الفصل السادس
البحث عن البطل في القصة المغربية القصيرة
مدخل.
مفهوم البطل كما تواتر في الأدب القصصي.
القصة القصيرة والبطل.
مفهوم البطل في القصة القصيرة بالمغرب.
مراحل ونماذج لصورة البطل وهويته.
ملاحظات حول مفهوم البطولة عند مطلع الستينيات.
***
(١) مدخل
إن الحديث عن البطل يدخل في دائرة الحديث عن الأدب القصصي عامة؛ إذ لا يمكن، أو لعله من الصعب، تمامًا الانفراد بالحديث عن البطل بمعزل عن عالم القصة، الذي ينبثق منه وتبرز فيه ملامحه وأفعاله وضروب سلوكه المختلفة. ولا يرجع هذا لكون العالم القصصي يستند على البطل كبنية أساسية من بنيات تكوينه، فحسب، بل وإلى جانب هذا لأنه — أي هذا العالم — انبثق من خضم صراع الفرد في وسط تتحكم فيه قوى خارقة أو مجموعة من المسلمات والقيم الثابتة أو التبشيرية، بأن يكون معها أو ضدها، وهو في كلا الحالتين يتخذ موقفًا ويعيش وضعية متميزة تجعله عنصر ومظهر صراع أساسي تتحقق فيه ومن خلاله انتصارات الطبيعة وقوى الوجود.
إن الحديث عن البطل، بعد هذا، هو انسياق للولوج إلى جموح الخيال الإنساني، وطبيعة الخلق الفذة في الإنسان لصياغة عناصر وجوده وشق طريق عالمه الحافل بالأضداد، ثم اختراق نسيج التكرار والرتابة والاستسلام للطموح إلى الجديد والمثير والمدهش ولو كان صادمًا ومفجعًا، فالبحث عن البطل هو جزء من البحث في الخيال البشري، والسعي وراء تحديد وحصر للبطولة لا يمكن أن يكون أيضًا إلا تجسيدًا لهذا الخيال وترسيخًا لبعد أساسي من أبعاد الكيان الفردي والاجتماعي في سعيه لإثبات الحضور وتشخيص المعاناة في مجرى الأحداث وعلى امتداد الزمن، ليتشكل بؤرة وسطها وكعبًا هنا وجبلًا هناك، انتصارًا في هذه اللحظة وفاجعة في تلك المأساة التي لا توجد ولا تكتسب معناها إلا به. البطولة، إذن، خلق للفرح ونشيج للفاجعة، وفي كلا الحالتين هي مدخل لهذا العالم الجامح الذي يدعى الإنسان ولهذا الغليان الصاخب الذي يمثل الكيان الاجتماعي، ولذلك الصمت الهادر الذي تمثله الطبيعة وقوى المجهول، وبين هذه الحدود الثلاثة يكون البحث عن البطولة عبثًا وحقيقة في آنٍ واحد.
وفي مستوى ثالث فإن عملية فهم البطل وتأطيره هو محاولة لفهم الواقع ومكوناته، والوصول إلى تفكيك نسيج التعقيدات الفردية والاجتماعية، والغوص في عمق التجربة الاجتماعية واستكناه الرصيد الذي تكون منها ثم التكهن بالمستقبل من خلال الطموح اللاهث الذي يطبع تلك التجربة ويدفع خطاها. غير أن هذا لا يتم إلا في إطار العلاقات الاجتماعية، ومن المؤكد إنها علاقات مادية صرف، وإن اكتسبت في كثير من الأحيان شفافية ذاتية أو وجدانية، هي علاقات صراع مستديم وبحث عن المصير المطلوب أو الانتصار على المصير القائم، والمصير هنا يتجاوز النطاق الوجودي ليثبت ويتشخص في الظروف التي يعيشها الفرد والجماعة ولوجوه ومناحي عيشهما وهمومهما. وإذا كان تراث الأدب الإنساني قد تعلَّق وانشغل في كثير من نماذجه بانفعالات الفرد وأغرق في استبطان المشاعر وكان يحصر الأزمة في معضلات الروح والوجود، فإن هذا التراث نفسه يُعد ابن ظروف وأوضاع مادية خالصة هي التي صاغته وجعلته يتخذ صورته تلك.
غير أن فهم البطولة لا يمكن أن يتم، في النهاية، إلا عن طريق فهم الواقع وتحليل بنيات تكوينه المختلفة.
لذلك، قلنا، منذ البداية، بأن البحث عن البطل هو جزء من البحث عن العالم القصصي، وعن طريق استقصاء هذا العالم يمكن للدارس أن يكتشف خفايا وأسرار البطولة، ويستطيع أن يضع يده على مختلف المراحل التي تدرج فيها هذا المفهوم وشتى المصائر التي تعرض لها البطل أو سار في نهجها. ولذلك فإن الراغب في إطفاء غلته في هذا المبحث لا يمكنه العودة إلى الأصل دون الفرع أي إلى الملحمة والرواية والمسرحية والقصة القصيرة كفنون حكائية، هي القادرة على الوصول به إلى قصده.
(٢) مفهوم البطل كما تواتر في الأدب القصصي
لا معدى للباحث إذا أراد أن يرصد نشأة البطولة وانبثاق مفهومها أن يعود إلى الحلقات الأولى من تعبير البشرية عن نفسها، أي من خلال مختلف الشعائر والطقوس الدينية والقبلية ثم الأساطير والحكايات والخرافات التي صاغتها الشعوب، فيما بعد، عن ماضيها وتاريخها. ففي هذه المواد سيجد، إذا كان يقصد البحث عن تأصيل الظاهرة، أي البدايات الأولى لنشأة ظاهرة البطل ثم تبلورها وتطورها بعد ذلك. ونحن لا ننشد هذا ولا نطمح إليه وغاية ما يهمنا هو تحديد مفهوم البطولة والإلمام ببعض مكونات ومراحل تطور هذا المفهوم في سبيل الوصول إلى دراسة أولية للبطل في القصة القصيرة بالمغرب.
إن البطل يولد، عمومًا، من آباء عظام: أبوه وأمه من طبيعة إلهية (هرقل، أشيل) أو على الأقل يكون آباؤه انعكاسًا للألوهية: ملوك، أمراء، كائنات قريبة من الله، وغالبًا ما تعرف الزيجة مصاعب سياسية أو عائلية (مثلًا: عقم طويل للأم: شمشون) وعندنا أيضًا مثال أوديب الذي تحكم عليه الآلهة حكمها القاسي بأن يتزوج أمه.
وغالبًا ما يمر البطل في طفولته بظروف خصوصية: فهو منذ ولادته مواجه بعالم يعاديه، وهو يعيش فترة حياة مختفية أو موت ظاهري. وتضع مجموعة من الأحداث حدًّا لاحتجاب البطل. ثم يخوض غمار معارك واصطدامات تظهر فيها عظمته وحنكته، والأمثلة في هذا المضمار عديدة وغنية في دلالتها (جلجامش: بطل الملحمة المعروفة بهذا الاسم) و«هرقل»، وأبرز الأمثلة على هذا الامتحان هو المعركة ضد الغول، حارس الكنز أو الفتاة أو المرعب لمنطقة ما. وقد يغوص الغول بأعداء مختلفين، على أن هناك علاقة ثابتة بين ما هو مرعب وما هو متعدد (الحيوانات أو المخلوقات ذات الأشكال والرءوس المتعددة).
وحين ينجح في «الامتحان» يصبح محط آمال الجميع، وكثيرًا ما يجعل منه انتصاره خبيرًا وملقنًا فينتصر، في الوقت ذاته، على الموت ويبلغ الأموات عن طريق ولادة ثانية، مثل الشمس أو الشمس مثله تدخل الظل وتخرج منه، طلوعها ولادة و«مغيبها» ليس إلا موتًا ظاهريًّا … إن الشمس في الأساطير تدخل مملكة الظلمات، تعبر الجحيم دون أن يمسها الموت. ولذلك كثيرًا ما يكتسي البطل صفات الشمس أو لمعانها وإشعاعها وتظهر في جسمه وخاصة في العينين أو في شعره (قوة شمشون في شعره).
بهذا يتميز البطل الملحمي وتلك بعض خاصياته الأساسية، ونحن لم نلمح إلا لما هو أساسي فيه وإلا فإن الإحاطة تتطلب الجرد الدقيق والاستقصاء الطويل لعدد لا بأس به من الملاحم.
غير أن أهم ما ينبغي استخلاصه من الحديث عن البطل الأسطوري هو أنه كان، سواء في الملحمة، أو غيرها من أنواع التعبير القصصي التي ظهرت بعدها، كلمة السر ومفتاح كثير من المغاليق ومنطلقًا لغزو عالم جديد ومثير تتجسد فيه ضروب وأشكال الصراع التي عاشها الإنسان بمفرده أو مع الجماعة. ولن يفلت بطل الأعمال القصصية والروائية، فيما بعد، من استعارة كثير من ملامح البطل الأسطوري، ومن الوقوع تحت تأثيره، بل إن الجماعة لم تكن لتقتنع به بطلًا إلا إذا كان يشع بمثل ذلك البريق، ولعل أبرز الأعمال الروائية تحتفظ لأبطالها بسمات الدهشة والإثارة حتى وهم بسطاء ونماذج من قلب الدهماء والحياة المناسبة على وهن.
إلا أن روايات وقصص الفروسية والمخاطرات كانت كلها تقدم نموذجًا شائهًا وزائفًا للواقع، وكانت أكثر ارتباطًا وتلازمًا مع الأسطورة والملحمة. ولذلك قلنا أن رواية القرن التاسع عشر هي الجديرة بتقديم المفهوم الحقيقي للبطل كما تبلور ونما في الأدب الحديث.
لقد تخلصت الرواية الحديثة والموضوعية من تضخم وأسطورية البطل وجبروته وقوته التي لا تقهر، وانتزعت نفسها وبطلها من زحام المغامرات والتضحيات الخرقاء ومن عالم المثل، وجذبته، أو بالأحرى، جذبه المحيط الجديد الذي أخذ يعيش وسطه إليه وهو محيط جديد تسوده علاقات اجتماعية مغايرة لما كان سائدًا في الماضي، إنها علاقات المجتمع التجاري الجديد، وعالم الصناعة والقيم البرجوازية المتطورة، وضعت حدًّا لعهد الإقطاع وجاءت لتبشر بالحرية والمساواة وقيمة الفرد، ولتعطي إشارة الانطلاق لعالم جديد ستصطرع فيه قوى اجتماعية ذات مصالح متباينة، وستتبلور منه، تدريجيًّا، القيم الاقتصادية والفكرية للرأسمالية. وحين يقال بأن الرواية الحديثة مدينة في ظهورها للبرجوازية، فلأن هذه، بفلسفتها وأخلاقها ومصالحها، خلقت الإطار الصحيح الذي تتحرك فيه الرواية وينمو فيه شخوصها، وهم شخوص حقيقيون، منبثقون من عالمها ومن صراع الأضداد الذي خلقته، ليسوا منفصلين عنها أو غرباء إزاءها ولكنهم يعبرون عنها أيما تعبير.
إن الرواية الواقعية هي التي قدمت البطل الذي كان غائبًا وأنزلته من سماء المثل وملاحقة سراب الأوهام إلى أرض الحقيقة والصراع اليومي والمعيش، وليس الصراع الوهمي أو القدري أو العاطفي.
إن مجموعة الروايات التي تتألف منها الكوميديا الإنسانية للروائي الفرنسي الكبير أونوريه دي بلزاك، تقدم لنا عددًا بارزًا من الأبطال والشخوص الممثلة لقيم العصر الجديد ومحتوى الحركة البشرية داخله. ولعل أهم ما يمكن استخلاصه للبطل من سمات في هذه الروايات أو في الأعمال المشابهة لها أو التي نهجت نهجها الواقعي هو أن البطل فيها لم يعد ذلك الشخص المتمتع بالمواهب الفريدة، والمقدرة التي لا يستعصي عليها شيء، ولم يعد مغلفًا بأستار المجهول والأسرار الشائكة، كما أنه كف عن أن يكون محور وملتقى كل الأفعال والأحداث أو صاحب الحل والعقد الذي تنتهي إليه كل الوقائع والمصائر، ويشكل مصدرًا ورمزًا للنصر أو الهزيمة. لقد اختفى أيضًا، ذلك السحر الخرافي الذي يغلف البطل بهالة من الجاذبية والإثارة ويغرقه في بحبوحة القبول أو الرفض المطلقين، وبكلمة واحدة، لقد مات إلى غير رجعة أو بعث بطل الملاحم والفروسية وعالم الإقطاع والنبلاء، وولد البطل الجديد، الخارج من أحشاء عصر متبدل استلمت طبقة التجار والصناع زمام المبادرة فيه وفرضت انتهاج الواقعية في الأدب والفن الروائي فأصبحت في الفن المعادل الموضوعي، الضروري والمطلوب.
إن هذه الطبقة هي التي خلقت أبطالها وفرضتهم على ساحة الواقع وجعلت من القيم التي صنعوها، والتي انبثقت من حتمية التغير الذي أصاب المجتمع مثلًا جديدة ارتقت على انهيار المثل القديمة، وانطلق أفرادها يخوضون غمار التجارب والمواجهات التي تثبت أقدامهم وتنشر تعاليمهم، وهي تعاليم مستمدة ومتجلية في ممارسات اقتناص الفرص واهتبال الربح وتحدي الطبقات القديمة وإعلاء شأن الفرد المحنك، الذي لا يملك رصيدًا من جاه أو نبل، ولكن يملك شجاعة أن يفرض نفسه ويثبت موهبته في عالم معاد له.
إنهم أبطال من حياتنا، هؤلاء الذين تقترحهم علينا الرواية الحديثة، وهم شغوفون بالوجود بيننا، وهم من لحم ودم وفكر. وحين كانت الرومانسية تخترق مسام أوروبا وتمتلئ بها النفوس، وكانت قيمة الفرد قد أصبحت على كل لسان وتفكير، مع النزعة التحررية التي هيأت لذلك، حينئذٍ ظهرت الروايات التي أعطت للفرد المجال الوسيع للتنفيس عن مكبوتاته، ورغم الطابع الرومانسي، والانفعالي الذي ألقى بسيمائه على الأشياء، رغم ذلك، فإن الإنسان الحي المتوثب الذي كانت ذاتيته مهدورة تحت ضغط تعاليم الكنيسة والإقطاعية، والذي كانت الروح الكلاسيكية تستبعد وتستهجن الحديث عنه أو جعله مدارًا ومرتعًا للتعبير عن اهتمامات العصر والواقع، هذا الإنسان هو الذي تقدم إلى المواجهة، إلى ساحة الفعل، وعبره راح الكتاب الرومانسيون يحفرون مجرى أفكارهم وتأملاتهم، والأمر، هنا، لا يتعلق ببطل ذاتي أو وجداني يجنح إلى هذه السمة أو ذلك الإحساس قدر ما يتصل الأمر بسيماء فكرية معينة لفترة من الفترات ومدى قدرة الشخصية على إبراز هذه السيماء وبلورتها، وفي القدرة، أيضًا على الربط بين الفكرة المجردة والمعاناة الشخصية، وأخيرًا في الوشائج التي تمتد بين الملامح الفردية والمسائل الموضوعية، العامة.
(٣) القصة القصيرة والبطل
تحدثنا في السطور السابقة عن موقع البطل في الرواية، وما ذلك إلا لأسبقية هذا النوع الأدبي واحتفاله الكبير بالشخصيات والنماذج البشرية ولاقتطاعه شرائح واسعة وعوالم كبرى من الحياة يتحرك على جنباتها أبطال يصنعون أنفسهم ويعكسون واقعهم ويجسمون مختلف ظواهره وتناقضاته، وذلك حسب ما يتتبعه الكاتب، ووفق درجة الوعي التي توفرت له عن مجتمعه.
ونريد أن ينصرف حديثنا، الآن، إلى بحث قضية البطل في القصة القصيرة كي نستبين موقعه من هذا الجنس الأدبي الفتي والمكانة التي أخذها عنده، ولنتعرف على الخصوصيات المفردة التي انطبع بها وعرف بها عن نظيره في الفن الروائي.
والحق أن القصة القصيرة مدينة في ظهورها ونشأتها للتبدل الذي مس الواقع ودفع طبقات وفئات بشرية، كانت، سابقًا، رهينة الظل أو القهر لتتصدر مواقع الحياة ومنابت إشعاعها. إن إدغار ألان بو، غوغول، تورجنيف، تشيخوف وموبسان قد اتجهوا كلهم إلى رصد الأبطال الجدد لعصرهم، واتجهوا، بصورة خاصة، إلى الطبقة المتوسطة يدرسون أوضاعها وأزماتها مبرزين، على امتداد مئات القصص، أعقد اللحظات والفترات المأزومة في حياتها. إن القصة التشيخوفية والموبسانية تختار لها الأبطال المغمورين، أولئك الذين اضطربت ظروف عيشهم أو ساءت أحوالهم المادية، أو فقدوا الأمان في مجتمعهم، تطحنهم أزماتهم أو يطحنهم القهر الطبقي المصلت عليهم: الفلاحون عند تورجنيف، والموظفون الصغار عند تشيخوف، والمومسات عند موبسان، والبحارة والجنود والمقامرون عند همنغواي، والكتبة والمستخدمون والتائهون عند سلنجر. وهؤلاء، كلهم، ظهروا على مساحة الرؤية الجديدة، وتناوب على حالاتهم القصاصون المذكورون وغيرهم فقتلوها معالجة واستقصاء، فأصبحوا، بذلك، مجتلى القاص الحديث ومدار اهتمامه.
هكذا، إذن، أصبح بطل القصة القصيرة بسيطًا، عاريًا من الأوصاف، خلوًا من الإصباغ والإسقاطات، بريئًا من كل تضخم أو تعظيم. على أن هذا كله لا يعفيه من البطولة والحضور في قلب الرؤيا الجديدة ومتسعها. فمفهوم البطولة ليس واحدًا أو نهائيًّا، وحركة الواقع والمجتمع هما اللتان تفرضان هيكله وسمته. وتلك الحركة هي التي جعلت الرأسمالية تنجب نقيضها ومعولها وتفقس الفئات المتوسطة والرثة وتجعلها تحتوي وتجسم أزمة الرأسمالية، بما يقع عليها من استغلال وامتهان مادي ونفسي.
إن القصة القصيرة تصور لحظات غفل من حياة الناس، وتقتنص انتقالات وعوارض مشعة، وكثيرًا ما تكون تلك اللحظات مرتبطة بوضعية بشرية محددة، بل إنها، في القصة القصيرة، تكون مركزة على شخصية نموذجية تكتسح مساحة الواقع، وتلخص، بكثافة، رموزه وملامح التأزم فيه، وتنبني على حركتها خطى الواقع المحصول أو المنفرج والمتفتح نحو المستقبل. إن القصة القصيرة هي الجنس الأدبي الذي احتفى بالبطل أكثر من أي شيء آخر حتى ليكاد التنوع الحاصل بين كتابها والتيارات الموجودة ضمنها يكمن في موقف كل كاتب ورؤيته لهذا البطل أو ذاك، هذا، بالإضافة، طبعًا، إلى عناصر العمل الفني والقصصي الأخرى.
وإذا كان رالف فوكس يؤكد في نهاية تحليله عن موت البطل بأن المهمة الرئيسية للرواية هي إعادة الإنسان إلى المكان الذي ينتمي إليه في الرواية، وأن يضعه في صورة كاملة للإنسان المعاصر في محاولته ليصبح سيد حياته ومالك مصيره، وبأن البطولة يجب أن تعود إلى الرواية لتعود لها شخصيتها الملحمية، إذا كانت هذه هي دعوة الناقد الإنجليزي الحارة فإن الرواية والقصة القصيرة في المغرب بل وفي العالم العربي نفسه، ممعنة في التجرد من مسوح البطل ومتفانية في تدميره، والأمثلة على ما نذهب إليه وافرة، وعلى الطرف النقيض نجد أدب الشعوب الاشتراكية وشعوب العالم الثالث تحتفي بالشخصية الإنسانية في قلب المجتمعات الجديدة، وهي تدك السيطرة والاستغلال وتجدد حياتها ونفسها ومصيرها.
(٤) مفهوم البطل في القصة القصيرة بالمغرب
- (١)
جدة الفن القصصي في الأدب المغربي وطراوة عوده، إذ من المعلوم، كما بينا في الصفحات الأولى من هذا البحث، إن فن القصة القصيرة يعود في نشأته، على أكثر تقدير، إلى السنوات الأولى من الأربعينيات، على ما يكتنف هذا التحديد من صعوبة، وإنه في أول نشأته ظهر في أكثر أشكاله بدائية وبساطة، فلم يكُن يملك من خصائص هذا الفن سوى عنصر الحكاية، الذي، كثيرًا ما كان يختلط بغيره من عناصر ومقاصد الوعظ والنصح أو بالعنصر الوصفي المطلق، أي الممتد بلا حدود أو اعتبار للإطار القصصي وأغراضه ومقاصده، وهو بحكم هذا كله ما كان يطمح أو يملك القدرة على خلق أية شخصية أو اقتراح أي نموذج ذي مقدرة فنية أو فكرية أو غيرها.
- (٢)
لم يكُن الكاتب المغربي من حيث شروعه في تدبيج قصصه ينطلق من فهم مكتمل أو منظم للقصة القصيرة، كما أنه لم يجعل غايته إقامة العالم القصصي كما كان ينشده القاص في المغرب أو في المشرق العربي. لقد كان القاص، عندنا، ينطلق على سجيته مسترفدًا من ثقافته اللغوية ورصيده الأخلاقي وفهمه المحدود لمجتمعه متقصدًا غايات أخلاقية صرف، وحين يكتمل أمامه العمل المنجز لا يهمه، بعد ذلك، أن كان قد وفي بالشكل الفني أو استجاب لمجمل المطالب التي يستلزمها الخوض في غمار القص القصير، والتي تعد من بينها، ولا شك، خلق الشخصية وارتكاز الأفكار والمواقف عليها.
- (٣)
لم يجعل الكاتب المغربي أو القاص المبتدئ في المغرب ضمن مشروعه القصصي مسألة خلق البطل أو الشخصية أو النموذج الفني المتميز والمتجاوب مع القضايا الأساس الخاصة بالفن والفكر، والتي سعى إلى بثها وتوصيلها، وفي ذات الوقت لم ينبذ هذه المسألة أو يغفلها إغفالًا تامًّا. فقد اقترح علينا، فعلًا، أبطالًا ونماذج بعينها، ولكن دون أن يدرك الوعي المطلوب لمقومات الشخصية الفنية من نحو، والمقومات الموضوعية للبطل من نحو آخر، ورغم ذلك فمن غير الملائم أن نحكم عليه بالإخفاق لأنه، كما أسلفنا، لم يورد معالجة البطل وطرحه ضمن مشروعه القصصي.
- (٤)
لقد كانت البطولة منعدمة في الواقع، وكان الكاتب المغربي الذي أوكل لنفسه مهمة التأطير القصصي لهذا الواقع يلاحظ الغياب المطلق لمعنى البطولة وكيانها، وذلك في ظروف الهيمنة الاستعمارية والقهر والقمع اللذين فرضهما على الشخصية الوطنية. وهذا لا يعني، بتاتًا، بأن الشخصية الوطنية كانت منعدمة أو متلاشية، ولكنه يظهر، على نحو خاص، تواريها تحت ضربات المستعمر، ويبرز، في الآن عينه، استعدادها للخروج من الكبت والقمع المفروضين عليها. وقد وجدنا أن الكاتب المغربي قد نقل صدى النضال الوطني وكفاح المقاومة الشعبية إلى قصصه، وذلك ليؤكد الحضور الوطني ويبرز الشخصية التي ظلت غائبة. وهو حين عمد إلى ذلك فلكي يقدم تصوره الخاص للبطل الغائب أو المفقود.
إن أخذ هذه الاعتبارات والملاحظات في الحسبان، إلى جانب أخرى غيرها، سنعرض لها خلال التحليل، سيبين لنا إلى أي حد يصعب على الدارس رصد مفهوم البطولة في قصتنا القصيرة، وبوجه خاص، خلال مراحل نشأتها الأولى.
- (١)
الذي يتضمن أو يتوفر، أولًا، على تسلسل متواتر ومنهجي لقيم البطولة ومراتبها وتعدد مستوياتها، ويكون مرتبطًا — أي هذا المفهوم — بالعناصر المعقدة والمتشعبة للواقع ومتضمنًا لها بحيث تكون تلك القيم قادرة على أن تعكس في حدود ومجال الوعي الاجتماعي لدى الكاتب الظروف الموضوعية التي يتحرك البطل ضمنها وبتأثير منها.
- (٢)
وثانيًا، لا بد أن يتضمن النتاج القصصي القصير حصيلة الذاكرة الفردية والقومية في أبرز تجلياتها. إن مفهوم البطولة يرسم، بذلك، نسقًا من المظاهر والرؤى التي تقدم على ساحة الفعل والحدث القصصي حركة الواقع والمجتمع بمختلف مظاهرها ومساربها، الثابتة منها والطارئة والعابرة مجسدة في سلوك الأبطال ومناهج حياتهم ونفسياتهم وأزماتهم. إن البطل القصصي ليس شيئًا آخَر سوى التصعيد الفني للواقع الموضوعي، الخارجي، وكلما استطاعت القصة القصيرة أن تمتلك الرؤية الشمولية، المقتبسة من فهم الذات والموضوع، الأصيل الراسخ، والطارئ العارض كلما أمكنها أن تقترح البطل الواقعي أو البطل البديل المشخص لملامح الرؤية الاجتماعية، الظاهر منها والخفي.
- (٣)
وهل نملك أن نغفل عن عنصر رئيسي في سياق التعرض للخصائص الأساس للبطولة، ونعني به وجود الشخصية المتميزة، القائمة بذاتها، المستقلة بكيانها، الجهيرة بصوتها، البواحة بمشاعرها وانفعالاتها، والتي لا تكون، مطلقًا، بوقًا أو آلة نفير يستخدمها القاص ليصدر منها ويوجه من خلالها أفكاره وآرائه. إن البطل الحق في اعتقادنا، هو الذي يقدم وكأنه يعيش غربة تامة بين ذاته وبين الكاتب، فتتحقق له، بذلك، قدرات الانطلاق والإفصاح، الفعل أو العجز، الحركة أو الركود، الخلق أو العقم.
بيد أننا حين ننحو هذا المنحى في فهمنا لمعنى البطولة لا نريد أن ننكر على أدبنا القصصي إنكارًا كليًّا احتواءه على مفهوم ما للبطل، ولا نريد أن نستبعد عنه، أيضًا، استبعادًا تامًّا اشتماله على محاولة لتضمين النثر القصصي الملامح والشخوص والمواقف البطولية. إنه، فعلًا، يتوفر على المحاولة وتبني نماذج، عن فهم نسبي، ولكنه رغم ذلك لا يسعفنا للقول بأنه أدب قصصي توفر على نماذج للبطولة محددة ومتميزة يتوافق كيانها الفكري والحياتي مع تشخيصها الفني والجمالي.
على أن جانبًا كبيرًا من رأينا هذا ينسحب على المرحلة الأولى من عمر القصة القصيرة أكثر مما ينسحب على مرحلة التطور والنضج، ذلك أن هذه المرحلة الأخيرة اتسمت — كما تميز ذلك وتبين في الفصول السابقة — باستيفاء شروط النضج والاكتمال وبالتمثيل لمعنى التجربة القصصية روحًا ونصًّا. وقد أتاح لها نضجها وبلوغها مرام الوفاء لتقنية القص القصير أن تصل إلى القصد الفكري والاجتماعي من حيث تمكنت من رصد نماذج حية من الواقع وتقديم ورسم الأبطال المعادلين لأحداثه وشخوصه، على اختلاف في الفهم والوعي لدى كتابها، فتوزع النصوص القصصية أبطال ينتمي بعضهم إلى الشرائح المتردية والمنهكة من واقع الناس وأبطال تطحنهم أزماتهم الفردية البسيطة والمعقدة في آنٍ، وآخرون لا انتماء لهم أو مجردون من الهوية الشخصية يلخصون واقعًا بأكمله إلى أن وصلت القصة القصيرة إلى حد يصعب معه القول إنها ذات بطل. وأصبح من اليسير وصفها بأنها تجردت من البطولة كما أمكنها أن تتجرد من الحدث والحبكة التقليدية.
هكذا، إذن، يمكن أن نخلص إلى أن دراسة البطل في القصة المغربية ينبغي أن تؤخذ بنوع من التجوز والنسبية فيما يخص قصص مرحلة النشأة وما تلاها إلى حدود بدايات النضج الأولى، وبهذا لا نعد بطلًا كل شخصية استحوذت على اهتمام القاص وجعلها محور النص القصصي، وإن كنا، في أحيان كثيرة، مضطرين إلى النظر إليها، بصورتها تلك، نظرًا لانعدام بديل لها ولا ننساق وراء تحليل عميق للبطولة من شخوص أو نماذج باهتة أو تعد مجرد ظل أو صدى لكاتبها.
إن دراستنا لمفهوم البطولة، على ضوء هذا المعنى، ستكون افتراضية أكثر منها نقدية، لا تستدعي العناصر والقيم الأساس التي لا بد من توافرها، وإنما تكتفي بالرصد الشكلي لها، وقد تبحث عن البطولة في أكثر من مجال وتنفذ إليها في أكثر من وجه وسياق.
(٥) مراحل ونماذج لصورة البطل وهويته في القصة القصيرة بالمغرب
(٥-١) البحث عن البطولة من خلال الواقع وعبر القيم والأخلاق الاجتماعية
منذ أن ظهرت القصة القصيرة وهي شديدة الالتصاق بالمحيط الاجتماعي الذي ولدت فيه ونمت وكبرت، خاضعة لمختلف الأهواء والتيارات التي تهب عليه وتتعاقب من حوله، وذلك أكبر دليل وبيان على أنها كانت، دومًا، نثرًا واقعيًّا وموضوعيًّا. لقد ولدت بسيطة مع بساطة الظروف التي هيأت لنشأتها وأخذت تغتني وتتضخم وتتعقد مع غنى وتعقد الظروف نفسها. إنها، إذَن، أسيرة كل التبدلات التي تطرأ على ساحة الحياة، وموضوعاتها وشخصياتها، بدورها، نبت وجزء جوهري لا ينفصل عنه قيد أنملة، ومن ثم كانت أجواؤها ومحتوياتها شديدة الحساسية لكل طارئ جديد أو أثر عارض، لا يكاد أثر من آثار الجدة والتغير يفلت من قبضة سردها ومنعرجات وصفها وتشخيصها. ولكأنما كان وازع الرصد للتغيير الذي يمس الحياة هو الذي دفع الكتاب في المغرب إلى اتخاذ القصة القصيرة قالبًا أدبيًّا للتعبير عن إحساسهم تجاه هذا التغيير، ولتسجيل موقفهم وموقف الناس من التبدل الذي راح يعتري العصر ويطوي معه معالم الماضي إلى غير رجعة.
ولقد توجهت القصة القصيرة المغربية، أو ما اصطلحنا على تسميته، كذلك، تجوزًا، إلى اتخاذ موقف الفحص والنقد الاجتماعيين وإلى ترصد ظواهر الواقع وما يطرأ عليه من تغير، ومن ثم كانت القيم الأخلاقية والاجتماعية هي مجتلى هذه القصص ومسرح بروزها، لا تكاد كتابة قصصية تخلو منها، بل إننا لا نعدم وجودها في أي مشهد وصفي أو حوار، أو سواه مما يكون بنية القصة القصيرة وعالمها.
وإذا كنا في الفصول الأولى من هذه الدراسة قد رصدنا قسمًا خاصًّا لدراسة هذا الجانب والإحاطة به، فإننا نريد، هنا، أن نقف على مفهوم البطولة بما يقتضيه الموضوع الذي نحن بصدده، وأن نضع اليد على كيفية تبلور هذا المفهوم من خلال القيم الأخلاقية والاجتماعية التي حبلت بها هذه القصص، وذلك كجزء من صورة الواقع والعصر الكلية.
وهي ثلاثتها تنتمي إلى مرحلة التجربة الأولى، وتعبر عن اتجاه هذه المرحلة خير تعبير، كما أنها تفي بالقصد الذي نسعى إلى الوصول إليه على خير وجه.
إن الصفة الجوهرية التي تطبع هذه الشخصية هي الارتباط بالماضي والانشداد إلى كل ما هو عتيق، ومعاداة ما قد يحف بهذا الماضي أو ينتابه بسوء أو خدش. إنه الموقف الأساسي الذي تقدمه لنا القصة وتستقطب حوله عناصرها وصراعها. وهكذا لا يمكن النظر إلى عمي بوشناق إلا كجزء من الماضي، وكحلقة متأخرة من سلسلته الطويلة التي لم تنقطع عراها بعد، وكمظهر من مظاهر الغربة الشخصية والحضارية وسط الغربة الكبرى للجديد القادم، الذي كان يأخذ طريقه ويهجم بأسلحته وإغراءاته التي لا يصمد أمامها شيء، والتي تثير من حولها زوابع الاختلال والتحول.
إننا إزاء قيمتين اثنتين تتصارعان في الواقع وتتجاذبان البقاء والاستمرار، وكلتيهما جزء من هذا الواقع، وكل منهما تزاحم الأخرى وتسعى لخنقها كي تتولى الصدارة. وقد استطاع القاص عبد الرحمن الفاسي أن يكشف عن هذا الصراع من خلال المواجهة الحادة بين قيم جيل آيل إلى الانهيار، عاجز عن التحول، وبين القيم الجديدة الغازية التي تكتسح كل ما حولها وتجذب إليها الأنظار والأمزجة والعقول.
وإذا وجدنا عبد الرحمان الفاسي قد عرض الأزمة مبطنة في نسيج التكوين القصصي، ضامنًا لها ما أتاحته له موهبته وثقافته القصصية من شروط العرض الموضوعيين، تاركًا للقارئ فرصة التخمين والاستيحاء، فإننا نجد المرحوم أحمد بناني، القاص الرائد، يثير مشكلته من البداية إثارة مباشرة دون تخف أو التواء، فكأنما هي قضية تعرض على محكمة الحياة، وعلى هذه المحكمة أن تفضها وتوجد لها الحل الملائم.
يبدأ أحمد بناني بطرح الأسئلة التاريخية صريحة وواضحة، إذ يثير حيرة الشاب المغربي أمام المعضلات التالية:
أي مذهب يتبع؟ أي زوج يختار؟ أي أديب يصطفي لذوقه؟ أي موسيقى يختار؟ أي زي يرتدي؟ أي سلوك يتبع؟ حتى الساعة بالضبط الوقت لا يدري أيجعلها شمسية أو إدارية.
إنه وجه جديد من وجود التجديد التي لحقت العصر وتسربت إلى الواقع المغربي وطفقت تهز كيانه وتودي بما استقر فيه من مفاهيم ومعتقدات إنها قيمة التجديد أخذت تمس الحياة وتعصف بكل ما هو بال ومتقادم في محيط الناس، وهي تندفع قوية غير مبالية ليحدث الاختلال، أولًا، وهو ما يسبب الصدمة في الواقع والنفوس، ولتجاهد مع رياح العصر المتجددة كي تضمن لها البقاء والرسوخ.
ولنا أن نلاحظ أن القاص أحمد بناني إذا كان قد أحاط بهذا الوجه من الاختلال الذي عرفه محيطه الاجتماعي، فهو لم يقف منه على الحياد ولكنه اتخذ موقفًا يتراوح بين الرفض والحيرة في آن واحد، إنه يعتبر ما حدث «أزمة» وهو يصف الطيور بأنها «ما عادت تثير ذلك النشاط والانشراح»، مما يكشف عن الحسرة والأسى على ما كان، وهو موقف سلبي تجاه الوافد الجديد، وإن بقي، في الختام، أسير حيرة لا شفاء لها، ولذلك نراه يتساءل: فما مصيرها؟ الله وحده أعلم بذلك؟»
على المنوال نفسه وباللهجة ذاتها ومن المنطلق عينه يقدم لنا أحمد بناني نموذجًا قصصيًّا يتضمن صورة أخرى عن بطولة القيم الجديدة في صراعها مع القيمة المتردية ولكنه في نموذجه الجديد، هذا، يصوغ النموذج ويرسم إطار القضية بكيفية ملونة وبنبرة مأساوية. وما نحسب أنه فعل هذا إلا ليرينا مدى الصدع الذي حدث في النفوس، والاهتزاز الذي أصاب الأفئدة، وهي ترى عمد حياتها تنهار وأسس كيانها تتخلخل، فتتخلخل معه كل قناعاتها وتصوراتها، ولا تجد من سبيل لمواجهة هذا كله سوى الاستسلام أو الزوال، كيف لا ومنطق الحياة يقول بالبقاء للأصلح!
وقد كان الاصطدام بين هذين الموقفين المتعارضين، وبين القيم السائدة والقيم الوافدة، على اختلاف هذه القيم، هو المؤهل لأن يحظى بالبطولة في بعض قصص تلك الفترة، وهو الذي أخذ باهتمام عدد لا بأس به من كتابنا ممن كانوا حريصين على التصنت للوعي الاجتماعي وجس نبضاته.
وإن القصص التي قدمناها، شاهدًا على هذا الموقف، ليست إلا نموذجًا من نماذج عدة تبين لنا حضور القيم الاجتماعية والأخلاقية والصراع الذي قام حولها، وكيف أنها كانت البطل الحقيقي في النصوص والصراع الذي قام حولها، وكيف أنها كانت البطل الحقيقي في النصوص القصصية المدبجة.
(٥-٢) حين يتصدر التاريخ البطولة
إننا إذا تركنا القصة القصيرة التي تجسم مواقف البطولة من خلال القيم الاجتماعية والحضارية نجد أمامنا معاني أخرى تظهر فيها قيم البطولة، وتجسد بكيفية قوية وباهرة، أيضًا، تطلع القاص المغربي، منذ البداية، إلى استجلاء ماضيه وحاضره، والكشف عن الوجوه التي أمحت أو كادت تمحي من الأيام المجيدة للعرب والمسلمين.
لقد وجد القاص المغربي نفسه، وهو يؤسس لبنات وكيان عالمه القصصي أن حاجته إلى الدعم المعنوي والسند الحضاري مطلب لا يمكن تناسيه أو التغافل عنه، ولا مناص له منه، إذا أراد أن يضمن لكتابته القصصية بعدها الفكري والكفاحي كذلك، ووجد أن الالتفات إلى التاريخ واستحضار الذاكرة التاريخية من شأنهما إغناء عالمه القصصي بكثير مما يفتقر إليه، خاصة أمام ضحالة ما يقدمه الواقع وإمحال صور المجد وتلاشي أفانين ما كان لدى المغاربة والعرب عامة.
أجل، كانت القصة التاريخية في الأدب العربي على العموم ضربًا من المواجهة المستمدة من عناصر ومرتكزات الماضي لدحر شحوب الحاضر وغياب الإنسان فيه، فالماضي يقدم، هنا، كبديل لحاضر باهت ومختل وغير منسجم، إنه حافل بصور البطولة ومظاهر العمران والمجد والتجديد، أما الحاضر فهو مهتز الأركان، شائه الملامح، لا قدرة له على أن يبعث في النفس مرحًا ولا في الفكر تألقًا، إنه كالجمود أو هو الجمود عينه.
إن الكاتب العربي في اتجاهه إلى الاستفادة من تاريخ وتراث أمته كان يريد أن يضمن جملة أشياء:
- أولًا: كان تحدي الحضارة الغربية قد بلغ شأوًا بعيدًا، وكانت الأمة العربية غارقة في سبات عميق تحت سيطرة العثمانيين حين ألقى الغرب بقذائف مدافعه من عرض البحر ليحيل رميمًا ما كان قد تداعى من أركان العمران والفكر. ولم يكن للوعي العربي العلمي، آنئذٍ، وجود، كما لم يكن الوعي الموجود حينئذ، في مستوى المجابهة. أليس التاريخ، عندئذٍ، هو السلاح الوحيد.
-
ثانيًا: إن الموقف الشعبي الفطري الذي يبرز عند
التجمع أمام حلقات القصاصين والرواة الشعبيين لا
يكاد يختلف كثيرًا عن الموقف القصصي الذي تبرزه
وتبلوره القصة التاريخية، حين يستعيدان، معًا،
وبنوع من التهويل، بالنسبة للأولى، حكايا
الأقدمين وصولات الأسلاف وجولاتهم، مذكرين بماضٍ
فانٍ وقديم متوار، مخلفين في النفوس شعورين
متضاربين: أحدهما شعور الخيبة والحسرة المريرة،
وثانيهما نقيض للأول، وهو شعور العزة والفخار
بالماضي الذي يحمل النفس أو قد يحملها على ركوب
المخاطر ويشحذ الهمم، ويقدح زناد العزائم كي
تستفيق من غيبوبتها وتواجه مهام الحاضر ومقتضيات
البعث والتجديد.
القصة التاريخية، كما تعرفها عند الأستاذين جرجي زيدان وأحمد سعيد العريان، وسواهما، وكما سجلتها يراعة قصاصينا المغاربة أمثال عبد الرحمن الفاسي، عبد الله إبراهيم، محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، هذه القصة، أيضًا، تنشد ذينك الهدفين وتسعى إليهما، وسواء تحققا معًا أو تحقق أحدهما فإنها تكون قد أدت مهمتها وبلغت مرامها.
-
ثالثًا: هل كان من السهل على المثقف والكاتب العربي
أن يحصر مجال اهتمامه وحقل أفكاره وإبداعه في
هموم الحاضر وأخلاق وقيم العصر التقليدية، والحال
أن وطنه منهوش الأعضاء، مقسم الأجزاء يغير عليه
الاستعمار من كل جانب ويعبث بتراثه ويعيث فسادًا
في أركانه وقيمه هل كان سهلًا عليه أن يخلد إلى
قصص المشاعر والأهواء الذاتية ويصرف نفسه عن
معضلات الناس وآلامهم المتمثلة في إهدار كرامتهم
وضياع هويتهم والدوس على حريتهم وشخصيتهم
التاريخية والدينية، التي طالما تغنوا بها
وتفاخروا وتناشدوا بخصالها ومزاياها؟!
لقد كان التاريخ، إذن، هو العزاء، وهو البديل، وهو السلاح لمواجهة تداعي الحاضر بتماسك الماضي، وهو أيضًا اللقاح الجديد لجسد الأمة كي تينع وينتفض في ذبولها أزهار.
- رابعًا: لقد كان الناس في حاجة إلى أبطال، وهذا الحاضر ميت أو كالميت، لا يقدم إلا الهزيمة والبوار، فمن أين بالأبطال إن لم يستخرجوا من جيوب التاريخ وأحشائه ليجسدوا، عودًا على بدء، صفات الخلود والقوة والعزة المفتقدة في الحاضر، كي يلهبوا النفوس ويشحذوا الهمم.
وهكذا، فإن البطولة في القصة التاريخية هي البطولة الحاضرة الغائبة، المفتقدة المستعادة، الآفلة الساطعة حيث يصبح الماضي بطلًا والحاضر مدمجًا فيه، يغدو وعدًا ببطولة، وبين المتحقق والوعد تمتد كتابة القصص التاريخي القصير في المغرب، من خلال نماذج ومواقف وصور عدة، يشترك في صنعها الإنسان والفكر والعقيدة.
(٥-٣) النموذج: الواقع والمثال
يعتبر محمد بن عبد العزيز بن عبد الله رائدًا من رواد الكتابة القصصية القصيرة في المغرب، ورائدًا، أيضًا، للقصة التاريخية التي قدم فيها غررًا ونماذج بديعة، وإذا كان قد وجد من اشترك معه في هذا الفضل ونافسه في هذا الميدان، فإن ما كتبه من قص تاريخي يعد، بحق، واسطة العقد وحلية هذا النوع القصصي في أدبنا المغربي الحديث، بلا منازع.
والقصة الأولى طويلة وممططة، تضطرب بين القصة القصيرة والطويلة وبين الرواية القصيرة، وكنا قد لمحنا إلى هذه الخاصية في مستهل دراستنا للقصة التاريخية في المغرب، تزدحم فيها الوقائع والأحداث بالشخصيات والأوصاف وصور الطبيعة ازدحامًا شديدًا يضيع قدرة التتبع عند القارئ. والقاص يُعنى أيما عناية بالطبيعة وصور العالم الخارجي ويزجي على شخصياته أغنى الأوصاف وأبهاها، ويدمج ويستطرد ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وفسح لها مكانًا خلال السرد أو الوصف أو الحوار. كل هذا وسواه جعل قصته هاته وقصصًا أخرى غيرها أميل إلى القصة الطويلة أو المسلسل الروائي، أي المسرحي المتبذل، منها إلى القصة القصيرة، غير أن ما يقنعه، في اعتقادنا، هو الافتتان بروح الفترة التي يتحدث عنها وما تم فيها للمغاربة من نصر وسؤدد على أعدائهم من الإسبان والبرتغال.
وإذا تجاوزنا هذه الملاحظة الأولية فسنجد أنفسنا، بعد ذلك، في عالم يحفل بصور المخاطرة والإقدام والبطولة، عالم البطولة هذا تجسده «عائشة» أولًا، وهي المكناة ﺑ «شقراء الريف»، ويجسده القائدان أبو العباس وأحمد والجيش المغربي الذي سيحاصر مدينة العرائش وأصيلا، بعدها، ويطرد الإسبان منها ويجلوهم عن أرض الوطن.
ذلك شأن عائشة، وبها ومن خلالها، ستمتد أحداث القصة ومسلسل وقائعها، وستتبلور صورة الفروسية والشجاعة العربية الأصيلة. عائشة، هي ملتقى الأحداث ومنطلق المغامرات ومصب النصر والغنيمة، فهي تخرج إلى المحيط ومنه تركب باخرة للأعداء متنكرة ثم ما تلبث أن تفر من المركب سابحة قرب شاطئ العرائش، متسللة بعد ذلك إلى المدينة، ملتوية في دروبها ومنعرجاتها إلى أن انتهى بها التطواف إلى دير تجد فيه ابنة عم لها، كان الأعداء قد اختطفوها إليه، فتخفيها هذه عن الأنظار في انتظار إكمال مهمتها الخطرة، ثم تشرع بعد ذلك في العمل فتطلع على أحوال العدو وجوانب ضعفه وتستكمل عدتها بعد حفر السور للفرار والالتحاق بالقائد أحمد الذي كان قد عسكر بجيشه خلف أسوار العرائش بعد أن حاصرها حصارًا تامًّا. ثم تتوالى مشاهد المعارك والنزال والتقاء الجيشين إلى أن يطرد الإسبان فارين بجلدهم على ظهر السفن الباقية وقد أخلوا البلاد لأهلها وتركوا الحكم والسيادة لأصحابها.
على أن ما هو أكيد في قصة «شقراء الريف»، وفي قصة «الجاسوسة المقنعة» ليس ذلك الجو الملحمي المرصود ولا صور البطولة والإقدام لذاتهما، ولكن الأهم، والأكثر إثارة، والأوفى بالقصد، هو ما يتوخاه القاص من وراء ذلك كله، ودلالة استعراض الماضي والتذكير بعظمة وآيات القوة والنصر فيه. فالعرائض المحررة أمس على يد السلطان المغربي هي العرائش المحتلة اليوم، ثانية، الواقعة في أغلال الأسر ضمن الوطن كله. وسبتة قرطبة التي يزحف نحوها يوسف بن تاشفين في قصة «الجاسوسة المقنعة» ويحررهما ويحميهما من شره الأعداء وتكالبهم، هما، أيضًا، ناسختان في قيود الذلة والانصياع.
أين تألق الماضي، إذن، من أفول الحاضر وهشاشة عوده، فأين الجحافل المغربية التي كانت تثير النقع أمس وتعلو حمحماتها عنان السماء؟ أين صليل السيوف وصقال الدروع؟ أين ذلك كله؟ لكأني بعبد العزيز بن عبد الله يحيلنا على صورة الماضي والحاضر، معًا، ويدعونا للمقارنة ويدفعنا للتحفز من جديد كي ننهض ونبعث ونواجه الغاصبين المحتلين.
أحسب أن هذا هو منشد القصة التاريخية وقصدها الثابت، وهو، لعمري، منشد نبيل، يدفع الناس إلى التأمل في غرر ماضيهم ويجعلهم يتفكرون ويتأملون في أحوالهم، وقت الاحتلال الفرنسي.
وهذا، وسواه من قيم البطولة وارد في القصة التاريخية، كما كتبها محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، ويعد حلقة من سلسلة مفاهيم ومراحل البطولة ومواقفها، كما تواترت تباعًا عند القاص المغربي.
(٥-٤) البيئة كبطل
نريد أن نقترح، الآن، مفهومًا جديدًا للبطولة، يختلف عن التاريخ وعن سابقة العلاقات والقيم الاجتماعية والحضارية، المدرسة سلفًا، وإن لم يكن اختلافًا جوهريًّا وحاسمًا. إن صورة البيئة، ملامحها وما يسودها ويتخللها وجملة المواصفات والعلاقات التي تضطرب داخلها والتي يعيشها جيل متميز من الناس، هو الذي يشكل البطولة ويحدد عناصرها.
لقد كانت صورة البيئة، المحيط الاجتماعي الخارجي، وكافة العناصر التي تشكله محط عناية وتفحص القصاصين والروائيين، ولكنها، بالنسبة للقصة المغربية القصيرة لم تجد تجليها الحقيقي وتبلورها المنظم والمتكامل إلا على يد قلائل، على رأسهم أحمد عبد السلام البقالي، من قصاصي الرعيل الثاني لجيل ما قبل الاستقلال. ذلك أن هذا القاص شغف شغفًا شديدًا بوسطه وتشرب جزئياته وتفصيلاته الدقيقة تشربًا جعله لا يكاد يترك شيئًا إلا وأفسح له حيزًا ضمن السياق والسرد القصصيين. وتنحت الطفولة، بصورة خاصة، في ذاكرته آثارًا وذكريات يعسر أن تمحي أو يطالها النسيان. لقد باتت، وإلى الأبد، ذكريات موشومة في الذاكرة الاجتماعية والتاريخية، وهي تكتسب قدرتها على الإيحاء والإشعاع من امتلاكها للبعدين الاجتماعي والتاريخي، معًا، أي أنها ليست أي ذكريات، كتلك التي تعلق بذاكرة كل منا عن صباه ومرابع طفولته وفتوته، ولكنها مرتبطة، وهذا هو الأساس، بواقع في حالة غليان وعلى منعطف التحول والتغيير، على منعرج تبدل يريد أن يمس صفاته ويهز أركانه القديمة التي كان وما يزال يرتكز عليها ومستندًا في كيانه على وجودها وعدم تزعزعها، فهي صلب وجوده ومثوى هيبته وجلاله ثم هي، من وجه آخر، وثيقة الصلة بالبنيان الحضاري والتاريخي لجماعة من الناس، ساكنه حضر، جذورهم مغروسة في تربة تشدهم إليها وينشدون إليها بأكثر وأقوى من آصرة، أجل، وثيقة الصلة بالمكونات المختلفة التي تصنع نسيج العلاقات المادية والإنسانية في محيط اجتماعي بذاته، وهي لهذا السبب ولغيره ليست غفلًا أو حكايا يغلب الوهمي فيها على الواقعي أو تعلو فيها نبرة الجبن على رنة الصدق والأسى أيضًا.
من هذه الجهة، تكتسب قصص أحمد عبد السلام البقالي أهميتها وتنال استحقاق المرور إلى صف الأعمال التي استطاعت تسجيل اغتراب التاريخ وأفول المجتمع، وتطلعهما، معًا، إلى أفق أكثر ضياء ومدى وأكثر اتساعًا.
على أن مفهوم البطولة الجديد الذي تقترحه علينا قصص البقالي لا يكاد ينفصل عن الوجود الفردي والشخصية الذاتية. حتى أن القارئ لها قد ينشد انشدادًا كليًّا إلى الشخصيات العديدة التي تتوزعها وينصرف كل اهتمامه وتتبعه إليها، وما ذلك إلا لما تملكه من سحر وجاذبية، ولما يطبعها من حركة وحيوية، ولسلسلة الأحداث والمغامرات المشوقة والباهرة أحيانًا، التي تذهب فيها، مما يجعلها تستولي، بهذه القدرات، على اهتمام القارئ وتجعل، أيضًا، إمكانية حيازتها للبطولة أمرًا لا يحتاج إلى كبير جدال.
ونحسب أن هذا الاعتقاد إنما يتأتى، لأول وهلة، من الانجراف مع سيل الأحداث، ومكانة الأدوار التي تحتلها الشخصيات والأفعال التي تقدم عليها، والتي، تشكل في النهاية، الحصيلة الشكلية للتجربة القصصية. وإلا فإن معاودة القراءة واستشفاف التجربة وتفحص السرد القصصي ستولد لدى الدارس شعورًا وإدراكًا متمايزين كليًّا عن الذي وقر في ذهنه أول الأمر، ذلك أن هذه الشخصيات المبثوثة والمندمجة في سياق الأحداث والأفعال ليست إلا أدوات ووسائل، سيقت، على أهميتها وفعالية حضورها لتوظف التوظيف الذي يخدم هدف القاص ويؤتي الأكل المثمر لتجربته، وما هذا الأكل سوى العرض «البانورامي» لبيئة محددة ومتميزة، ورفع السجف التي تحجبها، وكشف الغطاء عن محاسنها وعيوبها، وإظهارها، في لحظة فريدة، لحظة امتداد المعاول لكسر الجلاميد التي تعلوها، لحظة التحول والانعطاف، وهذا، بالذات، هو مفهوم البطولة كما تقدمه قصص البقالي، وذلك هو الفعل الأساس الذي تقدم عليه الشخصيات، والذي يجعلها تندمج في صياغة بطولة المجتمع، بطولة البيئة القديمة الراغبة في التفتح والتجديد.
فما هي بطولة البيئة، إذن، هذه التي يقدمها لنا القاص أحمد عبد السلام البقالي؟ وكيف، ومم تتكون العناصر التي تمثلها؟
يقف في الطرف الثاني من واجهة الصراع، ممثل الأخلاق والتقاليد، والحريص على ثبات الأمور وحسن سلوك التلاميذ، الفقيه «سيد الغزواني» ويغنينا الوصف الذي قدمه له القاص عن كل زيادة أو تعليق: «كان سلطان هذا الفقيه الشيخ يمتد إلى ما وراء جدران مدرسته … وصولته الروحية تتغلغل في قلوب كل من عرفوه … فكانوا لا يعصون له أمرًا … ولا يحصون له وزرًا: كان شريف النسب من «آل غيلان» أكبر بيت في «أصيلا» انتهت إليه الأسرة ونقابة الشرفاء، فكان يمثل المحافظ المتطرف أدق تمثيل يأبى الاختلاط بالأجانب ويأباه على كل من يحب، فهو لم يتخذ لنفسه يومًا من الأيام رسمًا «فتوغرافيًّا» ولم يخرج قطُّ إلى الأحياء الأوروبية خارج أسوار المدينة، ولم يلبس ثيابًا لم تكن معروفة قبل الاحتلال … فهو يستنكر على تلاميذه لعب الكرة ودخول السينما … وكانت القلوب مجمعة على حبه وخشيته.»
إن هذه الصورة، وحدها، تكفي لتعلن عن صلابة وقوة الطرف المواجه والمتصدي له، والذي يصطف خلفه جيش عرمرم من السكان التقليديين والحريصين على أنفسهم ودينهم وعاداتهم من البوار وروح العصر الجديد.
والقاص، يتجه رأسًا، إلى الواجهة الاجتماعية، إلى الصورة الاجتماعية المطروحة من خلال واقع يومي وتاريخي، في آن، وهو ينتزع هذه الصورة من المتحف، إذا جاز لنا أن نستعمل الكلمة استنادًا على ثبوتيتها وسكونيتها التامة، الرافضة لمنطق التغيير، وهو ينطلق في ذلك من معاينة ومعايشة للظرف الحضاري الجديد، الذي أخذ يعرفه المغرب نتيجة الاحتكاك بالمستعمر والوضعية الجديدة التي تولدت من مجاورة الدخيل الأجنبي.
لقد ولدت هذه الوضعية الجديدة صراعًا حادًّا على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وأحدثت أكثر من شرخ، وشرعت تحدث دبيبًا وارتعادًا في أوصال المجتمع وحياة الأفراد، وتعلن أن رياح العصر الجديدة التي هبت مع الغزو الاستعماري، ستهز مع هبوبها وفي طريقها، كثير من الأركان التي باتت قابلة للانكسار والاستبدال، كما ظهر، أيضًا، أن هذه الرياح ليست شرًا كلها، بل إن فيها ما هب عليلًا فأنعش النفوس وجدد الأفكار — والمسألة في النهاية ليست سهلة البسط. فهي تتصل بأشكال حضاري جديد وجد مجتمعنا المغربي التقليدي نفسه قبالته ولم يكن من السهل عليه تسويته أو التلاؤم معه بسرعة. وهي حالة لا تخص مجتمعنا وحده، بل تخص كل المجتمعات التقليدية والمتخلفة التي استيقظت من رقادها على مدافع الغزو الاستعماري وتدافع جيوشه.
ويلتقط أحمد عبد السلام البقالي، من خضم هذا الصراع وهذه المجابهة، فئة اجتماعية في محيط تقليدي ويكشف عن ألوان الاصطدام فيما ببينها، وهو صراع قاس ومستميت يتنازع فيه الخصمان حقهما في البقاء والاستمرار، وهو حق تاريخي دونه الموت والفناء.
يصر فيه الفتيان ممثلو المستقبل ورواده على ألَّا يحلقوا شعرهم وأن يشقوا عصى الطاعة على الآباء «والفقيه سيد الغزواني»، ويصر هذا الأخير، كممثل للمجتمع القديم، على خلاف ما يريدون. والصراع، هنا ليس شكليًّا أو منصبًّا على عوارض زائلة، ولكنه جوهري لأنه يحمل لهجة التحدي من طرف، ورغبة الخضوع والانصياع من طرف آخر.
والوضع الناجم عن المعركة بأكملها، والصراع، بمختلف وجوهه، قائم بين مد العصر والمستقبل والتجديد ممثلًا في الأبناء، والتلاميذ العصاة وجزر التقاليد وتزمت الآباء وصممهم عن نداء الجديد والحياة المتحولة تحت أنظارهم.
هذه هي البطولة الجديدة التي يقترحها علينا القاص أحمد بن عبد السلام البقالي، والتي أغنت، إلى جانب المعاني السابقة، مفهوم البطولة كما تواتر في القصة القصيرة بالمغرب، لما قبل الاستقلال، وعلى مشارفه.
عن نموذج البطولة، كما قدمه لنا أحمد عبد السلام البقالي، ينتهي تقصينا لمفهوم البطل في مرحلتي النشأة، والتطور الأولى، وهو كما تبين لنا مفهوم مرن قابل لاستيعاب أكثر من معنى والطواعية لأكثر من موقف، ليس وحيد البعد بأي حال، ولكنه إلى ذلك ليس مفهوم البطولة كما تقدمه لنا الأعمال القصصية والروائية الصحيحة، أي تلك التي ينتظمها عقد الفن القصصي والروائي الموضوعي الناضج شكلًا ومضمونًا، والمتطابق مع روح العصر وشروط الواقع.
لقد كان ما ذهبنا إليه، إلى حد الآن بحثًا عن معنا البطولة وسعيًا وراءها وليس حصرًا لها، بالضرورة. أو بالأحرى، فإن الملاحظات والتصنيفات التي عمدنا إليها، حتى هذه السطور، يمكن أن تعد مدخلًا لا غنى عنه لمَن يريد بحث واستشفاف الموقف البطولي، الذي سيقدر له أن يظهر ويغتني على امتداد الستينيات والسنوات الأخرى التي ستعقبها.
إن مفهوم البطولة، كما لمسناه لدى قصاصي المرحلة المذكورة، مفهوم بدائي، بسيط، يسير، غير معقد، مرن مطواع، كطبيعة المرحلة ذاتها التي كان القاص المغربي يعيش خلالها ويعاني داخلها ما يعانيه من هموم وأحاسيس، ولذلك تهيأ لنا أن نصنفه تصنيفات مختلفة، قد لا يحصل الاتفاق على تعددها ومضامينها، ولكنها رغم ذلك تظل قائمة الذات في النصوص القصصية وتعطي للدارس فرصة الفحص والاستجلاء يخلص من ورائها إلى ضبط معنى ما للبطولة. قد يكون هذا أو ذاك، ولكنه لن يكون بالضرورة، ذلك المعنى الذي يصوغ مصطلح البطولة أو البطل الذي تسمح بصياغته النصوص القصصية الناضجة والمتطورة.
(٦) ملاحظات حول مفهوم البطولة عند مطلع الستينيات
(٦-١) استقرار مصطلح البطولة
إننا نقف، عند مشارف الستينيات، على عالم بادي الاتساع، واضح التعدد، ينم عن تطور ويشي بتحول كبير يمس مستويات عديدة من الحياة وطرز التفكير وألوان التعبير. وليس ذلك إلا نتيجة لرغبة التغيير والتجديد التي أعدت البلاد نفسها لها، وانسجامًا مع الأهداف القائمة على استكمال تحرير البلاد، وإنشاء المؤسسات الديمقراطية، وبلورة المفاهيم الصحيحة لمغرب مستقل.
لقد كان الواقع كله، في الحقيقة، يعيش بطولة السعي والنضال من أجل خلق وترسيخ قيم جديدة، وهو بحث مضن وشاق، ومقدر له أن يتصل وتكتنفه الاضطرابات وتبذل من أجله التضحيات الجسام، ولن يجد سبيلًا إلى الانتهاء إلا بتحقق المرامي التي ولدته والغايات التي أشعلت فتيله. وقد كان الأدب جزءًا من عملية البحث الكبرى، إذ ارتبط، هو الآخر، بقيم التجديد، شكلًا ومحتوى، وراح يسعى، دون كلل، إلى الانعتاق من قيود التقليد والمفاهيم الجامدة والأساليب السطحية في التعبير والتفكير والتحليل، وجد في البحث عن نفسه من خلال إعادة اكتشاف الواقع، وتكوين علاقات ورؤى متطورة ومجددة، ضمن الأعمال والأشكال الإبداعية المختلفة.
وكما سجلنا لك في مطلع رسالتنا هذه، فقد كانت القصة القصيرة سباقة إلى تغيير سربالها وتجديد شبابها، وكان مقدرًا لكل العناصر الفنية والأسلوبية والفكرية فيها أن تتلون وتتشبع بروح المناخ الستيني، ومفهوم البطل واحد من هذه المفاهيم والمصطلحات البارزة التي يعمر بها كيان التجربة القصصية، ويقوم فيها، أيضًا، بدور خطير وحاسم.
وإن أول ما هو ملفت للنظر، بصدد هذا المفهوم اتجاهه المحدد هو وسعيه الأكيد نحو الاستقرار وابتعاده عن التعميم والتجريد والاختلاط أو الاندماج بسواه من الأوضاع والمواقف التي لا تخلو، بدورها، من روح البطولة ومعناها.
لقد رأينا، خلال بحثنا واكتشافنا لمفهوم البطولة في مرحلة الولادة والنشوء لفن القصة القصيرة، عندنا، كيف أن هذا المفهوم لم يكن، أولًا، واحدًا أو متجانسًا، ولم يكن، ثانيًا، يعبر، بالضرورة، عن الموقف العميق والراسخ للبطولة ولقيمها. وكيف أنه، بعد هذه السمات، غير ثابت، مضطرب، ومبلبل، مشتت وغير موحد الهوية يفتقد النسج المحكم واللحمة التي تجعله غير نافر أو نشاز ضمن التجربة الكلية، وإنما يأتي مقامه ومعناه واضح الدلالة، مترابط التكوين، قائمًا على القضية الواحدة المركزية، وهذه النواقص والعثرات كلها تجعل من الصعوبة استخلاص نظرية محددة عن مفهوم البطل وقيمة البطولة في القصة القصيرة للمرحلة المذكورة، وتجعلنا نعترف، هنا، بأن ما توخيناه في تحليلنا السابق لم يكن إلا محاولة في هذا الطريق الوعر، أي طريق تأسيس البطولة، الذي كانت قصتنا القصيرة تشقه، في بدايتها الفنية أو المتعثرة.
بيد أن القصة القصيرة، في مطلع الستينيات، وهي تجدد كما أسلفنا، شبابها، اتجهت إلى تهيئة أسباب الاستقرار، دون السكون، لمفهوم البطولة وتجعله لصيقًا بموضوعه، متوحدًا بتجربته، مقترنًا بالهموم الكبرى التي يعاني منها الناس، والتي تشكل محور التجربة الاجتماعية الجديدة، ممتزجًا بهذا الشرط الضروري الذي تنعدم بدونه كل بطولة، وهو شرط الوعي بالذات.
أجل، لقد كان مصطلح البطل مشتت الأبعاد، متنافر الملامح، فأصبح منسقها ومنسجمها، وكان انفعالي المعاناة سطحيها فشرع يتدرج نحو العمق والرصانة. وكان مهزوز المشاعر مشوش الفكر والنظر فبات يسعى أكثر إلى التنظيم والسداد، وتميز بأحادية النظرة وضعف الارتباط بين ما هو ذاتي وموضوعي فأضحى تركيبها ميالًا أكثر إلى الاستغراق والانطلاق من التجربة الاجتماعية التي، هي في ذات الوقت، تجربة ذاتية.
لقد اتجه مصطلح البطولة، إذن، إلى الاستقرار، وتمثل هذا، بصورة أخص، في توجه التجارب القصصية المتطورة والساعية إلى الاكتمال والنضج، إلى تقديم مجموعة من النماذج والشخوص الاجتماعية، النمطية منها والنموذجية، وهي في جملتها استطاعت أن تؤسس مفهوم البطل الجديد، وتقدم له صيغًا متعددة، تمتح كلها من بنية الواقع الاجتماعية وفضائه وشتى مكوناته. ونحن نجد أن هذا التأسيس لم يأتِ عفو الخاطر أو ابن فورة انفعالية أو إرادة خصوصية، وإنما تولد من المخاض الكبير، الذي كان واقعنا مسرحًا له ومجتمعنا يعرف أعراضه، ونجم عن تصور منسجم لحمته الذات التي راحت تتشكل وتنبعث لتحقق مطامحها وآمالها المكبوتة، وسداه المشروع الاجتماعي الكبير لشعبنا في النمو والتقدم والتحرر.
نعم، فكما ألفينا كاتب القصة القصيرة يجهد في تطوير التقنية والبناء القصصيين، ويحاول، بقدر ما أوتي من موهبة وتمرس جديدين ومفيدين، أن يضمن لتجربته مقاصد الجدة وامتصاص عناصر النضج والتكامل الفني، كذلك وجدنا القاص المغربي يعمل على صياغة النموذج القصصي الملائم لطبيعة المرحلة التاريخية والقادر على استشفاف وإبراز الخصائص الجديدة والمميزة لهذه المرحلة، وذلك بالصورة التي تجعل من موقف الشخصية، هنا، وموقف البطولة موقفًا حيًّا، حيًّا وعاكسًا للقيم المتبلورة وليس موقفًا تقريريًّا، أو تنظيريًّا، أو خطابيًّا على غرار الصورة التي قدمها لنا النموذج البطولي في قصة المرحلة السابقة.
ولم تتأتَّ إمكانية الصياغة هاته إلا لأن البطل وجد ساحته، واكتشف موقعه، وتبين دوره في خارطة الحياة الاجتماعية، أو بالأحرى، بات عليه أن يصنع هذا الدور ويكشف ذاته من خلال البحث المضني داخل نفسه وفي غمار الواقع المرهص بوعود الفعل والتحول، وهو قد أصبح واحدًا من علاماته المشعة والرائدة. لكن، هل نعني بهذا أن الوعي الفردي هو مصدر البطولة الجديدة وأن حضور الذات وحماسها واندفاعها كي تعمر ساحة الوجود الاجتماعي هو ميسم البطولة الأولى، والذي سيطبعها على امتداد مراحل نموها وصيرورتها عبر الستينيات؟ وهل نستفيد من ذلك، أيضًا، إن هذا الوعي هو الذي هيأ للمصطلح المدروس شروط وإمكانات الوضوح والاستقرار، وخول لنا، بالتالي، أن نقرن بين تطور الأجناس الأدبية — القصة القصيرة من بينها — وبين وجود مبحث أساسي هو البطولة في القصة القصيرة المغربية؟
إن الإجابة عن السؤالين المطروحين يمكن العثور عليهما عند تقصينا لمواقع البطل الجديد ومفهوم البطولة التي يقترحانها.
(٧) الفئات الاجتماعية الجديدة تصنع أبطالها
إذا كانت سنة ١٩٥٦م، في تاريخ المغرب الحديث هي السنة التي أحرز فيها المغرب على استقلاله، فإنها كانت، أيضًا، بداية لحركة ودورة تاريخيتين ستنطلق فيهما البلاد في مشروع تاريخي طويل الأمد لوضع أسس وبنيات المجتمع الجديد، الذي هو مجتمع الاستقلال والمغاربة المستقلين، هذا المجتمع الخارج توًّا من معركة التحرير الوطني واسترداد الكرامة المغتصبة، الوالج آفاق الاستقلال السياسي الفتي ودروب العمل المنظم والإنشاء والتنمية.
لم تكن سنة ١٩٥٦م، في الحقيقة، وفي حساب بعض قادة الحركة الوطنية والفئات الجماهيرية، إلا إعلانًا مؤقتًا عن الاستقلال ومنطلقًا جذريًّا للنضال السياسي المتجذر والعمل الاجتماعي المتوثب كي يعطي المغرب لاستقلاله محتواه الحقيقي ويتخلص من كافة الارتباطات التبعية والاستعمارية، ويحقق للسكان مطامح الكرامة والعيش الأفضل بعد أن تخلصوا من السيطرة المباشرة للمستعمر. ولعل من المسلم به أن هذا الطرح أو هذا المطلب إنما يعبر عن وجود تباين وتناقض مصلحي على صعيد الطبقات الاجتماعية المشكلة لكيان السكان وتركيبهم، كما سيعبر، فيما بعد، وبشكل أكثر حدة وعمقًا، عن حقيقة التصادم والخلاف حول الاختيارات الجوهرية للشعب المغربي.
وعلى الرغم من أن الخارطة السياسية لم تكن بالوضوح الكافي، عقب الاستقلال، وحزب الاستقلال هو الحزب الرائد حينئذٍ، والذي كان يمثل الجبهة الوطنية المشتركة لتحقيق مطلب الاستقلال، رغم ذلك فقد كانت الاختيارات متباينة في صف هذه الجبهة، وهي بحكم طبيعتها غير المتجانسة، أيضًا، اتجهت إلى البحث عن الأساليب والتصورات التي تحتوي وتنظم محتوى الاستقلال الذي تطمح إليه وتجعل منه منسجمًا ومتناغمًا مع الأهداف التي ترتئي فيها المطلب الصحيح والقصد السياسي المنهجي. إن الأمر، من هذا المنظور، ليس وقفًا على تنظير سياسي أو أيديولوجي بحت، على أهمية وحتمية ذلك، ولكنه رهين بتنظيم وتجميع وتوجيه صفوف الجماهير التي كانت تتعطش، حقًّا، لرص جبهتها وخوض سبل البحث عن مصيرها.
هذه الجماهير الباحثة والمتعطشة لعناق مصير جديد هي التي شكلت عشية الاستقلال الفئات الاجتماعية الجديدة، والصاعدة، وهذه الفئات هي التي أخذت تستشعر، بعد الاستقلال، واقع الاستغلال والكبت المادي والمعنوي، وهي التي وجدت أن مصالحها مرتبطة، حتمًا، بتغيير يمس بنيات المجتمع القائم.
(٨) هوية البطل الجديد
من هذه التشكيلة الاجتماعية انبعث البطل الجديد واستفاق ليخوض العراك اليومي الحامي من أجل العيش والحياة الكريمة، ومن أجل ضمان شروط الحياة الصحيحة وتحقيق مكان له في زحمة مصالح وتكالب الطبقات المهيمنة.
ليس البطل الجديد عالمًا بحرًا، ولا عبقريًّا، ولا نجمًا أو فارسًا لا يشق له غبار. ولكنه واحد من أفراد الشعب البسطاء، شخص بدون ميزات، وليست له مراتب عائلية أو فكرية، جزء من القاعدة الاجتماعية المتردية أو الأقرب إلى التردي، هذه القاعدة التي تسحقها متطلبات الحياة، والتي سيقدر لها أن تعرف التدهور على امتداد الستينيات من هذا القرن.
وهذا البطل ليس مغربيًّا فحسب، أو، بالأحرى، ليس مغربي البعد والانتماء، فقط، بل هو موجود في بلدان أخرى من العالم العربي، وفي البلدان الأخرى التي اصطلح على تسميتها بالعالم الثالث.
كان القاص المغربي متحسسًا، كمثقف، وكواحد من هذه الفئة الممتهنة، بالتحول الذي يمس بنية الواقع والتبدلات التي تعتري مواقعه، متلمسًا عن وعي أو عن حدس، بوادر الانعطافات لحركة الجماهير وثقلها، وأضحى لزامًا عليه أن يضمن في نصوصه القصصية ما ظهر طافيًا على سطح الحياة أولًا، ثم أن يبشر بالولادة الجديدة ويضعها في موقعها من الصراع الاجتماعي، وذلك في إطار التجربة القصصية الملتزمة.
كان هذا البطل، إذن، أمام مهمتين صعبتين ولازمتين في ذات الوقت، ولكن تطبيقهما هو ما يعطي لتجربته الأصالة والجدة، ويسمها بميسم الحضور والوعي، وقد توفر للبطل الجديد كل مؤهلات الاندماج في السرد القصصي، والقدرة على الإشعاع والتوصيل الفكري والإيحاء بما في ثنايا التجربة الاجتماعية.
فهو، أولًا، بطل في حدود النشأة، يخوض غمار التجربة الأولى، وليس بطلًا مكتملًا حسم قضيته. إنه، بالأحرى، مشروع بطل لم يجرب نفسه وإمكاناته بعد، ولم تتحدد أبعاده ولا صفاته كما لم تنبت له الجذور العميقة في قلب التربة الاجتماعية، ولكنه رغم افتقاده إلى هذه الصفات قابل للعطاء، متمكن من زمام المبادرة والعمل، إيجابي ولو انهزم أو انتكس، أنه، باختصار، حقل تجربة ولذلك فهو ثري بالوعد والخصب، وملتقى لتجربة الذات والحياة معًا، قيد التكوين تنعكس عليه كل الآثار وتشق منه، بعد ذلك، وكأنها جزء جديد تولد منه وحده.
وهو، ثانيًا، بطل مجسم لوعي الذات في أقصى اتساعها، وأرحب آمالها، وأشد تطلعاتها إلى العيش وتحقيق الكرامة وتخطي المثبطات. لقد استيقظ هذا الوعي، دفعة واحدة، بعد سنين الانتكاسة ثم التمرد على المستعمر، وآن له، حينئذٍ، أن يعوض عن الحرمان والغبن التاريخي. إن كل إغراءات العالم الخارجي تنهال، مرة واحدة، على هذه النفس الولهى الظامئة إلى تشرب وامتصاص عطاءات الوجود، وأكثر هذه العطاءات استجابة للآني وتلبية للوازع الملحاح. لقد أحست هذه الذات بانفصال جديد بعد أن ذابت في جسم المجتمع الكبير وانكمشت مطامحها وتواضعت، ولكن لا لتزول وإنما لتعود إلى انفصالها. ذلك الانفصال الذي يهبها تميزها ويحقق لها قدرة الانطلاق وتحقيق الرغاب.
وهو، ثالثًا، بطل معبر عن طموح تشكيلة اجتماعية صاعدة، وليس في هذا ما يناقض ذاتيته، لأن الذاتية هنا ليست فردية ضيقة أو جريًا وراء أنانية خصوصية. إنها جماع الذاتي والمشترك، ومن هذا تستمد قوتها وخصوصيتها.
إنه بطل الفئات المتوسطة التي امتلأت بها المدن عقب الاستقلال، وهي أقرب إلى الفقر والعوز منها إلى ما اصطلح على تسميته بالبرجوازية الصغيرة، السائدة أو التي تسود في العالم الثالث، وهي معرضة دومًا لضربات البرجوازية والاحتكار والمضاربة والأمية والعسف الاقتصادي والسياسي. إن وجودها في موقع المحنة يجعلها مستهدفة للتنكيل، كما يشحذها لتكون القوة المستقبلية الفاعلة والقادرة على تحمل أعباء النضال، وصنع الأبطال، نعم، إنها صانعة أبطال، وسواء كانوا إيجابيين أو سلبيين، وأيًا كانت المصائر التي انتهجوها وآلوا إليها في نهاية تطوافهم، فإنهم احتلوا موقع الصدارة في النص القصصي كما احتلوه في معمعان الصراع الاجتماعي والسياسي لمغرب الستينيات.
وهو، رابعًا، بطل مأساوي، لم يجن من كل صراعه مع مثبطات الحياة وعثراتها سوى الخيبة والنكسات، وقد جاهد جهادًا مريرًا، وبقدر ما جاهد وضحى كانت الخيبة والانكسار أقوى وأشد وأعتى. وقد تكالبت عليه كل ظروف القهر، ولكنه لم يستسلم، بل لعل بطولته آتية من الاندحارات المتعاقبة التي مرت عليه وسحقت مصيره، وهو لم يحصد من صراعه المتواصل والمرير سوى الفشل والإحباط، ولكنه، رغم ذلك، يواصل ولعله أشبه بطائر الفينيق، في الأسطورة الإغريقية، يحترق ويولد من رماده.
وهو، خامسًا، وأخيرًا، متوحد بقضية، ليس بالفرد الغفل، أو الإمعة اللامبالي أو الهارب إلى أحلامه، المستكين إلى حدود عالمه الصغير. إنه يخترق جدران النفس ويمد خطواته خارج المساحة المرسومة له، فضولي ذلك الفضول المباح والمثير، طموح يجد أن همه ليس واحدًا ولكنه متعدد ومتشابك لا وقع له ولا تأثير، إذا عاش العزلة واستطاب الوحدة، وقدره الانضمام إلى الآخرين والتكتل بهم، وفي الانضمام والتكتل تولد القضية ويصبح هو الشخص الغفل اللامنتمي، يصبح صاحب قضية ويندمج فيها، فتبرز من خلال وضعه الذاتي وتصبح أكثر إشعاعًا حين يكون هذا الشخص موجودًا في إطار تنظيمي محدد.
إن توفر هذه الميزات جعل من إمكانية صنع البطل القصصي أمرًا ميسورًا، وهيأ له المناخ والأسباب الكفيلة بظهوره على صعيد النص القصصي، وفتح أمامه مجالات الظهور والنمو والنضج، وخاصة، منها، إمكانات الصراع والحركة الدرامية، المتوثبة والفاعلة. إنه بطل لا يستعير أزمته، أو يفتعلها، أو يصطنع من ذاته أوهامًا مرضية أو يخوض معارك دونكشوتية.
لقد ولد البطل الجديد أو البطل الحق، بالأحرى، على صعيد الواقع، وتهيأ له، تبعًا لذلك، أن يظهر وينمو ويواجه ويصطدم وينتصر حينًا ويندحر في غالب الأحيان، على صعيد النص القصصي، وتوالت النماذج القصصية المتواترة، غنية، وعبر كل مجموعة من النماذج والصور والأوضاع والمواقف تتبلور رؤى حياتية وفنية متميزة، ذات لصوق شديد سواء بنبض الحياة وتطورها، أو بالنماء المسترسل للشكل القصصي الفني.
إن السطور السابقة حاولت أن تمهد الطريق، ليس غير، لمبحث البطل وهويته في قصتنا القصيرة، وإننا لنحس وندرك بأن تعقب خطى بطلنا الجديد واقتفاء أثره على امتداد النص القصصي الستيني لن يقوم بعبء بحثه وتقصيه سوى دراسة مستقلة، نرى أن الصفحات السابقة كانت تمهيدًا لها ومدخلًا إليها.
هوامش
وقد اعتمدنا هذا المصدر ذاته في معلومات وآراء، لاحقة حول مفهوم البطل والبطولة.