الفصل الثاني

فن القصة القصيرة
القيم الفنية والفكرية

قضية المصطلح.

مفهوم القصة القصيرة.

القصة القصيرة والصورة القصصية.

البناء العام للقصة القصيرة.

رواد القصة القصيرة.

***

أصبحت القصة القصيرة منذ أوائل هذا القرن فنًّا له أصوله وقواعده، وعناصره الفنية والمضمونية، وطرق التعبير التي تميِّزه عن بقية الفنون الأدبية، وتواتر الإنتاج في هذا الفن وتكاثر وأبدع فيه الكتاب ما شاء لهم أن يبدعوا، كلٌّ حسب موهبته وبراعته وتمثله للعالم من حوله. وعبر فترة زمنية تمتد من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وتستمر إلى وقتنا الحاضر، وملامح هذا الفن تزداد اتساعًا وتميُّزًا، وأطره وألوان التعبير فيه ترحب رحابة لا تعرف الحدود، على اعتبار أن الفن لا تأسره الحواجز أو الآفاق المرسومة، وجاء النقاد بعد ذلك، كما هو الشأن بالنسبة للشعر والمسرح وغيرهما من الفنون، ليتأملوا هذا الوليد ويتابعوا نموه ويحاولوا بعد ذلك تحديد المجال الذي يرتع فيه، ثم ليستخلصوا المقاييس التي يراعيها الكاتب القاص أثناء إبداعه، وليضعوا بعد هذا كله، أصول هذا الجنس الأدبي الجديد.

بَيْد أن الأمر ليس تمامًا بهذه السهولة، فالاختلاف كثيرًا ما يثور بين الممارسين والنقاد، والآراء تتضارب حول بعض الصيغ أو الشروط والتعريفات، كما تختلف أحكام النقاد في حق كاتب بعينه بتفاوت نظراتهم ووسائلهم النقدية، إلى حدِّ أنهم أحيانًا يضربون صفحًا عن المبدع الذي هو مصدر التجربة الفنية، ومن ثَم فإن دارس القصة القصيرة، يجد نفسه ملزمًا بأن يلقي بدلوه بين الدلاء، وذلك بأن يعمل على إعطاء فكرة شمولية عن الفن الأدبي الذي يدرسه، ويتناول ما قدمه الدارسون والنقاد حول الموضوع، ويقوم ما يراه خاطئًا أو معوجًا من الآراء، وله بعد ذلك، إنْ أمكن، أن يضيف رأيه إلى آراء مَن تقدَّمَه، كل ذلك حتى يتم للقارئ وللدارس نفسه الفهم الكامل لتتبع الموضوع المدروس ومناقشته.

ولعل أول قضية تُثار حول «القصة القصيرة» تتعلق ﺑ «المصطلح.»

(١) قضية المصطلح

وهنا لا نجد بين أيدينا آراء كثيرة، وكل ما قيل لا يَفي بالحاجة، كما لا يمكننا من ضبط حدود المصطلح، ولعل هذا طبيعي جدًّا، إذا عرفنا أن جل الفنون وقع فيها هذا الاضطراب في تدقيق وتوضيح سبب التسمية ومضمونها وما إلى ذلك مما يعود إلى أصول كل فن.

فالتعبيران الإيطالي والألماني «نو فليلا Nouvella ونو فيلين Nouvellen يُستعملان عادةً بصيغة الجمع للدلالة على وجود مجموعة. والتعبيران معًا يوحيان بكلمة News (أخبار) الإنجليزية، أي أشياء جديدة أو حديثة.
والكلمة الإنجليزية Tale حكاية، والفرنسية Conte — كونت — توحيان بالرواية، الشيء المسرود أو المحكي أو المعتاد روايته وأما مصطلح قصة قصيرة Short Story الحديثة فلها أصولها في كلمتي: استوار Histoire الفرنسية القديمة، وهستوري History بالإنجليزية.١
ومن هذا التعدد نجم الالتباس الذي علق بهذا المصطلح في أدبنا العربي الحديث، خاصة وأن هذا المصطلح بتحديده الفني غير وارد في أدبنا القديم اللهم من حيث المدلول اللغوي للكلمة٢ إذ وقع خلط كبير في تسمية هذا الفن، فهناك مَن يقول «أقصوصة» أي حكاية تقع في حجم صغير جدًّا، ومن قائل القصة القصيرة للحكاية الفنية ذات الحجم المتسع. ويبدو أن هذه التفرقة متعسِّفة وخاطئة إذ الأقصوصة والقصة القصيرة تسميتان لشيء واحد، ومصدر الإشكال راجع إلى أن كلمة «أقصوصة» ترجمة لكلمة Nouvelle الفرنسية.٣ و«قصة قصيرة» Short Story الإنجليزية.

على أن النقاد لم يهتموا بتدقيق تسمية المصطلح، بقدر ما اهتموا بالخصائص التي تميِّز هذا الفن عن غيره، وكذلك بوضع جملة من التعريفات، وبتحديد البناء العام للقصة القصيرة.

(٢) مفهوم القصة القصيرة

في الطريق إلى وضع مفهوم للقصة القصيرة تواجهنا مجموعة من التعريفات، تتضافر كلها في النهاية للوصول إلى هذا المفهوم.

فإدغار آلان بو، القاص الأمريكي الأول، يعتبرها قصة تُقرأ في جلسة واحدة.

وشكري عياد ينظر إليها على أنها تسرد أحداثًا وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية،٤ وهو تعريف مُقتبَس عن الناقد الإنجليزي «آلان فورستر» في «أركان القصة» إذ يقول: «أساس القصة هو الحكاية، والحكاية عبارة عن قص أحداث مُرتَّبة في تتابُع زمني مع وجود الحبكة، والحبكة هي سلسلة من الحوادث التي يقع فيها التأكيد على الأسباب والنتائج.»٥

ونجد الدكتور رشاد رشدي يعرف القصة القصيرة بأنها تروي خبرًا، ولكن لا يمكن أن نعتبر كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة، فلأجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه خصائص معيَّنة، أولها أن يكون لها أثر كلي، بمعنى أن الخبر الذي ترويه (القصة) يجب أن تتصل تفاصيله وأجزاؤه مع بعضها بحيث يكون لمجموعها الأثر أو المعنى الكلي.

ولقد سبق الناقد الإنجليزي، هيدسون، إلى هذا الفهم، إذ رأى أن «ما يجعل عمل الفنان قصة قصيرة هو الوحدة الفنية (…) التي تربط في لمساته المتباعدة في الزمان، وهذا طبيعي جدًّا إذا عرفنا أن القصة القصيرة، في عمومها، لا تتجاوز الفكرة الواحدة.»٦

وهذه إشارة هامة تحدد بدقة شرطًا أساسيًّا يلزم توفره في الأقصوصة أي الوحدة الفنية، وهو ما لم يلتفت إليه كثير ممَّن بدءوا كتابة القصصية القصيرة من المشارقة والمغاربة ظانين أن مقياس الحجم المحدد مع سرد حكاية أو خبر أمر كفيل بتسمية الإنتاج المكتوب قصة قصيرة.

ويلفت الدكتور يوسف نجم نظرنا إلى فهم أوسع يجعل «الأقصوصة تتناول شريحة من الحياة، ويسعى كاتب الأقصوصة إلى إبراز صور متألقة واضحة المعالم بينة القسمات لقطاع من الحياة يجب أن يؤدي إلى إبراز فكرة معينة.»٧
في حين أن هناك من النقاد مَن يرى أن القصة القصيرة أوسع من هذه التعريفات وأعمق، ويتأتى هذا الفهم مما استطاعت التجربة القصصية بلوغه لدى القصاصين في الغرب، والمتأخرين منهم بوجه أخص. فالقصة القصيرة عند الناقد والقاص الأيرلندي الكبير «فرانك أوكونور» Frank Ocoonor، تقترب من جوهر الشعر، بل إن تعريفه لها يكاد يجعلها في مرتبة الشعر: «القصة القصيرة هي صوت الفنان الذي يجلس وحده، يغني أفكاره الخاصة ويعبر عن موقفه الخاص من المجتمع في قالب قصصي معين، لهذا فإن فن القصة القصيرة من حيث هو تجربة لا من حيث هو قالب أقرب ما يكون إلى القصيدة الغنائية، ومن أهم خصائصها هذا الوعي الحاد بالتفرد الإنساني.»٨

ففي هذا التعريف نجد (أوكونور) يستعمل كلمات جديدة في هذا المضمار وذات دلالة شعرية، فهناك التغني بالأفكار، ثم الوعي الحاد بالتفرد الإنساني.

وسرعان ما نجد هذا التصور يسري إلى غيره من النقاد، وبنفس التمثل فالدكتور نعيم حسن اليافي يسجل أن «القصة القصيرة تشبه القصيدة في أن موضوعها واحد وهو الانفعال»٩ وأنها: «فن تفجير اللحظة الزمنية تفجيرًا يحيط بأبعادها الثلاثة، من حيث هو في الأصل خلاصة الماضي وانبثاق الحاضر وبؤرة المستقبل، تظل في التحليل النهائي كذلك هذا المزيج الشعري لعالم يتألق في ومضة، في بريق مفاجئ، ثم يختفي فجأة دون أن يتلاشى.»١٠

وبالإجمال، نستطيع أن نقول إن القصة القصيرة تتناول قطاعًا عرضيًّا من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفًا تستشف أغوارهما، تاركة أثرًا واحدًا وانطباعًا محددًا في نفس القارئ. وهذا بنوع من التركيز، والاقتصاد في التعبير، وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تُعد فيها الوحدة الفنية شرطًا لا معيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء. والتغلغل في وجدان القارئ كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية.

وبالنسبة للقاص فإن «الملاحظة الذكية من ناحية الحكم النقدي على الأصالة — تمثل نقطة الارتكاز لكل ما يملكه من ملكات.»

وحسب أنور المعداوي لا بد من توفر هذه الموهبة أولًا: موهبة التأمل والملاحظة ورصد الحركة الدقيقة الموحية في نطاق الوجود الخارجي والداخلي للإنسان، وثانيًا، كمية الرصيد الثقافي من تجربة الفهم للأصول التكنيكية وتجربة التمثل للواقع المعاش.

والحديث عن القصة القصيرة، من جهة مفهومها، لا يكتمل دون الإشارة إلى شكل تعبيري يقف قريبًا منها وإن كان يقوم على مقاييس فنية مغايرة.

(٣) ضرورة التمييز بين القصة القصيرة والصورة القصصية

هناك سببان يدفعان إلى التمييز بينهما:
  • الأول: إزالة الالتباس الذي يقع فيه كثير من القراء والقصاصين أنفسهم من عدم التميز بين كلا الشكلين وما ينفرد به الواحد منهما عن الآخر.
  • الثاني: يعود إلى أن قسمًا وافرًا من النتاج القصصي الذي ستتم دراسته، يدخل في إطار الصورة القصصية وإن لم يستوفِ كل خصائصها.

والسبيل إلى هذا التميز يتجلى في أن القصة القصيرة، إذا كانت رصدًا للحظة متوهجة، لقطة من الحياة، فهي لا تعرض لهما بشكل اعتباطي أو دون معنى أو قصد، بل إنها ترصدهما لأن الكاتب سيوقفنا على فكرة خاصة أو يسعى ليحدث في نفوسنا أثرًا أو انطباعًا معينًا.

بينما الصورة، اجتماعية كانت أو غيرها، فإنها على الرغم من وقوعها تحت ظل الأقصوصة، إلا أنها تختلف عنها لسبب انعدام القصد فيها، أو بالأحرى، الخلفية الفكرية، ولأسباب أخرى سنأتي على ذكرها.

ويمكن إجمال الفرق بين القصة القصيرة والصورة القصصية في:
  • (أ)

    درامية الحدث (الحركة – التوتر – الفعل) هذه الدرامية التي تعطي القصة القصيرة وحدتها البنائية الكاملة. وتعتبر عنصرًا أصيلًا فيها، بينما الصورة تفتقر إلى ذلك الموقف الدرامي الذي يؤكد وحدة الانطباع، ويهيمن على كل ما تحتويه القصة من تفصيلات، وتقتصر على امتدادها على ساحات من الفكر والوجدان.

  • (ب)
    الصورة تمس منطقة من الشعور أقل عمقًا من المنطقة التي تمسها القصة القصيرة؛ فالقصة تمس منطقة «التأثير» وهي منطقة يلتقي فيها التفكير بالانفعال على مستوى حاد تقريبًا، في حين أن الصورة لا تزال قريبة من منطقة «الملاحظة»١١ والتسجيل الخارجي، التي يمكن أن تكون بداية لإثارة التفكير أو الانفعال.

(٤) البناء العام للقصة القصيرة

  • تباين وتطور المقاييس الفنية.

  • المقاييس الكلاسيكية.

  • تخلخل الشكل القديم والتكنيك الحديث.

  • رواد القصة القصيرة.

إن لكل فن وجنس من الأجناس الأدبية مقاييس وموازين تحدده وتضبطه، كما تفرده عن غيره بمميزات خاصة، وهي بمثابة السمات العامة من نحو، وهي أيضًا ما يحرص عليه المتأدبون والذين يريدون النسج على منوالها من نحو آخَر. لكن هذه المقاييس لم تكَد تستقر يومًا … إذ هي دائمة التبدل، وما يلبث كل مبدع أن يضيف إلى الفن الذي يكتبه عناصر وألوانًا لم تكُن موجودة فيه، ملزمة بأن تدرج ضمن نطاق الفهم والتحليل، فبالنسبة للشعر العربي، مثلًا، لا نستطيع الاقتصار على إشارات النقاد القدامى وملاحظاتهم في تقويم التجربة الشعرية، دون أن نجعل نصب أعيننا ما جد بهذا الصدد. كما لا نستطيع تناول تجربة الشعر المعاصر بالدرس والاستقراء أو التصنيف، دون مراعاة ظروف التجربة نفسها، أي استشفاف مخزون النصوص، ثم التعامل معها بحسب ما جد من مناهج ودراسات نقدية.

والقصة القصيرة، كفن نثري يصدق عليها نفس التقييم ذلك أننا نجدها قد مرت منذ نشأتها الحقيقية في القرن التاسع عشر بمراحل عديدة، واعتراها تطور خطير الأهمية جعل سمات هذا الفن وأصوله تتلون من فترة لأخرى وتعرف تطورًا متزايدًا.

ومن هنا توجب اللجوء إلى إدراج المقاييس الأساسية والمفاهيم الدقيقة التي استخلصها النقاد من قصص رواد هذا الفن، ولزم الوقوف كذلك عند هؤلاء والاتصال بآرائهم ونظرياتهم فيه.

(٥) المقاييس الكلاسيكية

وهذه ترى أن القصة تروي خبرًا،١٢ ولكي يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه هذه الخصائص:
  • (١)

    أن يكون ذا أثر وانطباع كلي.

  • (٢)

    أن تتصل تفاصيل الخبر وأجزاؤه وتتماسك تماسكًا عضويًّا متينًا من أجل توفير الوحدة الفنية للعمل القصصي.

  • (٣)

    أن يكون ذا بداية ووسط أو عُقدة، ونهاية أو لحظة تنوير. وبالنسبة لعناصر العمل القصصي مجتمعة فهي:

  • الشخصية: وهنا لا مجال للتفرقة بينها وبين الحدث؛ «لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل، أو الفاعل وهو يفعل (…) ووحدة الحدث لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل.»
  • المعنى: فلكي تكون القصة مكتملة لا بد أن تتوفر على معنى معين، وإلا أصبحت أقرب إلى التاريخ. وليس هناك حدث بلا معنى، وينبغي أن تتوفر كل عناصر القصة على خدمة المعنى.
  • لحظة التنوير: وهي التي تجلو لنا الموقف أو الحدث في النهاية، ولذلك «فإن النهاية في القصة القصيرة تكتسب أهمية خاصة … إذ هي النقطة التي تتجمع فيها وتنتهي إليها خيوط الحدث كلها فيكتسب الحدث معناه المحدد.»
  • نسيج القصة: اللغة – الحوار – الوصف – السرد، هذه هي العناصر التي يتكون منها نسيج القصة، وينبغي أن تتفاعل فيما بينها بأن تساهم كلها في تجسيم الحدث وتحريكه وصبغه بألوان حية.
ويشير محمود تيمور في كتابه «دراسات في القصة والمسرح»١٣ إلى ثمانية معالم رئيسية رأى بها وجوب الاكتمال في القصص وهي:
  • أن تكون للقصة وحدة فنية.

  • أن يراعي في عرض الموضوع إلى جانب التلميح ما أمكن وإن يحذر جانب التصريح.

  • أن يعني الكاتب برسم شخصياته، وأن يجعلها تصدر في أقوالها، وأفعالها، عن منطق الحياة التي أراد لها المؤلف بواعثها الظاهرة والخافية.

  • ألَّا تكون الشخصيات بوقًا ينقل ما يلقي إليه المؤلف من كلام.

  • أن يكون لكل قصة معنى وإلا كانت لغوًا لا جدوى منه.

  • ألَّا تكون الفكرة التي يعالجها الكاتب في قصصه مصوغة في قالب موعظة أو حكمة.

  • ألَّا تخلو القصة من عنصر التشويق.

  • أن يجري الكاتب في تحرير قصته على نهج من وجهة اللغة، هذه، على وجه التقريب، أهم الخاصيات التي يرى النقاد الكلاسيكيون وجوب توفرها في الأقصوصة حتى تكتمل لها قيمتها وفنيتها، والمقاييس التي قدمها د. رشاد رشدي مستقاة من قصص أوروبية وأمريكية ترجع إلى المرحلة التقليدية لفن الأقصوصة، كما أن المعالم الرئيسية التي رصدها وأوجبها الأستاذ محمود تيمور تنتمي إلى المرحلة البدائية للأقصوصة العربية التي لم تكُن سوى تقليد واحتذاء ضعيف للنماذج الغربية وللمدرسة الفرنسية خاصة (موبسان)١٤ وبذلك فهي ليست قواعد نهائية.

(٦) تخلخل البناء القصصي

نعم ليست تلك القواعد نهائية؛ إذ إن البناء القصصي ما لبث أن أصابه تخلخُل عام، كما اهتزَّت القيم الفنية المتعارف عليها واكتسحت قيم جديدة الفن القصصي عامة. نعم إن تلك الأحكام والقواعد لا غبار عليها للوهلة الأولى، لكننا لو أمعنا النظر فيها، لوجدنا أنها تُفضي إلى طريق مسدود أمام القصة القصيرة، فهي تحكمها بشروط إجبارية لا فكاك لها منها، وتعزل عنها ما هو مختلف معها في الأساس والأداء، ثم إن الفن في النهاية، مثله مثل الواقع الذي أنتجه، لا يمكن النظر إليه من وجهة واحدة أو من طرف واحد، وإلا أصبحت الوجهة والنظرة شكلية محضة تضر ولا تنفع.

المبدع الحق، يزيح باستمرار ما يعترض طريقه من عراقيل، ويتجه دومًا نحو المستقبل حتى يماشي حركة التاريخ، وإلا أصبح محنطًا على هامشه، وتغير الأبنية الاقتصادية والاجتماعية الذي حدث عقب كلٍّ من الحرب الأولى والحرب العظمى، كان له أثره الملموس على الإنتاج الفكري والإبداعي، وإذا بنا إزاء أعمال قصصية ذات رؤى جديدة، وتستدعي وجدانًا واستعدادًا خاصين لقراءتها وتحليلها، حصل هذا التغير في الأدب الغربي وامتد أثره إلى الأدب العربي المعاصر، سواء في المشرق أو المغرب، ببطء شديد.

لقد التفت محمود تيمور نفسه إلى التطور الذي سيعتري القصة، وذلك في قوله: «لما كان أدب القصة في مصر ربيبًا للقصة الأوروبية ما برح يترسم خطاها، فإنه مهما يحتفظ بطابعه المستقل فلن يكون بمنجاة من التأثر بالمنازع الجديدة التي ستصطبغ بها القصة الغربية في تطورها المقبل.»١٥

إن أهمية هذه الفقرة تكمن في أنها تشير وفي وقت مبكر (١٩٤٨م) إلى التطور الذي ستعرفه الأقصوصة وإلى ظهور تيارات جديدة فيها، نتيجة التأثر والاتصال بالنتاج القصصي الغربي، وبالفعل فقد تم هذا التطور، وولد جيل جديد من القصاصين، متفاوت في القيمة الفنية والفكرية، وطعم الأقصوصة العربية بما كانت تفتقر إليه من دماء جديدة، وتعرض البناء القصصي القديم على يديه للتخلخل، واصطبغ بمنازع حديثة تجاوزت ما قد أملاه، وقته، محمود تيمور وأضرابه من رواد القص العربي الحديث.

(٧) التقنية القصصية الحديثة

يستفاد من مفهوم التقنية القصصية الحديثة، التغير الذي طرأ على البناء القصصي والتجديد الذي مس الأسلوب وطرق الأداء، وتجاوز التقنية القصصية التقليدية، وعلى الأخص الوحدات الثلاث في القصة القصيرة أي البداية والوسط أما العقدة والنهاية أو لحظة التنوير، وما تلا ذلك من اقتراحات تقنية وأسلوبية كتداخل الأزمنة وتعدد مستويات الفهم والبناء داخل التجربة الواحدة واستعمال أسلوب التداعي والحوار الداخلي والاتجاه إلى الرمز بدلًا من التصريح والتعبير المباشر وغير ذلك مما سيأتي ذكره.

ولا ريب أن هذا التبدل في التقنية القصصية، توفر له من الأسباب ما جعله يحتل مكان التقنية القديمة ويتجاوزها ويأتي على رأس هذه الأسباب ما نعرف من علاقة حميمة بين الشكل والمضمون، ونعني بالمضمون هنا إلى جانب محتوى العمل الأدبي التغير الذي يطرأ على البنيات الاجتماعية، وما يعتري الواقع من تحولات اجتماعية واقتصادية وغيرها تنعكس آثارها على نتاجات البنية الفوقية.

فالحربان العالميتان الأولى والثانية أدَّيتا، بسبب ما ألحقتاه بالبشرية من دمار وجدب مادي ونفسي، إلى زعزعة كثير من القيم والمفاهيم المتوارثة، وقلبتا كثيرًا من العلاقات الاقتصادية والسوسيوثقافية، وكان لهذا أثره الصارخ في ظهور تيارات فلسفية وفنية ثقافية تغلي بالتشاؤم والسوداوية، وتذهب بعيدًا في فصم الصلة بين الإنسان والمجتمع وتجعل منه محور كل شيء، كما تؤكد على مقولة العبثية في الوجود الإنساني، وقد تمثلت هذه المفاهيم في اتجاهين رئيسيين هما: الوجودية، مجسمة عند سارتر بصفة خاصة، والعبثية عند (ألبير كامي) كما أدى الخراب الذي مارسته الحرب العظمى إلى تعميق شعور الوحدة والانفصام في نفسية الإنسان الأوروبي الشيء الذي نجد مظهره في نشوء اتجاهات ومناهج جديدة للتحليل النفسي ولدت رؤية نفسية انعكست على الأعمال الأدبية. ثم إن إحكام سيطرة الرأسمالية على المجتمعات الغربية ووقوع الفرد تحت وطأة التحكم الآلي أدَّيا إلى خلق شعور الاغتراب Alienation، اغتراب الإنسان عن نفسه واستلاب قيم الواقع الاستغلالي الرأسمالي لطاقته وقدراته، وبالتالي، إلى تشييئه وإخماد توهجه الإنساني، داخل مجتمع يعتبر الاستهلاك أبرز قيمة فيه، وقد أثمرت هذه الوضعية، ما اصطلح على تسميته بالرواية الجديدة، التي تحفل بأبرز أشكال التقنية القصصية الحديثة ظهورًا وجريانًا على الأقلام والتي نجد أمثلة لها عند روادها: «آلان روب غربيه» و«نتالي ساروت».

وإذا كان العالم الرأسمالي قد أفرز مثل هذه الإشكالية التقنية والتعبيرية، فإن العالم الاشتراكي كان يبشر، من جهة أخرى، بقيم جديدة نشأت عن ظروف التحول الاجتماعي والاقتصادي، التي عرفتها البلدان الاشتراكية، عن نوعية صراعها مع الإمبريالية، وفي طريقها للقضاء على رواسب الرأسمالية بشتى أشكالها، وكان أبرز القيم التي قدمها الفكر الأدبي الاشتراكي: الالتزام بقضية الطبقة الكادحة، والانتقال إلى واقعية جديدة، أي إلى الواقعية الاشتراكية التي تضع الفرد في خدمة المجموع وتنبذ أنانية ونفعية البطل البرجوازي. وتمثلت هذه الدعوة عند مفكرين اشتراكيين نذكر منهم المفكر والناقد الكبير (جورج لوكاتش).

وإذَن، فقد أثمرت الحرب والتغيرات الاقتصادية والثقافية التي تلتها مفاهيم وسلمًا جديدًا من القيم ظهرت بصماته حية وناصعة، بدت في التغير الذي عرفته التقنية القصصية والذي يمكن إجماله في الآتي:
  • تحطيم الأقاليم الثلاثة: البداية – الوسط (العقدة) – النهاية.

  • اختلال تسلسل هذه الوحدات وتغير في مفهوم العقدة أو انعدامها تمامًا.

  • الحدث: لم تعُد هناك ضرورة لتوفر القصة على الحدث، أو أن الحدث تحول عن معناه المعروف، فأصبحت القصة، مثلًا، تعرض تجربة نفسية أو مجموعة من اللحظات في ذهن إنسان، فالحدث هنا عائم، زئبقي، لقد أصبح مشتتًا وتركيبيًّا.

  • النهاية: لم تبقَ للقصة نهاية معروفة تقدِّم الحل الذي يكون متوقعًا، ويتجلى كل شيء إثر معرفته، لقد أصبحنا أمام كتابة تترك كل شيء للبحث والتخمين وإعادة التأسيس.

  • إلغاء الحكاية: وبالتالي فقدان المعنى، ويبقى السؤال نابضًا باستمرار على ألسنتنا، ويظل بطل التجربة باحثًا عن نقطة الارتكاز أو بر الأمان أو مختنقًا في وحدته الخرساء.

  • اقتراب لغة القصة من اللغة الشعرية ذات الإيحاءات … والدلالة القوية، وقد تمت الإشارة إلى هذا.

  • تستخدم تيار الوعي أو الشعور.

  • ارتقاء المستوى السيكولوجي في الأقصوصة، وجعله مطية عن طريق عملية التداعي والحوار الداخلي؛ لرسم الشخصية واستبطانها من الداخل ووصف الجو أو الموقف، بدلًا من السرد التقليدي.

  • ارتباك التسلسل الزمني، الذي يقدم الحياة في وضع طبيعي ساكن، والانتقال إلى مستوى جديد من تقديم التجربة، فيختل فيه الزمن كامتداد وقتي ليتحول من جهة إلى زمن نفسي لا أول له ولا نهاية، زمن الشعور وزمن الذاكرة، ومن جهة ثانية تتداخل الأزمنة تداخل القصة تداخلًا عجيبًا.

إن هذه الخصائص تتبين في كتابات روائيين وقصصيين أمثال «جميس جويس» و«فرجينيا وولف» و«روب غربيه» وعداهم من الكتاب الغربيين المتأخرين وعند كتاب عرب من الشباب أمثال: هاني الراهب، مجيد طوبيا، الطيب صالح، ومن المغاربة أمثال: محمد زفزاف، خناتة بنونة، وغيرهما ممن سأقف — في هذا البحث — وقفة خاصة في كتاباتهم مستجليًا فيها أثر التقنية والمضامين الجديدة.

وبعد، فإن حديثنا عن فن القصة القصيرة لا يستكمل قيمته دون التعريج على مؤسسيه والوقوف عند أبرزهم، ممَّن وضعوا ركائزه ورسخوا عُمُده وأكملوا بناءه الكبير، حتى أمكنه أن يصل إلينا ناضجًا غنيًّا بعد أن خضع لصقل طويل على أيديهم. وإن الحديث عن فنهم وتجربتهم سيزيد من فهمنا للتجربة القصصية، أيضًا، فضلًا عن أن كل مَن كتب الأقصوصة وقع تحت تأثيرهم بوجه أو بآخَر.

(٨) رواد القصة القصيرة

يرجع تاريخ القصة القصيرة إلى القرن الرابع عشر، إلا أن القصص التي عرفت في هذه الفترة كانت قصيرة من حيث الحجم لا من حيث الشكل، وقد نشأت هذه القصص في إيطاليا في رحاب الفاتيكان، حيث كان يجتمع بعض رجال الدين عامة الناس لسماع الطرائف والنوادر عن أهل إيطاليا.

أما المحاولة الثانية فقد ظهرت في نفس الوقت في إيطاليا كذلك على يد «بوكاشيو» صاحب قصص الديكاميرون، وهي تخيل لمجموعة من الناس نجوا من طاعون اجتاح مدينة «فلورانسا» ففروا إلى منزل أحدهم لكي ينسوا الآلام التي رأوها، فأخذ كل واحد منهم يروي قصة لصاحبه.١٦

وقد استمرت القصة القصيرة، على النسق الذي رسمه لها «بوكاشيو» من رواية للخبر بتفصيل وأناة وعناية تشغل لب القارئ، وتنتهي القصة بنهاية مرسومة. إلى أن يطل علينا القرن التاسع عشر حاملًا في منتصفه، على امتداد النصف الثاني منه، الإشعاعات الحقيقية للقصة القصيرة، كما تجسدت عند رواد هذا الفن: إدغار آلان بو – جوجول – جي دي موبسان – أنطوان تشيخوف – همنغواي.

(٨-١) إدغار آلان بو (۱۸۰۹–١٨٤٩م) قصَّاص وشاعر أمريكي

يقول Poe عن القصة القصيرة، وهو ضمنيًّا يقدِّم تعريفًا لها: «إن فنانًا قد تصدى لإنتاج قصةٍ ما، لا يصمم أفكاره لتتفق وحوادث قصته، بل إنه بعد أن يأخذ بعناية متعمدة في استحداث أثر قوي، قد يبتكر أحداثًا بأفضل شكل يساعده على تثبيت الأثر المتخيَّل مسبقًا.»١٧
لقد كان «بو» من الأوائل الذين وضعوا للقصة القصيرة التنظيم الشكلي اللازم، بينما نجد مواضيعه تدور حول الخوف والرعب غير المحدد المعالم، قصص الجريمة الغامضة والأشباح المحاطة بجو من الإبهام. «الموضوع عنده دائمًا هو الغريب المدهش، عالم من الذهول والرعب الخانق.»١٨
ويقف منه عن قرب في الزمن وبُعد في المكان، رائد قصصي من روسيا هو جوجول Gogol (١٨٠٩–١٨٥٢م).

يعتمد الفن القصصي عند «جوجول» على الوصف المجسم وعلى معرفة ملابسات الحياة والتماس الصورة الحسية المرئية وقد أعطى جوجول للأقصوصة معناها الحقيقي إذ ابتعد عن الحكاية التي تعتمد التزويق والتنميق في لغتها، فجعلها، بذلك، تبتعد عن الاتجاه الرومانسي السائد في اللغة والموضوع في عصره كما التزم الموضوعية البحت في كل ما كتب من قصص قصيرة، بحيث إنه صور الحياة كما هي بلا تزويق ولا وعظ.

إلا أن كل ذلك لا يفرد جوجول بأهمية خاصة، إذ إن أهم الميزات التي أضفاها على الأقصوصة تتصل بالموضوع أكثر من الشكل. وقد أشارت إلى ذلك الدكتورة لطيفة الزيات، في مقال لها عن «جوجول» مبينة أهمية المضمون عنده: «القصة القصيرة كما نعرفها اليوم تلتصق بحياة الناس اليومية والاحتفاء باللحظات العابرة في حياتنا اليومية، وهي التي تمسك بها وتعمقها، وتحيل ما يبدو تافهًا إلى لحظة شاعرية، وإذا كان لأحد الفضل في خلق هذه الصيغة في القصة القصيرة التي أصبحت من أهم مقوماتها، فالفضل يرجع بالتأكيد إلى جوجول.»١٩
على أنه إذا كان «بو» و«جوجول» بما ذكرنا لهما من خصائص ومميزات، قصاصين رائدين ومنظرين لفن القصة القصيرة، فإن كاتبين آخرين استطاعا، بما يملكان من موهبة قوية وتمرُّس حاد، وثقافة وخبرة بالحياة والمجتمع في عصرهما، أن يُقيما هذا الفن على دعائم متينة ويتبوأ على يديهما مكانته بين باقي الفنون الأدبية، وذلك بأن أصبح قادرًا على التعبير عن مشاعر الإنسان وأحاسيسه إزاء العالم، وتصوير مشاكل الفرد والمجتمع وتتبع جزئيات الواقع المألوف، وقد قوي هذا الفن عندهما بصفة خاصة لأن «القصة القصيرة تلائم روح العصر كله، فهي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التي لا تهتم بشيء أكثر من اهتمامها باستكشاف الحقائق الصغيرة، ولعل هذا هو السبب في انتشار القصة القصيرة منذ موبسان إلى يومنا هذا.»٢٠

(٨-٢) موبسان Maupassant (١٨٥٠–١٨٩٣م) قاضٍ فرنسي

إذا كان موبسان قد أصبح بسرعة أستاذًا في فن الحكاية، فلأن ضرورتين توفَّرَتا عنده، الواحدة داخلية والثانية خارجية دفعتاه إلى ذلك.

  • (١)

    البساطة: التي تتعلق أساسًا بطبيعته وبصفته تلميذًا لفلوبير، إنه يلحُّ على طريقة معينة، يركز أكثر على لمحة شخصياته.

  • (٢)
    تدقيقه البسيط التلقائي كان شرعيًّا، ومدعومًا بضرورة خارجية: عدم تجاوزه «المائة» سطر في الجريدة، ذلك أن الحكاية مكثفة وحية، استحالت حوالي سنة ١٨٩٠م شكلًا أدبيًّا ويوميًّا للصحافة. وتلا هاتين الملاحظتين الأساسيتين هذه السمات التي تميِّز فن القص الموبساني:
    • الحكاية المباشرة والفن الموحي.

    • الحدث عند موبسان، كثيرًا ما يقدم لنا بشكل قصة داخل قصة.

    • تمهيد متواتر في كل القصص، يقدم ويصف فيه الكاتب الجو العام. ويلي ذلك النسج الأولي لخيوط الحدث الأولى. وهذا الحدث عادةً لا يهتم الكاتب بما قبله أو بعده.

    • يلح موبسان، على عنصر الوصف إلحاحًا قويًّا، فيرصد الملامح الخارجية، بصفة خاصة، في جمل مركزة موحية.

    • القصة عند موبسان كثيرًا ما تبدو تطويرًا لبقًا للحكاية، بينما يظل المعنى ناصعًا وشفافًا.

    • التركيب، الصوت الطبيعي، بساطة الجملة، كثرة النعوت، أسلوب السرد، الصفاء، غياب النحت والزخرفة، هذه وغيرها سمات بارزة تؤكد قيمة الفن الموبساني القصير.٢١

    وإن موبسان ليوشك — إذا قسنا التأثر بمقياس العاطفة الظاهرة — أن يبدو عديم التأثر بموضوعه، حتى لقد شبهه ناقد فرنسي كبير «أميل فاجيه» بقاطعة ميكانيكية «إن عقله أشبه بقاطعة ميكانيكية يوجهها دائمًا إلى تدفق الأشياء المضطرب.»

    أما عن مضامينه وأجواء قصصه فنجد لها في كلمة الدكتور شكري عياد أحسن وصف وتقديم: «موبسان يعشق الحياة البسيطة بكل قوتها وصراحتها ويسخر من التكلف والخداع، ولذلك فإن أشخاصه إما بسطاء أقوياء، فضلاء بالمعنى الذي يفهمه عن الفضيلة، وهؤلاء هم الفلاحون والصيادون والمومسات، وإما مراءون فمخادعون منافقون انتهازيون، وهؤلاء هم البرجوازيون الصغار الذين يرتجفون من خوف الفقر والفضيحة، والبرجوازيون الكبار الذين يعيشون في امتلاء ظاهر وخواء باطن.»٢٢
    إن هذه الملاحظات والسمات تستمد أهميتها من التأثير الشديد الذي مارسته الأقصوصة الموبسانية على الأقصوصة العربية بأكملها؛ إذ لا يمكن الحديث عن القصة القصيرة العربية دون الوقوف عند موبسان، فهي مدينة له بالكثير، في نشأتها وعناصر تكوينها وبنائها، ويظهر هذا جليًّا لقارئ قصص محمود تيمور، ومَن حذا حذوه فيما بعد، في المشرق العربي، أو في أفريقيا الشمالية، بل إن دراسة قائمة الذات، يمكنها أن تتوفَّر لتعقُّب تأثير الأقصوصة الموبسانية على القصة العربية، وعلى الجيل الأول من القصاصين العرب.٢٣

(٨-٣) تشيخوف (١٨٦٠–١٩٠٥م) قاصٌّ روسي

تشيخوف، فنان كبير من أعمدة القصة القصيرة في العالم، ومن الذين رسخوا تقاليدها، أستاذ التكنيك القصصي في عهده، ولا يزال إلى اليوم نبراسًا للعديد من الكتاب، يقول عنه تولستوي: «إنه فنان لا يُجارَى، يتصل فنه بالحياة أوثق اتصال، وتتسم مؤلفاته بالوضوح والفهم»، وتسجل كتابته إنسانية نادرة وواقعية عميقة تستوعب الواقع الاجتماعي بكل جزئياتها والنماذج البشرية التي تضطرب فيه، بمواقفها المتباينة ولحظات وحالات البؤس والعجز والقوة فيها، وكانت مفارقات الحياة هي محور قصصه ﻓ «مفارقات الحياة غالبًا هي المحاليل المختارة لتجارب تشيخوف، ذلك لأن الحياة في حركتها الدينامية لا تقدم إلينا أعمَق لحظاتها إلا من خلال المفارقة.»٢٤
يتحدث أنور المعداوي عن تجربة تشيخوف، وعالمه القصصي، وهو من خير مَن فهمه واستعذب فنه، فيقول ذاكرًا صفاته: «لقد كانت الملاحظة الذكية هي أكثر الأرصدة ثراءً في فن أنطوان تشيخوف، وكانت من وجهة النظر النقدية عند كثير من النقاد هي نقطة الانطلاق الباهر لتفوق المدرسة التشيخوفية — في محيط أدب الغرب — على كل مدارس القصة القصيرة. إنه يبهرنا بصفاء الرؤية القصصية في فنه، رؤية الجزئيات الدقيقة التي يتكوَّن منها موقف داخلي، يتجسم بعد ذلك في انعكاسات سلوكية معبرة، ومن هنا سُمي تشيخوف بحقٍّ كاتب التفصيلات الصغيرة. هذه التفصيلات الصغيرة تجذبنا بصفة خاصة عندما يعرض تشيخوف إحدى شخصياته من خلال لحظة حرِجة بحيث تتدرَّج هذه اللحظة تدرُّجًا هرميًّا يصل بالشخصية إلى قمة نفسية معينة … هنا نرى ذكاء الملاحظة في رصدها هذا التدرج الهرمي وتسجيل تطوراته، وكأنه تجربة كيميائية في المعمل، تتفاعل فيها عدة محاليل، ومفارقات الحياة من أهمها.»٢٥
إلى جانب هذه الملاحظات الذكية التي استشفها أنور المعداوي، يمكن تبين ملاحظات أخرى لدى تشيخوف القاص منها:
  • البساطة في صوره وكتابته سر من أسرار فنه.

  • تشيخوف في معظم قصصه شاعر بحواره، هذا الحوار الذي تستقطب حوله فكرة القصة ومضمونها العميق.

  • شخصياته وأحداثه تحمل في رحمها سمة التماثل مع الواقع، فهو يحرص دائمًا أن يكون التركيب العام للصور منتزع من صميم الواقع.

  • الإنسان هو الموضوع الرئيسي للكاتب الروسي، على مدار إنتاجه كله، وهو كذلك عند تشيخوف. وتشيخوف كان يميل إلى الغموض في أعماق هذا الإنسان، مما كان يدفعه إلى اختيار النماذج البشرية المأزومة، مثلًا: «وفاة كاتب»، «الأسي»، «عنبر رقم ٦»، والنموذج المأزوم هو محور كل قصصه تقريبًا، هنا النموذج ابن الطبقة الوسطى ذات الأزمات الخانقة، أصبح تشيخوف ومن تبعه من القصاصين يشكل قطب الرحى في كل الأعمال القصصية.

إن تشيخوف يُعتبر وحده مدرسة كبيرة. القصة القصيرة، تخرج منها العديد من القصاصين، وبالنسبة للقصة القصيرة العربية، فإن الكتاب والجيل الثاني منهم على الخصوص، قلدوا قصصه، واقتبسوا تقنيته القصصية، حتى ترك بصماته على آثار جيل القصصيين من محمود تيمور إلى محمود البدوي، فيوسف إدريس ومحمد أبو المعاطي أبو النجا، ويوسف الشاروني، هذا الاقتباس لم يقِف عند التقنية وحدها بل امتد إلى جوانب وقطاعات الحياة المأزومة للطبقة المتوسطة، التي كان تشيخوف على وعي حادٍّ بها، كما انصبَّ على النماذج البشرية في لحظات العجز الإنساني ولواقع الناس البسطاء، وهذه اهتمامات كان القاص العربي يسعى لتصويرها والتعبير عنها، وكان تشيخوف موجهًا ونبراسًا له إليها.

وفي المغرب، من الصعب ألا نجد كاتبًا لم يتأثر بهذا الكاتب العظيم بفنه، بواقعيته، إنسانيته وسخريته، وخاصة عند جيل أوائل الستينيات.

(٨-٤) إرنست همنغواي: روائي وقصَّاص أمريكي

لا يمكن لدارس القصة القصيرة أن يتناول هذا الفن بالدرس له ولأعلامه دون أن يقف عند الكاتب الروائي والقاص الأمريكي همنغواي، أستاذ محنك في هذا الفن إنه أساسًا، كاتب روائي، لكن القصة القصيرة احتلَّت حيزًا بالغ الأهمية في إنتاجه واستطاع أن يبدع فيها ويضيف إليها خاصيات جديدة، وفي تقنيتها التي رسخت على يدي موبسان وتشيخوف.

فما هي الأقصوصة عند همنغواي؟

إنها إيحاء فكرة إحساسية بواسطة منظر متحرك، إيحاء لا تصريح وإلا كان المقال صحفيًّا. فكرة إحساسية أي غير واضحة يمتزج فيها الفكر بالعاطفة. إن همنغواي يهدف إلى وصف هيكل العلاقات الإنسانية، وعلى القارئ أن يملأ هذا الهيكل بالحياة ويكسوه بتجاربه فيكون التأثير عامًّا وعميقًا.

  • إن همنغواي يخطِّط لقصصه تخطيط رسام، والأقصوصة عنده هيكل، هيكل في معنى بعض الاجتماعيين المعاصرين، ظاهر وباطن في نفس الوقت، على وجه الأشياء وخلفها.

  • بامتلاكه عنان الحوار، ذلك الحوار الموجز غير الطبيعي؛ لأن الحوار الطبيعي يمتاز بالإطناب والمراوغة لا بالإيجاز والدقة.

  • أما أسلوب همنغواي فإن أهم ما يتميَّز به في إرساء الجو، أي ربط اتجاهه بمواده، هو استعمال أسلوب يعرض فعاليات الحرب والصيد ومصارعة الثيران بتفصيل يقارب الإفراط الشعائري، إنه يركز اهتمامه على التفاصيل المنعزلة حتى نراها كرموز ذات دلالات أخلاقية.٢٦

وإذا عرفنا، بعد ذكر هذه المعالم الفنية، أن همنغواي رجل أحب الحياة وأحبته، فشحن إنتاجه بجل مظاهرها، وخاصة جوانب القوة والعنف، وصور لنا الإنسان وهو يصارع الطبيعة، ويصارع الموت والحياة وينتصر، إذا عرفنا هذا كله لن نستغرب إذا علمنا أن كل القصاصين الذين أتوا بعده مدينون له بما كتبوا، سواء كان التأثر مقصودًا أم تلقائيًّا، كما أن كثيرًا من القصاصين العرب قضوا زمنًا طويلًا يتمرسون بفن همنغواي قبل أن يخرجوا بأعمال قصصية ناضجة.

هوامش

(١) واي واست، القصة القصيرة، ترجمة سميرة عزام، دار صادر، بيروت، ١٩٦١م، ص١٤–١٦.
(٢) انظر: أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، ط۱، بيروت، ۱۹۷۳م، ص٣٣–٤٣، يقول أبو هلال: «(الفرق) بين القصص والحديث أن القصص ما كان طويلًا متحدثًا به عن سلف ومنه قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) … وأصل القصص في العربية اتباع الشيء ومنه قوله تعالى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) وسُمِّي الخبر الطويل قصصًا لأن بعضه يتبع بعضًا حتى يطول وإذا استطال السامع الحديث قال: هذا قصص … ويجوز أن يقال القصص هو الخبر عن الأمور التي يتلو بعضها بعضًا، والحديث يكون عن ذلك وغيره والقصص قطع يستطيل ويتبع بعضه بعضًا مثل قص الثوب بالمقص وقص الجناح وما أشبه ذلك، وهذه قصة الرجل يعني الخبر عن مجموع أمره وسميت قصة لأنها يتبع بعضها بعضًا حتى تحتوي على جميع أمره.» وانظر أيضًا في نفس المعنى: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، ج٨، تحقيق عبد العظيم محمود، الدار المصرية، التأليف والترجمة، القاهرة، ١٩٦٦م، من ص٢٥٤ إلى ٢٥٧. يقول الأزهري، في المصدر المذكور ص٢٥٦: … «وقال الليث، القص فعل القاص، إذا قص القصص والقصة معروفة، ويقال في رأسه قصة يعني الجملة من الكلام، ونحوه قول الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (سورة يوسف: الآية ٢). قوله: أحسن القصص أي أحسن البيان، والقاص الذي يأتي بالقصة من قصها، يقال قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئًا بعد شيء ومنه قوله: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ (سورة القصص: ١١) أي اتبعي أثره. قلت: أصل القص اتباع الأثر، يقال خرج فلان قصصًا في أثر فلان وقصًّا، وذلك إذا اقتص أثره، وقيل للقاص يقص القصص لأتباعه خبرًا بعد خبر وسوقه الكلام سوقًا.»
(٣) لمزيد من التفصيل والاطلاع على الإشكال القائم في تحديد المصطلح بالنسبة للقصة القصيرة في فرنسا انظر:
La nouvelle française, par René Godenie, P.U.F., Paris 1974. voir surtout: p. 50 à 109.
وبالنسبة للمقاييس التي تعتمدها المدارس في تقييمها لمفهوم القصة القصيرة وتميزها عن الرواية انظر الفصل الخامس: ١٥٦-١٤٨، وانظر أيضًا:
Logique du récit par Claude Bremond; Ed du Seuil, Paris 1973. voir surtout p. 48 et suivantes, 103 et suivantes.
(٤) د. شكري عياد، القصة القصيرة في مصر، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، ٦٧-١٩٦٨م، ص٧.
(٥) د. عز الدين إسماعيل، الأدب وفنونه، ط٣، دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٥م، ص١٦٠.
(٦) د. يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، ط٤، ١٩٦٣م، ص۱۰.
(٧) من عرض لكتاب «أوكونور» الصوت المتوحد دراسة في الأقصوصة ترجمة محمود الربيعي، مجلة المجلة ع١٣٤، فبراير ١٩٦٨م.
(٨) د. نعيم حسن اليافي، مجلة (القصة) المصرية ع٤، س١ أبريل ١٩٦٤م.
(٩) بدر الدين عرودكي، عن القصة القصيرة مجلة (المعرفة) السورية. ع٩٥، يناير ۱۹۷۰م.
(١٠) اعتمدت في إبراز هذه الفروق على الملاحظات التي أوردها د. شكري عياد في كتابه الآنف الذكر.
(١١) اعتمدت في تقديم هذه المقاييس «الكلاسيكية» على كتاب الدكتور رشاد رشدي «فن القصة القصيرة» ط الثانية، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٤م، الكلام الموضوع بين مزدوجين مأخوذ من صفحات الكتاب، مرتب كما يلي: (ص۳۰–۱۱۷)، ويرجع تركيزنا على هذا الكتاب، بالذات، لأنه جمع مصادر عدة حول الموضوع واقتبس من آرائها وملاحظاتها.
(١٢) محمود تيمور، دراسات في القصة والمسرح، مكتبة الآداب القاهرة (ص۱۰۳–۱۰۷)، وقد أوردت هذه المعالم باختصار شديد لما هي عليه في الكتاب. وانظر أيضًا في تحديد مفهوم القصة الفنية كتاب د. عبد الحميد يونس، فن القصة القصيرة في أدبنا الحديث، ط١، دار المعرفة، مارس، ۱۹۷۳م، القاهرة، الفصل الخاص، بالقصة الفنية، ص٥١ إلى ص٤٩.
(١٣) قاص فرنسي من رواد القصة القصيرة (١٨٩٧–١٩٥٠م).
(١٤) علي شلس «القصة عند العرب»، مجلة الآداب، البيروتية، نوفمبر، ١٩٦٩م.
(١٥) محمود تيمور، المصدر المشار إليه، ص٦٠.
(١٦) تفصيل ذلك في كتاب «فن القصة القصيرة» الدكتور رشاد رشدي، المشار إليه، ص١–٥.
(١٧) القصة القصيرة، تأليف راي ب. وست، ترجمة سمير عزام، ص۱۹.
(١٨) د. لطيفة الزيات، مجلة الرسالة المصرية، ص۱۹، ع١٠٩٥، ٧ يناير، ١٩٦٥م.
(١٩) المصدر نفسه، ص۲۰، ع ١۰٩١، سنة ١٩٦٤م.
(٢٠) كتاب الدكتور رشاد رشدي المشار إليه، ص۹.
(٢١) اعتمدت في استخلاص هذه الملاحظات حول موبسان على كتاب:
Sahmidt (Marie Albert) Maupassant par lui méme, coll ecrivains de Toujours, ed seuil, Paris 1968.
(٢٢) شكري عياد، القصة القصيرة في مصر، ص٤٣-٤٤.
(٢٣) عبد القادر بوزيدي، «موبسان وتيمور»، أطروحة للسلك الثالث جامعة الجزائر، ١٩٧٦م، الجزائر.
(٢٤) أنور المعداوي، مقدمة، م، «فتاة في المدينة»، لأبي المعاطي أبي النجا، دار الآداب، ١٩٦٢م، بيروت.
(٢٥) أنور المعداوي، كلمات في الأدب، المكتبة العصرية، بيروت، ١٩٦٧م، ص۱۲۷.
(٢٦) استقيت بعض هذه الملاحظات من مقالة للأستاذ عبد الله العروي «همنغواي وفن الأقصوصة» م أقلام، ع۹–۱۰، فبراير-مارس، ١٩٦٥م. وللاطلاع الواسع على أعمال همنغواي وفنه يُستحسن الرجوع إلى: كارلوس بيكر «إرنست همنغواي، دراسة في فنه القصصي» ترجمة د. إحسان عباس، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ١٩٥٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤