خاتمة واستخلاصات

هل يكتمل البحث في فن القصة القصيرة بالمغرب حيث وقفنا أم لعله يستطيع أن يبدأ، مجددًا وبسبل ومناهج أكثر جدة وتطورًا؟

وهل يعد ما أقدمنا على إنجازه في هذه الرسالة استيفاء لما أردنا من ورائه أن يكون تأصيلًا لجنس أدبي من الأجناس الحديثة في الأدب المغربي؟

بين هذين السؤالين امتدت المساحة المكتوبة من فصول هذه الرسالة، آخذة بأعناق بعضها، متساوقة ومتسلسلة ما أمكن تاريخيًّا ومضامين وتقنيات واتجاهات، من خلال السير المتأني والمرتكز على النص وما حوله، التكوين الخاص، والإشعاع الخارجي، وبالاعتماد على أدوات شتى وخلاصات ورواسب معرفية عديدة، متباينة، أحيانًا، ولكنها تساعد، في النهاية، على الوفاء بما وضعناه نصب العين ونحن في السبيل لتأصيل جنس أدبي حديث وربط حلقاته المفككة وتتبع مسار تطوره والقنوات المختلفة التي امتد إليها، ولكن بالصورة التي لا تجعلنا نقع في أسر النزعة التاريخية والانغلاق داخل سياج تاريخ الأدب، على الرغم من أن البحث في هذا المضمار لصق بالتاريخ الأدبي، وإنما كان الحرص وتوجهت الغاية، قبل الإقدام على هذا المشروع، وخلال تنفيذ مراحله، إلى رصد الظاهرة الفنية بما يلائم منشأها، محتواها وأبعادها، وبما يجعلها تنعكس في مرآة النقد الفني انعكاسًا صحيحًا ومحددًا فتبرز معها استقاماتها والتواءاتها، منبسطها ومنعرجها، أنساق التشكل والتبلور الفني، وجوه التقليد وملامح الجدة إن وجدت وجسر العبور بينهما، بالأدوات التي تلزمها الظاهرة الموصودة والنصوص المدروسة، موضوعة في إطارها التاريخي وضمن بيئتها المحددة وإحالاتها الاجتماعية، بعيدًا عن كل إسقاط فكري أو فني قد يدفع إلى مغبة التمحل والمعالجة النقدية المنتفخة التي لا يربط بينها وبين الموضوع مناط البحث سوى خيط واه لا يكاد يرى.

إن المعالجة الفنية والمضمونية كانت أمرًا مطلوبًا ما دمنا نسير في طريق وعرة، غير مكتشفة أو تكاد، وحتى ما هو مطروق فيها يكاد يكون، كله، أو جله، محفوفًا بالعثرات عرضة للتشوش والالتباسات أكثر منه قدرة على أن يهدينا سواء السبيل، ومن ثم، كان على الدارس أن يبدأ من حيث تنبغي البداية وأن يتتبع من الخطوات ويستعمل من الأدوات والممكنات ما يوفر لبني وطنه وللدارسين من بعده المنارات المفتقدة تنير أو تلقي بعض الضوء على المسارب المدلهمة في أدبنا المغربي الحديث، وهي، لعمري، مسارب عديدة، حبذا لو توفر طلابنا والمتحمسون للبحث العلمي الجاد على طرقها حتى تنكشف خارطة أدبنا الحديث وتتحدد خطوطها فنساهم في الإغناء والفهم الأعمق لثقافتنا الوطنية، والإبداع الأدبي عمدة رئيس من أعمدة هذه الثقافة.

بدأت هذه الرسالة التي جعلت موضوعًا لها فن القصة القصيرة في المغرب من حيث النشأة والتطور والاتجاهات باستقصاء الخلفية التاريخية والنظر في أهم الأحداث والوقائع التي كانت الفترة التي تتحرك فيها الدراسة مسرحًا لها أو ما سبق هذه الفترة بما لا بد أن يترك واضح البصمات وراسخ التأثير. والحق أن هذا الاستقصاء لم يتم لاعتياد كل والج للبحث الأدبي الأكاديمي من التعرض له ووضعه مدخلًا أو تمهيدًا لبحثه، فقط، ولكنه كان عندنا مطلوبًا يستدعيه الفن المدروس وطبيعة المادة المطروقة.

إن الربع الأخير من القرن التاسع عشر هو المدخل الطبيعي لمعرفة المغرب الحديث، في جميع ميادينه، وإبرام معاهدة الحماية في ١٩١٢م ستكون تتويجًا لإطلاق يد فرنسا وحلفائها في ثروات المغرب والتحكم في سيادته، وحركة بن عبد الكريم تجسيم فعلي لإرادة رفض المستعمر في شمال المغرب ودليل حيوي على استمرار وهج النضال الشعبي. أما الظهير البربري لسنة ١٩٣٠م فقد كان بداية قاصمة الظهر للمستعمر الفرنسي، ينطلق إثره المد الوطني، عفويًّا مرتبكًا، ثم منتظمًا، ليصبح منسقًا في حركة مطلبية تعلن عن نفسها في ١٩٤٤م، ويتواصل الصدام الوطني والاستعماري عبر حلقات وأشكال مختلفة ليفرز المحصلة الأولى وهي استقلال ١٩٥٦م، ثم بعد هذا الصدام تبدأ المجابهة بين الغانمين من الاستقلال والمسلوبي الحقوق من عامة المواطنين، وهي مجابهة انطلقت من ذلك التاريخ وما تزال تفعل فعلها إلى وقتنا الراهن.

داخل هذه الشبكة التاريخية وفي إطار بيئة ثقافية تقليدية، مرتكنة إلى الماضي متوجسة من الحاضر، انتفض الفن القصصي شبحًا، غائر الملامح إن لم نقل عديمها، في مساحة من الكتابة الشعرية والنثرية التقليدية بالأساليب والمعاني والقيم التي يتضمنها التراث الكلاسيكي.

فهل كانت هذه الانتفاضة من عدم أو وجدت بعض ما ولدها ودفع إليها في المحيط الأدبي؟

إزاء هذا السؤال امتد رأينا الذي يذهب إلى أن الفن القصصي في المغرب، شأنه في المشرق، ظهر منبت الجذور، ومن أين له عكس ذلك؟ وإن الأخبار والحكايات ومختلف الكتابات التي تتوفر على العنصر الحكائي، هذه كلها، إلى جانب المقامة، أيضًا، لم تفرز الفن القصصي، عندنا، كما نعرفه بأصوله وعناصره الفنية.

وإن هذا الرأي يجعل الباحث يتلمس ويحاول أن يدرك الأصول والقواعد الفنية التي قام عليها هذا الجنس الأدبي، والتي لا بد من الوفاء لها واستيعابها، وإلا أخذت الكتابة نحوًا شططًا ومن هنا فإن استعراض القيم الفنية والفكرية لفن القصة القصيرة بعد، ولا ريب، أمرًا مطلوبًا يستند عليه في معرفة الأدوات التي ستتخذ للتقويم والتقييم.

والقصة القصيرة في أبسط تعريف لها هي اقتطاع لحظة عرضية من حياة فرد أو مجموعة من الأفراد، والعمل على إبراز أو اكتشاف عنصر الصدم أو التضاد أو المفارقة — قطعة نثرية تحتفل، بالأساس، بأزمة الفرد، في منطلقها وتعقدها وانفراجها يستخدم القاص لذلك عناصر السرد والوصف والحوار، وتمثل الشخصية عنصرًا مركزيًّا في تكوينها وهي تعتمد الإيحاء والتلميح وتتجنب الأصوات المرتفعة.

جاءت قصتنا القصيرة الأولى بعيدة عن هذا كله، ولم تملك هذا التصور، فقد كانت الأخبار والحكايات القديمة تروى، ولا بد من استخلاص العبرة منها، فجاء كتابنا وهم في تمزق وتعثر بين قديم ملحاح وحديث مستورد ما يزال مهيض الجناح وإن توجيه العبرة والوعظ هي الخدمة الجليلة التي لا مناص من أدائها، ولأن القص الفني لم يكن هدفًا متقصدًا ولا مشروعًا سديدًا فإن الشكل الأول الذي ظهر به هذا القص في الأدب المغربي الحديث هو ما اصطلحنا على تسميته ﺑ «المقالة القصصية»، أي، هذا النص النثري الذي يقع وسطًا بين المقالة والأقصوصة يستخدم إمكانيتهما، معًا، بصورة شائهة، أو على الأقل متذبذبة وغير واعية وتكون الحصيلة إننا أمام شكل هجين يتلمس طريق القص الفني فلا يطاله فيما يتهافت فيه الأسلوب المقالي ومقاصده.

لكن هذه الصورة الأولى للقص ما كان ليغمط حقها أو تضيع مناقبيتها، وهي قائمة، بالفعل، فقد كان للمقالة القصصية ولمن سعوا لكتابتها، في الأغراض المختلفة، التي توجهوا إليها، قصب السبق وفضل الريادة ومحمدة اقتحام المجهول وكتابها مهدوا الطريق لغيرهم وبمحاولاتهم القصصية الأولى التي تبعثرت بين أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات يبدأ فن القصة القصيرة في الأدب المغربي، بدايته البدائية، العفوية، المتعثرة تلك، نعم، لا تعد شيئًا إذا ما قيست إلى ما وصل إليه تطور هذا الفن وتشعب فيه من مسالك، ولكنها بالنسبة للباحث نقطة انطلاق وعلامة رائدة.

حين تأتي المرحلة الثانية من الكتابة القصصية القصيرة التي أسميناها «الصورة القصصية» فإنها لا تكون، بالضرورة، تطويرًا جذريًّا بحيث تتخذ شكل قطيعة مع النهج القصصي البدائي، من جهة، وهي في الآن عينه، ليست متأخرة عنها زمنيًا بحيث نستطيع القول بوجود تسلسل زمني بين الشكلين.

إن مجهود الصورة القصصية الأساسي انصب على محاولة تفكيك الشكل الهجين السابق وتنحية العناصر المقالية من المقالة القصصية، بالمحتويات المتباينة التي اشتملت عليها. فهي، إذن، عملية صقل وتشذيب، ولكن، دائمًا، في خط السعي والمحاولة، وهي هنا محاولة جادة، لأن القاص أخذ يلقي ببصره وحس تطلعه على مرمى رؤية محددة، نسبيًّا، قادرة على الانضباط، في حدود، داخل الإطار القصصي، ومحاور هذه الرؤية تتوزعها الذات والمجتمع والتاريخ، وقد ترتبك وتتزحزح لتتعامد فيها، هذه، جميعًا.

إن القصد هنا ليس الوعظ أو الخطابة بل التقاط الصورة الدالة بنفسها وليس بإطلاق العنان لعقيرة الكاتب لتصرخ وتبلح بين السطور، وفوقها، ولكن بشيء هو كالحدث أو ما يشبهه وللشخصية القصصية، وهي تخرج من ذهن كاتبها ورؤيته المشوشة، تتجسد حية تحاول الجهر بصوتها الخاص بدلًا من الضياع في صوت القاص نفسه، وما دامت الغاية ريادة ومحاولة لاقتطاع لقطة أفقية وعمودية، في آنٍ واحد، وتعميمية، في كل حال، ثم لا تستطيع الانفلات من مزلق النبرة الخطابية وعسف الكتابة التقريرية وإيصال الغرض، أجل الغرض المستهدف، والحاضر بإلحاح في ذهن الكاتب، فإن الصورة القصصية، حينئذٍ تكون قد اقتطعت رقعتها الخاصة في المساحة القصصية الشاسعة ووجد بعض البون بينها وبين المقال القصصي أو القصة المقالية، ولكنها، في ذلك كله بقيت لا تملك خيوط القص الفني الكلاسيكي. إن شخصية وقصة «مجذوب زلاغ» لعبد الرحمن الفاسي خير حجة ومثال لما نذهب إليه.

لكن الصورة القصصية، رغم ذلك، توفرت على رصيد طيب من رصد الواقع الاجتماعي للظرف الذي ظهرت فيه، وسجلت، بأمانة، حينًا، وببعض التلوين والتحليل، حينًا آخر، المشاعر الذاتية التي راحت تلتهب بين رومانسية الذات المحسوسة والمجلوبة، والعيرة الوطنية إزاء هجوم استعماري كاسح استهدف مسخ الشخصية الوطنية ودك البنيات السياسية والاجتماعية وطمس الهوية القومية، ومن ثم كان اللجوء إلى التاريخ والإحالة على الأحداث والأمجاد العربية فيه، واستخدام الرموز المشعة في هذه الأمجاد. كل ذلك أعطى للصورة الفصلية، إلى جوار الاجتهادات الفنية التي ظهرت فيها، حضورها وأهميتها الخاصة في النسق العام لتطور الفن القصصي القصير بالمغرب.

هذا، وبما أن التطور الذي لحق القص القصير في المغرب لم يكن، بالحتم، أكيد الارتباط بالأحداث أو التحولات التاريخية، على الرغم مما سيطرا، فيما بعد، من صميم التفاعل والترابط الجدلي بين الواقع والنص، لهذا فلم يكن ينتظر أن ينجم عن حصول المغرب، مثلًا، على استقلاله بروز ملامح تطور أو تجديد حاسمة تلحق المعمار القصصي أو مدار الكتابة القصصية، ولعلنا سنجانب الصواب ونطال محالًا لو توقعنا حدوث مثل هذا، لأنه، انطلاقًا من الاعتقاد الراسخ بالتفاعل الحي بين الواقع الفني والواقع الموضوعي، فإن المغرب لم يحصل على استقلال حقيقي ولكن على استقلال شكلي في إطار معاهدة إكس ليبان، والتي ظهر فيها شبه تفويت للسلطة، أجل، تبدلت الحالة الخارجية، ولكن البنيات والركائز والهياكل استمرت هي ذاتها، ومن الهيمنة الاستعمارية انتقل الاستغلال إلى حفدته ونوابه وإلى عناصر البرجوازية والإقطاع تحصد الفنيمة.

لم تتزحزح علاقة النص بالواقع، تبعًا لهذا، وبالتالي، فإن ما كتب في السنوات المباشرة للاستقلال دار من حيث المحتوى على اجترار المضمون الوطني وتسجيل صفحات «البطولة»، أو في رصد النتوءات الأولى، التي أخذت تبرز على سطح الحياة اليومية للجماعات المغبونة، مما بدأ يمثل حلقة أولية في النقد الاجتماعي الذي ستخوضه القصة القصيرة عندنا، أو بعضًا من الهموم الذاتية للقاص، والتي راحت تتولد من انعدام التوافق مع الوسط الذي يعيش فيه. وقد كان هذا يقود، بطيئًا، إلى بروز الأزمة على صعيدي النص والمعاش، وانقشاع التضاد المخفي، وبداية ولادة اليد الصناع التي ستمتد لالتقاطه فيكون بذلك الدخول من الباب الواسع للفن القصصي القصير. وبما أنه البدء ليس غير، مع رصيد من التشذيب، لا يستهان به في تمثل في التخلص التدريجي من أوشاب النص السابق، فقد كانت مرحلة وسطى بين الصورة ومدخلًا للقصة القصيرة الفنية.

ثم تنهض بعد ذلك، تدريجيًّا، وبالتعاقب، الأسس والحوافز والتي تجعل فن القصة القصيرة يولد الولادة الطبيعية والشرعية، وإذا كان جيل الخمسينيات في مصر هو الذي بلور الفن القصصي القصير بصورته الصحيحة، والجادة، والتي وضعت يدها على جوهر الفعل والعالم القصصيين، فإن جيل الستينيات أو بالأحرى كتاب الستينيات في المغرب، هم الذين قدحوا زناد الخلق القصصي وعبدوا طريقه، بالكيفية التي نقلته من البدائية والتشوش إلى بداية امتلاك الصنعة واتضاح الرؤية، الفنية والاجتماعية، معًا، ومن صعوبة المرأس إلى يسر التناول واحتذاء خطى التقعيد القصصي الكلاسيكي.

ويستند مبحثنا في تخويل البداية الصحيحة للقص القصير، في المغرب، إلى مطلع الستينيات إلى عاملين يتبادلان التأثير بينهما:

– العامل الأول، اجتماعي صرف يتمثل في تهيؤ الأسباب الموضوعية للنشأة الشرعية للجنس الأدبي المدروس. ذلك أن تاريخ القصة القصيرة سواء في الأدب الغربي أو في الأدب العربي الحديث يرتبط ارتباطًا وثيقًا بظهور الطبقة الوسطى وبداية تحركها كقسم فاعل في المجتمع، ومعرض للاحتكاك والتأثر من قبل القوى الأخرى السائدة في المجتمع، وهذا التعرض بل والاصطدام هو الذي سيشرع في توليد التوتر وأحاسيس القلق والتذمر في صفوف الفئات الوسطى، مما يجعلها عرضة لشتى الأزمات التي تنعكس على نفوس الأفراد.

وقد ظهر أن القصة القصيرة هي أطوع الفنون وأكثرها قدرة على امتصاص لحظات القلق والتأزم من خلال التعرض لشرائح متباينة داخل الفئة الواحدة، ذلك التعرض العمودي، لأن الرؤية الأفقية هي من اختصاص الفن الروائي الذي يملك نفسًا أطول وتتاح فيه إمكانات التسجيل الكامل للشخوص والوقائع ومختلف المعضلات.

وعندنا، أيضًا، انبثقت هذه الفئات وسيقدر لها أن تكبر وتتسع وتنتفض، وتتدافع أزماتها الذاتية والاجتماعية، في معاناة حارة ومتمزقة تستهول مظالم الاستغلال والغبن الطبقي والتمزق الفردي، وكانت القصة هي الصوت المنفرد، على حد تعبير أوكونور، القادر على الجهر والبوح بهذا التمزق.

أما العامل الثاني فهو توفر الكاتب المغربي على العدة الفنية، والثقافية، على الأصح، التي تجعله قادرًا على النهوض بمهمة الفهم لمجتمعه وإدراك وجوه الصراع والتأزم فيه، ومن ثم، بلورة هذا الإدراك على النحو المستحب وتتكون هذه العدة من حصيلة الاطلاع على الثقافتين المشرقية والغربية، وبالذات، على النتاجات القصصية منهما، وذلك بتفاوت بين كاتب وآخر، وبالقدرة على توظيف ما استخلص منهما ممتزجًا مع الإحساس الفردي بواقع التأزم.

والحق أن العاملين تجاذبا وتفاعلا وكانا أساسًا هامًّا للتطوير الجدي الذي لحق فن القص القصير في المغرب. ومن منطلق الستينيات سيأخذ هذا الفن السبل والمناهج التي ستحدد مياسمه واتجاهاته، رؤاه الفكرية، وجمالية نسيجه، ولن يتم هذا التجدد ميكانيكيًا ولكن بين الاعتباط حينًا والقصد الواعي حينًا آخر.

ولقد زودتنا المرحلة الممتدة عبر الستينيات، في المغرب، بمادة قصصية وافرة نسبيًّا كتبت كلها، أو جلها، من أبناء الفئات الوسطى، ولكننا لا نعتد منها إلا بالقليل، وحده، الذي ندخله في حساب تقييمنا لأن ما شغلنا هو التواتر والانتظام وليس النص المفرد الذي كتب على سبيل الهواية أو التمرن ومن هنا كانت الأسماء التي تعاملنا معها، في بحثنا، محدودة، معلومة، هي التي أعطتنا اليقين بأحقية دراستها، دراسة تطور هذا الجنس الأدبي واتخاذه لمناهج شتى معها، ولو أردنا لتوفرت لنا مادة طائلة ولفاق حجم هذه الرسالة ما هي عليه، الآن، مما سيكون مبالغًا فيه. إن المهمة التي ارتضينا لأنفسنا هي التصنيف، بعد الاطلاع والجمع، بالطبع، ورصد الظواهر الكبرى في الاتجاهات البارزة على أساس من وحدة الرؤية أو تقارب خيوطها وتماثل النسيج القصصي وتناغم طرق العرض، فكان بين أيدينا ما يلي:

– القصص ذات الاتجاه الاجتماعي، وهذه جعلت محور النصوص القضية الاجتماعية، أي ما يلحق الفئات الوسطى من مظالم وتعيش فيه من نكد. وقد يقال بأن من المتمحل تحديد اتجاه بهذا الاسم ما دام الأدب، عمومًا، والفن القصصي، على الخصوص، ينطلق من صميم واقع الناس، ولكن ما نعنيه بالاتجاه الاجتماعي هو وعي القاص، سلفًا، بمشروعه وإدراكه لأهمية توظيف كتابته في الخط الذي انتهجه، ثم إفراده داخل هذا الاتجاه نفسه لأسلوب في المعالجة وطريقة في العرض، وفية لمنبته الطبقي وإحساسه الفردي، وهو ما ينقل الرؤية القصصية من التعميم والتجريد إلى شبه التفرد والتخصيص.

وإذا كان الناقد المجري جورج لوكاتش قد قال: «… إن الأمر يتعلق بالواقعية» فإننا نقول بأن القصة القصيرة في المغرب، قد ارتكزت، بعد الاتجاه السابق، حول قضية الواقعية فكرة ومنهجًا، وأن كل القصص التي كانت مناط الدرس، في هذه الرسالة، إما حامت حول هذه القصة أو اعتنقتها اعتناقًا مطلقًا، وقد تراوح هذا الاعتناق بين واقعية ساذجة وأخرى نقدية وثالثة منوعة محددة وواقعية عملت على إعطاء الذات الحيز الأكبر على صعيد النص وجعلها مفرزة النظر وتصريف الأمور.

وإذا كانت الواقعية أسلوبًا في المعالجة، أي منهجًا فنيًّا فإنها، كذلك، وبالحتم، موقف من الحياة واصطناع وجهة نظر محددة منها، أي أن علاقة الفن بالحياة تتحدد، كما يرى جورج لوكاتش نفسه، وفي منظور معين، وهذا ما يجعل ارتباط قصاصي الستينيات بالواقعية تعبيرًا عن موقف محدد لهم من الصراع الاجتماعي الجاري أمامهم ومن مخاض التحول العسير الذي تحبل به الأحداث اليومية، وهو المخاض الذي شكلهم وتشكل بهم في آن، كل وفق درجة وعيه وحجم ارتباطه بذاك الصراع. ولذلك فإن تنوع طرق العرض واختيار أساليب في المعالجة الواقعية بين هذا القاص وذاك ليس مسألة شكلية بحت، ولكنها قرينة بالموقف النظري السابق لها، ولو كان قائمًا في مرتبة اللاوعي.

على إننا سنعطي لقصاصينا حجمًا أهول من طاقاتهم إن نحن وقفنا عند هذا الحد أو نسبنا إليه مجمل التطور الذي اعترى القصة القصيرة، عندنا، إذ إننا موقنون أن مجهودًا نظريًا آخر تمثل في الحصاد الثقافي والتكويني، لكل قاص على حدة، أسهم بحصة وافرة في تشكيل الرؤية والمعالجة الفنية له، بل لعلنا نذهب الآن، في خاتمة بحثنا هذا، إلى القول بأن نصيب الموهبة والدرجة الفنية التي تهيأت بعد طول مراس والتمكن من تمثل حصيلة النتاج القصصي المتطور في المشرق العربي، وفي مصر خاصة، وفي الأدب الغربي لمن قرأه مترجمًا، أو بلغته الأم، كان له التأثير الأوسع والأنفذ على غيره الذي لا تخفى أهميته.

تجددت الواقعية، إذن، وتطورت ومعها اعترى القصة القصيرة تطور في لبوسها ونسيجها والقيم الفكرية والمادية التي حبلت بها وأفصحت عنها، وانفسحت أمامها شتى الآفاق مع نهاية الستينيات، وهي التاريخ الذي وقفنا عنده، واعتبرناه ختامًا لبحثنا، مما جعلها مع بداية السبعينيات، لعوامل عدة لا سبيل إلى ذكرها، هنا، تسير في مدارج التجديد شأوًا بعيدًا بحيث يحق لنا أن نزعم، دون ادعاء أو مكابرة، بظهور جيل جديد من القصاصين المغاربة استطاع أن ينفخ في القصة القصيرة العربية روحًا جديدة وأن يفصم أواصر التقليد والاحتذاء التي شدتنا إلى المشرق العربي زمنًا طويلًا، وأن يتخذ هذا الجيل لنفسه رؤية تغاير، أو تكاد، كليًّا، تجربة الماضي، مع الاستفادة بما مضى، ولا شك، ولكن بالتحرك على امتداد أفق رحب أصبح فيه الاعتكاف على النص القصصي ضربًا من الخدمة اليقظة والمكابدة للعملية الإبداعية، وسمت فيه الكتابة القصصية القصيرة عن الأغراض المباشرة والتوصيل الوظيفي العاجل لتنتقل إلى ما يدعى بالتجريب الفني، ولكنه، في نظرنا، الأكيد الذي يضع الفن في مرتبته وموقعه الصحيح دون أن يخل، أيضًا، بإسهامه في تقديم الشهادة عن الواقع الاجتماعي والمحيط الإنساني.

هذه التجربة الجديدة لم نتطرق إليها لأنها تشكل في حسباننا، منعطفًا حاسمًا نرجو أن نوفق في مستقبل الأيام للوقوف عليها إلى جانب قضايا ومسائل أخرى وثيقة الصلة بالقصة المغربية، فنجعل منها منطلقًا لبحث أكاديمي جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤