الفصل الرابع

خطوات الواقعية الجديدة

محمد زفزاف والطرح الواقعي الجديد.

محمد شكري ووجه الواقع المنبوذ.

***

(١) محمد زفزاف والطرح الواقعي الجديد

تطرح إعادة الالتقاء بالقاص محمد زفزاف، في هذا الفصل الجديد من دراستنا للقصة القصيرة بالمغرب، مسألة التطور الفني والأساسي الذي يعرفه المبدع في سياق إبداعه ومسار حياته الثقافية والإنسانية، وهي مسألة بالغة الأهمية لدى الجيل الجديد من قصاصي الستينيات، ليس في المغرب فحسب، بل وفي العالم العربي عامة، ذلك إن الأدباء الجدد ما انفكوا يعقدون مختلف الأواصر مع المدارس الفكرية والاتجاهات الفنية والتيارات القصصية التي تظهر وتتحرك في مناخ الأدب العربي والأجنبي أيضًا، ويلاحظ الدارس شغف قصاصينا وأدبائنا، عمومًا، بسعيهم الحثيث وجهدهم الدءوب لتخطي ما استقر عندهم وتجاوزه إلى ما هو أجد وأنضج، وبحثهم عن الأشكال والصيغ الجديدة والمتطورة التي تستجيب لحس التطور في الواقع وفي أنفسهم. والحق أن تاريخ الفنون كلها ما هو إلا هذه السلسلة المترابطة من الطموحات الفردية والجماعية للوصول إلى الأجمل والأكمل. إن الجيل الجديد من قصاصي الستينيات لم تقعد به همته، لحظة واحدة، عن استكمال مهمة البناء الفكري والجمالي لفن القصة القصيرة، كما كان على وعي بفتوة هذا الجنس من أدبنا وجدته على أمزجتنا وأذواقنا الفنية وأساليب القول عندنا، وعلى دراية بمسئوليته في ترسيخ أسسه وتشذيب زوائده وبتر طفيلياته من أجل إخراجه على صورة حسنة تعبيرًا وبناء وفكرة، ولذلك فنحن نعتبر كل قصة كتبت في الطور الثاني من عمر القصة المغربية محاولة لاستكمال النقص وإشادة البنيان ورأب ما حدث من صدع أو شروخ في الطور الأول، كل قصة نعتبرها مساهمة في دفع خطى هذا الجنس الأدبي نحو الطريق الفني السليم والصحيح، الخالي من التردد والهنات والعثرات، وفوق ذلك كله، وكمنشد أساس تجاوز المرحلة تقويم الاعوجاج وربط المتمزق في البناء والرؤية إلى خلق البديل واقتراح الجديد وصوغ الإبداع القصصي ذي النظرة الجديدة التي تساوق التطور الذي يعرفه الفرد والتبدل الذي يجنح نحوه المجتمع.

وعندي إن محمد زفزاف من هؤلاء القصاصين الذين شغلهم وسواس التطوير هذا، واستقر في نفوسهم طموح التجديد، وكرسوا له أدواتهم لبلوغ مرماه والارتقاء إلى ذراه.

لقد رأينا، سلفًا، كيف سعى هذا القاص، مع آخرين من كتاب جيله، إلى التقاط صورة للواقع المحيط به وتضمينها رأيًا وموقفًا، وكيف أنه، وبصورة خاصة، كان متجهًا في عمله، آنئذٍ، إلى إعطاء تلك الصورة الجانبية التي تشف عن واقع ذاهب في التردي، ذاهل في البؤس والضياع المادي، وذلك من خلال لقطات تفرد مصير أو مصائر الشخصيات والأناسي وتضعهم أمام أنظارنا وتجد، بقدر ما يملك صاحبها من إمساك خيوط تسييرها، في أن تتغلب على مقتضيات الحياة ومستلزمات العيش، كيف تغالب بؤسها وأساها، وكيف تقدم لنا، في خاتمة المطاف، صورة مجملة أو قل لوحة عن واقع من منظور شخصي لوضعية اجتماعية قاسية ومتذمرة يطوح بها البؤس في كل اتجاه. وعلى الرغم من محدودية تلك الوضعية كما رصدتها عدسة القاص، وعلى ما بالرؤية من قصور، فإنها استطاعت، هي وأخرى سواها، وبالقياس إلى سياق التطور العام الذي كان يعرفه المجتمع والقضايا الأساس التي كانت تبلبله وتزحمه، استطاعت أن تضع اليد على بعض جوانب الداء وتشير إشارات لامعة وذكية إلى مواطن التردي في الواقع وتخترق القشرة الاجتماعية التي تبدو ساكنة مريحة لمن على بصره غشاوة، فتستثير سكونها وتخوض فوق سطحها الناصع لتبلغ القاع الآسن وتدرك ما رسب فيه وتخثر. ورافق هذا المجهود في النظر والفحص والتصوير مجهود آخر في أسلوب إبراز الواقع وكشف بواطنه، أي المجهود القصصي والجمالي المبذول في صياغة التجربة، وهو، لعمري، مجهود جليل القدر في زمانه بعيد الشأو فيما مس جوانب الصياغة والتقنية القصصية، دليل على أن صاحبه لا يستهين بنطاق عمله بل يوليه ما ملكت مقدرته من حرص وحذر ومهارة لقنص اللقطة المثلى وإخراج القصة في الحلة التي تصنع للواقع خصاله ولا تهدر للفن القصصي شأنه ومرامه.

ثم نأتي إلى طور آخر يكون فيه محمد زفزاف قد استنفد ردحًا غير يسير من عمره الفني والثقافي، علمًا بأن أعمار الكتاب لا تقاس بسني حياتهم، وتكون تجربته الفنية قد اختمرت ورؤيته القصصية قد اتسعت وزاده من معرفة الواقع والحياة الإنسانية قد رحب وتضاعف، يأتي هذا الطور الجديد ليدفع بقاصنا في سبل ليست منبتة الصلة بما قبلها، ولكن في سبل معبدة ومنسابة، بعد أن اغتنى فكره وقلمه بقراءات عربية وأجنبية في فن القصة القصيرة، وتطورت أدواته الكتابية واستحكمت، وصار ما كان صعبًا في نسيج القصة وإحكام بنائها وشد أواصرها وربط عناصر الحدث فيها وتحريك شخوصها وبلورة الموقف والمغزى الفكري ضمنها، صار ذلك كله هينًا مطواعًا. وانتقلت ذاكرة القاص ورحل وجدانه ليحلقا، بعد هذا، في آفاق جديدة لم يكن ليجرؤ من قبل على اقتحامها أو التحويم حولها، وكأن هذا الاقتحام الذي امتد إلى تلك الآفاق هو ما يطبع تجربة كاتبنا بالخصوصية والتفرد ويهبها، بالتالي، نكهتها الخاصة. ونعني بهذه الآفاق العوالم الصغيرة-الكبيرة التي انخرط قلمه في صياغتها ومدها بالروافد والشرايين من كل اتجاه وصب عناصر الحياة والتنوع في قنواتها لتغذي صغار الأمور فيها وتافه الظواهر وغفلها في نسيجها، لتلحم الجزئي بالكلي وتصهرهما من بعد في قالب واحد ومتآلف، لتخلق من الحدث الظاهر الواقع-الظاهرة، ومن الواقعة العابرة ملتقى ومدار العلاقات الإنسانية، ومن المادة الغفل التكوين المنظم والبناء المشدود شدًّا وثيقًا، ممسكًا باللحظة البارقة كطرفة عين جاعلًا منها مساحة ضوء شاسعة فتستنير في ضيائها حيوات الناس وتتحرك أشباحهم وترتعش نفوسهم وتدب الحياة في أوصالهم، وإذا بنا أمام حياة بأكملها تبعث أثر رقاد طويل تشع منها عيون الناس وتتنفس فيها مسامهم، وتعرض أمامنا وقائع حياتهم البسيطة، البادية للعيان، ولكن التي تتخذ مع الرؤية التي تلتقطها وتنسجها شكلًا وروحًا جديدين، وتغدو وحدة في السياق الكلي للواقع والتجربة القصصية.

إن الطور الثاني من تجربة محمد زفزاف القصصية يتمثل، في نظرنا، وعلى الصعيد الفكري، في محاولة ضم شقين متكاملين لاستخلاص الحالة أو الصيغة التامة والموحدة للإنسان في العالم. ويتكون الشق الأول من الواقعة المعطاة في بعدها الاجتماعي الخالص، والشق الثاني من الواقع المعطى في بعده الإنساني الخالص، والبعدان معًا هما مدار التجربة القصصية الجديدة، من نحو، وهما ما يشكل من نحو آخر مفهوم الواقعية الجديدة على المستوى الفكري عند محمد زفزاف.

أما الشق الأول فهو المتمثل في حصر ما حدث أو اقتناص اللقطة ذات الطابع الاجتماعي، والتي تحمل في نسيجها وتركيبها، صورتها وظلالها، مظهرًا حياتيًّا ذا ارتباط بحياة الناس وهمومهم الصغيرة والكبيرة وعاكسًا لنوعية العلاقات التي تصل الفرد بالآخرين وهؤلاء به عند نقطة التقاء أو افتراق ما، في منفعة مشتركة أو في غبن مشترك ينضغط الكل تحت وطأته. ولكن رصد هذه اللقطة في نظرنا، عند محمد زفزاف، وفي هذا الطور الثاني من تجربته القصصية، يبقى مشدود النفس محدود البعد والتأثير إن لم تمتد له أذرع وظلال في مساحة أخرى من الشعور، أوسع وأعمق، وهذه المساحة الجديدة هي التي تكون مؤهلة وقادرة على إضفاء سمة الدرامية على قصته الواقعية.

إن هذه المساحة الجديدة هي الشق الثاني المتمثل في البعد الإنساني الخالص، كما أسلفنا القول، للموضوع القصصي الواقعي. فالقاص يعمد، بعد أن يقيم الهيكل المادي وينصب العمود الفقري لقصته، وبعد أن يكسوها لحمًا ويلقحها دماء، إلى إضفاء هالات خاصة على هذا الجسد الذي يبدو لأول وهلة مكتملًا وفق الرؤية القصصية التقليدية، فتجده يقنع بهذه المفاهيم والأحاسيس والصور المباشرة المعطاة، ولا يقعد به بحثه وطموحه في الخلق والتشخيص عند حدود التأطير ورسم المعالم والشخصيات وتداول الحوار والحركة حول المعلوم والمفهوم وما هو قادر على بث المغزى وخلق الانطباع العاجل، ولكنه ينتقل إلى مرحلة صنع الأبعاد والتعميق للواقع المعطى بغية سبر أغواره واستكناه بواطنه ودواخله للحصول، في النهاية، على الدرة الثمينة، أي المأساة الخصوصية، مأساة الإنسانية عامة، انطلاقًا من المأساة الفردية.

وليس غريبًا أن يرتبط جنوح محمد زفزاف إلى هذا الضرب من البحث المضموني في قصصه ببحث آخر على صعيد التأمل الخالص في قضايا فكرية وفلسفية ذات طابع تجريدي، كفلسفة الحياة والموت، ومقولة «الأنا» وغيرها من القضايا التي حبل بها الفكر الوجودي، فهذا البحث الذاتي من لدن القاص هو الذي يشكل الخلقية الفكرية والقاعدة النظرية لقصص هذه المرحلة، وهو الذي يغذي عروق العمل القصصي فيجعل دماءً جديدة تسري فيه مغايرة للدماء الراكدة، السابقة ورب ناقد يحتج قائلًا أن هذه الدماء غريبة عن جسم هذه القصص، نافرة منه، غير موافقة له، وأن الواقع الاجتماعي المصور من طرف القاص المغربي لا يعدو جوانب محدودة يكون من التمحل لحمها بقضايا مغرقة في التأمل الفلسفي، لو فعل فإن جوابنا هو أن أي واقع لا ينشد أو ينفصل عن جذوره الإنسانية، وأن حجم الصورة الواقعية يمكن أن يضيق ويتسع، يكبر أو يتضاءل، حسب كل مبدع واستعداده ومهارته في الانطلاق من الجزء إلى الكل، من البسيط إلى المركب، ومن اقتناص اللحظة البارقة وجعلها إشعاعًا غامرًا ولعل هذا هو الفاصل الحاسم بين الكتابة الوثائقية، الطافية، وبين الكتابة الرصينة والثرة، القادر على الاستمرار وفي ذاكرة التاريخ ودروب المستقبل.

ومن نحو آخر، نحب أن نقول إن الاعتكاف على تقصي وتعميق مصائر الشخصيات وربط نفسياتها بقضايا الكون الكبرى، والتعلق ببعض القيم والمعاني المطلقة يعكس أمرين اثنين على جانب كبير من الأهمية:
  • أما الأول: فهو الرغبة في كسر طوق الواقعية الفجة، القصيرة النفس، المحدودة البعد والسعي لاستجلاء واكتناه مناطق أخرى في الشخصية القصصية لم تصلها من قبل يد القاص ولم تطرق أبوابها. وهي رغبة آتية، ولا ريب، من ارتباط أوثق واتصال أكبر بالأدب القصصي الجديد في العالم العربي الذي يعني عناية خاصة بالتحليل النفسي للشخصية ويفرد لها الصفحات الطوال.
  • ويتمثل الأمر الثاني: في نظرنا، في هذا الطريق المسدود الذي آلت إليه الحركة الاجتماعية في أواخر الستينيات، وبالضبط منذ منتصفها، وفي الإحباطات المتوالية، السياسية والاجتماعية التي تعرضت لها، وهي إحباطات كان لها، ولا شك، أثرها على شل توسيع الرؤية الواقعية في بعدها الاجتماعي الصرف وشد هذه الرؤية إلى جاذبية العناصر الإنسانية الخاصة وإلى فيء الظلال الجانبية، وسوف يكون لهذا الانجذاب مفعوله ونتائجه الحتمية على أساليب الصياغة القصصية خلال مسار التطور للقصة القصيرة في المغرب، كما تبلوره مجموع من النماذج التجريبية والقصص التي حاولت أو نهجت سبيل البحث عن قالب أكثر جدة ومرونة وانفتاحًا.

(٢) نماذج تطبيقية وصورة الواقعية الجديدة شكلًا ومضمونًا

من مجموعة القصص المتطورة التي كتبها محمد زفزاف سواء في مجموعته القصصية «حوار في ليل متأخر»١ أو القصص المنشورة في الصحف المغربية والمجلات المشرقية (جريدة العلم المغربية – مجلة المجلة المصرية – الآداب البيروتية … إلخ) انتقينا له ثلاثة أعمال ستكون هي مدار بحثنا وتحليلنا ومصدر استخلاصنا لعناصر تجربته المتطورة جماليًّا وفكريًّا، وهذه القصص هي: الموت وما بعده،٢ الدفن٣ الديدان التي تنحني٤ وفي كل من هذه القصص سنجد كاتبنا يصوغ مجموعة من العلاقات والتكوينات التي يريد لها أن تصنع بناء فكريًّا متجانسًا ككل، ومهمازًا فنيًّا وثيقًا ومتصاعدًا، كما سنلاحظ أن هذه القصص الثلاث تؤلف من نحو آخر، عوالم صغيرة ينبض كل واحد منها بنبضه الخاص وإن كان إيقاعها العام في النهاية إيقاعًا واحدًا ومتناغمًا، يشف من خلال كل كلمة أو حوار أو منولوج أو صورة عن المغزى الذي يريد القاص أن يبثه في النفوس ويسوقه إلى الأذهان.

«الموت وما بعده» قصة قصيرة مركبة من ثلاث بنيات وظلال عديدة، وتستمد هذه البنيات والظلال تأسيسها ومرتكزاتها من فكرة الموت الكبيرة في حجمها وبعدها الواقعي الصلد، المباشر والإنساني، والوجودي، المفتوح في اتجاه التساؤلات اللاإنسانية.

ثم تعطي القراءة المتأنية والمتأملة الاقتناع، لا بعمق الفكرة أو أصالة التجربة، فحسب، ولكن، وهذا ما يشغلنا، بالموهبة المتمرنة والحاذقة التي تمسك بين يديها خيوط التجربة ومناوي ولاداتها وتحولها، وتترصد لكل نأمة وشعور كي توجههما التوجيه الموافق والمنتمي للتجربة المرصودة.

«الموت وما بعده» ثلاثية البنيات، البنية الأولى هي الموت كحقيقة عادية يفرضها حكم الزمن وناموس الطبيعة. الثانية هي الأشياء والمثيرات التي يولدها الموت، والثالثة عالم ما بعد الموت، مادة وشعورًا. وتشكل كل واحدة من هذه البنيات عالمًا وطيد الصلة بالآخر في الوقت الذي تنفرد، وحدها، كمحفل مستقل منطو على اللحظة أو الفكرة المنتقاة، إن هذا الارتباط والاستقلال، معًا، هو ما يعطي صفة الوحدة والتركيب لهذا العمل القصصي، وهو ما يؤكد على خصوصية التجربة، وهو ما يجعلها، من جهة ثالثة، تستعصي على كل إيجاز أو تلخيص. وأننا لو فعلنا ذلك لكنا نقتل نطفة القصة قبل تكوينها، ونهوي إلى درك القص الواقعي ذي البعد الواحد. وبالرغم من ذلك لنفعل وسيتبين لنا عبث صنيعنا.

تدور القصة حول هذه المرأة العمياء التي تموت عصر ذات يوم في الزاوية التي ترتكن بها داخل كوخ يأوي ابنتها وزوج ابنتها وحفيديها الصغيرين، ثم لا شيء بعد ذلك، ونحن نعلم، سلفًا، أن الموت حدث يقع كل لحظة، كل طرفة عين ليطوي تاريخ إنسان ويثير في النفوس تلك الأحاسيس المتباينة. هذه هي الكلية الخارجية، الطافية على سطح الرؤية العابرة، لكن موهبة القاص تتسلل إلى هذا الحدث العابر والمكرور لتخلقه من جديد وتحيك له خيوطًا وعلاقات جديدة فتنقله من صعيد الرتابة والتكرار إلى صعيد الرؤية الإنسانية، الغنية بالمعاني والدلالات، أي الانتقال من التسطيح إلى التعميق، ومن النظرة المجردة إلى النظرة المركبة والمشحونة:
«من هنا مر الناس ومن هنا عادوا إلى الأكواخ وقد تبدلت خفايا ما بهم وإن ذلك بالطبع لم يكلف الواحد منهم سوى ساعات، أو إن شئت فبضع دقائق … ما هي إلا بضع دقائق وينسون … فكأن العمياء ما ماتت، وكأنها ما كانت في العالم تشغل الناس وتأخذ نصيبًا من وقتهم.»٥
بهذا المدخل المباشر والمكثف يفتح لنا محمد زفزاف بوابة قصته ويسبقنا إليها بخطوات وئيدة لا صخب فيها ولا تعثر، منطلقًا من التسليم بحتمية الزوال التي ستفتح له أكثر من باب، هكذا يفتتح ما يمكن أن ندعوه تجوزًا بالقسم الأول، وهو موت العمياء يعقبه الفراغ الذي تخلفه، ثم المعنى الذي تبثه في نفوس شخوص القصة، تموت العمياء وتكون ابنتها الشاهد الحاضر حضورًا ماديًّا ووجدانيًّا على موتها: «هي وحدها التي تشعر بأن الموت عالم غامض يجب الاعتراف به، والاستسلام له في كل لحظة طرق فيها الباب»٦ ليتدرج الكاتب بعد ذلك إلى استقصاء الأثر الذي خلفه الموت والأحاسيس التي يستثيرها في النفوس، أما الزوج فلا يعنيه أمر الموت في شيء، وموت العمياء خاصة، سيما وقد كانت مصدر إزعاج له: «لقد خلصته وخلصت نفسها، وخلصت كل من يعرفها»٧ نعم «إن العمياء كانت في حياة زوج ابنتها كيسًا مثقوبًا للادخار، كل ما يوضع فيه يتلف للتو.»٨ أما الفقيه، وهو الشخصية الرئيسية في طقوس الدفن، فهو الذي حاول طرح الصيغة الفلسفية لمسألة الموت، وهو الذي بلور، من نحو خفي، أو استعار القاص نظرته لهذه القضية، المعضلة «… إن الموت إنما هو حد فاصل لما هو خير ولما هو شر في الإنسان، ولكن السؤال يولد لديه أسئلة أخرى ويولد إجابات أخرى، لماذا سيعاقب الإنسان مع إنه لم يختر وجوده؟ لو إنني لم أوجد ما كان هناك عقاب أو جزاء، وإذن، فبما إنني لم أختر وجودي فإنه ليس من العدل أن أسأل عن وجود لست مسئولًا عنه. فالعقاب والجزاء إنما يعنيان من تحمل مسئولية الفعل»٩ وواضح، دون الميل إلى أي شرح أو إسهاب، المصدر الفلسفي الوجودي لهذا التحليل، الذي يبدو نظريًّا خالصًا، والذي يمتح من منهل فكري أكثر من صدوره عن مجرى التجربة والحدث القصصي المرصود. إن وجهة نظر الفقيه تسجل الموقف الثالث من الموت كما تراه شخصيات القصة، فتكون في النهاية أمام ثلاث مستويات من تصوير الموت: الحتمية — ما لا حتمية له ماديًّا لا قيمة له أصلًا فكيف به وهو ميت — عبثية الموت. لكن لو بقيت صيغ الفهم هذه للموت على صعيد الطرح النظري لكانت قد أساءت كثيرًا إلى العمل القصصي وجردته من لبوس الإبداع الأليق به والألصق.

على أن هذا الطرح سيظل هو القاعدة التي ستقوم عليها البنيتان الأخريان لقصة «الموت وما بعده» وهي المنظور الذي يعزف إيقاع التجربة ويضبط أوتارها.

يشكل أسلوب الارتداد أو ما اصطلح على تسميته: «الفلاش باك» طريقة يستعملها القاص المحدث لإحداث التنويع في القص ولاستخدامه كعنصر يمثل النمو داخل القصة. وعند زفزاف نرجع إلى «العمياء» في مقاطع خاصة تجسمها لنا وهي حية في ركنها الباهت في كوخ ابنتها، ممثلة إلى جانب البؤس المهيمن على المكان العجز الفاغر أمام الحياة وأمام الاستمرار: «في الصباح اكتشفت البنت أن أمها ماتت عندما رفعت عنها الغطاء»١٠ وكأن موتها ليس بالأمر الجديد أو المثير.
وإذا كان الموت أمرًا مسلمًا به، وفق المنطق الذي بلوره القاص، فإن ما بعد الموت هو البنية الأساسية في هذه القصة، وهو الذي يعدها بروافد خصبها، ويجري في هذه البنية شريانين اثنين: الأول هو الشعور القلق والحائر الذي يخلفه موت العمياء في نفوس شخوص القصة وابنتها «حسناء» خاصة، ثم الموقف من الماضي-الحاضر الذي تمثله الأشياء المتبقية منها، وسريرها على وجه الخصوص، فقد بات هذا السرير مشكلة أمام الزوجين ففكَّرا في تشغيله لنوم طفليهما، ثم فشلت الفكرة لأن الماضي ثاوٍ فيه، ثم فكَّرا في التخلص منه والتخلص من العمياء نهائيًّا: «فبعد أن ضاعت معالم العمياء، وتلاشت في الكوخ لم يبقَ سوى هذا السرير الذي يذكر في كل آونة بصورة لامرأة ما، وبصوت كان يأتي من هناك … ثم بكلمات وعبارات كانت صاحبتها تدعي الحكمة والفطنة.»١١
إن أشياء العمياء والمثيرات التي ولدتها في النفوس بعد موتها هي الموضوع الحقيقي للقصة لأنه هو الذي يجسد الموت كفعل ويبرز أثره وانعكاساته، وقد استطاع محمد زفزاف أن يفلت من شرك التنظير الأجوف بعد أن كاد يسقط فيه إلى المجال الرحب للوصف والتشخيص ودفع الحدث وخلقه ونفث روح درامية فيه، وذلك بأن جعلنا، أيضًا، نعايش معايشة حية تطور فكرة الموت والإحساس العام الذي ولدته في نفوس شخصيات بسيطة تتعامل مع هذه القضية من مناخ وضعها البائس، ومن وحي مشاعرها وتصرفاتها الفورية والتلقائية التي لم يستطع الموت رغم حدته وحسمه أن يتغلب على الحضور الإنساني عندها … «ولكن مع ذلك فإن صورة العمياء بقيت عالقة في كل زاوية وفي كل مكان كان الطفلان عبثًا يحاولان أن ينسيا وكانت أمهما تحاول أن تفعل كذلك … وحتى الزوج الذي كان يرغم نفسه على النسيان لم يستطع، لقد كانت الصورة أقوى من كل شيء … صورة الحياة قبل الموت»١٢ فكأنما القصة حين رامت تصوير الموت وتأثيره على هذه الجماعة البسيطة، إنما كانت تنسج خيوط الحياة وتتقصى سيرها بين أفراد هذه الجماعة، لكن ألم يكن موضوع الموت في ذات الوقت جسرًا للعبور إلى واقع أسرة يسحقها فقرها وبؤسها؟ ألم يكن مجهر الكشف عن دواخل أفرادها واستطلاع خفايا نفوسهم وهم الأحياء في وضعية متردية؟

إن تساؤلنا هذا يهدف في جوهره إلى اعتبار العنصر المزدوج والتركيبي لقصة «الموت وما بعده» وإلى المنهج الواقعي الجديد المتبني فيها تقنية ومحتوى، فهي لا تعالج موضوعين أو فكرتين في نص واحد كما قد يتبادر إلى الظن، ولكنها، وهنا تكمن أصالتها، تعالج موضوع الحياة من خلال الموت نفسه، وفي اللحظة التي تتكشف أمامنا يد المنون وقد امتدت إلى العمياء، وهي العبء على الأسرة المدقعة، تتحدد في ذات الوقت شريحة الحياة المتردية التي تعيشها أسرة كاملة في كوخ عفن ومتداع، وهكذا يظهر لنا محمد زفزاف، حين يحتفي بفكرة مجردة يتخذها مصدر تجربة قصصية كيف يمهر في تطويعها أيضًا لتكتسب بعدها الاجتماعي اللصيق بالإنسان والحياة.

وتتحدد التجربة القصصية في «الموت وما بعده» في معمارية رصينة ومتماسكة، إن القالب الفني هنا يخضع الفكرة مثلما تتسع هذه لها، وهو قالب معتمد على نسج العلاقات الداخلية في البناء القصصي دون توان أو تململ، وينطلق أسلوب السرد وتقنية الأسلوب الارتدادي انطلاقًا انسيابيًّا يختزل المكان والزمان والحالة النفسية في جمل ولقطات مكثفة وبصيغة ماهرة وشفافية شاعرية لتصنع هيكل القصة وتكسوها لحمًا ودمًا، محافظة على أصالة الفكرة وعفوية الشخصيات وبساطتها، وليست هذه سوى السمات الأولى من فنية القص القصير عند محمد زفزاف. وستكفل لنا القصتان التاليتان التعرف على باقي أطراف اللوحة الكبرى.

قصة ثانية هي «الدفن»١٣ تسير في المنحى ذاته، الذي سارت فيه القصة الأولى، ويستقصي محمد زفزاف فيها جانبًا مغمورًا ومشعًّا، أيضًا، من الحياة الإنسانية يتمثل في الوحدة والقسوة والألم، الموت مرة ثانية مزاوجًا الحياة في تصلبها وقساوتها وامتناعها عن الإنسان المكدود بمشاق العمر والعيش. هذه الرؤية تتبلور، ثانية، عبر هذه القصة التي تقدم دليلًا جديدًا على النهج الذي شقه قاصنا لنفسه، والذي استطاع خلاله أن يمتلك زمام التعبير والتصوير القصصيين الناضجين، والقادرين على تقديم التجربة والإشعاع بكافة عناصرها التكوينية والتشخيصية.

«لهاث جريح ينبعث من أعماقه، وعرق جهنمي يتقطر من مسام جلده الضيقة المهترئة … كان يحس أن العرق المتفصد، لا من جراء الصيد، ولكن من جراء صعود الجبل، يسير ببطء بين شعيرات جسده الكثيفة … ويسمع لهذا العرق في عالم الصمت الذي يحيط به صريرًا مزهوًّا كخرير الغدران في الوادي، لا شيء غير الصمت، وخرير عرقه القاتل، وانهيار في الطريق، وتعب مؤنس، وامرأة ماتت منذ يومين ولم تدفن بعد.»

مقطع واحد، لقطة مركزة، طولية وعرضية، بانوراما للمكان والزمان، فيها بدء الحدث وأزمته وهويته، تجمع كثافة الشعور الداخلي المتفجر في الذات، وفوق سطح الواقع، وبعبارة أخرى، فإن هذا المقطع يرسم خريطة مركزية للتجربة المراد تصويرها ومن ثم فالقاص يقطع الصلة سلفًا مع التقنية القديمة المعتمدة على التسلسل الرتيب والتشويق المسف ما دامت غايته، من البداية، ووفق منهجه الفني ورؤيته القصصية المتجددة، ليست هي سرد قصة للعظة أو العبرة، وليست أيضًا اجتزاء مقطع من العلاقات الاجتماعية للتعبير عن واقع، متأزم في بعد واحد، وإنما اجتزاء لحظة اجتماعية في كثافتها الإنسانية وظلالها الخصوصية القادرة على مدها بالتعدد الدلالي والإيحائي، وكذا برعشات الفن الكهربية.

هكذا، يظهر محمد زفزاف، وقد قطع كل صلة مع تراث القصة الواقعية التقليدية، المعتمدة على السرد الرتيب والتسلسل المتواتر، والمحصورة في نطاق المؤثرات العامة التي توارثها القصصيون الأوائل، والتي كفت عن أن تنقل شحنة الواقع أو تحبل بصراعاته ونوازعه العميقة، كما لم تعد مماشية للتعقيدات والتطور التي يعيشها الأفراد أو متمكنة من سبر أغوار نفوسهم. إن منهجية زفزاف تجعله يدفع إلى القارئ بشحنة قوية تشده إليه للوهلة الأولى ثم يدفع به بعد ذلك في دروب ومنعرجات قصته دفعًا هينًا مجتازًا به ملامح التجربة اجتيازًا رفيقًا لا تملى فيه العبارات والأوصاف من الخارج، من صوت الراوي أو الكاتب، ولكن تنبثق من لب العمل القصصي وتلمع تحت سطح الحادث العابر كما يلمع الحصى تحت ماء النهر النقي. وهكذا تندفع الشخصية لتعمل وحدها وتحقق وجودها بملء ما تملك من مقدرة ذاتية واستعداد فكري وبشري. ها هو ذا (س) بطل القصة الوحيد، المتفرد، المهموم — لنتأمل هذه الصفات التي تطبع شخصيته وستطبع القصة ودوافع الشخصية بمياسم مأساوية — يعيش الأزمة الكبرى التي هي أزمة القصة وأزمته هو كإنسان في وضع اجتماعي محدد، وكذات في هذا العالم، وتتمثل الأزمة في موت زوجته، رفيقة الحياة في عالم الوحدة القاتل الذي يعيش فيه، وتزداد الوحدة عتوًّا بانهيار قطعة من الجبل وانسداد الطريق الذي يصله بالناس، بالآخرين الذين يحقق معهم وجوده الاجتماعي. وبهذا الانسداد تطبق عليه الوحدة دفعة واحدة ويضحى أسير تجربة الانفصال. هنا نجد مرة أخرى الفكرة التركيبية والمعنى الفلسفي مبطنًا في حدث حي وليس في مقولات تقريرية فجة، وسنجد أنها وجهة سيدأب زفزاف على نهجها والتزام خطها لتغدو سمة رئيسية من سمات فنه القصصي: «… في صباح اليوم التالي وجدا أن القطعة في الجبل انفصلت عنه بفعل السيول التي حفرت في التربة … وسقطت هذه القطعة على الطريق الوحيدة، وتوقفت هناك بعناد، ومن ذلك المساء أصبح بيت «س» وزوجته في انفصال تام عن العالم.»١٤
ويعزز القاص هذا المنحى التأملي بزرع فكرة الموت، مرة ثانية، جسد العمل القصصي ويجعل الشخصية تستشعر الإحساس الحاد به، وتعميق وجودها ومأساوية الظرف الحياتي الذي تعايشه. ومما لا شك فيه أن هذا التعميق يعطي للشخصية بعدًا أكبر ويضفي على القصة دلالة أغنى تخترق قشرة الدلالة المباشرة والمبذولة: ها هو ذا «س» بعد أن فقد زوجته١٥ «يجد نفسه وحيدًا أعزل … وعز عليه أن يواجه العالم بلا عون … إن الموت لا يمهل أحدًا … لقد اختطفها ذات صباح بينما كانت تتحدث إليه بدفئها المعهود … لم تكن تبالي بالموت، ولم تكن تعتقد أنه سيفاجئها، وها قد فاجأها الآن … فإذا كانت الحقيقة قد غابت عنها فإن الآخر قد أدركها بعد موتها … زوجها وحده هو الذي أدرك أن الموت إنما يفاجئها في أي وقت وفي أي مكان». وعلى ما في هذا الإدراك من بساطة وقصور فإنه ينبئ عن رغبة حقيقية لدى القاص في ثقل شخصيته من سفح المعايشة الآنية ليرقى بها درج التطلع والتأمل الداخلي، كل ذلك في حدود المستوى الذهني للشخصية.

في القصة القصيرة، الواقعية الجديدة تواجه الشخصية في القصة التي يصوغها محمد زفزاف مصيرًا مفردًا وموحشًا، ويفرض عليها أن تجابه هذا المصير بكل قتامته وصلادته وتجد لنفسها بعد ذلك المخرج الذي ينقذها الخنق والضياع. وهذا المصير ينحت من قسوة الحياة الأرضية ومن أفق النفس التي تختنق في آلامها وإحباطها. إنه مصير تطبعه المأساة من جانبيها المادي والنفسي، وهو مصير «س» الذي فقد زوجته فواجه واقعه المؤلم واصطدم بظرفه المتوحد. ويزرع مصير الفقر والتوحد بذلك شرايين الرعشة المأساوية في قصة «الدفن» هذه الرعشات التي نحسها تتحرك وتدب في كل عبارة وصورة، ويساعد تركيب الجمل المتقطعة وارتباطاتها الظاهرة والخفية وإيقاعها المتوتر وصورها النابضة على تثبيت الإحساس العام بفجاعة الفقد ومأساوية التوحد: «لقد شعر أكثر من أي وقت مضى أنه أعزل، وأنه يواجه العالم بلا عون.»

إن هذا الخط لا يكف عن الاستمرار والتوالد عند محمد زفزاف، بل إنه يسلمنا ويمتد بنا في طريق سيصبح فيها هذا الخط والتجربة التي يرسمها أكثر انتظامًا وبنائية، ويغدو، أيضًا، أشد تماسكًا وتمايزًا واحتفالًا بقيم الفكر والحياة، وليتخذ، في النهاية، منهجًا فريدًا في معالجة القصة القصيرة لدى كاتبنا وليعطي للواقعية الجديدة عنده نسفًا ونكهة خاصتين.

كتب فرانز أوكونور في كتابه الرائع «القصة القصيرة، الصوت المنفرد»، كتب قائلًا: «الحق أن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما لها بدلًا من ذلك «مجموعة من الناس المغمورين» هذه الجماعة المغمورة تغير من شخصيتها من كاتب إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، فقد تكون الموظفين العموميين عند غوغول، أو الخدم عند ترجنيف، أو العاهرات عند موبسان، أو الأطباء والمدرسين عند تشيخوف، أو الريفيين عند شيرود وأندرسون وهي دائمًا تبحث عن مخرج.»١٦
ويقول أيضًا: «إن الجماعات المغمورة ليست مغمورة لاعتبارات مادية فحسب، وإنما من الممكن أن تكون مغمورة أيضًا لغياب بعض الاعتبارات الروحية … ويوجد في القصة القصيرة دائمًا ذلك الإحساس بالشخصيات الخارجة على القانون التي تهيم على حواف المجتمع … وإنه ليوجد ضمن الخصائص الغالبة للقصة القصيرة شيء لا نجده كثيرًا في الرواية، إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان.»١٧

توصل أوكونور إلى هذه الملاحظات الأساسية عن طبيعة ومجال القصة القصيرة من خلال دراسة متأنية ومتفحصة لنصوص كتابها الأفذاذ في روسيا وأوروبا والبلاد الإنكلوسكسونية. وكانت أهم ملاحظة استطاع أوكونور أن يصل إليها ببصيرته النقدية الثاقبة هي فرز مجال ومناط اهتمام هذا الجنس، هذا المجال الذي يهيمن عليه ما يدعوه بالجماعة المغمورة. وهي تلك الجماعة الهامشية، التي لا تقف على رأس هرم المجتمع ولا تكون معرضة للإشعاع أو الإبهار، فيمتد إليها منظار القاص ليضعها أمام الإبصار ويخرجها من الظل الذي عاشت فيه طويلًا، يبرزها كقسم هام وفاعل في المجتمع له أزماته ومشاعره الفردية وظروف عيشه الخاصة.

تبدو الجماعة المغمورة وقد احتلت مجال القصة القصيرة منذ ظهورها في القرن التاسع عشر في قصص غوغول، موبسان، تشيخوف، وقد اتخذت مكان الصدارة واستأثرت باهتمام هؤلاء القصاصين جميعًا، وكثيرين من الذين أتوا بعدهم، وبعد أن كانت الرواية تعالج بيئات وأوساطًا مكتملة، مرفهة أو متناسقة في مساحات طولية تحفل بالقضايا الكبرى والمشاغل العظمى للطبقات السائدة والمتحكمة، أي أن الرواية البرجوازية لم تستطع أن تتجاوز هذه الحلقات فتلتفت إلى ما يجاورها، والقصة القصيرة وحدها هي التي كانت قادرة على الالتفات إلى الهامشية، وإلى الفئات المحرومة والعناصر المأزومة في السياق البشري والاجتماعي والعكوف على محنها وأزماتها بالرصد والتصوير والإجلاء، وقد كان ذلك، كما سبق أن أسلفنا في مكان آخر من هذا البحث، مرتبطًا بنهوض الطبقة المتوسطة وبالدور الذي باتت تتولاه في القاعدة الاجتماعية والاقتصادية.

ولقد وعى قلة من القصاصين العرب هذا التوجه الذي اختارته القصة القصيرة، والذي يعد، في العمق، مجالها الحقيقي ومركز اهتمامها، وبدلًا من أن يتعرفوا على بغيتهم الأصلية ويوظفوا أقلامهم ومواهبهم في الموضوع الذي ينسجم مع هذا القالب الفني ويعنيه أكثر من غيره، راحوا يتخبطون ردحًا من الزمن بين مواضيع ومضامين وفئات شتى وليس بالتركيز على الجماعة المغمورة.

وبالنسبة للقاص محمد زفزاف تقدم لنا قصته البديعة «الديدان التي تنحني»١٨ خير مثال وأصلح نموذج للتعرف على مفهوم الجماعة المغمورة وعلى اهتداء القاص المغربي إلى ضالته وتوفير العدة الفنية والفكرية الكاملة لإبرازها وصقلها. فقد استطاع في هذه القصة أن يضع منظومة فنية وفكرية للقصة القصيرة كما اكتملت عنده، بعد أن مرت بأطوار وعثرات عدة. استطاع أن يجد لها عالمها الحق وشخصياتها ونماذجها الحقيقية وأن يصل بها إلى المشارف التي عبر عنها باسكال بقوله: «إن الصمت اللانهائي لهذه الآماد يرعبن.»

هل بوسعنا، مرة ثانية، أن نقدم تلخيصًا أو تكثيفًا ﻟ «الديدان التي تنحني»؟ سنفعل هذا موقنين أن الأمر لا يعدو تقديم العنصر الحكائي، وإلا فالقضية أكبر وأصعب من أن تلخص في سطور.

تعالج القصة وضعية مجموعة من العمال يشتغلون في تعبيد طريق طويلة لمصلحة مقاولة خاصة ويرأسهم موظف شاب. وتتحدث القصة عن الهموم الكبيرة التي تملأ فكر الشاب والخواطر والأحاسيس المتضاربة التي تعتمل في نفسه من خلال الجو العام للعمل وعبر سلسلة من الذكريات التي تسترجعها الذاكرة وتستعيد الماضي حيًّا في الحاضر وتشكل وضعية العمال وذلك من خلال الرصد الملاحق والمتأني للموظف الشاب، الراوي في الوقت ذاته، الجو الثاني في هذه القصة. فحياة العمال وأوضاعهم وآمالهم وآلامهم الصغيرة والكبيرة ترسم وتتوالى من خلال الوعي الحاد للموظف بها، وتعزف على أسماعنا سمفونية حزينة الإيقاع وأحيانًا رثة النبرات. إننا في هذه القصة أمام مجموعة من الرجال البسطاء الهامشيين الذين أتوا من كل فج عميق بحثًا عن اللقمة، وجلهم خلف وراءه زوجة وأبناء، جاءوا ليعبدوا الأرض في منطقة خلاء، منفصلين عن المدينة والحياة، لا يعرفون من المتع سوى كئوس الشاي الحارة والزيارات المتقطعة لبيوت «السيدات» البعيدة قليلًا عن الورش «كانوا ثلاثة عشر عاملًا أغلبهم متزوجين وحتى الذين لم يتزوجوا كانوا في الطريق إلى الزواج أو كانوا يطعمون عائلة كبيرة العدد غالبًا ما كانت تسكن في ضواحي المدينة، في تلك الأكواخ القصديرية القذرة.»١٩ لا يمثل عالمهم أي بعد عميق الدلالة سوى هذا الكدح المتواصل كل يوم لقاء الحصول على بضع دريهمات، لكن هذا العالم نفسه هو ما سيأخذ كل الأبعاد والدلالات على يد القاص، وهو الذي سيعمر بالرؤى والخصوصيات النفسية والفكرية التي تذوب، في نهاية المطاف، في بوتقة واحدة مع ذاتية الموظف الشاب ومع فرديته التي تحاول أن تكون الهيكل الفقري للقصة في مجموعها.

تتكون «الديدان التي تنحني» من بنيتين اثنتين يمكن تسميتهما: بنية الذات وبنية الموضوع. الأولى تتكون عناصرها من حياة الموظف وهمومه وفلسفته الخاصة في الحياة، والثانية تتكون من هذه الديدان التي تنحني، من الصباح إلى المساء، في استصلاح الطريق وتعبيدها. والحقيقة أن البنيتين معًا لا تنفصلان بقدر ما تتبادلان التأثير والاستيحاء إذ تكادان تشكلان بنيانًا واحدًا لا يستقيم إلا بتآزر وتماسك جميع أطرافه.

بنية الذات، هي هوية الموظف الشاب تتمثل فيها صورة البطل ومسار فكره، وهي هوية تحاول أن تفلت من الرتابة والسطحية الاعتيادية وأن تستمد من الحياة، في مجراها الطبيعي، بعض جذورها ومكوناتها: «الحياة هي حيز خاص، حيز؟ ما حجمه وما كثافته؟ لست أدري، ولكن أعتقد أن الحياة هي تلك العلاقة البسيطة أو المعقدة المتشابكة بيننا وبين الناس»، وهي هوية تحاول أن تخترق هذا المجرى وتؤلف من تتابع الحوادث وازدحام الذكريات وتوالد المشاعر موقفًا وانطباعًا ما، ولكنها تنتهي أبدًا إلى الحسرة والإحباط، وهي، في النهاية، هوية ممزقة إذ لا شيء يبعث في نفسها الاستقرار أو يشدها إلى الأرض أو الحياة، إن العمل يظهر بالنسبة ﻟ «السي عباس» على الرغم من حبه له وتفانيه فيه مجرد ضرب من البحث عن مطلق أو نوع من إفناء الذات هربًا من المواجهة الصريحة والمخيفة، وعلى الرغم من أن «سي عباس» يحاول، أحيانًا، أن يربط همومه بالأرض ويلتصق بحياة أسرته حين يتذكر أمه وديكور البيت … إلخ، أو حين ينغمس مع العمال بل ويذوب مظهريًّا في حياتهم ويشاركهم الحلو والمر، رغم ذلك كله يظل محتفظًا بنفسه، وفي غمرة المشاركة الجماعية والوجدانية مع الآخرين، عمال الطرق المجتثين، جزيرة صغيرة في مدى الأرض الممتدة يحصر بها نفسه ويعيش فيها لحظاته الخاصة. إن «سي عباس»، وهو في غمرة الاندماج في الحياة العمالية والاتصال اليومي بحياة البساطة والخشونة والعراء يجسم أيضًا أزمة ابن الطبقة الوسطى ذي الرأس المليء بالأفكار والمشتت بين رغباته ومطامحه الخاصة وبين الواقع الاجتماعي المثير في بؤسه وحرمانه، وهو في زحمة هذا الواقع لا يعرف بالضبط أين يسند رأسه أو كيف يختار لنفسه طريقًا منظمًا يقيه مغبة التيه والضياع. ولذلك فمطلبه في القصة لا يعدو أن يكون مطلب المتعب بلا حرب، الراحة «أريد الراحة» ولا شك أن سؤالًا معلقًا يظل مطروحًا وهو: أي نوع من الراحة ينشده بطلنا المهزوم؟

بنية الموضوع: هي جماعة العمال الذين لا إشكال في هويتهم، والذين لا يعانون أي تمزق أو ضياع أو إحباط، إنهم، فقط، الديدان التي تنحني: «نظرت إلى الطابور خلفي ورأيت أجسامهم منحنية كالديدان»، «قلت لبحري: هيا اعملوا، ودائمًا في نفس الاتجاه، قال نعم، وانحنى ثم صار دودة مثل باقي الديدان الأخرى». هذه الديدان هي الموضوع الحقيقي للقصة، هي أركانها وأساسها وحركاتها وأصواتها وانفعالاتها، بؤسها وكدها، هي العبير الخاص الذي تتضوع به القصة وهو ما يهبها نكهتها ويفردها كعالم مستقل قائم بخصائصه منفرد بأصالته.

تؤكد «الديدان التي تنحني» على القضية التي أثارها ف. أوكونور: الجماعة المغمورة. إنها هؤلاء العمال المجتثين الهامشيين، المنقطعين عن ذويهم وعن الحياة كما تمثلها بهرجة المدينة وصخبها، وهذه الجماعة المغمورة التي أهملها الأدب طويلًا تنطلق عقدة لسانها، وتبرز ملامح وتجاعيد وانكماشات كيانها بروزًا مضيئًا ومشع القسمات، فتظهر لنا وضعية العمال وظروف عملهم وأحوال عيشهم وما تضطرب به نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، كل ذلك منقولًا إلينا، لا ذلك النقل الفوتوغرافي الفاتر والمتصنع، ولكن النقل المنفعل والمتوثب، الحي والمتجدد. وإن قصة الديدان التي تنحني لتكاد أن تكون الوحيدة في تراث القصة القصيرة المغربية، التي استطاعت أولًا، أن تنقل إلينا حياة وعيش هذا القطاع البشري، وثانيًا، أن تسير بمفهوم الجماعة المغمورة في خطه الصحيح وأن تجعل منه مجسدًا حيًّا ومعبرًا أصيلًا عن واقع أناس يلاقون الكثير من الغبن والحرمان والاستغلال ويعيشون حياتهم كلها في عتمة الجهل والمجهول.

إن هذه القصة تنقل هموم هؤلاء الناس المغمورين والمنبوذين لتجعل منها القاعدة وليس الاستثناء، وصورة العالم وليست ظلاله، وهي ليست همومًا فردية، قلقة، مجردة، ولكنها مستمدة من نسغ الأرض متجهة لإرضاء حاجة الإنسان والأرض، ولذلك فكل مشاطرة وجدانية من جانب «سي عباس» الرئيس كانت تظهر متكلفة، أو على الأقل ضربًا من الشفقة، ولذلك نجد أن البطل الحقيقي في هذه القصة ليس «سي عباس» المحبط والخائب في النهاية، ولكنه الإنسان الذي تأكله الأرض ويقتات هو منها ويموت بسببها كما مات أحد العمال في القصة، إنه الإنسان المكدود في انحنائه كالدود، في إنهاكه، في فقره، في السعادة التي يجدها في الشاي، في أحضان «الوليات» إن صوت الجماعة المغمورة يتصاعد في الديدان التي تنحني مثل نشيد ملحمي خارج لتوه من أعماق التاريخ وأعماق الحزن الدفين، وهو يرد اعتبارًا طال افتقاده ويكلل رؤيا تمرغ دمها في الوحل والفزع.

لا يعمد محمد زفزاف في تجربته هاته إلى مباشرة أية وصاية مسبقة أو توجيه متعسف للجو القصصي أو الحدث، بل، وعلى النقيض من ذلك، يضعنا، رأسًا، في مناخ القصة وضمن أحداثها التي تتولد تباعًا أو بالأحرى في السياق الشعوري والفكري للحالات البشرية كما تمثلها وضعية العمال.

تنبثق لحظة الفعل القصصي من سياق العمل القصصي ويتبلور هذا فيها فيمثلان، بعد ذلك، وحدة عضوية يصعب الفصل بينها، إنها وحدة الفعل ووحدة الجو ووحدة الشعور تسود القصة على امتدادها، الطويل، وتتكامل فيما بينها وتتعاضد حتى تكفل للقصة المرامي المتوخاة منها، والتي تتجه إلى نزع قشرة السطحي والظاهر، ظاهر هؤلاء العمال المتنقلين عبر البلاد سعيًا وراء القوت، وإخراج الحقيقة المنسية إلى ضوء الشمس، ضوء الفن الساطع حتى تأخذ تحددها وتتخذ كيانها كجماعة حقيقية، في المحيط الاجتماعي والإنساني العام.

إن «الديدان التي تنحني» تنحت ملامح تكونها الفني وعناصر صياغتها الأسلوبية والجمالية من تراث ضخم للقصة القصيرة من حيث التجربة والرؤية عرفته القصة وحبلت به وتطورت خلاله على مراحل عدة. وهو ذلك التراث الذي يظهرها في إحدى قممها سامقة وقد أطرحت جانبًا مكوناتها الضحلة والزائدة وغدت قالبًا فنيًّا مكتملًا ومتماسكًا يتبنى منهجًا جديدًا في التعبير يساوق مستوى التطور العام للحياة والفنون عامة، وهذا المنهج المتبني لحرارة اللحظة الإنسانية وتقديمها من خلال رصد شمولي لحدث بسيط، عابر، غير جذاب في ذاته، برؤية تستكنه بواطنه وتستخرج خواصه الدفينة وتغني ظواهره البسيطة إلى أن يصبح عالمًا ذا انفرادية عجيبة وذا أبعاد متميزة يرسم إطار الفن الصحيح ويحتضن في الوقت ذاته عصارة الحياة الخالصة، وهذه الرؤية واقعية في مستواها، إنسانية في أبعادها، وهذه هي الواقعية الجديدة في معناها العميق، أي التي يتعانق فيها طرفا الوجود: المادة الطبيعية والبشرية ثم النفس الإنسانية التي ينعكس عليها صراع الواقع وتصدر عنها ردود الفعل إزاءه. والقاص الواقعي الجديد هو الذي يهتبل المادة الطبيعية الخام لكي يصوغ منها رؤيته وتجربته الفذة للواقع والإنسان، التي لا يمكن، وبأي حال، أن تعدلها التجربة المباشرة والحرفية التي تزعم أنها تنقل الواقع وتخلص له، في حين أنها تمسخه وتحذف منه جذره الإنساني الأساس.

(٣) محمد شكري ووجه الواقع المنبوذ

يعد محمد شكري واحدًا من القصاصين المغاربة القلائل الذين استطاعوا أن ينتزعوا لأنفسهم مكانة في مسار الكتابة القصصية، وأن يسهموا في هذا الفن إسهامًا خاصًّا جعله يأخذ ملامح ويكتسب تطورًا زاد في غناه ونمائه، ذلك أن محمد شكري، الذي لم يحترف الكتابة إلا في سنة ١٩٦٦م، يقدم لنا تجربة منفردة بين كتاب جيله أو زملائه من القصاصين المغاربة عامة، وهي تجربة حية ومعاشة تنقل لنا خصائص بينة، وملامح واقع منزو في الاعتياد والنسيان، ومغلف بأستار الفولكلورية، وحجب التاريخ المتبالي، الذي يطبع بصماته على كل ما يمسه فتتحول الأشياء والموجودات إلى معالم باردة وقد مستها يد البلى، وإن كان نبض الحياة ما زال يشع ويصدر عنها.

يتقدم محمد شكري إلى رحاب القصة القصيرة، على خلاف قصاصين عديدين من النساخ والمقلدين أو عديمي الموهبة، حاملًا وعيًا جديدًا ومرهصًا في كتابته بموهبة قصصية وإبداعية، وهي موهبة فنان وإنسان جاءت إليه القصة ولم يسع إليها، وشكلته أكثر مما شكلها، إلى حد أن بات جزءًا من كل ما يكتبه، ومن البداية يتنازل محمد شكري عن كل الأقيسة والالتزامات الفنية والموضوعية السابقة عليه أو التي راكمها العديد من الكتاب، وعمَّا يمكن تسميته بدليل كتابة القصة القصيرة والإبداع القصصي، يتنازل، عن ذلك كله ليتوجه رأسًا إلى عالمين اثنين هما ما سيكون ويظل دائمًا مصدر همومه ومركز انشغالاته الفكرية والاجتماعية والذاتية.

العالم الأول، هو مدينة طنجة، المدينة المفتوحة على البحر والتاريخ، المدينة المنهوكة والمستنفذة، المعطاء دومًا، مدينة التاريخ المستقر ورمز اللااستقرار، فكل شيء فيها قابل أن يتجدد أو يتلف لتوه، وقابل في الآن عينه لأن يرسخ وتمر به الأيام وهو في حاله باقٍ لا يريم في غفلة عن ريح الجدة وعوامل التطور. إنها كذلك مدينة ولود، معطاء، لكنها غير وفية، فالغدر إحدى خصالها الراسخة ولذا فأبناؤها الأصلاء هم أولئك الذين طوح بهم زمنها وألقي بهم على حافة الواقع فرجة للمارة والعابرين في الحياة وفي شوارعها المبهرجة.

هكذا تتحدد صورة طنجة عند محمد شكري وهو يطل على العالم كله من عين هذه المدينة ويتحدث بلسانها ويتنفس من مسامها، وهو معها في صراع لا ينتهي: «مدينة تقتلني أو أقتلها»، يقول محمد شكري في مذكراته:٢٠ وإذا كان لهذه المدينة كل هذا الثقل والأهمية من منظور كاتبنا فلا غرابة حينئذٍ أن تدور قصصه كلها، بل وكل ما كتبه، في جوها وبين أوضاعها وطقوسها وأناسها، ولا عجب بعد ذلك إذا جاءت قصصه تحمل طابعًا جغرافيًّا وبشريًّا لها لا نجد له مثيلًا أو معادلًا في قصص جيل الستينيات، فنحن لا نعرف، في هذا الجيل، قاصًّا واحدًا تحددت رؤياه وتجربته القصصية في مجال واحد أو مناخ محدد كما هو الحال عند محمد شكري. وإن هذا الطابع المحلي، بالذات، والنكهة الخصوصية هي التي جعلت كاتبًا أمريكيًّا «بول بولز» مولعًا بالبيئات المتخلفة والجو العجائبي يعكف على ترجمة كتاب لمحمد شكري يحمل عنوان: «من أجل الخبز وحده»، وهو السيرة الذاتية للكاتب، ويترجمه إلى الإنجليزية، فيلقى صدى طيبًا في أمريكا. إن محمد شكري مخلص لهذه المدينة التي خلقته وعلمته كل شيء، وشدته إليها بحبال لا تنقطع، فما عاد له منها بعد فكاك، وذلك ما تنطق به قصصه وتلهج به جل كتاباته.
أما العالم الثاني الذي يعد محور اعتكاف كاتبنا، فهو ذاته نفسها وتجربته الشخصية وهي تجربة ثرية، إلى حد بعيد، كونتها سنوات العذاب والتشرد، وفترات الحرمان والقهر، طفولة عسيرة وشقية في ظروف أسروية قاسية ومراهقة، ممعنة، أيضًا، في القسوة والضياع المادي، وشباب لا يعرف الاستقرار أو لذاذات العيش وإنما هو فقر مستمر حتى النخاع في مدينة طنجة:٢١ وقد جعلت هذه الظروف كاتبنا يحتك ويعايش أدنى فئات المجتمع أو ما يمكن تسميته، إذا جاز لنا ذلك، قاع المدينة، أي كل ما هو متفسخ، ساقط، شاذ وشنيع، وأيضًا كل ما هو إنساني وبسيط وحامل لبصمات الفراغ والتعطل، لقد دفعت ظروف العيش الضنك والتربية القاسية والفقر المدمر قاصنا إلى هذا القاع فتداخل فيه وتحلل في نسيجه وأصبح ذرة في غباره اللافح، ومن ثم فقد صاغ كيانه من حميا هذا العالم المتردي، والمنبوذ، ثم لم يلبث أن عاد إليه حين امتلك قدرة الكتابة وأداة القص، يستعيده ويمتص من بحره قطرة قطرة ليشكل منه تجربة قصصية ورؤية حياتية تعكس الواقع في أحد جوانبه المنهكة، وتصور الإنسان في أشد نواحيه انهيارًا وتدميرًا.

لقد تولدت المادة القصصية لدى محمد شكري من تزاوج حصيلة الذات وتجارب الشخصية الفردية ومعاناتها ومكابداتها الخاصة، ومن وجه آخر، من المحيط الذي نمت فيه هذه الشخصية وتبلورت فيها مدركاتها وتنامت فيها أحاسيسها تناميًا وتبلورًا متواترًا مع عدد ونوع التجارب التي عاشها داخل ذلك المحيط.

ولم يكُن لمحيط آخَر أن يجتذب محمد شكري أو أن يحظى بعكوفه عليه، فقد كان ذلك هو محيطه الأصلي والحقيقي، وهو الذي امتلك عليه فكره وخياله، وهو الذي ألهب مشاعره واستحث فيه حافز الخلق والتعبير، ومن ثَم جاز لنا أن نقول أن القاص إنما كان يحاول أن يسدد دينًا عليه تجاه الوسط الذي انبثقت منه شخصيته وأن يخرج به من الظل إلى ساحة الضوء والتجلي، إلى مجال التعبير القصصي الموضوعي.

إن محمد شكري، شأن محمد زفزاف، استطاع أن يفلت من دوامة القضايا ذات الطريق المسدود، قضايا الطبقة الوسطى وأزماتها المربكة، التي استغرقت زمنًا ليس باليسير من اهتمام الكتاب المشارقة والمغاربة على السواء وجعلتهم لا يتنبهون لتجارب حية وشخصيات مشعة وإن كان الواقع قد تنكر لها وجعلها على هامشه، بالرغم من أنها خرجت من رحمه وحملت طبعه وصفاته. هذا الواقع وهذه الشخصيات التي تعاني النبذ وتتردى في أقسى وأسوا ضروب العيش، والتي تعاني أزماتها في صمت، إنها هي التي تلخص المحيط الإنسان.

يفي محمد شكري لهذا المحيط ومنه ينبثق مجددًا مفهوم الجماعة المغمورة ليكتسح غيرها من المفاهيم، ويصبح الجاذبية الأولى لمخيلة القاص وعالمه القصصي. وخلافًا لمحمد زفزاف، الذي أكد أكثر من أي شيء على أحاسيس الوحدة والانفعال والعزلة في إطار إنساني أو يفترض أنه كذلك من خلال أحداث ولقطات جانبية وفردية تعزف على وتر التوحد والاستيحاش في الوقت ذاته الذي تعالج فيه الموضوع الدلالة الاجتماعية والواقعية، خلافًا لذلك، فإن محمد شكري لا يجعل هذه الأحاسيس هي محور تجاربه القصصية ولا يعطيها الأولوية في سلم اهتماماته، حقًّا إنها جزء من السياق العام للخلفية النفسية للأبطال والخلفية الفكرية للأحداث والتجربة، ولكن غيرها هو ما يأخذ حصة الأسد من نصيب القصة ويكون مصدر إيحائها وتعبيرها.

ذلك أن الجماعة المغمورة التي يرشح محمد شكري نفسه للتعبير عنها تجاوزت الوحدة أو الانفصال لتهبط إلى المأساة وتصبح وجهًا من وجوهها، بل جزء لا ينفصل عنها، إن الوحدة، بالنسبة إلى أبطاله، جسر ومعبر لا تجمد فيه وإنما يحملها مصيرها الموئس إلى أغوار المأساة لتستقر فيها، ثم لتتنفس بها ومنها وأن تشع فيها إشعاعات بارقة ما يمثل كيانها ووهم وجودها. وحين تخبو في آخر رحلة العذاب فإن الوجود القاسي والواقع المطروح وزمن الغبن يكون قد أطبق عليها إطباقة نهائية وأسلمها إلى السكون الأخير ويكون الزمن قد نفذ فيها حكمه الذي لا رجعة فيه بعد أن تركها، فترة، تتردى بين جحيم الغبن الاجتماعي وجحيم الذات التي انفصلت عن شروطها واجتثت من جذورها وباتت تهوم وتتعلق بأهداب ذكريات وأيام ولت وأدبرت.

وتتم المعالجة القصصية عند محمد شكري بمحاذاة الأحداث والأبطال وبالتصاق شديد بإطار التجربة ومناخها العام. فالقصة تولد من هؤلاء الأبطال وتمتد خيوطها ونسيجها من أوضاعهم وتنمو مع نموهم وحركتهم نموًّا بطيئًا تارة وسريعًا تارة أخرى وفق ما تتطلبه الحالة الشعورية أو المادية المرصودة.

إن الواقعية الجديدة عند محمد شكري، إلى ما ذكرنا، تكتسب سمة الحياد الإيجابي إزاء الواقع المرصود. ويعد هذا الحياد معلمًا بارزًا من معالم التجربة الفنية للقاص. فعدسته لا تترك شاردة أو واردة مما له ارتباط عضوي بالقصة، وما من شأنه أن يغنيها ويغذيها إلا والتقطته وأبرزت هيكله وأطرافه وأمدته بقدرة النقل والتصوير جاعلة فنه ساطعًا سطوع المرآة، مشفًّا شفافية ما بعدها من نصاعة وجلاء. والقاص لا يحلو له أن يقحم نفسه ذلك الإقحام المشوش أو المضطرب ولكنه يجعل بين ذاتيته والأحداث التي تجري إزاءه مساحة محددة تترك له القدرة على رؤية الأشياء في حجمها الطبيعي، دون تزيد أو تضخيم، وعلى رسم الحدث وتطويره وضبطه، لا وفق هواه الخاص، ولكن على أساس من القانون الداخلي، إذا جاز قول ذلك، الذي يتحكم في مضمون التجربة والأرضية الفكرية والنفسية لها.

ومثل هذه المعالجة كنا نفتقدها، فيما سلف من النماذج القصصية التي كانت تستلهم الواقعية مادة ومنهجًا، أو بالأحرى تحاول فعل ذلك دون أن تدرك مبلغها وتنال قطافها، فظلت محصورة في نطاق استقطاب الواقع والحدث المرصود استقطابًا تراكميًّا، وليس كليًّا، مضيعة الجزء والكل معًا في حين أن الواقعية لا تبلغ التحديد والتنضيد الشمولي إلا فوق قاعدة الحدث أو العنصر الفكري أو الوجداني المستلهم والمستبطن بعمق وأناة، وبتفحص واستكناه، متخذة الأدوات التقليدية ذاتها، ولكن بعد أن تكون هذه قد شحذت شحذًا جديدًا وصقلت صقلًا جيدًا لتلائم المادة التي ستعالجها وتتهيأ لها القدرة على إبراز عمقها وظلالها.

إن الأدوات الفنية المستخدمة في النهج الواقعي الجديد تمثل قسمًا أو في من هذا النهج، بل لعلها هي التي تنجح في جعل الموضوع أو اللحظة المرصودة متمثلة تمثلًا جديدًا، ومتوفرة على طاقة الدلالة والإيحاء. وتمتلك القصة القصيرة عند محمد شكري هذه الطاقة، ولا تقف عند حدود استعمال الوسائل التقليدية، بل تتخطاها لما هو أكثر جدة ونضجًا وتبرز لدى شكري، وإن بدرجة أخف وأقل من زفزاف، كما ذكرنا، مقدرة الرصد الصريح، والمواجهة المباشرة مع الفعل أو الحدث القصصي وتقديم للشخصية واستنطاق لها ينبع من صميمها واستخدام للأسلوب السردي بصورة تبعده عن الملل وتتنكب به سبل الرتابة والتكرار أو الوصف المسف أو الملول مما يضفي على القصة جوًّا من الانفتاح والشفافية ويوفر لها عناصر الحركية والانتقال الحيوي والتدريجي ويهبها من ذاتها ومن مكوناتها الخاصة مميزات القصة القصيرة ذات الأساس الاجتماعي والدلالات الإنسانية المفتوحة.

(٣-١) نموذجان لوجه الواقع المنبوذ

العنف على الشاطئ٢٢

«كنت أجلس على رصيف مقهى «سنترال» كان وضعي مسترخيًا. وكانت لامبالاتي بالمارة تهدئ أعصابي. قال لي أحدهم ذات مرة: ينبغي لمَن يريد أن يكلمك وأنت هكذا، أن يهزك من كتفيك لكي تتنبه، كان نصفي الأسفل يحترق في الشمس … وضع النادل كوب الشاي على طاولتي، وحذرني بخفوت:

– إنه يحوم حولك، فلا تهتم به، يطلب جرعة شاي، وإذا لم يعطها يطلب النعنع ليمتصه حين يفرغ الكوب.

– من تقصد؟

– ميمون.

والتفت النادل إلى ناحية ميمون يستند إلى جدار فندق بسرا.»٢٣

يخترق القاص زحام الواقع واللحظات المتراكمة والوجوه والأشياء ويلقي ببطله، دفعة واحدة، دون تطويل أو تسويف، في عباب الجو الذي يتحرك فيه. يجلس الراوي في زاوية الرصد، في المقهى، ومن هناك يشرع في عمله، مراقبة «البطل الحقيقي» وافتتاح طقوس الدخول إلى عالم التغرب والإحباط والأطوار العجيبة، إنه عالم يظهر مثل الوهم أو الغيبوبة، ولكن، وهذا هو بعض سر القصة، جزء من عالمنا الذي نفض عنه الطرف ونخال أنه هامشي في حين أن تورماته تطفح فوق جسد المجتمع وجلد البشرية. إنه «ميمون» الذي يصفه الراوي بأنه «يعاني مزيجًا من الجنون المبكر وبارانويا الاضطهاد» حين يسمعه يصيح: «قنابل، قنابل خضراء … السكين، السكين والدم، موتى، موتى وهم أحياء». ميمون هو البطل الذي ستتبع «العنف على الشاطئ» أطواره وتتفحص مزاجه، وتكشف من خلال استبار شخصيته العجيبة، نمطًا بشريًّا في مجال حياتي معين، فتنكشف في ذات الوقت ملامح جانبية لا تعدم أهمية.

ولعل أول ما يلفت الاهتمام في هذه القصة هو أن الراوي — البطل من جانب آخر وميمون «البطل» الحقيقي، يكادان يرتبطان برابط ما، فهما، معًا، يعيشان عزلة خاصة وانفرادية متميزة في الزحام الاجتماعي، وإن كان «ميمون» بادي العاهات مكشوف اللوثة فإن الراوي البطل يعاني بدوره مشاعر شتى ويقلب أفكارًا لا حصر لها في ذهنه، وإن كان يعانيها في صمت مطبق بينه وبين نفسه. ومن هذه الوضعية شبه المشتركة ينبثق الترابط، الذي ليس عضويًّا، على أي حال، بين البطلين معًا ويصبح الأول ضميرًا للثاني وعقله الواعي، في حين يمثل ميمون الغيبوبة الدائمة والارتداد على الذات ورفض العالم الخارجي الذي لا يعطي سوى الحرمان الانشداد إلى ماض ولى وخلف الحسرات، والذكريات الباهتة، التي تظل جسر العبور إلى الزمان والمكان: «منذ سنوات قليلة كنت أراه عاقلًا، كان دليلًا، وكان يتفاهم مع السياح بلغات كثيرة. وسمعت أنه واحد من أحسن المرشدين في طنجة عندما يتكلم الإنجليزية. وكان ذات يوم على مقربة مني يقص على بعض أصدقائه مغامراته في إيطاليا والبرتغال وإسبانيا بأسلوب مهذب … ولعدة أشهر كان يرى دائمًا محيطًا ذراعيه بخصر شابة قيل لي إنها أسترالية، ورأيته لآخر مرة يعمل في متجر للصناعة التقليدية. وطرده صاحب المتجر لأنه كان يخيف السياح ويجعلهم يندهشون، فيستعجلون الخروج دون أن يشتروا شيئًا.»٢٤
هذا هو ميمون، وذاك ماضيه موجزًا في كلمات، لكن الحاضر هو التلف الفكري والذاتي، هو انقطاع كل آصرة بينه وبين المجتمع وتحوله إلى فضلة زائدة ومروعة تلقى السخرية والازدراء، لا يعيش على شيء سوى على أمل الرحيل إلى أستراليا ليلقى حبيبته الضائعة، ولعل الهجرة هنا هي مطمح كثير من عاطلي ومشردي البلدان المتخلفة، ولعلها حلم الهروب من واقع البؤس والضنك، وربما كانت بالنسبة لميمون استرداد هويته الضائعة في أيام الحب والمغامرة، ويرصد القاص بعض المشاهد التي تظهر خروج ميمون عن طوره وانصرافه إلى جنونه الخاص. وحين يتعب من كل ذلك يتوجه إلى البحر، وللبحر أن يكون وجودًا ماديًّا أو يكون المطهر والنقاء، وليكن في الصيف هو الزحام البشري من جديد، وهناك يشعر «ميمون» بذات النفور والاشمئزاز من طرف الآخرين يطارده ويلح على تقليصه في حين يسعد هو بذلك: «لقد كان انهزام الآخرين يسعده»٢٥ كان عليه أن يغطس في البحر وأن يغتسل، ربما من «أدرانه» التي كبلها به الآخرون، ثم يرتمي على الرمل ويغفو وحين يستيقظ يهده صداع قوي في دماغه، ويشعر بدوار في رأسه، ومثل بطل ألبير كامي في رواية «الغريب» الذي يصاب بضربة شمس ويقدم على قتل «العربي» في الشاطئ، كذلك يفعل «ميمون» حين يبصر على مقربة منه، في مكان شبه خال من المصطافين، امرأة مثيرة، فيرتمي عليها بعد أن تفرقعت في جسده قوة الجنس. وكان جوابه على القامات التي هرولت نحوه هو «اتفو» وربما على العالم كله «وتلفت إلى البحر فإذا هو حنين قديم ينبعث فيه، ويندفع … وكان ميمون يبتعد ويحتمي في رحم أمه.»

بهذه الكيفية يتخلص القاص من بطله ويتخلص البطل من نفسه، ويمكن لكل شيء أن يبدأ بعد ذلك، فالقصة لا تنتهي لأن العالم يظل مفتوحًا لضروب أخرى من النماذج والحالات التي تخرج من رحمه وتلدها تناقضاته وأزماته.

«العنف على الشاطئ» نموذج واحد من نماذج متعددة لعالم الغرابة والعجائبية Exoticism الذي يولع به محمد شكري ولعًا شديدًا، والذي يعبر من خلاله عن رفض حاد للحياة في مظهرها العادي، ونماذجها الفاترة وسيرها الحثيث الخالي من الشذوذ والمفاجأة، لكن هل يعني هذا أن الكاتب يقترح علينا هذا النمط البشري كبديل لكل الأنماط الأخرى التي تأكل الخبز وتمشي في الأسواق؟ وهل يمكن للكتابة القصصية أن تكون واقعية، بالمعنى الموضوعي للكلمة، بإطراحها لموضوعية الواقع وتبنيها لنماذج منبوذة وهامشية فيه؟

قبل الإجابة على هذين التساؤلين لنا أن نتناول قصة أخرى تؤكد، ثانية، على الاختيار القصصي وتلقي الضوء على عالمه القصصي.

العنف وبقول الأموات.٢٦

تؤكد قصة «العنف وبقول الأموات» للقاص محمد شكري على الخط ذاته الذي سار فيه في قصته المعالجة أعلاه، وتزيد بأن تكمل بلورة المعنى واستكمال المنهج الفني والرؤية الفكرية والواقعية لديه. وهي رؤية تتكون من رفض الصورة المنسجمة للواقع وتجاوز الشخصيات النمطية السابحة على أديمه من أجل الانتقال إلى صورة أكثر تشوشًا واضطرابًا، أي إلى الجناح الذي ترتع فيه الفوضى وتضببه المأساوية التي ينسج رداءها شخصيات منبوذة ومرفوضة من واقعها، لما هي عليه من شذوذ صنعته الحياة نفسها.

تقدم لنا القصة شخصية جديدة هي شخصية «بشير» أو الشخصية المضادة، شخصية لا تملك من الحاضر إلا ما يعذبها ويؤسيها وتجد في الماضي كل عنفوانها وثرائها، شخصية منقسمة زمنيًّا، مشطورة على نفسها بعد أن عصف الزمن بمجدها وجعلها تعيش على بقول الأموات.

يستغل محمد شكري العنصر الحكائي ويلح عليه في سرد قصته حتى لنخالها أحجية أو قصة تقليدية جدًّا غرضها الأخبار والأخبار مرة أخرى عن طريق التشويق، ويسرد علينا قصة بشير الذي كان ثريًّا في فترة من حياته، بعد أن ورث ثروة كبيرة: «وحصل على الحماية الإنجليزية، وحجز غرفة في فندق سيسيل، وأخذ يهدد الناس بإطلاق النار عليهم، لكن من يعرف منهم كيف يتملقه يمنحه بعض المال …» شخصية أصيلة من جلد طنجة ودمها، ولا يمكن أن تكون سوى طنجة وحدها المجال الحيوي الذي تنبثق منه نماذج شكري وتتحرك فيه، وهي القادرة على صنع القوة وطمسها في ذات الوقت، لأنها حقيقية ومزيفة، صاعقة وحربائية، وأصبح بشير مشهورًا: «حتى الطفل الصغير أصبح يعرف من هو بشير. وفي النهار يأتي إلى السوق الداخلي ويسلم زمام جواده إلى أحد المتسابقين على خدمته، يدخل مقهى سنترال، وإذا رأى هناك من يعرفه يقهقه معه لحظات بصخب وهو واقف كمليونير ثم يجلس وحيدًا والوجوه تندهش نحوه! يخرج ورقة جنيه إنجليزي أو دولار أو مائة بسيطة أو ألف فرنك، وكيس التبغ، ويلف سيجارته في الورقة الماية»٢٧ ثم إن بشيرًا «استمر في رفاهيته حتى قبل الحرب الأهلية الإسبانية، وذات ليلة رأوه نائمًا على عتبة متجر «جران باريس»، وأدرك الناس أن بشيرًا أفلس»٢٨ ويأتي إفلاسه ليكون نقطة التحول في حياته، فينعطف شطر الغرابة والشذوذ عن الناس والنفور منهم منتقمًا من الحياة والآخرين، يأكل بقول الأموات: «اكتسب عادة الذهاب إلى المقبرة، فيقطع منها بعض البقول ويطبخها مع الطعام على رمل الشاطئ في الليالي التي تذكره بكل شيء … فهو يعتقد أنه ينتقم من البشر حين يأكل بقولهم، لقد خسر بداية حياته، فلا شيء يهمه حين يخسر نهايتها، إنه ليس آسفًا على شيء، لأن العادات التي ألفها قد شاخت معه، إلا أن يثأر بعنف.»٢٩

ذاك هو بشير، الذي لم يعد له سوى بقول الأموات طعامًا وانتقامًا، وإذا كانت الحياة قد فتحت له ذراعيها ذات مرة وانكفأت ضده مرة أخرى، فليس له سوى أن يكيل لها الصاع صاعين فيرفض أناسها ويقتات من أجداثهم، بملء الحقد والكراهية، ويرفض الموت ويطرده حين يغمى عليه ويحسبه الناس قد مات وهم إنما يظهرون أمنية في نفوسهم فيتجدد بينهم حيًّا، ويحمي القطط بعد أن نبذ الإنسان، وليدفنها في قبورهم بعد أن دفنوه حيًّا في تنكر الحياة ونبذها وهو: «ليس لا طيبًا ولا سيئًا، إنما هو لا يؤذي أحدًا فقط وهذا يكفي لتعامله كإنسان — ولكنه شاذ — كلنا هؤلاء الشواذ ولكننا نتفاوت». هكذا يفكر بعض الناس الطيبين فيه، ولكنه لا يأبه بعد أن خسر كل شيء، وحتى لو عيروه ﺑ «يا بائع الأموات يا آكل بقول المقبرة، يا من يشتهي الأولاد، يا حامي القطط، يا آكل الدجاج الميت» فإن هذا لا يزيده إلا انفصالًا عنهم.

بشير، إذَن، هو الشخصية المضادة التي يقدمها محمد شكري لواقع زائف ومتنكر تمثله مدينة طنجة شخصية رافضة ومنفصلة تمثل عنفوان الحياة وغرابتها وشذوذها، وهي سمات ومعاني علق بها القاص نفسه وهي، لذلك، تجسم بالنسبة إليه المعاني الحقيقية للشخصية البشرية المتحفزة والنافرة في محيط راكد ومتواطئ ويقدم من خلالها رؤيته الواقعية المتميزة التي لا تهتم إلا بما هو مشين ونافر عن السياق العام للطبيعة.

وشخصية «بدري» في «العنف وبقول الأموات» الذي يقدمه القاص كملاحظ وراصد للتطور الذي يلحق «بشير» لا يقف في الحدث القصصي موقف المحايد ولكن القاص يدفعه في زحمة تسلسل الحدث وينقل إليه بعض ذكرياته ووساوسه فيتحول إلى ما يشبه الذاكرة الواعية لذاكرة بشير الواعية أو الصوت الموضوعي لذات بشير الهائمة وروحه الشاذة، وهو من نحو آخر يتقدم إلينا كشخصية فنية مستقلة تحمل همها ولواعجها الخاصة وتتحرك فيها ذكريات ماض دفين تلتقي مع ما تشاهده من ممارسات «بشير» المركزية: «تأمل بشير الحفرة لحظة، ثم أخذ جثة القط، وأودعها برفق، وبدأ يهيل التراب فأحس بدري بقلبه يخفق بنفس عمق الماضي الكئيب: «إن التراب يهال على جثمان أخي»٣٠ وتكونت ربوة فراح يسويها بيديه: «كذلك رأيت أبي يفعل بقبر أخي»٣١ ولم ينتبه بشير حتى لبدري الذي يراقب ما يحدث: «إن كل شيء يذكر بدفن أخي، الذي لم يستغرق طويلًا»٣٢ نفس المدة التي تكفي لدفن حيوان صغير، إن جثة القط تختلط الآن برميم أخي، وغدًا ستنمو هناك (بقول الموت المشترك) وظلت الأمطار تتساقط بعنف، ولكن بشير ينتصر على الناس والأمطار.»٣٣
إنريكو (أحد أبطال القصة)، أو الموت المتجدد، يعطي بعدًا ثالثًا لحركية القصة ورؤيتها الموغلة في الغرابة والانفصال. إنريكو تنبثق شخصيته من سياق الحدث، ومن لحظة تذكر لتزيد قصته الصغيرة المنبثقة عن القصة الكبرى في توضيح الموقف القصصي العام ولتجسد الفكرة التي عبر عنها القاص مباشرة، ولعلها انفلتت منه، وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك: «إن الصمود يقهر حتى الموت الذي هو الزمن الحي.»٣٤
إن إنريكو هذا يدفن ويهال عليه التراب، لكن دبيب الحياة سرعان ما يسري فيه ويخرج من قبره ويسير في الشوارع فيدب الفزع في الناس، ويرفضون فكرة حياته من جديد، وبالفعل، فإنه يكون قد مات موتًا نهائيًّا عندهم، شأن بشير حين أغمي عليه وأسقطوا عليه رغبتهم في موته: «رأيت بعضهم يغمى عليهم ولا بد أنه اصطدم ببعضهم من غير أن يؤذي أحدًا، فأية أفكار تخطر لإنسان يقوم من الموت؟ من المحتمل أنه خائف مثلهم. ولكنه ليس مطاردًا من أحد، الخوف يطارد الخوف، يا لمهزلة الإنسان … إنه خوف الخوف، عملاق اللامعقول الذي لم يتعود الناس بعد على رؤيته، ويوم يتعودون فلن يخافوا من استغماية الموت الذي يمرح في أعماقهم كطفل أهوج.»٣٥

إن فكرة الموت التي تظهر وسواسًا عند محمد شكري ليست إلا الوجه الثاني للحياة، وبالتالي آنها «الزمن الحي» ولذلك فهذا الانشغال ليس انشغالًا ميتافيزيقيًّا، ولكنه جزء من تعلق رؤية القاص بالحياة وانجذابه إلى أكثر وجوهها تعقيدًا وغرابة.

وتتخذ التجربة الفنية في قصص محمد شكري، وفي هذه القصة بالضبط، سمات من النضج والخصوصية هامة، فالقاص يعتمد العنصر الحكائي التقليدي حتى يجعلنا نخال أنه من طراز القصاص الأوائل، فهو يكل مهمة سرد قصته إلى راو شأن القصص المبكرة في هذا الفن، وهو يستعمل السرد التقليدي في سوق أحداثه ومعالجتها وتطويرها، ولكنه، في ذلك كله، متنوع ومتجدد، فهو، أولًا، لا يبغي الحكاية لذاتها، أو لما ستثيره من خيال أو وقائع، ولكن لتكون شاهدًا على واقع وأرضية لرؤية في الفكر والحياة، يستشف منها المغزى وتغنى بالدلالات، وهو، ثانيًا، حين يعتمد السرد لا يجعله أخبارًا أو رواية مملة، ولكنه يمزجه بصورة الواقع الحي، فيمتزجان معًا وتنضم إليهما مخايل الشخصية وأحاسيسها فيزرع فيه، أي، في السرد، روحًا جديدة تهبه، كأداة فنية، قدرة على الإقناع ما لها من مزيد، خاصة، والقاص لا يكف عن التنويع داخل السرد نفسه فلا يجعله مرتبطًا بزمن واحد، بل تتعدد الأزمنة فيه ويتكرر الانتقال من الحاضر إلى الماضي ثم من هذا إلى ذاك في عملية موحدة ومتآلفة دون تقطع أو ارتباك في تسلسل الحدث وترابط الموقف، إن الماضي يؤتى به، لا كذكرى مستعادة قسرًا، ولكن يرد وفق نسق فني محكم يجعله يندمج في صميم الحاضر ليغنيه ويؤكد معناه ويضيف إليه ظلًّا.

ومن باب التعدد هذا نجد التعدد الذي يلحق الشخصية في القصة الواحدة، فهناك، أولًا، بطل مركزي ومنه تنطلق القصة ومعه تتوقف وإلى جواره شخصيات يؤتى بها لا لتستقل بذواتها، ولكن لتكون امتدادات وتشعبات للبطل والفكرة المحورية، وهذا دون شك، عنصر فني له قيمته البالغة، وتعدد الشخصيات هذا سيصبح في قصص المرحلة الأخيرة من الستينيات نهجًا فنيًّا متبعًا من لدن جل القصاصين في المغرب، وهذا النهج عندهم جاء في اعتقادنا من تأثرهم بالتقنية القصصية المتطورة التي تجزئ العمل القصصي إلى أكثر من وحدة في نسق معماري متكامل، كما تنظر إلى الشخصية من أكثر من زاوية، فتكشف عن عدة من جوانبها وارتباطاتها العديدة، وقصص تيار الوعي٣٦ عند «جيمس جوسين – بروست» وغيرهما خير مثال على هذا.

وهناك أيضًا تعدد مستويات التفكير، وهو أمر يعطي القصة طابعًا تركيبيًّا وينقلها من صعيد النظرة الأحادية إلى صعيد أكثر تعددًا وخصوبة، الشيء الذي كانت تفتقده وتسعى إلى الوصول إليه لتتخلص من مباشرتها وضحالتها وخفتها في ميزان الفن والفكر معًا. وإن هذا التعدد في مستويات التفكير هو جزء من النهج الواقعي الجديد لدى محمد شكري، كما رأيناه لدى محمد زفزاف، وهو ناجم عن ميل إلى النظرة المتفحصة والتفكير الكلي الذي يعمد إلى استقصاء كل الأجزاء واستخلاص الرؤية الشاملة في النهاية.

إن القصتين السابقتين اللتين عالجناهما لمحمد شكري، واللتين اتخذناهما نموذجًا لفنه القصصي، مقتصرين عليهما لاحتوائهما خصائص التجربة القصصية للقاص وتضمنهما أدواته وصيغه الفنية والفكرية، وقفتا بنا عند شرائح بشرية واجتماعية من طراز خاص، وصفناها بالشذوذ عن الواقع والانكفاء على الماضي ورفض الحاضر بالتوجه نحو العنف كبديل، مرر القاص من خلالهما فلسفة خاصة وموقفًا من الحياة والمجتمع يتمثل في الانجذاب إلى سحر العجائبية واقتناص الشاذ والانكفاء على الهامشي وإعلانه فوق سطح الحياة. ومحمد شكري، بعد ذلك، يجعل من نفسه ذاكرة للمدينة كما يراها هو، والشخصيات والأجواء التي ينقلها هي المخلوقات الحقيقية وسواها عديم الوجود والتجربة، وإن كان لا يجعل منها بديلًا، بقدر ما يسعى ليكتشف، من خلالها، عن وجهة نظر وموقف تطبعه السخرية حينًا والرثاء حينًا آخر، ولعل في هذا بعض الجواب على سؤال أول كنا قد طرحناه آنفًا.

أما الجواب عن السؤال الثاني فكامن في أن نهج الغرابة والالتفات إلى الأجواء المنسية هو اختيار فكري، أولًا، وموقف من المجتمع، ثانيًا، ومتى أمكن الوصول إلى إبراز هذا الاختيار وتجسيمه فنيًّا، ومتى توصل القاص إلى سبر أغوار النموذج وإلحاقه ببيئة محددة وجعله قطعة من مرآتها الكبيرة، متى تعين ذلك فإن القصة القصيرة تسلك في سلك الواقعية، وحين تتضمن وجهة نظر جديدة مصبوبة في قالب قد أعيد سبكه وصقله فإنها تتجاوز، حينئذ، ذاتها لتهفو لما هو أبعد، أي أن الرؤية، في هذه الحالة، تتحدد محتوى وصياغة وتغدو شيئًا جديدًا تمامًا.٣٧

هوامش

(١) صدرت له عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق سنة ١٩٧٠م وهي تضم قصصًا نشرت قبل ذلك في مجلات مختلفة.
(٢) مجلة الآداب البيروتية، يونيو ١٩٦٨م.
(٣) مجلة «المجلة»، أغسطس ١٩٦٩م.
(٤) مجلة «المجلة» القاهرية، أغسطس ۱۹۷۰م.
(٥) الموت وما بعده، مجلة الآداب البيروتية، يونيو ١٩٦٨م.
(٦) الموت وما بعده، مجلة الآداب البيروتية، يونيو ١٩٦٨م.
(٧) المصدر السابق.
(٨) المصدر السابق.
(٩) المصدر السابق.
(١٠) المصدر السابق.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) مجلة «المجلة» القاهرية، أغسطس ١٩٦٩م.
(١٤) المصدر السابق.
(١٥) المصدر السابق.
(١٦) فرانز أوكونور، الصوت المنفرد، ترجمة د. محمود الربيعي، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١٠.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) مجلة «المجلة»، أغسطس، ۱۹۷۰م.
(١٩) المصدر السابق.
(٢٠) السيرة الذاتية لمحمد شكري وتحمل عنوان: «من أجل الخبز وحده» مخطوطة، وقد طبعت في الولايات المتحدة بالإنكليزية والنص العربي لم يظهر بعد (من المترقب أن يصدر عن دار الآداب ببيروت).
(٢١) ملاحظة: تتيح المعرفة الشخصية للدارس بالكاتب قدرة أكبر على تفهم النص وتقييم التجربة ككل، وقد عرفت محمد شكري، كما عرفت كتابًا آخرين، واستمعت إليه ووعيت الكثير عن حياته، مما يجعلني في هذا المضمار استند على بعض هذه المعرفة، وإن كان الاحتكام، في الأساس، يعتمد النص أولًا وأخيرًا.
(٢٢) الآداب البيروتية، نوفمبر ١٩٦٦م.
(٢٣) الآداب البيروتية، نوفمبر ١٩٦٦م.
(٢٤) المصدر السابق.
(٢٥) المصدر السابق.
(٢٦) الآداب البيروتية، سبتمبر ١٩٦٧م.
(٢٧) المصدر السابق.
(٢٨) المصدر السابق.
(٢٩) المصدر السابق.
(٣٠) المصدر السابق.
(٣١) المصدر السابق.
(٣٢) المصدر السابق.
(٣٣) المصدر السابق.
(٣٤) المصدر السابق.
(٣٥) المصدر السابق.
(٣٦) «هذا اصطلاح جديد في عالم الأدب، أطلق على صورة من صور الفن القصصي وخاصة ما نحاه بعض كتاب القصة النفسية. فنجد في القصص خلودًا إلى الذات وتجاوبًا مع الأفكار والخلجات المتتابعة الداخلية التي تسترسل وليس للأحداث أو المحفزات الخارجية أهمية ذات شأن كأهمية هذا التيار المنساب الذي يبنى على الخواطر وتداعيها وتعلقها قد لا يكون للمنطق فيه نصيب أو للتسلسل المألوف في الحياة اليومية أثر كبير.
… ويعتبر جيمس جويس (۱۸۸۲–١٩٤١م) من أشهر الأعلام الذين أسهموا بهذا الفن، وقد وصل الذروة بقصته الشهيرة يوليسيس التي هزت العالم الأدبي عند ظهورها أول مرة بباريس عام ۱۹۲۱م. ولم تمضِ مدة قصيرة حتى أصبحت محور كثير من القصص. وتعتبر الكاتبة القصصية الإنجليزية فرجينيا وولف وكذلك القصصية دورتي ريتشاردس من أشهر المتأثرات بأدب جويس وفنه». د. ناصر الحاني، المصطلح في الأدب الغربي، دار المكتبة العصرية، بيروت، ١٩٦٨م.
وانظر أيضًا:
د. طه محمود طه، موسوعة جيمس جويس، ط١، وكالة المنشورات، الكويت ١٩٧٥م، جيرمين بويه، مارسيل بروست والتخلص من الزمن، ترجمة نجيب المانع، منشورات وزارة الإعلام العراقية، بغداد، ١٩٧٧م.
(٣٧) القصص المدروسة لمحمد شكري، ونماذج أخرى غيرها، صدرت مؤخرًا، عن دار الآداب البيروتية في مجموعة قصصية تحمل عنوان: «مجنون الورد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤