الفصل الثاني
فن القصة القصيرة
القيم الفنية والفكرية
قضية المصطلح.
مفهوم القصة القصيرة.
القصة القصيرة والصورة القصصية.
البناء العام للقصة القصيرة.
رواد القصة القصيرة.
***
أصبحت القصة القصيرة منذ أوائل هذا القرن فنًّا له أصوله وقواعده، وعناصره الفنية والمضمونية، وطرق التعبير التي تميِّزه عن بقية الفنون الأدبية، وتواتر الإنتاج في هذا الفن وتكاثر وأبدع فيه الكتاب ما شاء لهم أن يبدعوا، كلٌّ حسب موهبته وبراعته وتمثله للعالم من حوله. وعبر فترة زمنية تمتد من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وتستمر إلى وقتنا الحاضر، وملامح هذا الفن تزداد اتساعًا وتميُّزًا، وأطره وألوان التعبير فيه ترحب رحابة لا تعرف الحدود، على اعتبار أن الفن لا تأسره الحواجز أو الآفاق المرسومة، وجاء النقاد بعد ذلك، كما هو الشأن بالنسبة للشعر والمسرح وغيرهما من الفنون، ليتأملوا هذا الوليد ويتابعوا نموه ويحاولوا بعد ذلك تحديد المجال الذي يرتع فيه، ثم ليستخلصوا المقاييس التي يراعيها الكاتب القاص أثناء إبداعه، وليضعوا بعد هذا كله، أصول هذا الجنس الأدبي الجديد.
بَيْد أن الأمر ليس تمامًا بهذه السهولة، فالاختلاف كثيرًا ما يثور بين الممارسين والنقاد، والآراء تتضارب حول بعض الصيغ أو الشروط والتعريفات، كما تختلف أحكام النقاد في حق كاتب بعينه بتفاوت نظراتهم ووسائلهم النقدية، إلى حدِّ أنهم أحيانًا يضربون صفحًا عن المبدع الذي هو مصدر التجربة الفنية، ومن ثَم فإن دارس القصة القصيرة، يجد نفسه ملزمًا بأن يلقي بدلوه بين الدلاء، وذلك بأن يعمل على إعطاء فكرة شمولية عن الفن الأدبي الذي يدرسه، ويتناول ما قدمه الدارسون والنقاد حول الموضوع، ويقوم ما يراه خاطئًا أو معوجًا من الآراء، وله بعد ذلك، إنْ أمكن، أن يضيف رأيه إلى آراء مَن تقدَّمَه، كل ذلك حتى يتم للقارئ وللدارس نفسه الفهم الكامل لتتبع الموضوع المدروس ومناقشته.
ولعل أول قضية تُثار حول «القصة القصيرة» تتعلق ﺑ «المصطلح.»
(١) قضية المصطلح
وهنا لا نجد بين أيدينا آراء كثيرة، وكل ما قيل لا يَفي بالحاجة، كما لا يمكننا من ضبط حدود المصطلح، ولعل هذا طبيعي جدًّا، إذا عرفنا أن جل الفنون وقع فيها هذا الاضطراب في تدقيق وتوضيح سبب التسمية ومضمونها وما إلى ذلك مما يعود إلى أصول كل فن.
على أن النقاد لم يهتموا بتدقيق تسمية المصطلح، بقدر ما اهتموا بالخصائص التي تميِّز هذا الفن عن غيره، وكذلك بوضع جملة من التعريفات، وبتحديد البناء العام للقصة القصيرة.
(٢) مفهوم القصة القصيرة
في الطريق إلى وضع مفهوم للقصة القصيرة تواجهنا مجموعة من التعريفات، تتضافر كلها في النهاية للوصول إلى هذا المفهوم.
فإدغار آلان بو، القاص الأمريكي الأول، يعتبرها قصة تُقرأ في جلسة واحدة.
ونجد الدكتور رشاد رشدي يعرف القصة القصيرة بأنها تروي خبرًا، ولكن لا يمكن أن نعتبر كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة، فلأجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه خصائص معيَّنة، أولها أن يكون لها أثر كلي، بمعنى أن الخبر الذي ترويه (القصة) يجب أن تتصل تفاصيله وأجزاؤه مع بعضها بحيث يكون لمجموعها الأثر أو المعنى الكلي.
وهذه إشارة هامة تحدد بدقة شرطًا أساسيًّا يلزم توفره في الأقصوصة أي الوحدة الفنية، وهو ما لم يلتفت إليه كثير ممَّن بدءوا كتابة القصصية القصيرة من المشارقة والمغاربة ظانين أن مقياس الحجم المحدد مع سرد حكاية أو خبر أمر كفيل بتسمية الإنتاج المكتوب قصة قصيرة.
ففي هذا التعريف نجد (أوكونور) يستعمل كلمات جديدة في هذا المضمار وذات دلالة شعرية، فهناك التغني بالأفكار، ثم الوعي الحاد بالتفرد الإنساني.
وبالإجمال، نستطيع أن نقول إن القصة القصيرة تتناول قطاعًا عرضيًّا من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفًا تستشف أغوارهما، تاركة أثرًا واحدًا وانطباعًا محددًا في نفس القارئ. وهذا بنوع من التركيز، والاقتصاد في التعبير، وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تُعد فيها الوحدة الفنية شرطًا لا معيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء. والتغلغل في وجدان القارئ كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية.
وبالنسبة للقاص فإن «الملاحظة الذكية من ناحية الحكم النقدي على الأصالة — تمثل نقطة الارتكاز لكل ما يملكه من ملكات.»
وحسب أنور المعداوي لا بد من توفر هذه الموهبة أولًا: موهبة التأمل والملاحظة ورصد الحركة الدقيقة الموحية في نطاق الوجود الخارجي والداخلي للإنسان، وثانيًا، كمية الرصيد الثقافي من تجربة الفهم للأصول التكنيكية وتجربة التمثل للواقع المعاش.
والحديث عن القصة القصيرة، من جهة مفهومها، لا يكتمل دون الإشارة إلى شكل تعبيري يقف قريبًا منها وإن كان يقوم على مقاييس فنية مغايرة.
(٣) ضرورة التمييز بين القصة القصيرة والصورة القصصية
- الأول: إزالة الالتباس الذي يقع فيه كثير من القراء والقصاصين أنفسهم من عدم التميز بين كلا الشكلين وما ينفرد به الواحد منهما عن الآخر.
- الثاني: يعود إلى أن قسمًا وافرًا من النتاج القصصي الذي ستتم دراسته، يدخل في إطار الصورة القصصية وإن لم يستوفِ كل خصائصها.
والسبيل إلى هذا التميز يتجلى في أن القصة القصيرة، إذا كانت رصدًا للحظة متوهجة، لقطة من الحياة، فهي لا تعرض لهما بشكل اعتباطي أو دون معنى أو قصد، بل إنها ترصدهما لأن الكاتب سيوقفنا على فكرة خاصة أو يسعى ليحدث في نفوسنا أثرًا أو انطباعًا معينًا.
بينما الصورة، اجتماعية كانت أو غيرها، فإنها على الرغم من وقوعها تحت ظل الأقصوصة، إلا أنها تختلف عنها لسبب انعدام القصد فيها، أو بالأحرى، الخلفية الفكرية، ولأسباب أخرى سنأتي على ذكرها.
- (أ)
درامية الحدث (الحركة – التوتر – الفعل) هذه الدرامية التي تعطي القصة القصيرة وحدتها البنائية الكاملة. وتعتبر عنصرًا أصيلًا فيها، بينما الصورة تفتقر إلى ذلك الموقف الدرامي الذي يؤكد وحدة الانطباع، ويهيمن على كل ما تحتويه القصة من تفصيلات، وتقتصر على امتدادها على ساحات من الفكر والوجدان.
- (ب) الصورة تمس منطقة من الشعور أقل عمقًا من المنطقة التي تمسها القصة القصيرة؛ فالقصة تمس منطقة «التأثير» وهي منطقة يلتقي فيها التفكير بالانفعال على مستوى حاد تقريبًا، في حين أن الصورة لا تزال قريبة من منطقة «الملاحظة»١١ والتسجيل الخارجي، التي يمكن أن تكون بداية لإثارة التفكير أو الانفعال.
(٤) البناء العام للقصة القصيرة
-
تباين وتطور المقاييس الفنية.
-
المقاييس الكلاسيكية.
-
تخلخل الشكل القديم والتكنيك الحديث.
-
رواد القصة القصيرة.
إن لكل فن وجنس من الأجناس الأدبية مقاييس وموازين تحدده وتضبطه، كما تفرده عن غيره بمميزات خاصة، وهي بمثابة السمات العامة من نحو، وهي أيضًا ما يحرص عليه المتأدبون والذين يريدون النسج على منوالها من نحو آخَر. لكن هذه المقاييس لم تكَد تستقر يومًا … إذ هي دائمة التبدل، وما يلبث كل مبدع أن يضيف إلى الفن الذي يكتبه عناصر وألوانًا لم تكُن موجودة فيه، ملزمة بأن تدرج ضمن نطاق الفهم والتحليل، فبالنسبة للشعر العربي، مثلًا، لا نستطيع الاقتصار على إشارات النقاد القدامى وملاحظاتهم في تقويم التجربة الشعرية، دون أن نجعل نصب أعيننا ما جد بهذا الصدد. كما لا نستطيع تناول تجربة الشعر المعاصر بالدرس والاستقراء أو التصنيف، دون مراعاة ظروف التجربة نفسها، أي استشفاف مخزون النصوص، ثم التعامل معها بحسب ما جد من مناهج ودراسات نقدية.
والقصة القصيرة، كفن نثري يصدق عليها نفس التقييم ذلك أننا نجدها قد مرت منذ نشأتها الحقيقية في القرن التاسع عشر بمراحل عديدة، واعتراها تطور خطير الأهمية جعل سمات هذا الفن وأصوله تتلون من فترة لأخرى وتعرف تطورًا متزايدًا.
ومن هنا توجب اللجوء إلى إدراج المقاييس الأساسية والمفاهيم الدقيقة التي استخلصها النقاد من قصص رواد هذا الفن، ولزم الوقوف كذلك عند هؤلاء والاتصال بآرائهم ونظرياتهم فيه.
(٥) المقاييس الكلاسيكية
- (١)
أن يكون ذا أثر وانطباع كلي.
- (٢)
أن تتصل تفاصيل الخبر وأجزاؤه وتتماسك تماسكًا عضويًّا متينًا من أجل توفير الوحدة الفنية للعمل القصصي.
- (٣)
أن يكون ذا بداية ووسط أو عُقدة، ونهاية أو لحظة تنوير. وبالنسبة لعناصر العمل القصصي مجتمعة فهي:
- الشخصية: وهنا لا مجال للتفرقة بينها وبين الحدث؛ «لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل، أو الفاعل وهو يفعل (…) ووحدة الحدث لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل.»
- المعنى: فلكي تكون القصة مكتملة لا بد أن تتوفر على معنى معين، وإلا أصبحت أقرب إلى التاريخ. وليس هناك حدث بلا معنى، وينبغي أن تتوفر كل عناصر القصة على خدمة المعنى.
- لحظة التنوير: وهي التي تجلو لنا الموقف أو الحدث في النهاية، ولذلك «فإن النهاية في القصة القصيرة تكتسب أهمية خاصة … إذ هي النقطة التي تتجمع فيها وتنتهي إليها خيوط الحدث كلها فيكتسب الحدث معناه المحدد.»
- نسيج القصة: اللغة – الحوار – الوصف – السرد، هذه هي العناصر التي يتكون منها نسيج القصة، وينبغي أن تتفاعل فيما بينها بأن تساهم كلها في تجسيم الحدث وتحريكه وصبغه بألوان حية.
-
أن تكون للقصة وحدة فنية.
-
أن يراعي في عرض الموضوع إلى جانب التلميح ما أمكن وإن يحذر جانب التصريح.
-
أن يعني الكاتب برسم شخصياته، وأن يجعلها تصدر في أقوالها، وأفعالها، عن منطق الحياة التي أراد لها المؤلف بواعثها الظاهرة والخافية.
-
ألَّا تكون الشخصيات بوقًا ينقل ما يلقي إليه المؤلف من كلام.
-
أن يكون لكل قصة معنى وإلا كانت لغوًا لا جدوى منه.
-
ألَّا تكون الفكرة التي يعالجها الكاتب في قصصه مصوغة في قالب موعظة أو حكمة.
-
ألَّا تخلو القصة من عنصر التشويق.
-
أن يجري الكاتب في تحرير قصته على نهج من وجهة اللغة، هذه، على وجه التقريب، أهم الخاصيات التي يرى النقاد الكلاسيكيون وجوب توفرها في الأقصوصة حتى تكتمل لها قيمتها وفنيتها، والمقاييس التي قدمها د. رشاد رشدي مستقاة من قصص أوروبية وأمريكية ترجع إلى المرحلة التقليدية لفن الأقصوصة، كما أن المعالم الرئيسية التي رصدها وأوجبها الأستاذ محمود تيمور تنتمي إلى المرحلة البدائية للأقصوصة العربية التي لم تكُن سوى تقليد واحتذاء ضعيف للنماذج الغربية وللمدرسة الفرنسية خاصة (موبسان)١٤ وبذلك فهي ليست قواعد نهائية.
(٦) تخلخل البناء القصصي
نعم ليست تلك القواعد نهائية؛ إذ إن البناء القصصي ما لبث أن أصابه تخلخُل عام، كما اهتزَّت القيم الفنية المتعارف عليها واكتسحت قيم جديدة الفن القصصي عامة. نعم إن تلك الأحكام والقواعد لا غبار عليها للوهلة الأولى، لكننا لو أمعنا النظر فيها، لوجدنا أنها تُفضي إلى طريق مسدود أمام القصة القصيرة، فهي تحكمها بشروط إجبارية لا فكاك لها منها، وتعزل عنها ما هو مختلف معها في الأساس والأداء، ثم إن الفن في النهاية، مثله مثل الواقع الذي أنتجه، لا يمكن النظر إليه من وجهة واحدة أو من طرف واحد، وإلا أصبحت الوجهة والنظرة شكلية محضة تضر ولا تنفع.
المبدع الحق، يزيح باستمرار ما يعترض طريقه من عراقيل، ويتجه دومًا نحو المستقبل حتى يماشي حركة التاريخ، وإلا أصبح محنطًا على هامشه، وتغير الأبنية الاقتصادية والاجتماعية الذي حدث عقب كلٍّ من الحرب الأولى والحرب العظمى، كان له أثره الملموس على الإنتاج الفكري والإبداعي، وإذا بنا إزاء أعمال قصصية ذات رؤى جديدة، وتستدعي وجدانًا واستعدادًا خاصين لقراءتها وتحليلها، حصل هذا التغير في الأدب الغربي وامتد أثره إلى الأدب العربي المعاصر، سواء في المشرق أو المغرب، ببطء شديد.
إن أهمية هذه الفقرة تكمن في أنها تشير وفي وقت مبكر (١٩٤٨م) إلى التطور الذي ستعرفه الأقصوصة وإلى ظهور تيارات جديدة فيها، نتيجة التأثر والاتصال بالنتاج القصصي الغربي، وبالفعل فقد تم هذا التطور، وولد جيل جديد من القصاصين، متفاوت في القيمة الفنية والفكرية، وطعم الأقصوصة العربية بما كانت تفتقر إليه من دماء جديدة، وتعرض البناء القصصي القديم على يديه للتخلخل، واصطبغ بمنازع حديثة تجاوزت ما قد أملاه، وقته، محمود تيمور وأضرابه من رواد القص العربي الحديث.
(٧) التقنية القصصية الحديثة
يستفاد من مفهوم التقنية القصصية الحديثة، التغير الذي طرأ على البناء القصصي والتجديد الذي مس الأسلوب وطرق الأداء، وتجاوز التقنية القصصية التقليدية، وعلى الأخص الوحدات الثلاث في القصة القصيرة أي البداية والوسط أما العقدة والنهاية أو لحظة التنوير، وما تلا ذلك من اقتراحات تقنية وأسلوبية كتداخل الأزمنة وتعدد مستويات الفهم والبناء داخل التجربة الواحدة واستعمال أسلوب التداعي والحوار الداخلي والاتجاه إلى الرمز بدلًا من التصريح والتعبير المباشر وغير ذلك مما سيأتي ذكره.
ولا ريب أن هذا التبدل في التقنية القصصية، توفر له من الأسباب ما جعله يحتل مكان التقنية القديمة ويتجاوزها ويأتي على رأس هذه الأسباب ما نعرف من علاقة حميمة بين الشكل والمضمون، ونعني بالمضمون هنا إلى جانب محتوى العمل الأدبي التغير الذي يطرأ على البنيات الاجتماعية، وما يعتري الواقع من تحولات اجتماعية واقتصادية وغيرها تنعكس آثارها على نتاجات البنية الفوقية.
وإذا كان العالم الرأسمالي قد أفرز مثل هذه الإشكالية التقنية والتعبيرية، فإن العالم الاشتراكي كان يبشر، من جهة أخرى، بقيم جديدة نشأت عن ظروف التحول الاجتماعي والاقتصادي، التي عرفتها البلدان الاشتراكية، عن نوعية صراعها مع الإمبريالية، وفي طريقها للقضاء على رواسب الرأسمالية بشتى أشكالها، وكان أبرز القيم التي قدمها الفكر الأدبي الاشتراكي: الالتزام بقضية الطبقة الكادحة، والانتقال إلى واقعية جديدة، أي إلى الواقعية الاشتراكية التي تضع الفرد في خدمة المجموع وتنبذ أنانية ونفعية البطل البرجوازي. وتمثلت هذه الدعوة عند مفكرين اشتراكيين نذكر منهم المفكر والناقد الكبير (جورج لوكاتش).
-
تحطيم الأقاليم الثلاثة: البداية – الوسط (العقدة) – النهاية.
-
اختلال تسلسل هذه الوحدات وتغير في مفهوم العقدة أو انعدامها تمامًا.
-
الحدث: لم تعُد هناك ضرورة لتوفر القصة على الحدث، أو أن الحدث تحول عن معناه المعروف، فأصبحت القصة، مثلًا، تعرض تجربة نفسية أو مجموعة من اللحظات في ذهن إنسان، فالحدث هنا عائم، زئبقي، لقد أصبح مشتتًا وتركيبيًّا.
-
النهاية: لم تبقَ للقصة نهاية معروفة تقدِّم الحل الذي يكون متوقعًا، ويتجلى كل شيء إثر معرفته، لقد أصبحنا أمام كتابة تترك كل شيء للبحث والتخمين وإعادة التأسيس.
-
إلغاء الحكاية: وبالتالي فقدان المعنى، ويبقى السؤال نابضًا باستمرار على ألسنتنا، ويظل بطل التجربة باحثًا عن نقطة الارتكاز أو بر الأمان أو مختنقًا في وحدته الخرساء.
-
اقتراب لغة القصة من اللغة الشعرية ذات الإيحاءات … والدلالة القوية، وقد تمت الإشارة إلى هذا.
-
تستخدم تيار الوعي أو الشعور.
-
ارتقاء المستوى السيكولوجي في الأقصوصة، وجعله مطية عن طريق عملية التداعي والحوار الداخلي؛ لرسم الشخصية واستبطانها من الداخل ووصف الجو أو الموقف، بدلًا من السرد التقليدي.
-
ارتباك التسلسل الزمني، الذي يقدم الحياة في وضع طبيعي ساكن، والانتقال إلى مستوى جديد من تقديم التجربة، فيختل فيه الزمن كامتداد وقتي ليتحول من جهة إلى زمن نفسي لا أول له ولا نهاية، زمن الشعور وزمن الذاكرة، ومن جهة ثانية تتداخل الأزمنة تداخل القصة تداخلًا عجيبًا.
إن هذه الخصائص تتبين في كتابات روائيين وقصصيين أمثال «جميس جويس» و«فرجينيا وولف» و«روب غربيه» وعداهم من الكتاب الغربيين المتأخرين وعند كتاب عرب من الشباب أمثال: هاني الراهب، مجيد طوبيا، الطيب صالح، ومن المغاربة أمثال: محمد زفزاف، خناتة بنونة، وغيرهما ممن سأقف — في هذا البحث — وقفة خاصة في كتاباتهم مستجليًا فيها أثر التقنية والمضامين الجديدة.
وبعد، فإن حديثنا عن فن القصة القصيرة لا يستكمل قيمته دون التعريج على مؤسسيه والوقوف عند أبرزهم، ممَّن وضعوا ركائزه ورسخوا عُمُده وأكملوا بناءه الكبير، حتى أمكنه أن يصل إلينا ناضجًا غنيًّا بعد أن خضع لصقل طويل على أيديهم. وإن الحديث عن فنهم وتجربتهم سيزيد من فهمنا للتجربة القصصية، أيضًا، فضلًا عن أن كل مَن كتب الأقصوصة وقع تحت تأثيرهم بوجه أو بآخَر.
(٨) رواد القصة القصيرة
يرجع تاريخ القصة القصيرة إلى القرن الرابع عشر، إلا أن القصص التي عرفت في هذه الفترة كانت قصيرة من حيث الحجم لا من حيث الشكل، وقد نشأت هذه القصص في إيطاليا في رحاب الفاتيكان، حيث كان يجتمع بعض رجال الدين عامة الناس لسماع الطرائف والنوادر عن أهل إيطاليا.
وقد استمرت القصة القصيرة، على النسق الذي رسمه لها «بوكاشيو» من رواية للخبر بتفصيل وأناة وعناية تشغل لب القارئ، وتنتهي القصة بنهاية مرسومة. إلى أن يطل علينا القرن التاسع عشر حاملًا في منتصفه، على امتداد النصف الثاني منه، الإشعاعات الحقيقية للقصة القصيرة، كما تجسدت عند رواد هذا الفن: إدغار آلان بو – جوجول – جي دي موبسان – أنطوان تشيخوف – همنغواي.
(٨-١) إدغار آلان بو (۱۸۰۹–١٨٤٩م) قصَّاص وشاعر أمريكي
يعتمد الفن القصصي عند «جوجول» على الوصف المجسم وعلى معرفة ملابسات الحياة والتماس الصورة الحسية المرئية وقد أعطى جوجول للأقصوصة معناها الحقيقي إذ ابتعد عن الحكاية التي تعتمد التزويق والتنميق في لغتها، فجعلها، بذلك، تبتعد عن الاتجاه الرومانسي السائد في اللغة والموضوع في عصره كما التزم الموضوعية البحت في كل ما كتب من قصص قصيرة، بحيث إنه صور الحياة كما هي بلا تزويق ولا وعظ.
(٨-٢) موبسان Maupassant (١٨٥٠–١٨٩٣م) قاضٍ فرنسي
إذا كان موبسان قد أصبح بسرعة أستاذًا في فن الحكاية، فلأن ضرورتين توفَّرَتا عنده، الواحدة داخلية والثانية خارجية دفعتاه إلى ذلك.
-
(١)
البساطة: التي تتعلق أساسًا بطبيعته وبصفته تلميذًا لفلوبير، إنه يلحُّ على طريقة معينة، يركز أكثر على لمحة شخصياته.
-
(٢)
تدقيقه البسيط التلقائي كان شرعيًّا، ومدعومًا بضرورة خارجية: عدم تجاوزه «المائة» سطر في الجريدة، ذلك أن الحكاية مكثفة وحية، استحالت حوالي سنة ١٨٩٠م شكلًا أدبيًّا ويوميًّا للصحافة. وتلا هاتين الملاحظتين الأساسيتين هذه السمات التي تميِّز فن القص الموبساني:
-
الحكاية المباشرة والفن الموحي.
-
الحدث عند موبسان، كثيرًا ما يقدم لنا بشكل قصة داخل قصة.
-
تمهيد متواتر في كل القصص، يقدم ويصف فيه الكاتب الجو العام. ويلي ذلك النسج الأولي لخيوط الحدث الأولى. وهذا الحدث عادةً لا يهتم الكاتب بما قبله أو بعده.
-
يلح موبسان، على عنصر الوصف إلحاحًا قويًّا، فيرصد الملامح الخارجية، بصفة خاصة، في جمل مركزة موحية.
-
القصة عند موبسان كثيرًا ما تبدو تطويرًا لبقًا للحكاية، بينما يظل المعنى ناصعًا وشفافًا.
-
التركيب، الصوت الطبيعي، بساطة الجملة، كثرة النعوت، أسلوب السرد، الصفاء، غياب النحت والزخرفة، هذه وغيرها سمات بارزة تؤكد قيمة الفن الموبساني القصير.٢١
وإن موبسان ليوشك — إذا قسنا التأثر بمقياس العاطفة الظاهرة — أن يبدو عديم التأثر بموضوعه، حتى لقد شبهه ناقد فرنسي كبير «أميل فاجيه» بقاطعة ميكانيكية «إن عقله أشبه بقاطعة ميكانيكية يوجهها دائمًا إلى تدفق الأشياء المضطرب.»
أما عن مضامينه وأجواء قصصه فنجد لها في كلمة الدكتور شكري عياد أحسن وصف وتقديم: «موبسان يعشق الحياة البسيطة بكل قوتها وصراحتها ويسخر من التكلف والخداع، ولذلك فإن أشخاصه إما بسطاء أقوياء، فضلاء بالمعنى الذي يفهمه عن الفضيلة، وهؤلاء هم الفلاحون والصيادون والمومسات، وإما مراءون فمخادعون منافقون انتهازيون، وهؤلاء هم البرجوازيون الصغار الذين يرتجفون من خوف الفقر والفضيحة، والبرجوازيون الكبار الذين يعيشون في امتلاء ظاهر وخواء باطن.»٢٢إن هذه الملاحظات والسمات تستمد أهميتها من التأثير الشديد الذي مارسته الأقصوصة الموبسانية على الأقصوصة العربية بأكملها؛ إذ لا يمكن الحديث عن القصة القصيرة العربية دون الوقوف عند موبسان، فهي مدينة له بالكثير، في نشأتها وعناصر تكوينها وبنائها، ويظهر هذا جليًّا لقارئ قصص محمود تيمور، ومَن حذا حذوه فيما بعد، في المشرق العربي، أو في أفريقيا الشمالية، بل إن دراسة قائمة الذات، يمكنها أن تتوفَّر لتعقُّب تأثير الأقصوصة الموبسانية على القصة العربية، وعلى الجيل الأول من القصاصين العرب.٢٣ -
(٨-٣) تشيخوف (١٨٦٠–١٩٠٥م) قاصٌّ روسي
-
البساطة في صوره وكتابته سر من أسرار فنه.
-
تشيخوف في معظم قصصه شاعر بحواره، هذا الحوار الذي تستقطب حوله فكرة القصة ومضمونها العميق.
-
شخصياته وأحداثه تحمل في رحمها سمة التماثل مع الواقع، فهو يحرص دائمًا أن يكون التركيب العام للصور منتزع من صميم الواقع.
-
الإنسان هو الموضوع الرئيسي للكاتب الروسي، على مدار إنتاجه كله، وهو كذلك عند تشيخوف. وتشيخوف كان يميل إلى الغموض في أعماق هذا الإنسان، مما كان يدفعه إلى اختيار النماذج البشرية المأزومة، مثلًا: «وفاة كاتب»، «الأسي»، «عنبر رقم ٦»، والنموذج المأزوم هو محور كل قصصه تقريبًا، هنا النموذج ابن الطبقة الوسطى ذات الأزمات الخانقة، أصبح تشيخوف ومن تبعه من القصاصين يشكل قطب الرحى في كل الأعمال القصصية.
إن تشيخوف يُعتبر وحده مدرسة كبيرة. القصة القصيرة، تخرج منها العديد من القصاصين، وبالنسبة للقصة القصيرة العربية، فإن الكتاب والجيل الثاني منهم على الخصوص، قلدوا قصصه، واقتبسوا تقنيته القصصية، حتى ترك بصماته على آثار جيل القصصيين من محمود تيمور إلى محمود البدوي، فيوسف إدريس ومحمد أبو المعاطي أبو النجا، ويوسف الشاروني، هذا الاقتباس لم يقِف عند التقنية وحدها بل امتد إلى جوانب وقطاعات الحياة المأزومة للطبقة المتوسطة، التي كان تشيخوف على وعي حادٍّ بها، كما انصبَّ على النماذج البشرية في لحظات العجز الإنساني ولواقع الناس البسطاء، وهذه اهتمامات كان القاص العربي يسعى لتصويرها والتعبير عنها، وكان تشيخوف موجهًا ونبراسًا له إليها.
وفي المغرب، من الصعب ألا نجد كاتبًا لم يتأثر بهذا الكاتب العظيم بفنه، بواقعيته، إنسانيته وسخريته، وخاصة عند جيل أوائل الستينيات.
(٨-٤) إرنست همنغواي: روائي وقصَّاص أمريكي
لا يمكن لدارس القصة القصيرة أن يتناول هذا الفن بالدرس له ولأعلامه دون أن يقف عند الكاتب الروائي والقاص الأمريكي همنغواي، أستاذ محنك في هذا الفن إنه أساسًا، كاتب روائي، لكن القصة القصيرة احتلَّت حيزًا بالغ الأهمية في إنتاجه واستطاع أن يبدع فيها ويضيف إليها خاصيات جديدة، وفي تقنيتها التي رسخت على يدي موبسان وتشيخوف.
فما هي الأقصوصة عند همنغواي؟
إنها إيحاء فكرة إحساسية بواسطة منظر متحرك، إيحاء لا تصريح وإلا كان المقال صحفيًّا. فكرة إحساسية أي غير واضحة يمتزج فيها الفكر بالعاطفة. إن همنغواي يهدف إلى وصف هيكل العلاقات الإنسانية، وعلى القارئ أن يملأ هذا الهيكل بالحياة ويكسوه بتجاربه فيكون التأثير عامًّا وعميقًا.
-
إن همنغواي يخطِّط لقصصه تخطيط رسام، والأقصوصة عنده هيكل، هيكل في معنى بعض الاجتماعيين المعاصرين، ظاهر وباطن في نفس الوقت، على وجه الأشياء وخلفها.
-
بامتلاكه عنان الحوار، ذلك الحوار الموجز غير الطبيعي؛ لأن الحوار الطبيعي يمتاز بالإطناب والمراوغة لا بالإيجاز والدقة.
-
أما أسلوب همنغواي فإن أهم ما يتميَّز به في إرساء الجو، أي ربط اتجاهه بمواده، هو استعمال أسلوب يعرض فعاليات الحرب والصيد ومصارعة الثيران بتفصيل يقارب الإفراط الشعائري، إنه يركز اهتمامه على التفاصيل المنعزلة حتى نراها كرموز ذات دلالات أخلاقية.٢٦
وإذا عرفنا، بعد ذكر هذه المعالم الفنية، أن همنغواي رجل أحب الحياة وأحبته، فشحن إنتاجه بجل مظاهرها، وخاصة جوانب القوة والعنف، وصور لنا الإنسان وهو يصارع الطبيعة، ويصارع الموت والحياة وينتصر، إذا عرفنا هذا كله لن نستغرب إذا علمنا أن كل القصاصين الذين أتوا بعده مدينون له بما كتبوا، سواء كان التأثر مقصودًا أم تلقائيًّا، كما أن كثيرًا من القصاصين العرب قضوا زمنًا طويلًا يتمرسون بفن همنغواي قبل أن يخرجوا بأعمال قصصية ناضجة.
هوامش
La nouvelle française, par René Godenie, P.U.F., Paris 1974. voir surtout: p. 50 à 109.
• وبالنسبة للمقاييس التي تعتمدها المدارس في تقييمها لمفهوم القصة القصيرة وتميزها عن الرواية انظر الفصل الخامس: ١٥٦-١٤٨، وانظر أيضًا:
Logique du récit par Claude Bremond; Ed du Seuil, Paris 1973. voir surtout p. 48 et suivantes, 103 et suivantes.
Sahmidt (Marie Albert) Maupassant par lui méme, coll ecrivains de Toujours, ed seuil, Paris 1968.