الفصل الخامس
اتجاه الواقعية الجديدة
معنى الواقعية الجديدة.
النهج الواقعي الجديد في قصص خناتة بنونة.
أبعاد ثلاثة لأدب اسمه البوح والاحتجاج.
الشكل الفني: الصوت والصورة.
***
(١) معنى الواقعية الجديدة
إن من أهم السمات والخصائص الرئيسية التي تحكم الفن عامة، وتلتصق به على امتداد مسيرته الطويلة في حياة الإنسان، هي قضية التبدل وروح التغير الدائم الذي يدب إليه ويلحق أسسه وقوالبه.
فالفنون والأشكال التعبيرية المختلفة التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ وعبر المراحل المختلفة لنمو وتطور الحضارات والمجتمعات لم تجمد بتاتًا عند صورة واحدة ولا انحصرت في مقاس أو لبوس منفرد، وإنما كانت تنتقل من حال إلى حال وتسمو في مدارج النمو والنضج وترتفع في مراتب الصقل والتهذيب تارة والجدة والاكتشاف تارة أخرى، مساوقة، بذلك، إيقاع التطور العام للإنسان، منسجمة مع قانون المجتمع وسنة الطبيعة، وذلك بوصف الفنون جزءًا من عملية تطور واحدة ثقافية، عضوية، واسعة وشمولية، لا تقبل التجزئة.
وقد حسم الواقع التاريخي للفنون وفعل التطور الملموس الذي عرفته عبر مختلف الأحقاب والأجيال هذه المسألة حسمًا نهائيًّا، ولم يعد بين النقاد أو الباحثين من يماري في هذا الشأن أو يتردد في قبوله، بل إن النزعات المحافظة والاتجاهات الجامدة لم تعد تجد لها الرسوخ والصدى الذي كانت تلقاه في عالم أصبح التغير سمته الأولى والصورة المهيمنة عليه.
إذا كان هذا هو الحال بخصوص الفن في عمومه، فمن البدهي أن يكون الأمر شاملًا بعد ذلك، أو تبعًا لذلك، للمدارس الفنية، والأدبية العديدة، ومن الأكيد، أيضًا، أن يكون هذا القانون الأول الذي يضبط ويوحد حركة سيرها ومنعطفاتها.
ولقد عرفت القرون الثلاثة الأخيرة أكثر من مدرسة أدبية وأزيد من نزعة فنية، فمن تيارات تنتمي إلى العهد الإقطاعي وتدين بالولاء لقيمه ومثله، إلى أخرى تولدت مع عهد الأنوار وعهد التجديد الفكري والمطالبة بتحرير الفرد وانعتاق القيم والكرامة الإنسانية. لقد عبرت الرومانسية عن نزوع الانعتاق هذا ومجدت الذات الفردية وأخذت تدفع الأدب نحو أبواب لم يطرقها من قبل. ثم جاء المذهب الواقعي في الأدب، والفن عامة، والذي اتجه إلى رصد صورة الواقع الجديد الذي وجد موازيًا للثورة الصناعية الجديدة والعوالم التي خلقتها وللطبقات والفئات الاجتماعية التي كانت مغمورة، وشرعت تأخذ مكانها في المجتمع الجديد.
لقد أصبحت الواقعية، ابتداءً من القرن التاسع عشر، هي الباب الواسع الذي دخل منه كثير من الكتاب والفنانين والقصاصين إلى عالم الواقع الاجتماعي، في بساطته وتعقيده، في بهرجته وتواضعه، واتخذوها مذهبًا لرصد أوضاع الطبقات الجديدة التي تولدت مع انطلاق الثورة البرجوازية، وانتشار أفكارها وتبلور سلوكها وحياتها العامة والخاصة.
صارت أسلوبًا للعصر، إذن، فلم ينقطع سيرها أو أثرها، بل بقيت المنهج المتبع وإن تبدلت صيفها، أحيانًا، كالطبيعة التي لم تكن سوى انحرافًا مؤقتًا عن الخط العام سرعان ما انكمش. إلا أن الواقعية في صورتها الأولى البسيطة ثم الواقعية النقدية كما برزت في شكل نموذجي عند أونوريه دي بلزاك، وكما عبر عنها في ملحمته الروائية الكبرى «الكوميديا الإنسانية» وكما نجدها بعد ذلك عند واقعيين كبار آخرين أمثال «استندال»، «فلوبير» و«توماس مان»، لم تجمد عند التشكيل الذي ظهرت عليه أو بنفس الصيغ والقوالب التي تبلورت فيها، وإنما راحت تتسع وتنفتح أكثر وفق آفاق التطور التي مزجها المجتمع، وبالقياس إلى خصوبة الواقع ومدى وجوه التعدد والغني فيه.
وهي، من حيث الأسلوب الفني، مع استمرار اعتمادها على أدوات القص التقليدية، أخذت تغني هذه الوسائل بالنظرة الجديدة المستمدة من واقع التحول الجديد الذي سارت فيه المجتمعات وخطى في طريقه الإنسان. وهكذا فقد أصبح السرد التقليدي أكثر مرونة ورونقًا، وخف ذلك الربط المصطنع بين حلقات العمل القصصي التي يفترض أنها تعطيه تماسكه وتوازنه وحلت محلها عناصر أخرى مثل اللقطة المركزة الحيادية، أي عدسة القاص أو الروائي وهي تشرف من مكان ما على عالم جديد وأنماط جديدة وهو يترصدها ويجعلها تحيا، وحدها، وتتحرك بذاتها دون تدخل منه أو إملاء خارجي.
والقصة القصيرة العربية التي ولدت في أحضان وتحت تأثير القصة في الغرب استوحت كل عناصر التطور والتجديد هذه في سيرها، وأضافت إليها عناصر أخرى أوحت بها بيئتها الخاصة وظروفها الذاتية والموضوعية المتميزة.
امتلكت القصة القصيرة في المغرب، فيما تلى ذلك، كل روافد التطور والتنوع التي مست النهج الواقعي ووجدت من المواهب القصصية ما جعلها تنمو وتترصع بلآلئ جديدة وتتمكن من إبراز الواقع الاجتماعي في مقاساته الحقيقية، وإعطاء إرهاص واستشفاف لجملة من الحالات والأوضاع في قطاعات شتى من المجتمع أغلبها مغمور وهامشي، وذلك من منظور وبأدوات تختلف من كاتب لآخر، فالواقعية الجديدة، في النهاية، ليست آخر حلقة في تطور صياغة الواقع وتشكيل الوجود والإنسان، ومن ثم تبقى لكل قاصٍّ وفق درجة رسوخه وخصوبة رؤيته ومعاناته، من إعطاء الأدب البديل، الذي يخلق الحياة خلقًا جديدًا، وربما يثنيها أو يثلثها.
(٢) النهج الواقعي الجديد في قصص خناتة بنونة
(٢-١) منطلقات أساسية
إن أي معالجة لقصص الأديبة خناتة بنونة لا بد أن تتخذ لها كمنطلق موقف هذه الكاتبة من القصة القصيرة كشكل تعبيري عن الذات والوجود معًا، هذا الموقف الذي نرى أنه يقوم على المرتكزات التالية التي ستبرز لنا الإطار الخارجي لعالمها القصصي والبؤر الأساسية في كتابتها، وذاك ضمن السياق العام الذي يتحرك فيه بحثنا في هذا الفصل.
-
(١)
تتكشف لنا قراءة قصص خناتة بنونة عبر مجموعتين قصصيتين متواترتين «ليسقط الصمت» و«النار والاحتياز» وهما تؤسسان البنية التعبيرية لدى الكاتبة وتشتملان على جملة تصوراتها وآرائها حول الفن والحياة من حولها. ونحن نكتشف من قراءتنا لهما عن إعلان طلاق أولي مع الشكل القصصي كما تواتر في كتابة جيل بأكمله، وكذا الانفصال عن صورة التطور التي تلاحقت حتى منتصف الستينيات في مسيرة القصة القصيرة بالمغرب. إن إعلان الطلاق هذا يتم عبر عملية رفض عنيدة ومتوترة لشكل قصصي اكتمل مظهره واستتبت عناصر كينونته، وبات في حاجة إلى يد صناع تخلخل استقراره وتفك وثاق جموده. إن الشكل الفني يظهر، ومنذ البداية، مرمى الكاتبة ومن خلال تفكيك تركيبه وتماسكه السابق يلتمع وميض المغامرة الفردية في هذا العالم المحفوف بالمخاطر والأسرار.
-
(٢)
إن الشكل الفني لم ينفصل يومًا عن المضمون، بل الواحد منهما يمارس تأثيرًا فعالًا ونفاذًا على الآخر. ومتى لحق أحدهما أثر أو شابته شائبة ما إلا وكان الثاني مجلي لها وامتداد لما يلحقها. إن المضمون الذي تبنته الكاتبة كعنصر أساسي في العملية الإبداعية يتعرض بدوره للشرخ وللتأويل ولا يقدم كمادة جاهزة أو مكتملة، إنه مضمون يتكون ويتطور في أطوار الولادة والنمو ولا ينتهي إلى صيغة حتمية. إنه يظل مفتوحًا وقابلًا لتأويلات عدة، وليس هناك ما يكسر حدة هذا المضمون أو يذهب بثقله سوى كلمة الحسم أو الكلمة التي تعطي كل شيء مجمعًا مكدسًا في صيغة حكم أو قرار. للمضمون هنا مثل الشكل منفلت من كل وصاية، متحلل من التعاليم والتوجيهات القبلية، إنه يمثل الاعتداد ونزعة المغامرة، ولكنه مشبع، فوق كل شيء، بالرفض، فالرفض هو دليل سيره، الذي يجعل أمامه كل الطرقات منسابة والأبواب مشرعة.
-
(٣)
إن المضمون القصصي كما يبرز في الموضوع والمحتوى العام، ومنظور الكاتبة بصورة عامة يعلن الانفصال، أساسًا، عن شرط وجوده، فلا تنبثق مكوناته من الواقع ولا تستقي ملامحه من العالم الخارجي بكل ما يحفل به من أزمات وعلاقات متشابكة، ولكن، من الذات المشحونة عنفًا وتمردًا ضد الواقع، وضد المصائر المسطرة.
-
(٤)
إن الواقع في معطياته الموضوعية الثابتة وفي تجلياته اليومية المتعددة، وفي عناصر يقظته وغفوته، تشابكه واستطالاته، اشتعاله وخموده، يأسه وطموحه، هذا الواقع تدير له الكاتبة الظهر وتتجاوزه من حيث هي فيه، وتدوسه بقدميها وأوحاله عالقة بهما. إن كل استنساخ للواقع، من هذا المنظور، لن يقدم أي خدمة الفن أو للواقعية في الفن، إنه يشوه الواقع باسم خدمته والولاء لأقانيمه ونواميسه. إن استنساخ الواقع وتنميطه في وثائقية مكرورة لهي عملية تخنق أنفاس الفن وتلجم الطموح الإنساني في سعيه الدائم نحو الجديد والمتطور، وهما أمران لا يمكن سوى أن يخترقا قشرة العالم الخارجي ويتنفسا خارج مسامه، أو بالأحرى أن مسامه تضيق على نفسه اللاهث. وهذا الفهم، ومن منظور الكاتبة دائمًا، لا ينحرف بالواقعية عن مضمونها ومسلكها الأصيل، بل هو النهج الذي ينبغي أن تقتفيه خطى الفنان وتصنع في الخلاء الممتد أمامها آثار خطى جديدة، وكل خطوة تجعل الطريق يمتد، لا مستفيقًا مضبوطًا، لكن، هائمًا مترنحًا يشذ عن كل آلات المسح وتلهث خلفه تعاليم الحصر ومقاسات التأطير فلا تطاله في حين يطوح بها بعيدًا ويظل ممتلكًا لانفراديته وتألقه، ويبقى بعد هذا هو الواقع عينه، إذ ماذا يكون إن لم يكن هذه الذات المتوهجة في جحيم العالم، التي تولد من رمادها وتحترق به مثل طائر الفينيق، كما تحكي ذلك الأسطورة.
-
(٥)
الذات، إذن، هي مصدر الحركة والفعل، كل شيء يعزى إليها، هي الخصم والحكم، وبذلك تنتفي كل عقلنة وينقض العالم القصصي الموضوعي بشتى مكوناته وأبعاده. «من هذا الشعور الخاص، بعد تجارب جد متواضعة سرت إلى القصة حيث مثلت عندي شساعة أرحب، تسع أكثر ما يمكن من التجربة النفسية التي أكون في طور المرور بها، حيث يكون موضوعي منبثقًا من وجداني الخاص وألمي وتيهي، ما دام العالم لا يتكشف إلا عن طريق ذاتي.»٩الذات هي بؤرة هذا العالم ومنها يبدأ الخلق وفيها تهمهم كلمة السر وإليها ينتهي تطواف العالم وعطشه، إليها تنتهي رحلة السعي والعذاب المستديم، لا شيء يسبقها فهي الأصل والولادة والمنبع والمصب وكل أغماط لهذا الفهم هو تنكر لحقيقة الخلق الفني وشموخ المصير الفردي في هذا العالم، وأي نزعة تتجه إلى إعطاء قصب السبق لتجليات الواقع وللظواهر الخارجية إنما تسير نحو إلغاء نفسها والتلاشي في العالم الأرضي، وهكذا تصبح ظلًّا أو فرعًا عوض أن تكون أصلًا، وإذا كان العالم: «لا يتكشف إلا عن طريق ذاتي» فإن كل موافقة أو مصادقة مسبقة غير واردة البتة، وكل تقييد أو توجيه قسري يحمل بصمات العقلنة وتدابير الوعي الخارجي سيكون مآلهما تطويق دائرة الوعي الحق، إن الوعي هنا يرتبط بالحرية والفصل بينهما يبتر السبب عن المسبب، ومن منظور الكاتبة دائمًا، ماذا سيصبح مصير العالم لو كان عقلًا؟ وليس غريبًا، بعد هذا، إذا كان مؤلف الأستاذ عبد الله القصيمي «العالم ليس عقلًا» أحد الكتب التي ترقى مرتبة التقديس عند الكاتبة،١٠ ولا عجب بعد ذلك إذا كانت كل مصنفات فكر المثالية والقوة والرفض والقسوة المطلقة هي دليل هداية الكاتبة تمخر بها عباب هذا العالم.
إن العالم القصصي الموضوعي، والمعهود بترتيبه ورتابته، بأحجامه ومقاساته الموزونة والمخططة لا يجد له أي انعكاس أو صدى في التجربة القصصية لخناتة بنونة ومن ثم فهي تطرح ذاتها «الأنا» الزاخر، العالم مجمعًا في الذات، بؤرة، ليكون منبعًا ومصبًّا، محكًّا للعملية الإبداعية وجسرًا للعبور نحو المطلق عبر الممتلك.
-
(٦)
اعتبارًا لما سبق، فإن التجربة القصصية تتجاهل الحدث أو الموقف الحي والمشخص وتلغي كل انتماء للموضوعية القصصية. وهذا الإلغاء مقصود ومتعمد، ومستوحى من خلفية الكاتبة النفسية والفكرية التي ترفض العالم الموضوعي وتتبنى «الذات» بديلًا ومصيرًا وتسعى لصنع خريطة جديدة لها، أو بعبارة أخرى لكشف قارة جديدة تنطلق فيها بترنحها ورعشاتها وتيهها. وبدلًا من أن تتجه نحو الواقع الحي المتفاعل أمامها في تورمه وامتداده، في فجائعه ومسراته، بدلًا من أن تلتصق بالدقيقة واليوم، بالقامة والظل، بالبناء والتعبير على صعيد اللحظة المعيشة والإحساس المتولد من التمرغ، من معاناة الفرد والمجموع اليومية والتاريخية بدلًا ذلك تنصب العدسة القصصية على عالم الداخل، وهذا ما يهبها من فتوى الاختيار والتأمل تنصب عليه وتفكك جوانبه، تقتحمه وتغزو مكامن السر والانغلاق فيه، لا تهدمه ولكن تخترقه، وهو لذلك يظل محتفظًا بشفافيته ونبضه المتجدد وإيقاعه المتصاعد.
وإذا كان الإبداع القصصي عند القاص هو رصد اللحظة اليومية أو الشعورية في حدودها الزمانية والمكانية، في تضاريسها الاجتماعية، متلبسة ومنداة برحيق الذات الفردية وذوقها الخاص ونكهتها المتميزة، فإن الإبداع القصصي عند أديبتنا يقلب هذا المنهاج ويسدل ستارًا كثيفًا على ما تلتقطه الحدقات، لأن هذا الخارجي ضئيل وقاصر عن إدراك اقتناعنا وبلوغ مرامنا، ولذلك ينبغي أن يثوى إلى الظل وعلى الذات أن تفيء إلى ظلها أو تدمدم بما يصطخب فيها، بالصخب الجنوني الذي هو دمها، بشقائها السرمدي: «الزمن والمكان امتدادان للإنسان أو غائبان تمامًا»١١ لماذا؟ هل يرجع ذلك إلى إجثاث روابط التواصل بين الأنا والآخر واستحالة إقامة الحوار في عالم: «يواصل مسيرته باستمرارية ساحقة، والإنسان ملقى فيه كنقطة ضائعة وسط الدوران الحتمي لهذا الذي يسمى الحياة، والاعتياد المحتضر يسيطر بقوة ليبقى كل شيء على ما هو … وتلك الضالة بين تيه مجنون، تريد الانفلات منه، ولكن من أين»،١٢ أم لأن الزمن النفسي أسبق وأثرى من الزمن التاريخي؟ -
(٧)
أيًّا كانت الإجابة، فإن التسلسل المنطقي لهذا التصور يسوق إلى تقديم تصور مغير ومبادر للقصة القصيرة كقالب تعبيري بسماته المعلومة. إنه التصور الرافض، كما أسلفنا، والمتطلع إلى رؤية قصصية بحافز المغامرة والبحث المستجد. أليس خلف كل نزعة تمردية في الذات طاقة دائمة الاهتزاز والحركة لا يستقيم أمرها إلا حين يحدث الانفجار الذي تنشده وترى الأشلاء والشظايا متناثرة يمينًا وشمالًا، ثم ما تلبث أن تستجمع نفسها من جديد بين شد وجذب، حيرة ولا يقين … «وأنا أزداد، بشكل مسرف، غوصًا في أعماق نفسي، حيث تذوب كتل الحجب لأصطدم في الأخير بلا محدودية غير قابلة للفهم أو الوصف، سوى أنها تكاد تقف بي على أعتاب ما يعرف بالجنون، حيث أفزع لأسترد وعيي، ثم أعاود التجربة بغية استخلاص ماهية الأنا والنحن من خلال هذا العدم الأعم.»١٣
-
(٨)
إن الرؤية القصصية الإبداعية على صعيدي الشكل والمحتوى، هنا هي مدار تجربة خناتة بنونة، وهي من غير شك تجربة فذة من حيث إطراحها لقديم واندفاعها في البحث عن عطاء أصيل، عطاء ينفصل عن يقينيات مستهلكه ويتوسل بأدوات كتابية لا تنشد، بدءًا، إرضاء الذوق القصصي السائد، والانكماش في دائرة القصة القصيرة، التقليدية أو التجديدية ضمن إطار التقليد، كما لا تضع في حسابها المراهنة على قيم مستنفذة وشعارات مرمية في سوق المزايدات الاجتماعية الممسوخة، ومن هنا فإن التعامل الفني الإبداعي مع التجربة يقترح خلالها وبواسطتها منطلقات أخرى تلقي بظلها على الكتابة وتثير التساؤل جوهريًّا حول وظيفتها، أي ما هي الكتابة؟ ما هو دورها؟ عن أي شيء تعبر، وما هو مطلقها؟ وفي اعتقادنا أن كل كتابة جدية لا بد أن تتوق أو تكشف عن نزعها نحو طرح أو بعث هذه التساؤلات، أي إن الإبداع الأصيل في زعمنا هو الذي ينضوي في مسلك التقليد ولا يحصر شاغله في الانسياق وراء المثل المصاغة سلفًا، ولكن، الذي يملك من داخله عناصر قوته وإشعاعه، طاقة الصدم والتحدي. ومما هو أكيد أن هذه المرتبة مطمح، والمغامرة بإطراح ما هو قديم ليست كذلك سنة مأمونة؛ إذ قد تقود إلى الضياع وتفقد مزية التقليد الناجح والمتمثل.
(٢-٢) المضمون القصصي المبثوث
تتمحور قصص خناتة بنونة في مجموعتها القصصية «ليسقط الصمت» و«النار والاختيار» حول مقولتين أساسيتين هما: الرفض والذات.
وهاتان المقولتان تنسجان، بالتقريب، على سائر النصوص، كما تتفاوتان من حيث الحدة، وإن ظلتا، دومًا، مسيطرتين على الموضوع، متحكمتين في نموه وتوجيهه، قد تندرج بجانبهما بعض المعاني والقيم الأخرى، ولكن، لتعزز من منطقهما وتؤكد صدارتهما لا لتطوحهما جانبًا.
ومقولة الرفض في النصوص القصصية ليست واحدة في معناها وتطبيقاتها، إنها تتباين بتباين الغايات والنزوعات لدى الكاتبة. إنها موقف مسبق تجاه كل ظاهرة اجتماعية أو حالة شعورية، تكتسح العالم الداخلي ومشمولاته تارة، وتصطدم بكل ما يملأ العالم الخارجي من أناس وحالات وأحداث، كما يسمح لها رنينها في الروابط التاريخية والإنسانية التي تجمع العالمين معًا وتصوغهما في وحدة متلائمة. إنها تتوزع وتتنوع حسب الأبعاد الثلاثة التي تتفرع إليها القصص والتي تعد محاور أساسية يرتكز عليها الكيان القصصي، وهي: البعد القومي، البعد الاجتماعي، البعد الذاتي. وفي كل من هذه الأبعاد يكون المنظور الذي يسوق الحدث أو الفكرة أو الحالة الشعورية مشبعًا حتى النخاع بقناعة الرفض.
غير أن هذا الموقف المتطرف من طرف الكاتبة تجاه الرجل، الذكر، ينزلق في منزلقين خطيرين، الأول منهما هو ممارسة الإسقاط الداخلي للبطلة أو الكاتبة ذاتها على مجموع الكيان النسائي، وهو إسقاط يأخذ أكثر من مظهر وبرهان حين تعمد الكاتبة إلى وضع بطلاتها في أوضاع مأساوية وتفرغ عليهن، على تباين مستوياتهن وأوضاعهن الفكرية والاجتماعية، سيولًا من الأفكار والمفاهيم التي لا تعبر في حقيقة الأمر سوى عن موقف فردي، لا من المجتمع فحسب، ولكن، من الوجود ككل، ولكنها تقصد إلى تمريره عبر مسارب المجتمع الذي يطحن في الأنثى تطلعاتها الفردية ولا يعترف لها بحق التميز والتفرد.
ويبدو أن هذا هو جوهر الأزمة التي تعاني منها بطلات خناتة بنونة، فهن جميعًا يطمحن إلى تحقيق هذا المثال وولوج هذا العالم الرحب وكسر طوق حصار الجنس الذي توجد مفاتيحه في يد الرجل وسلطته والمجتمع واستبداده.
إن مقولة الذات في قصص خناتة بنونة كاسحة ومدمرة، وهي صلب القضية حتى ولو جاورتها قضايا أخرى فإنها لا بد أن تتلظى في جحيمها، ولا بد أن تقذفها بحممها، ليتكون كل شيء بالقلق والحزن الذاتي الماحق، وليتقمص العالم صورة المرأة-الإنسان وهي ترتل على العالم وصايا جديدة ومعزوفات توقظ الدهر الحريمي من سباته وتهزه من استكانته.
غير أننا نحس في ختام تحليل هذا العنصر الهام أن طرح المقولتين السابقتين في كتابة أديبتنا واستقطاب قصصها حولها استقطابًا يكاد يكون كليًّا، إذا كان له ما يبرره ويزكيه من ظروفها النفسية والفكرية وفي معايشاتها وإحساسها بالدور السيادي للرجل والأعراف الاجتماعية التي هي من صنع فترات الغبن والإجحاف، فإننا، إلى جانب ذلك، نحس أن قدرًا كبيرًا من التأثر والتقليد قد ساهم في تضخيم القضية، أي التأثر والتقليد لنماذج ومضامين الكتابة العربية النسوية في المشرق العربي. إن مراجعة سريعة للنصوص القصصية للأديبات المشرقيات تجعلنا نقف على مضامين الرفض الجامح والتأكيد الأنوي المتطرف، والانسياق وراء سيول من المشاعر الذاتية التي تقدم نفسها محورًا ومرتكزًا وبديلًا.
إن السخط على السلطة الأبوية والرجولية أمر بين وشديد الجلاء لدرجة الإبهار في قصص كاتبة معروفة هي غادة السمان في مجموعتيها القصصيتين «لا بحر في بيروت» و«الغرباء» خاصة، وعند كاتبة أخرى هي ليلى بعلبكي، وكذا عند كوليت خوري، فشاغل هؤلاء الكاتبات الأول وعنصر الصراع والتأزم في مجال كتابتهن القصصية، ومن يدري، فربما الحياتية، هو الرجل باعتباره طرفًا نقيضًا ومهيمنًا يواجه في الطرف الآخر قوة أخرى تمثل الصلف والتحدي واللوم والانتقاد، بل والهجاء اللاذع أحيانًا، والكاشف عن مشاعر تبلغ حد المرضية والتعقيد، وإذا كان هناك ما يبرر للأديبة العربية أن تطالب بحق بنات جنسها وتستخدم قلمها في الذود عن حقوقهن وإقرار وجودهن بكامل الشروط الاجتماعية والإنسانية، فإننا نرى من الضعف، وبساطة التفكير، وخفة الوعي أن يتحول الإبداع القصصي إلى واجهة لإفراز المشاعر المريضة وتضخيم الذات في صورة عصابية مع غياب الطرح العلمي والناضج لوضعية المرأة والرجل معًا، في مسلسل العلاقات الاجتماعية التي تهيمن عليها قوى الغبن والاستغلال، والتي يعاني الجنسان معًا، من إزارها وتبعاتها.
وأيًّا كان الأمر فإننا نحس أن لعامل التقليد نصيبًا لا يستهان به فيما انساقت إليه أديبتنا المغربية، دون أن ننكر، بتاتًا، ما للظروف الموضوعية والخصوصية من دور في تجميع ركام المكبوتات النفسية، وفي إيجاد منافذ تنفيسها وإخراجها في تعبير فني تتضخم فيه الأنا مبتزة حق الآخر، ويفسح العالم الموضوعي فيه المكان ليمتد خلاله عالم ذاتي حافل بالأسرار واللواعج، وثري في بحثه عن آفاق الخلاص من أزمات الحيرة والقلق والتذمر.
(٣) أبعاد ثلاثة لأدب اسمه البوح والاحتجاج
وتلزم الإشارة إلى أن التتبع الذي سنعمد إليه يعتمد مجموعتيها: «ليسقط الصمت» و«النار والاختيار» المذكورتين آنفًا، على ما بينهما من تباعد نسبي في الصدور، لأننا نعتقد أن الكاتبة لم تحقق تطورًا بعيد المدى فيما بينهما، من حيث جوهر الطرح الفكري، وإن كانت أدوات التعبير القصصي قد شحذت وباتت طيعة بشكل أوفق من السابق يضاف إلى ذلك أنها في مجموعة «النار والاختيار» سعت أكثر من ذي قبل إلى معانقة القضايا القومية وتضمينها معاني إنسانية فذة، وفنيًّا، إلى تلمس طريق النصر الروائي كما يظهر ذلك خلال قصة «النار والاختيار» التي تعد نصًّا يقع بين القصة القصيرة والعمل الروائي، ويتوزع بين ملامحهما ومجاليهما، أحداثًا ووجودًا، صورًا ولغة وشكلًا.
(٣-١) البعد القومي
ونعني به ما اتصل بالواقع العربي التاريخي والحضاري، وما يشمل الأمة العربية في ظل الصراع ضد مختلف ما يعوق سيرها وتطورها. وهو عند الكاتبة يرتكز، أساسًا، على معالجة القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه واغتصبت منه حقوقه وصار نهبًا للضياع والإبادة من طرف الصهيونية والرجعية العربية، كما يشمل هذا البعد أزمة الإنسان العربي، بعد نكسة حزيران ١٩٦٧م، وواقع فقدان الكرامة والهوان الذي آل إليه أمام نفسه وإزاء غيره من الشعوب الصاعدة. على أن مصير الفلسطينيين هو السوط الذي يظل يعذب الكاتبة ويلهب وجدانها وذاكراتها ألمًا وتحرقًا فتنزف روحها بكاء ويسيل قلمها أسى على عذاب فلسطين وجروحها الفائرة في جسد الأمة العربية.
ويئول هذا الوقوف الشديد عند القضية الفلسطينية لدى الكاتبة إلى سببين اثنين جعلاها تضعها في قلب حرقتها وتفسح لها حيزًا واسعًا بجانب همومها الذاتية: أما الأول فهو رحلة إلى القدس في وقت كان للمدينة بعد جانب عربي، ولم تكن أقدام الصهاينة قد عاثت فسادًا في الأرض العربية ودنست طهر المدينة، فوقفت بعينها على آثار النكبة ومشاهد التشرد والطرد الجماعي للفلسطينيين، وعاينت الفقد ولمست آثاره عن كثب، وتراءى لها المارد العربي في فلسطين، في القدس، في المسجد الأقصى، وقد اندحر وتساقط أشلاء ومزقًا، وتفاعلت نفسها مع بانوراما النكبة والفجائع الصغيرة والكبيرة المتولدة عنها، وتجمع ذلك كله في وجدانها ليعطي شعلات من الانفعال بالقضية الفلسطينية ومصير شعبها.
والسبب الثاني يكمن في تلك الهزة العنيفة والمزعزعة التي أصابت كيان المثقف العربي ووجدان المبدعين العرب كافة إثر هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وعلى الرغم من أن مظاهر التخلف والضعف العربي كانت واضحة، ومعالم التدهور السياسي والاقتصادي والحضاري كانت بادية وسائدة في البيئات الاجتماعية والاقتصادية، كما أن مواقف عملية ونضالية كانت قد اتخذت في وجهها، وكان مسلسل التصدي للأطماع والهيمنة متواترًا، وعلى الرغم من أن المبدع العربي صور في حالات ونصوص كثيرة معاناة الإنسان العربي، على تباين أوضاعه وانتماءاته، وضروب تقلبه بين بؤسه وأزماته، وتخلفه ونشدانه للعلى، نقول، إنه على الرغم من ذلك كله فإن الهزيمة التي ابتلي بها العرب طوحت بكثير من الهمم والنفوس، وخلخلت جيلًا بأكمله فضربت يقينياته وقناعاته وهزت معتقداته، وأفقدته الثقة فيما حوله وأنبتت في داخله أشواكًا من القلق والمخاوف، وجعلته يتساءل، مجددًا، عن هويته وكأنه شجرة بلا جذور أو أصول، ودفعت مثقفينا، على اختلاف فصائلهم والتيارات الفكرية التي ينضوون تحتها، إلى الشروع في عملية مراجعة لماضيهم وتراثهم وإلى استكناه واقعهم واستبصار مستقبلهم داعين إلى نبذ الحاضر بأكمله، بل، والماضي أحيانًا لأن فيه جذور الهزيمة ومنه امتدت جحافل غزوها وانتشارها.
إن الخطأ هنا يكمن في تجريد القضية ورصدها ضمن تعميم لا يحده إطار أو تكتنفه دائرة فعل أو حركة … إن الكاتبة الممتلئة بالقضية، إحساسًا وقناعة، تحاول أن تجرد من نفسها ومخيلتها أصواتًا وخيالات لتردد رفضها ولتعلن احتجاجها في توتر وهيجان لا ينضبطان في إطار محبوك أو نسيج قصصي ذي قدرة على التبليغ الهادئ والإيحاء بالتجربة القصصية في أبعاد وتراكيب موضوعية، وهكذا تكاد القصة أن تتحول إلى شحنة من الانفعال العائم تصوغ فيه الكاتبة صورة قصصية بالأدوات الفنية التي تمتلكها.
هذه الملاحظات تجد موقعها أيضًا في قصة أخرى هي «يا يافا» من المجموعة نفسها، وتكاد تقدم الموضوع نفسه، اكتشاف حقيقة الهوية الضائعة، الهوية الفلسطينية والعمل من أجل استرداد الكرامة. تقدم هذه القصة شعورًا أكثر جموحًا وانفعالًا بالقضية القومية، وتظهر البطلة وقد تقمصت حسرة جيل بأكمله، وغضبه، وتفتح فكرها ووجدانها فتحًا عارمًا على الأرض الضائعة والرغبة في اكتشاف نفسها ونبذ واقعها المزيف والمحاصر لصياغة واقع أكثر أصالة وتجددًا، يجعل من استرداد الأرض منطلقه ومطمحه.
إن تحقيق الواقع عن طريق الحلم أو الفعل الحالم يعد خاصية ثانية تضاف إلى خاصية التجريد في القصة القصيرة ذات البعد القومي لدى الكاتبة، بل لعلها خاصية متممة للأولى؛ إذ إن التجريد المتحرر من كل قيد موضوعي أو حدثي يستطيع أن يجر معه سلسلة من التصورات التي ترتفع عن احتكاك اللحظات والممارسات المباشرة لتهيم في سماء التهويمات المصطنعة والتي تعبر، في ذات الوقت، عن العالم البديل الذي تقف العوائق في طريق تحققه، والتجريد المتحرر يغذي، أيضًا، نزعة الكتابة الانفعالية، المتذمرة ويهبها أفقًا أوسع للشطحات والتفجيرات اللفظية المتقطعة عن الخط القصصي.
ملاحظة ثالثة يمكن إدراجها في هذا الباب، وتقوم في أن القصص التي كتبتها خناتة بنونة ضمن ما أسميناه بالاتجاه أو المنحى القومي محصورة في بعد واحد، وهو بعد البطل الذي تقترحه الكاتبة، أو بعدها الخاص، لا غير، وتعدم كل طرف آخر يمثل وجه الصراع أو مجاله حتى لتكاد الشخصية تصبح دنكشوتية الإهاب والظل، وهو مأخذ يضاف إلى مآخذ أخرى. كما تفتقد القصة القصيرة بنيتها التركيبية وفعاليتها الدرامية، والحس الدرامي الوحيد هو الذي ترتعش به البطلة، لكن، في تذمر وحدوي قاتل لا تجعل القضية المتبناة تتشخص وترتفع إلى صعيد الإقناع الهادئ.
(٣-٢) البعد الاجتماعي
وهو بُعد آخر تندرج فيه الكتابة القصصية لدى خناتة بنونة؛ إذ إنها تعمد شأن قصاصي جيلها ومن سبقها إلى الالتفات إلى القضايا المباشرة لواقعها وحياة الشعب الموجودة بينه، وتحاول التقاط لحظات شرائح من هذا الواقع، واقتناصها في لقطات قصصية تبرز ما يعانيه الإنسان، وما يعذبه وينقض وجوده المادي والاجتماعي بوجه خاص ومنظور كل كاتب — كما أسلفنا — هو الذي يحدد زاوية الالتقاط ومناط الاهتمام، ولذلك فإن القصة القصيرة ذات البعد الاجتماعي عند أديبتنا لا بد وأن تخضع لتقييم خاص.
إن خناتة بنونة تريد أن تكون لها نظرتها الاجتماعية للواقع الاجتماعي، وتريد أن تسمع صوتها واحتجاجها ضد ما يجري حولها، وهي إذا كانت، أصلًا، كاتبة ذاتية فهذا لا يحول بينها وبين اختراق الحاجز الذاتي، ومحاولة التسلل إلى واقع جماعات لا يعذبها أي صراع نفسي أو وجداني، بل يكدها العيش ويطحنها السعي وراء اللقمة، وتنافح من أجل قيم مادية مباشرة لعلها تختلف تمامًا عن القيم الطبقية والفكرية للكاتبة، وتتغاير، جذريًّا، مع أفقها الذاتي والثقافي، ومع احتمال التغاير والاختلاف يبرز بون أول متمثل في كيفية طرح الواقع الاجتماعي والتعامل معه وتشكيله لدى الكاتبة من ناحية، وفي الجوانب التي تراها الكاتبة أكثر حساسية، والمعاني الأشد قابلية للإثارة والإيحاء، وأن تقديم الذات على الواقع والإيمان بأسبقيته عليه، عدا كونه مستوى مثاليًّا أخرق يحدد، من البدء، صعيد الرؤية الاجتماعية ونسقها، أي أن هذه لا تتولد وتنمو إلا بالتنازلات التي تسمح بها النظرة الذاتية، وبعد أن تكون قد تلبست وغاصت في الرؤية الذاتية، وغطست في بحرها اللجب، وباتت مدفوعة بكل ما يكونها ويمثلها، لأجل ذلك كله فإن القصة ذات البعد الاجتماعي عند خناتة بنونة، بل وعند كتاب آخرين، تقدم لنا واقعًا مصاغًا وفق أقانيم ذاتية، واقعًا مشربًا بوعي طبقي مسبق هو الذي نضدها، ولذلك، لن يكون غريبًا حدوث تباعد على صعيدي الرؤية والطرح الموضوعي للواقع الخارجي، وإن كنا نرى أن ما يؤدي إلى هذه الانسياقات هو الوقوع تحت ضغط الإحساس والشعور الانفعالي بالقضية الاجتماعية بدلًا من تأملها وتمثلها دون صخب أو جلبة.
إن «الشيخ والأرض» نموذج القصة الاجتماعية كما تتصورها الكاتبة، وهي التي تطرح أزمة من الواقع، ولا بد أن تعبر عن وجه من القهر والابتئاس المجلل بظلال رومانسية حزينة، والتصدي للواقع-الأزمة، عند الكاتبة في هذا المضمار لا ينبع من رغبة في رصد قضية أو لحظة بكثافتها ودلالاتها القريبة والبعيدة بقدر ما ينبع من تفجر إحساس غامر وغاضب على وضعية غير إنسانية ومشروطة بواقع متخلف واستغلالي لذلك فإن المعالجة هنا تستتبع شكلياتها ولوازمها، وتكون وفية لمصدر انطلاق التجربة المرصودة، أي الشعور المنفعل، ومن هنا، وبدلًا من الرصد المتأني وبناء الموقف القصصي وحبك علاقاته وإبراز تشابكات اللحظة-الأزمة، بالكثافة والدلالة التي تحملها، بدلًا من ذلك تنصاع الكاتبة، دون قدرة منها على امتلاك ناصيتها، نحو جاذبية اللحظة في دفئها الإنساني، كما تظهر لها في دائرة فهمها وتصورها، فتهبها من فيض نفسها ما تهب وتجزل لها من الأوصاف والعبارات الإطلاقية ما تجزل، وتنفس عن حزنها ومكبوتاتها، ولكنها في ذلك لا تشيد بناء قصصيًّا وهي تصوغ خواطرها تجاه موقف إنساني قديم ومتكرر، وترتكز هذه الصياغة، هنا، على قاعدة هشة هي الانفعال الطارئ والعابر.
ونحب أن نستخلص، انطلاقًا من هذه القصة ومن قصص أخرى مماثلة، بأن الموضوع القصصي ذا البعد الاجتماعي عندها فاقد لكيانه المادي، مفتقد للنبض ورواء الحياة، ولن يتم له الوجود والإقناع وقدرة التوصيل إلا إذا وضع في إطار وعي فني وفكري حي ومتفاعل، أي بعيدًا عن نزوة الانفعال وفورة الشعور، وهما من السمات الرئيسية والأكيدة في قصص المجموعة، وإن كانت من نحو خاص تهبها ألَقها ووهجها الخاص.
إن هذا الخطاب المنتزع من الحوار الذي دار بين الشخصيتين غني عن كل تعليق، وهو يعكس إلى حد بعيد صوت الكاتبة ومطالبها، وليس فيه من وجود الشخصيات أو ظلالها شيء وهو هنا صوت معقلن وهاتف، ركيزته، الاحتجاج وليس الوصف، التقرير وليس الإيحاء والاستصراخ وليس التشخيص الحيادي القادر على إبراز التجربة القصصية في معالمها ومناخها إبرازًا يفي بذاته ويوحي بمكامنه، ولذلك تسقط القصة ذات البعد الاجتماعي عند خناتة بنونة في الابتسار النظري والمسبقات الفكرية، وتقع أسيرة هوسها وانفعالاتها واحتفالها بواقع الإنسان المحروم، كما تخضع إن لم يكُن هذا سبب مآخذها، لتلك النظرة المشفقة والتعاطفية، التي تعبر عن موقف طبقي متعالٍ، هو الموقف الذي نجده عند كل الذين ينتمون إلى الطبقات العليا أو الوسطى، ويحاولون تملق ودغدغة مشاعر وأوضاع الفئات المحرومة والمنبوذة في المجتمع. إننا نعلم، سلفًا، أن الشفقة والتعاطف لا يصوغان، وحدهما، فنًّا، فكيف يمكنهما أن يكونا وعاءً صلبًا لتجربة واقعية، ناضجة وجيدة؟
(٣-٣) البعد الذاتي
وهو في نظرنا مجال الاندفاع والتحرر لدى الكاتبة، ففيه تبرز خصائصها وتجد نوازع نفسها، وعناصر تكوينها وأزماتها، والمنطلق والانفتاح، فتتمدد التجربة وتصنع لها أكثر من موضع ومرتكز، وهو في الوقت الذي يقدم لنا خصوصية الكاتبة يفسح الطريق لعناصر ومكونات أخرى لتزاحمه وتمد لها جذورها وغصونها متشابكة متعاضدة، أي أنه يسعى لكي يكون عنصرًا استقطابيًّا تلتف حوله سائر عناصر الواقع الداخلية والخارجية مطروحة في صيغة مندمجة ومتكاملة، لكن عملية التكامل والوحدة، هاته، لا تتم لأن القيم الأساسية عند الكاتبة تظل قيمًا ذاتية في جوهرها، ولأجل ذلك فإن كل التفرعات والمنعرجات التي قد تذهب إليها بعض التجارب ما تلبث حتى تعود إلى منبعها الأم، لكن علينا ألَّا نغالي في تقدير جانب الذات في سياق هذه المعالجة أو النظر إليها كستار كثيف يخفي معالم الواقع الحقيقية والداكنة، إن الموقف الأساسي عند الكاتبة موقف ذاتي ولكن ليس فرديًّا، أي إن الطرح الذاتي لتجربتها في الحياة والإبداع مستنبت من جذور عدة وليس من جذر أو تربة واحدة، كما أنه ليس إفراز أنانية خرقاء أو أنا مفردة لا ترى فيما حولها سوى امتدادات أو انعكاسات لها. إن خناتة بنونة سواء في تجربتها الفكرية أو من خلال ما تبلوره النصوص القصصية تجعل من ذاتها وأناها الإبداعية بؤرة تنصب فيها سائر الانفعالات والممارسات غير أن هذه تفلت من حس المراقبة الواعية ولا تخضع للتمثل المطلوب، ومن ثم لا تأخذ أية سمة موضوعية، مما يجعلها تنضح بقشعريرة ورعشات خاصة، وتتسم بخصائص مفردة، انفعالية، لا واعية.
إن هذه المقاطع تكشف عن فورة نفسية عالية وعن سخط كاسح لا تستجمعه القصة بقدر ما يجد سبيله إلى الظهور في تلك التعابير النارية المتشنجة، والتي تترجم حرقة نفس وذهول وكيان، وتعبر، في النهاية، عن روح من التمرد العميق، وهذه الروح هي التي تسيطر على كل قصص الكاتبة وتقدح لديها زناد كل تجربة، فكل ما هو راسخ وصلب يجب أن ينهار مسلطة عليه معاول صدقها وشواظ نارها إلى أن يحترق ويفنى، ثم تستأنف العملية إلى ما لا نهاية.
لكن عن أي شيء يعبر هذا الفناء المتجدد والبحث اللانهائي؟ الحق إنه لا يترجم عمقًا أو بعدًا فلسفيًّا بعيد الشأن، وإن هو إلا رشح، من ناحية، لبعض المفاهيم الفلسفية، غير المهضومة هضمًا جيدًا عن الوجود والهوية الإنسانية، ومن جهة ثانية عن جموح فكري وانفعال مشوش لم تشحذه بعد تجربة الواقع والمعاناة اليومية الملحة. وسنرى أنه حين سيتاح للكاتبة، فيما بعد، أن تتلمس طريق التجربة الحية والاحتكاك بواقع الناس وأزماتهم الصعبة، سيتاح لها قدر كبير من التطور وستنحل عقدة مشاعرها المتوترة، وستجد لغتها وانفعالاتها منبسطًا ومرتعًا جديدين، كما سيتحدد إزاء بصرها أطراف الصراع تحددًا نسبيًّا، وسيتاح لها أن تطل بعيون أشرق فيهما نور يقين جديد هو يقين الانغماس في حياة الآخرين ومشاطرتهم آلامهم ومضارهم، واختيار جانب الفعل، وهو ما تنزع إليه بطلة «النار والاختيار» في النهاية حين تختار التعليم كموقع لخدمة أفكارها والبرهنة عن قناعاتها النظرية. وعلى الرغم من أن هذا الاختيار يظل وليد قناعة ذاتية وموقفًا فرديًّا في حد ذاته، إلا أنه يكشف عن تحول لا يستهان بمسافته وبعده جنحت إليه الكاتبة وأملته على بطلها في تلك القصص وقصص أخرى ستكتبها لاحقًا.
- أولاهما: تتمثل في أن ما ذهبنا إليه من تقسيم لمضامين
النصوص القصصية إلى مناحي وأبعاد مختلفة ليست إلا
نطاق باب الترتيب وحصر من كل تجربة على حدة، وإلا
فإن النص القصصي والمضمون والبطل في القصة، وباقي
العناصر المكونة للعمل القصصي تخضع، لدى خناتة
بنونة، إلى وتيرة واحدة من الرؤية والعمل، كما أن
تلك الأبعاد كثيرًا ما تختلط وتتشابك أو ينبني
الواحد منها من الآخر، أي يسوق الأول منهما إلى
الثاني أو هذا إلى الثالث سوقًا طبيعيًّا أو
جامحًا، مرتبًا تارة، مضطربًا أخرى، ولكنه في كل
حين يقدم لنا زبدة نظرة الكاتبة إلى الآخر
ورؤيتها الخاصة للأنا والوجود على صعيديه
الخصوصي، الإقليمي والقومي العام، أي النفسي
والمطلق كصيغة فلسفية، مترنحة على الأغلب، وقصة
«يا يافا»، مثلًا، تجمع بعدين اثنين، القومي
والذاتي في تمازج ووحدة صميمية، وهما لا يوجدان
إلا بالارتباط، وانعدام واحد منهما فيه فناء
للآخر، هكذا يافا عند البطلة، هكذا فلسطين عبر
شرود الحلم والحرمان واليأس المرير، يقوم الأمل
من شغاف المستقبل لترتع معه أكداس الأشياء،
والأحداث الميتة، وليصارع مصيره الآنف، كي يتحول
إلى مصير وموت، ثم آخر يقود إلى النصر واسترجاع
الهوية والكينونة.
يافا، إذن، تولد الحلم ويتحقق وجودها عنف وقسوة الفقد، الحلم والزمن الداخلي المتواثب، ثم لا تستعاد إلا في الحلم، وفي هذا التوتر اللفظي الذي يشحن الزمن النفسي والكلمة بطاقة جديدة ويجعلها تتشنج وتزرع التشنج فيما حولها.
يافا لا تكف عن التحول، فتصبح كل مدينة وأرض مفقودة وكل فقد هارب!
- ثانيهما: وتظهر في أن تخصيصنا لتجربة خناتة بنونة القصصية بالتجربة الذاتية، ووصفنا لعملها ورؤيتها الفكرية بأنها رؤية ذاتية لا يفيد، البتة، حصر إنتاجها في دائرة الأدب الذاتي أو يفصم كل صلة لها بالواقع، إحساسًا ومعنى، ولكنه وصف يهدف إلى إعطاء هذه التجربة تميزها وخصوصيتها في السياق العام لتجربة جيلها من قصاصي الستينيات، وهو، بالذات، ما يجعل واقعيتها واقعية جديدة، أي مغايرة للواقعية الكلاسيكية أو النقدية، اللتين أسلفنا النظر فيهما من خلال نماذج سابقة، إنها واقعية، وإن فقدت مرتكزها المادي وعدمت خلفيتها العملية، الصلبة، تمتلك أواصر قوية للانتساب إلى أفق فني وإبداعي جديد تهبه هي من عندياتها وإمكاناتها الأصيلة وتكيفه وفق تطلعاتها وهواجسها الخاصة، وسيستمد منها هو، أي الواقع الموضوعي، ملامح جدته وتطوره.
إن خناتة بنونة تحاول أن تقدم لنا ما يحاوله كل مبدع طموح ومعتز بذاته، أي نقيض المعادلة بين الواقع الذاتي والآخر الموضوعي، أو بين الأنا المبدعة والمجموع المستوعب والمشمول عمومًا. وإن إنجاز هذه المعادلة، في رأينا، هو ما يقود إلى إخراج نصوص استنساخية ووثائقية، إذا كان لها من فضل فهو الشهادة على واقع معطى، إنها نصوص تفيد في كثير من وجوهها عالم الاجتماع أو المؤرخ أو سواهما، ولكنها تفقد مؤهلات الانتماء إلى محفل الإبداع الخلاق الذي يستدعي من المبدع طاقات الاقتحام والمغامرة ومقدرة الإضافة إلى الطبيعة والإنسان، حتى ولو وصم هذا السلوك بالتجديف، فإنه يبقي هوية المبدع الحقيقية، هو ومقدرته على الانتساب إلى عصره، وإبراز القيم الفذة في واقعه، والكشف عن مكامن الأدواء والأحراج فيها كشفًا وتعرية يستعيد فيهما الواقع صورته المهوشة، وتظهر خلالهما النظرة المستقلة، وإذا لم تكن قصص خناتة بنونة قد رقت هذا المستوى فأحسب أنها طمحت إليه، وأحسب أن كل تكريس للذات من لدنها إنما كان يضع مثله الأعلى ذلك الطموح وبلوغ تلك المرتبة. وهذا، في نظرنا، كفيل بأن يشفع للفنان كثيرًا من المزالق والسقطات التي يهوى إليها قلمه أو ينجر إليها في أفكاره وممارساته الإبداعية.
(٤) الشكل الفني: الصوت والصورة
الصوت يتحكم لا محالة في الصورة وهذه تتلون بنبراته وذبذباته، وإذا كان هذا الصوت بواحًا، ميالًا إلى الاحتجاج والصراخ، فإن هذه الصورة، هي الأخرى، تصبح جزءًا من حركة الصوت خاضعة في تشكلها وتركيبها وظلالها وإيحاءاتها لحدته أو خفوته وهذا ما نجده متحكمًا، إلى حد بعيد، في قصص خناتة بنونة، بل هو ما يفترضه التطابق المعروف بين الشكل والمضمون.
وللوهلة الأولى، في هذا المضمار، ينبغي أن نسجل ملاحظة بارزة في القصة القصيرة لدى كاتبتنا، وتكمن في أنها، خلافًا للعديد من كتاب حيلها أعطت في قصصها وإبداعها بصورة عامة مكانة خاصة للشكل والتعبير وأولتهما عناية قل أن نجدها واضحة لدى سواها، فقد حرصت طيلة ممارستها للكتابة على إبراز موقف معين من الصياغة القصصية من نحو، والبناء القصصي من نحو آخر، وولد عندها هذا، في النهاية، ما يقرب أن يكون اتجاهًا أو طريقة خصوصية في معالجة ا لقصة القصيرة، ونحن نميل إلى هذا الاعتقاد أكثر مما نتحمس لإدراج قصصها ضمن صياغة فنية سابقة ووصف ما قدمته بأنه لا يعدو أن يتجاوز تنويعات في إيقاع مكتمل. إن هذه الطريقة تنبني على مغامرة تسعى لإعادة النظر في منظومة علاقات الشكل القصصي ومكوناته عقدة وحديثًا وحبكة وبناء، وجودًا وشخصيات، بل إنها تذهب، فوق ذلك، إلى طرح السؤال الخطير والأساسي: ما الكتابة؟ وفي هذا الطرح لا يكفي القول بوجود رفض قبلي قائم على نزعة تمردية ضد ما هو جاهز ومتبنى، سلفًا، أي ضد تراث ورصيد ذي أهمية قصوى من الإبداع القصصي والأدبي عامة. إن الكاتبة، في هذه الحالة، تريد أن تؤسس عالمًا فنيًّا مستوحى من مناخ تجربتها ومعاناتها الخاصة، ولا شك، أن وراء هذا المسعى مخاطرة بالقيم المكتسبة ومنزلقًا لعدم الإمساك بأي جديد.
إن مجموعتي «ليسقط الصمت» و«النار والاختيار» على الرغم من تداخل واضطراب القيم الشكلية والتعبيرية فيهما، وعلى الرغم من وجود كثير من الثغرات الفنية، وبالإضافة إلى البصمات المطبوعة فوق أديمها لكتاب عديدين نجدها متفرقة ومبعثرة هنا وهنالك، سمات وأفكارًا، فإنها تظل محتفظة بنكهتها الخاصة، وهي نكهة تتسم بذوق خاص وتجديد متفرد لحمته ذلك الصوت البواح الصارخ في احتجاجه الجامح في اندفاعه، المتواثب في خيالاته، الهائج في شطحاته وتهويماته، وسداد رؤية فنية تدفع الصورة في المقام الأول وتجعل منها أداة التوصيل ووسيلة تبليغ الإحساس والمعنى تبليغًا منبعثًا من قلب المعاناة المتأججة ومتجهًا، لا إلى العين أو الذاكرة، ولكن إلى الوجدان والخيال ليصنع فوقهما طبقات ورحابًا من الرؤى الجديدة ومن مراتع الأحلام والأوهام أحيانًا، كل ذلك والصوت الداخلي هو القناة التي يعبر منها هذا الاحتجاج ويسري منها، أي أن هذا الصوت أو الحوار الداخلي يكتسب عند أديبتنا قوة ومظهرًا رئيسيين لم يسبق أن اختلهما من قبل في كتابة القصاصين المغاربة.
الحوار الداخلي هنا عمدة رئيسية من أعمدة هذا البناء الجديد وهو يلغي المباشرة وينشد خرق الحواجز وإلغاء المسافة بين الواقع والممكن، بين اللحظة المعطاة والأخرى المتوقعة، أي لحظة الهاجس والمستقبل إنه أداة لفصم العرى التقريرية الفجة، ووسيلة لصد ازدحام الأشياء والكائنات صدًّا لا يستبعدها أو يلغي حضورها بقدر ما يحاول أن يصهرها في بؤرة الحالة الشعورية والمعاناة الخاصة التي هي مصدر التجربة عند كاتبتنا.
إن البناء اللغوي، بدوره، يشكل عنصرًا ذا أصالة خاصة في سياق هذه العملية التجريبية، فاللغة لا يجري التعامل معها كما لو كانت مخلوقات انتهى الخالق منها وأصبحت قادرة على أن تدب بما هي عليه، وبعبارة أخرى، فإن البناء اللغوي لا يركن إلى البعد القاموسي للمفردة أو يحبس في دلالاتها، بل إن اللغة تستخدم كمادة خام، وعجين طري يستلزمان أن تمتد يد صناع لتشكلهما وفق إرادة وموهبة الخلق لديها، وهي عند أديبتنا موهبة ملحوظة، ذلك أنها في مجموع ما كتبت من قصص، وبصفة خاصة، في مجموعتها «النار والاختيار»، برهنت على قدرات خلاقة وأعطت للغة نفسًا وروحًا ليسا رهينين بالكتابة القصصية ولكنهما منجذبين إلى أفق التعبير الشعري الخالص. ولا عجب في ذلك، فهي في هذا المنحى تكرس جهلها لتعزيز مرشحها الأول في التجربة ألا وهو الصورة في مجموع الصور التي تكون القصة القصيرة لديها، والتي تتخذ كبديل عن البناء القصصي الكلاسيكي ومستلزماته الفنية.
- (١)
إن الشكل الفني في مجموعة «ليسقط الصمت» يتولد من صميم التجربة القصصية ونوعيتها، فهو مشروط بها في تكونه، تابع لها في التلون والتعدد الذي طرأ عليه، ملتزم بها فيما يطمح إليه من جنوح إلى التجدد والتحول.
- (٢)
إن انفلات قيد الشعور وزمام التحكم في رصد القصة يفسح مكانًا واسعًا للانفعال مما يجعل القصة تصاغ على هوى الكاتبة، منفلتة، في أحيان كثيرة، من لمسات الفن الدقيقة.
- (٣)
إن هذا ناتج عن النظر إلى الأدب بوصفه تعبيرًا ذاتيًّا، أي الذات كشمول، مولدة الفهم والإحساس بل وصانعة القيم، ومن ثم يدفع التحرر من القيد الاجتماعي والفكري السائد إلى التحرر من كل قيد فني.
- (٤)
إن انعدام السرد في قصص «النار والاختيار» ناتج عن أن قصص المجموعة لا تعكس حوادث ولا أشخاص وإنما تقدم لقطات بشرية لا تزاول العيش ولا تتحرك وفق مجموعة من الأعراف والتقاليد، لأنها مجموعة من التركيبات النفسية المتنافرة.
- (٥)
إن الحوار يعدم منطقيته لأن الحوار المعيش لا يمكن أن يتجاذبه طرفان مصنوعان على مقاس متخيل وليس على مقاس الواقع «وهذا الحوار لا ينتهي» في سيرته الهرمية إلى الإقناع والاقتناع وإنما يؤكد في أول خطواته ويتحول إلى نوع من الترديد على أفواه الأطراف المتحاورة بصورة مختلفة فهو على هذا حوار مسبق وهو ما يجعل فيه حوار الطرف الأول جواب الطرف الثاني، ولعل هذا ناتج أيضًا عن أن كثيرًا من أبطال قصص المجموعة يجدون أنفسهم في محيط أحداث تحاسب عليهم أن تكون لهم مواقف متشابهة فلا داعي لأي تضاد أو سلب ولا إيجاب.»