر من غيره، راحوا يتخبطون ردحًا من الزمن بين مواضيع ومضامين وفئات شتى وليس بالتركيز على الجماعة المغمورة.
هل بوسعنا، مرة ثانية، أن نقدم تلخيصًا أو تكثيفًا ﻟ «الديدان التي تنحني»؟ سنفعل هذا موقنين أن الأمر لا يعدو تقديم العنصر الحكائي، وإلا فالقضية أكبر وأصعب من أن تلخص في سطور.
تتكون «الديدان التي تنحني» من بنيتين اثنتين يمكن تسميتهما: بنية الذات وبنية الموضوع. الأولى تتكون عناصرها من حياة الموظف وهمومه وفلسفته الخاصة في الحياة، والثانية تتكون من هذه الديدان التي تنحني، من الصباح إلى المساء، في استصلاح الطريق وتعبيدها. والحقيقة أن البنيتين معًا لا تنفصلان بقدر ما تتبادلان التأثير والاستيحاء إذ تكادان تشكلان بنيانًا واحدًا لا يستقيم إلا بتآزر وتماسك جميع أطرافه.
بنية الذات، هي هوية الموظف الشاب تتمثل فيها صورة البطل ومسار فكره، وهي هوية تحاول أن تفلت من الرتابة والسطحية الاعتيادية وأن تستمد من الحياة، في مجراها الطبيعي، بعض جذورها ومكوناتها: «الحياة هي حيز خاص، حيز؟ ما حجمه وما كثافته؟ لست أدري، ولكن أعتقد أن الحياة هي تلك العلاقة البسيطة أو المعقدة المتشابكة بيننا وبين الناس»، وهي هوية تحاول أن تخترق هذا المجرى وتؤلف من تتابع الحوادث وازدحام الذكريات وتوالد المشاعر موقفًا وانطباعًا ما، ولكنها تنتهي أبدًا إلى الحسرة والإحباط، وهي، في النهاية، هوية ممزقة إذ لا شيء يبعث في نفسها الاستقرار أو يشدها إلى الأرض أو الحياة، إن العمل يظهر بالنسبة ﻟ «السي عباس» على الرغم من حبه له وتفانيه فيه مجرد ضرب من البحث عن مطلق أو نوع من إفناء الذات هربًا من المواجهة الصريحة والمخيفة، وعلى الرغم من أن «سي عباس» يحاول، أحيانًا، أن يربط همومه بالأرض ويلتصق بحياة أسرته حين يتذكر أمه وديكور البيت … إلخ، أو حين ينغمس مع العمال بل ويذوب مظهريًّا في حياتهم ويشاركهم الحلو والمر، رغم ذلك كله يظل محتفظًا بنفسه، وفي غمرة المشاركة الجماعية والوجدانية مع الآخرين، عمال الطرق المجتثين، جزيرة صغيرة في مدى الأرض الممتدة يحصر بها نفسه ويعيش فيها لحظاته الخاصة. إن «سي عباس»، وهو في غمرة الاندماج في الحياة العمالية والاتصال اليومي بحياة البساطة والخشونة والعراء يجسم أيضًا أزمة ابن الطبقة الوسطى ذي الرأس المليء بالأفكار والمشتت بين رغباته ومطامحه الخاصة وبين الواقع الاجتماعي المثير في بؤسه وحرمانه، وهو في زحمة هذا الواقع لا يعرف بالضبط أين يسند رأسه أو كيف يختار لنفسه طريقًا منظمًا يقيه مغبة التيه والضياع. ولذلك فمطلبه في القصة لا يعدو أن يكون مطلب المتعب بلا حرب، الراحة «أريد الراحة» ولا شك أن سؤالًا معلقًا يظل مطروحًا وهو: أي نوع من الراحة ينشده بطلنا المهزوم؟
بنية الموضوع: هي جماعة العمال الذين لا إشكال في هويتهم، والذين لا يعانون أي تمزق أو ضياع أو إحباط، إنهم، فقط، الديدان التي تنحني: «نظرت إلى الطابور خلفي ورأيت أجسامهم منحنية كالديدان»، «قلت لبحري: هيا اعملوا، ودائمًا في نفس الاتجاه، قال نعم، وانحنى ثم صار دودة مثل باقي الديدان الأخرى». هذه الديدان هي الموضوع الحقيقي للقصة، هي أركانها وأساسها وحركاتها وأصواتها وانفعالاتها، بؤسها وكدها، هي العبير الخاص الذي تتضوع به القصة وهو ما يهبها نكهتها ويفردها كعالم مستقل قائم بخصائصه منفرد بأصالته.
تؤكد «الديدان التي تنحني» على القضية التي أثارها ف. أوكونور: الجماعة المغمورة. إنها هؤلاء العمال المجتثين الهامشيين، المنقطعين عن ذويهم وعن الحياة كما تمثلها بهرجة المدينة وصخبها، وهذه الجماعة المغمورة التي أهملها الأدب طويلًا تنطلق عقدة لسانها، وتبرز ملامح وتجاعيد وانكماشات كيانها بروزًا مضيئًا ومشع القسمات، فتظهر لنا وضعية العمال وظروف عملهم وأحوال عيشهم وما تضطرب به نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، كل ذلك منقولًا إلينا، لا ذلك النقل الفوتوغرافي الفاتر والمتصنع، ولكن النقل المنفعل والمتوثب، الحي والمتجدد. وإن قصة الديدان التي تنحني لتكاد أن تكون الوحيدة في تراث القصة القصيرة المغربية، التي استطاعت أولًا، أن تنقل إلينا حياة وعيش هذا القطاع البشري، وثانيًا، أن تسير بمفهوم الجماعة المغمورة في خطه الصحيح وأن تجعل منه مجسدًا حيًّا ومعبرًا أصيلًا عن واقع أناس يلاقون الكثير من الغبن والحرمان والاستغلال ويعيشون حياتهم كلها في عتمة الجهل والمجهول.
إن هذه القصة تنقل هموم هؤلاء الناس المغمورين والمنبوذين لتجعل منها القاعدة وليس الاستثناء، وصورة العالم وليست ظلاله، وهي ليست همومًا فردية، قلقة، مجردة، ولكنها مستمدة من نسغ الأرض متجهة لإرضاء حاجة الإنسان والأرض، ولذلك فكل مشاطرة وجدانية من جانب «سي عباس» الرئيس كانت تظهر متكلفة، أو على الأقل ضربًا من الشفقة، ولذلك نجد أن البطل الحقيقي في هذه القصة ليس «سي عباس» المحبط والخائب في النهاية، ولكنه الإنسان الذي تأكله الأرض ويقتات هو منها ويموت بسببها كما مات أحد العمال في القصة، إنه الإنسان المكدود في انحنائه كالدود، في إنهاكه، في فقره، في السعادة التي يجدها في الشاي، في أحضان «الوليات» إن صوت الجماعة المغمورة يتصاعد في الديدان التي تنحني مثل نشيد ملحمي خارج لتوه من أعماق التاريخ وأعماق الحزن الدفين، وهو يرد اعتبارًا طال افتقاده ويكلل رؤيا تمرغ دمها في الوحل والفزع.
لا يعمد محمد زفزاف في تجربته هاته إلى مباشرة أية وصاية مسبقة أو توجيه متعسف للجو القصصي أو الحدث، بل، وعلى النقيض من ذلك، يضعنا، رأسًا، في مناخ القصة وضمن أحداثها التي تتولد تباعًا أو بالأحرى في السياق الشعوري والفكري للحالات البشرية كما تمثلها وضعية العمال.
تنبثق لحظة الفعل القصصي من سياق العمل القصصي ويتبلور هذا فيها فيمثلان، بعد ذلك، وحدة عضوية يصعب الفصل بينها، إنها وحدة الفعل ووحدة الجو ووحدة الشعور تسود القصة على امتدادها، الطويل، وتتكامل فيما بينها وتتعاضد حتى تكفل للقصة المرامي المتوخاة منها، والتي تتجه إلى نزع قشرة السطحي والظاهر، ظاهر هؤلاء العمال المتنقلين عبر البلاد سعيًا وراء القوت، وإخراج الحقيقة المنسية إلى ضوء الشمس، ضوء الفن الساطع حتى تأخذ تحددها وتتخذ كيانها كجماعة حقيقية، في المحيط الاجتماعي والإنساني العام.
إن «الديدان التي تنحني» تنحت ملامح تكونها الفني وعناصر صياغتها الأسلوبية والجمالية من تراث ضخم للقصة القصيرة من حيث التجربة والرؤية عرفته القصة وحبلت به وتطورت خلاله على مراحل عدة. وهو ذلك التراث الذي يظهرها في إحدى قممها سامقة وقد أطرحت جانبًا مكوناتها الضحلة والزائدة وغدت قالبًا فنيًّا مكتملًا ومتماسكًا يتبنى منهجًا جديدًا في التعبير يساوق مستوى التطور العام للحياة والفنون عامة، وهذا المنهج المتبني لحرارة اللحظة الإنسانية وتقديمها من خلال رصد شمولي لحدث بسيط، عابر، غير جذاب في ذاته، برؤية تستكنه بواطنه وتستخرج خواصه الدفينة وتغني ظواهره البسيطة إلى أن يصبح عالمًا ذا انفرادية عجيبة وذا أبعاد متميزة يرسم إطار الفن الصحيح ويحتضن في الوقت ذاته عصارة الحياة الخالصة، وهذه الرؤية واقعية في مستواها، إنسانية في أبعادها، وهذه هي الواقعية الجديدة في معناها العميق، أي التي يتعانق فيها طرفا الوجود: المادة الطبيعية والبشرية ثم النفس الإنسانية التي ينعكس عليها صراع الواقع وتصدر عنها ردود الفعل إزاءه. والقاص الواقعي الجديد هو الذي يهتبل المادة الطبيعية الخام لكي يصوغ منها رؤيته وتجربته الفذة للواقع والإنسان، التي لا يمكن، وبأي حال، أن تعدلها التجربة المباشرة والحرفية التي تزعم أنها تنقل الواقع وتخلص له، في حين أنها تمسخه وتحذف منه جذره الإنساني الأساس.
(٣) محمد شكري ووجه الواقع المنبوذ
يعد محمد شكري واحدًا من القصاصين المغاربة القلائل الذين استطاعوا أن ينتزعوا لأنفسهم مكانة في مسار الكتابة القصصية، وأن يسهموا في هذا الفن إسهامًا خاصًّا جعله يأخذ ملامح ويكتسب تطورًا زاد في غناه ونمائه، ذلك أن محمد شكري، الذي لم يحترف الكتابة إلا في سنة ١٩٦٦م، يقدم لنا تجربة منفردة بين كتاب جيله أو زملائه من القصاصين المغاربة عامة، وهي تجربة حية ومعاشة تنقل لنا خصائص بينة، وملامح واقع منزو في الاعتياد والنسيان، ومغلف بأستار الفولكلورية، وحجب التاريخ المتبالي، الذي يطبع بصماته على كل ما يمسه فتتحول الأشياء والموجودات إلى معالم باردة وقد مستها يد البلى، وإن كان نبض الحياة ما زال يشع ويصدر عنها.
يتقدم محمد شكري إلى رحاب القصة القصيرة، على خلاف قصاصين عديدين من النساخ والمقلدين أو عديمي الموهبة، حاملًا وعيًا جديدًا ومرهصًا في كتابته بموهبة قصصية وإبداعية، وهي موهبة فنان وإنسان جاءت إليه القصة ولم يسع إليها، وشكلته أكثر مما شكلها، إلى حد أن بات جزءًا من كل ما يكتبه، ومن البداية يتنازل محمد شكري عن كل الأقيسة والالتزامات الفنية والموضوعية السابقة عليه أو التي راكمها العديد من الكتاب، وعمَّا يمكن تسميته بدليل كتابة القصة القصيرة والإبداع القصصي، يتنازل، عن ذلك كله ليتوجه رأسًا إلى عالمين اثنين هما ما سيكون ويظل دائمًا مصدر همومه ومركز انشغالاته الفكرية والاجتماعية والذاتية.
العالم الأول، هو مدينة طنجة، المدينة المفتوحة على البحر والتاريخ، المدينة المنهوكة والمستنفذة، المعطاء دومًا، مدينة التاريخ المستقر ورمز اللااستقرار، فكل شيء فيها قابل أن يتجدد أو يتلف لتوه، وقابل في الآن عينه لأن يرسخ وتمر به الأيام وهو في حاله باقٍ لا يريم في غفلة عن ريح الجدة وعوامل التطور. إنها كذلك مدينة ولود، معطاء، لكنها غير وفية، فالغدر إحدى خصالها الراسخة ولذا فأبناؤها الأصلاء هم أولئك الذين طوح بهم زمنها وألقي بهم على حافة الواقع فرجة للمارة والعابرين في الحياة وفي شوارعها المبهرجة.
لقد تولدت المادة القصصية لدى محمد شكري من تزاوج حصيلة الذات وتجارب الشخصية الفردية ومعاناتها ومكابداتها الخاصة، ومن وجه آخر، من المحيط الذي نمت فيه هذه الشخصية وتبلورت فيها مدركاتها وتنامت فيها أحاسيسها تناميًا وتبلورًا متواترًا مع عدد ونوع التجارب التي عاشها داخل ذلك المحيط.
ولم يكُن لمحيط آخَر أن يجتذب محمد شكري أو أن يحظى بعكوفه عليه، فقد كان ذلك هو محيطه الأصلي والحقيقي، وهو الذي امتلك عليه فكره وخياله، وهو الذي ألهب مشاعره واستحث فيه حافز الخلق والتعبير، ومن ثَم جاز لنا أن نقول أن القاص إنما كان يحاول أن يسدد دينًا عليه تجاه الوسط الذي انبثقت منه شخصيته وأن يخرج به من الظل إلى ساحة الضوء والتجلي، إلى مجال التعبير القصصي الموضوعي.
إن محمد شكري، شأن محمد زفزاف، استطاع أن يفلت من دوامة القضايا ذات الطريق المسدود، قضايا الطبقة الوسطى وأزماتها المربكة، التي استغرقت زمنًا ليس باليسير من اهتمام الكتاب المشارقة والمغاربة على السواء وجعلتهم لا يتنبهون لتجارب حية وشخصيات مشعة وإن كان الواقع قد تنكر لها وجعلها على هامشه، بالرغم من أنها خرجت من رحمه وحملت طبعه وصفاته. هذا الواقع وهذه الشخصيات التي تعاني النبذ وتتردى في أقسى وأسوا ضروب العيش، والتي تعاني أزماتها في صمت، إنها هي التي تلخص المحيط الإنسان.
يفي محمد شكري لهذا المحيط ومنه ينبثق مجددًا مفهوم الجماعة المغمورة ليكتسح غيرها من المفاهيم، ويصبح الجاذبية الأولى لمخيلة القاص وعالمه القصصي. وخلافًا لمحمد زفزاف، الذي أكد أكثر من أي شيء على أحاسيس الوحدة والانفعال والعزلة في إطار إنساني أو يفترض أنه كذلك من خلال أحداث ولقطات جانبية وفردية تعزف على وتر التوحد والاستيحاش في الوقت ذاته الذي تعالج فيه الموضوع الدلالة الاجتماعية والواقعية، خلافًا لذلك، فإن محمد شكري لا يجعل هذه الأحاسيس هي محور تجاربه القصصية ولا يعطيها الأولوية في سلم اهتماماته، حقًّا إنها جزء من السياق العام للخلفية النفسية للأبطال والخلفية الفكرية للأحداث والتجربة، ولكن غيرها هو ما يأخذ حصة الأسد من نصيب القصة ويكون مصدر إيحائها وتعبيرها.
ذلك أن الجماعة المغمورة التي يرشح محمد شكري نفسه للتعبير عنها تجاوزت الوحدة أو الانفصال لتهبط إلى المأساة وتصبح وجهًا من وجوهها، بل جزء لا ينفصل عنها، إن الوحدة، بالنسبة إلى أبطاله، جسر ومعبر لا تجمد فيه وإنما يحملها مصيرها الموئس إلى أغوار المأساة لتستقر فيها، ثم لتتنفس بها ومنها وأن تشع فيها إشعاعات بارقة ما يمثل كيانها ووهم وجودها. وحين تخبو في آخر رحلة العذاب فإن الوجود القاسي والواقع المطروح وزمن الغبن يكون قد أطبق عليها إطباقة نهائية وأسلمها إلى السكون الأخير ويكون الزمن قد نفذ فيها حكمه الذي لا رجعة فيه بعد أن تركها، فترة، تتردى بين جحيم الغبن الاجتماعي وجحيم الذات التي انفصلت عن شروطها واجتثت من جذورها وباتت تهوم وتتعلق بأهداب ذكريات وأيام ولت وأدبرت.
وتتم المعالجة القصصية عند محمد شكري بمحاذاة الأحداث والأبطال وبالتصاق شديد بإطار التجربة ومناخها العام. فالقصة تولد من هؤلاء الأبطال وتمتد خيوطها ونسيجها من أوضاعهم وتنمو مع نموهم وحركتهم نموًّا بطيئًا تارة وسريعًا تارة أخرى وفق ما تتطلبه الحالة الشعورية أو المادية المرصودة.
إن الواقعية الجديدة عند محمد شكري، إلى ما ذكرنا، تكتسب سمة الحياد الإيجابي إزاء الواقع المرصود. ويعد هذا الحياد معلمًا بارزًا من معالم التجربة الفنية للقاص. فعدسته لا تترك شاردة أو واردة مما له ارتباط عضوي بالقصة، وما من شأنه أن يغنيها ويغذيها إلا والتقطته وأبرزت هيكله وأطرافه وأمدته بقدرة النقل والتصوير جاعلة فنه ساطعًا سطوع المرآة، مشفًّا شفافية ما بعدها من نصاعة وجلاء. والقاص لا يحلو له أن يقحم نفسه ذلك الإقحام المشوش أو المضطرب ولكنه يجعل بين ذاتيته والأحداث التي تجري إزاءه مساحة محددة تترك له القدرة على رؤية الأشياء في حجمها الطبيعي، دون تزيد أو تضخيم، وعلى رسم الحدث وتطويره وضبطه، لا وفق هواه الخاص، ولكن على أساس من القانون الداخلي، إذا جاز قول ذلك، الذي يتحكم في مضمون التجربة والأرضية الفكرية والنفسية لها.
ومثل هذه المعالجة كنا نفتقدها، فيما سلف من النماذج القصصية التي كانت تستلهم الواقعية مادة ومنهجًا، أو بالأحرى تحاول فعل ذلك دون أن تدرك مبلغها وتنال قطافها، فظلت محصورة في نطاق استقطاب الواقع والحدث المرصود استقطابًا تراكميًّا، وليس كليًّا، مضيعة الجزء والكل معًا في حين أن الواقعية لا تبلغ التحديد والتنضيد الشمولي إلا فوق قاعدة الحدث أو العنصر الفكري أو الوجداني المستلهم والمستبطن بعمق وأناة، وبتفحص واستكناه، متخذة الأدوات التقليدية ذاتها، ولكن بعد أن تكون هذه قد شحذت شحذًا جديدًا وصقلت صقلًا جيدًا لتلائم المادة التي ستعالجها وتتهيأ لها القدرة على إبراز عمقها وظلالها.
إن الأدوات الفنية المستخدمة في النهج الواقعي الجديد تمثل قسمًا أو في من هذا النهج، بل لعلها هي التي تنجح في جعل الموضوع أو اللحظة المرصودة متمثلة تمثلًا جديدًا، ومتوفرة على طاقة الدلالة والإيحاء. وتمتلك القصة القصيرة عند محمد شكري هذه الطاقة، ولا تقف عند حدود استعمال الوسائل التقليدية، بل تتخطاها لما هو أكثر جدة ونضجًا وتبرز لدى شكري، وإن بدرجة أخف وأقل من زفزاف، كما ذكرنا، مقدرة الرصد الصريح، والمواجهة المباشرة مع الفعل أو الحدث القصصي وتقديم للشخصية واستنطاق لها ينبع من صميمها واستخدام للأسلوب السردي بصورة تبعده عن الملل وتتنكب به سبل الرتابة والتكرار أو الوصف المسف أو الملول مما يضفي على القصة جوًّا من الانفتاح والشفافية ويوفر لها عناصر الحركية والانتقال الحيوي والتدريجي ويهبها من ذاتها ومن مكوناتها الخاصة مميزات القصة القصيرة ذات الأساس الاجتماعي والدلالات الإنسانية المفتوحة.
(٣-١) نموذجان لوجه الواقع المنبوذ
العنف على الشاطئ٢٢
«كنت أجلس على رصيف مقهى «سنترال» كان وضعي مسترخيًا. وكانت لامبالاتي بالمارة تهدئ أعصابي. قال لي أحدهم ذات مرة: ينبغي لمَن يريد أن يكلمك وأنت هكذا، أن يهزك من كتفيك لكي تتنبه، كان نصفي الأسفل يحترق في الشمس … وضع النادل كوب الشاي على طاولتي، وحذرني بخفوت:
– إنه يحوم حولك، فلا تهتم به، يطلب جرعة شاي، وإذا لم يعطها يطلب النعنع ليمتصه حين يفرغ الكوب.
– من تقصد؟
– ميمون.
يخترق القاص زحام الواقع واللحظات المتراكمة والوجوه والأشياء ويلقي ببطله، دفعة واحدة، دون تطويل أو تسويف، في عباب الجو الذي يتحرك فيه. يجلس الراوي في زاوية الرصد، في المقهى، ومن هناك يشرع في عمله، مراقبة «البطل الحقيقي» وافتتاح طقوس الدخول إلى عالم التغرب والإحباط والأطوار العجيبة، إنه عالم يظهر مثل الوهم أو الغيبوبة، ولكن، وهذا هو بعض سر القصة، جزء من عالمنا الذي نفض عنه الطرف ونخال أنه هامشي في حين أن تورماته تطفح فوق جسد المجتمع وجلد البشرية. إنه «ميمون» الذي يصفه الراوي بأنه «يعاني مزيجًا من الجنون المبكر وبارانويا الاضطهاد» حين يسمعه يصيح: «قنابل، قنابل خضراء … السكين، السكين والدم، موتى، موتى وهم أحياء». ميمون هو البطل الذي ستتبع «العنف على الشاطئ» أطواره وتتفحص مزاجه، وتكشف من خلال استبار شخصيته العجيبة، نمطًا بشريًّا في مجال حياتي معين، فتنكشف في ذات الوقت ملامح جانبية لا تعدم أهمية.
بهذه الكيفية يتخلص القاص من بطله ويتخلص البطل من نفسه، ويمكن لكل شيء أن يبدأ بعد ذلك، فالقصة لا تنتهي لأن العالم يظل مفتوحًا لضروب أخرى من النماذج والحالات التي تخرج من رحمه وتلدها تناقضاته وأزماته.
قبل الإجابة على هذين التساؤلين لنا أن نتناول قصة أخرى تؤكد، ثانية، على الاختيار القصصي وتلقي الضوء على عالمه القصصي.
تؤكد قصة «العنف وبقول الأموات» للقاص محمد شكري على الخط ذاته الذي سار فيه في قصته المعالجة أعلاه، وتزيد بأن تكمل بلورة المعنى واستكمال المنهج الفني والرؤية الفكرية والواقعية لديه. وهي رؤية تتكون من رفض الصورة المنسجمة للواقع وتجاوز الشخصيات النمطية السابحة على أديمه من أجل الانتقال إلى صورة أكثر تشوشًا واضطرابًا، أي إلى الجناح الذي ترتع فيه الفوضى وتضببه المأساوية التي ينسج رداءها شخصيات منبوذة ومرفوضة من واقعها، لما هي عليه من شذوذ صنعته الحياة نفسها.
تقدم لنا القصة شخصية جديدة هي شخصية «بشير» أو الشخصية المضادة، شخصية لا تملك من الحاضر إلا ما يعذبها ويؤسيها وتجد في الماضي كل عنفوانها وثرائها، شخصية منقسمة زمنيًّا، مشطورة على نفسها بعد أن عصف الزمن بمجدها وجعلها تعيش على بقول الأموات.
ذاك هو بشير، الذي لم يعد له سوى بقول الأموات طعامًا وانتقامًا، وإذا كانت الحياة قد فتحت له ذراعيها ذات مرة وانكفأت ضده مرة أخرى، فليس له سوى أن يكيل لها الصاع صاعين فيرفض أناسها ويقتات من أجداثهم، بملء الحقد والكراهية، ويرفض الموت ويطرده حين يغمى عليه ويحسبه الناس قد مات وهم إنما يظهرون أمنية في نفوسهم فيتجدد بينهم حيًّا، ويحمي القطط بعد أن نبذ الإنسان، وليدفنها في قبورهم بعد أن دفنوه حيًّا في تنكر الحياة ونبذها وهو: «ليس لا طيبًا ولا سيئًا، إنما هو لا يؤذي أحدًا فقط وهذا يكفي لتعامله كإنسان — ولكنه شاذ — كلنا هؤلاء الشواذ ولكننا نتفاوت». هكذا يفكر بعض الناس الطيبين فيه، ولكنه لا يأبه بعد أن خسر كل شيء، وحتى لو عيروه ﺑ «يا بائع الأموات يا آكل بقول المقبرة، يا من يشتهي الأولاد، يا حامي القطط، يا آكل الدجاج الميت» فإن هذا لا يزيده إلا انفصالًا عنهم.
بشير، إذَن، هو الشخصية المضادة التي يقدمها محمد شكري لواقع زائف ومتنكر تمثله مدينة طنجة شخصية رافضة ومنفصلة تمثل عنفوان الحياة وغرابتها وشذوذها، وهي سمات ومعاني علق بها القاص نفسه وهي، لذلك، تجسم بالنسبة إليه المعاني الحقيقية للشخصية البشرية المتحفزة والنافرة في محيط راكد ومتواطئ ويقدم من خلالها رؤيته الواقعية المتميزة التي لا تهتم إلا بما هو مشين ونافر عن السياق العام للطبيعة.
إن فكرة الموت التي تظهر وسواسًا عند محمد شكري ليست إلا الوجه الثاني للحياة، وبالتالي آنها «الزمن الحي» ولذلك فهذا الانشغال ليس انشغالًا ميتافيزيقيًّا، ولكنه جزء من تعلق رؤية القاص بالحياة وانجذابه إلى أكثر وجوهها تعقيدًا وغرابة.
وتتخذ التجربة الفنية في قصص محمد شكري، وفي هذه القصة بالضبط، سمات من النضج والخصوصية هامة، فالقاص يعتمد العنصر الحكائي التقليدي حتى يجعلنا نخال أنه من طراز القصاص الأوائل، فهو يكل مهمة سرد قصته إلى راو شأن القصص المبكرة في هذا الفن، وهو يستعمل السرد التقليدي في سوق أحداثه ومعالجتها وتطويرها، ولكنه، في ذلك كله، متنوع ومتجدد، فهو، أولًا، لا يبغي الحكاية لذاتها، أو لما ستثيره من خيال أو وقائع، ولكن لتكون شاهدًا على واقع وأرضية لرؤية في الفكر والحياة، يستشف منها المغزى وتغنى بالدلالات، وهو، ثانيًا، حين يعتمد السرد لا يجعله أخبارًا أو رواية مملة، ولكنه يمزجه بصورة الواقع الحي، فيمتزجان معًا وتنضم إليهما مخايل الشخصية وأحاسيسها فيزرع فيه، أي، في السرد، روحًا جديدة تهبه، كأداة فنية، قدرة على الإقناع ما لها من مزيد، خاصة، والقاص لا يكف عن التنويع داخل السرد نفسه فلا يجعله مرتبطًا بزمن واحد، بل تتعدد الأزمنة فيه ويتكرر الانتقال من الحاضر إلى الماضي ثم من هذا إلى ذاك في عملية موحدة ومتآلفة دون تقطع أو ارتباك في تسلسل الحدث وترابط الموقف، إن الماضي يؤتى به، لا كذكرى مستعادة قسرًا، ولكن يرد وفق نسق فني محكم يجعله يندمج في صميم الحاضر ليغنيه ويؤكد معناه ويضيف إليه ظلًّا.
وهناك أيضًا تعدد مستويات التفكير، وهو أمر يعطي القصة طابعًا تركيبيًّا وينقلها من صعيد النظرة الأحادية إلى صعيد أكثر تعددًا وخصوبة، الشيء الذي كانت تفتقده وتسعى إلى الوصول إليه لتتخلص من مباشرتها وضحالتها وخفتها في ميزان الفن والفكر معًا. وإن هذا التعدد في مستويات التفكير هو جزء من النهج الواقعي الجديد لدى محمد شكري، كما رأيناه لدى محمد زفزاف، وهو ناجم عن ميل إلى النظرة المتفحصة والتفكير الكلي الذي يعمد إلى استقصاء كل الأجزاء واستخلاص الرؤية الشاملة في النهاية.
إن القصتين السابقتين اللتين عالجناهما لمحمد شكري، واللتين اتخذناهما نموذجًا لفنه القصصي، مقتصرين عليهما لاحتوائهما خصائص التجربة القصصية للقاص وتضمنهما أدواته وصيغه الفنية والفكرية، وقفتا بنا عند شرائح بشرية واجتماعية من طراز خاص، وصفناها بالشذوذ عن الواقع والانكفاء على الماضي ورفض الحاضر بالتوجه نحو العنف كبديل، مرر القاص من خلالهما فلسفة خاصة وموقفًا من الحياة والمجتمع يتمثل في الانجذاب إلى سحر العجائبية واقتناص الشاذ والانكفاء على الهامشي وإعلانه فوق سطح الحياة. ومحمد شكري، بعد ذلك، يجعل من نفسه ذاكرة للمدينة كما يراها هو، والشخصيات والأجواء التي ينقلها هي المخلوقات الحقيقية وسواها عديم الوجود والتجربة، وإن كان لا يجعل منها بديلًا، بقدر ما يسعى ليكتشف، من خلالها، عن وجهة نظر وموقف تطبعه السخرية حينًا والرثاء حينًا آخر، ولعل في هذا بعض الجواب على سؤال أول كنا قد طرحناه آنفًا.
هوامش
… ويعتبر جيمس جويس (۱۸۸۲–١٩٤١م) من أشهر الأعلام الذين أسهموا بهذا الفن، وقد وصل الذروة بقصته الشهيرة يوليسيس التي هزت العالم الأدبي عند ظهورها أول مرة بباريس عام ۱۹۲۱م. ولم تمضِ مدة قصيرة حتى أصبحت محور كثير من القصص. وتعتبر الكاتبة القصصية الإنجليزية فرجينيا وولف وكذلك القصصية دورتي ريتشاردس من أشهر المتأثرات بأدب جويس وفنه». د. ناصر الحاني، المصطلح في الأدب الغربي، دار المكتبة العصرية، بيروت، ١٩٦٨م.
وانظر أيضًا:
د. طه محمود طه، موسوعة جيمس جويس، ط١، وكالة المنشورات، الكويت ١٩٧٥م، جيرمين بويه، مارسيل بروست والتخلص من الزمن، ترجمة نجيب المانع، منشورات وزارة الإعلام العراقية، بغداد، ١٩٧٧م.