الفصل الأول

المقالة القصصية

مضامين المقالة القصصية.

مفهوم المقالة القصصية ونشأتها.

***

(١) تقديم

إن الحديث عن المقالة القصصية، كوجه المقالة القصصية، كوجه ومرحلة من مراحل النشوء القصصي، يستدعي بدءًا الحديث عن المقالة والتعرف عليها وعلى مميزاتها.

والمقالة ظهرت في المغرب مع ظهور الصحافة ونمت وتطورت بتطور هذه الأخيرة. فالجريدة بما يعرف عنها، ألزمت الكتاب بانتهاج أسلوب جديد في الكتابة يتماشى ومتطلباتها، فاستعاض الكتاب بالتركيز أو التوسط على الإسهاب، وبالأسلوب المرسل عن الأسلوب المسجوع، واعتمدوا الألفاظ والتراكيب البسيطة بدلًا من الألفاظ الغريبة الحوشية، واقتصدوا في لغتهم كما تجنبوا الاستطراد المقطع للأفكار والمخل بتسلسل المعاني. أما مواضيعهم فقد تنوَّعت ومحتويات كتاباتهم تباينت،١ فاختلفت من كتابة سياسية إلى اجتماعية واقتصادية، ومقالات تعالج الرياضة البدنية كما تطرقت إلى الاقتصاد السياسي وكذا الأخلاق والطباع. وهذا التنوع أغنى المقالة ودفع بها في طريق التطور، كما هيأ لأسلوب الكتابة فرصة لاستبدال أزيائه القديمة والمرتقة بأخرى جديدة تسعى إلى الوضوح والإفهام، وليس إلى الإبهام والتعقيد أو تصيد الألفاظ الغريبة والأسجاع المتوافقة، وفي هذا المعنى يقول عبد الله كنون: «تحلل الكتاب من قيود النثر الفني، الذي كان أسلوبهم المفضل للتعبير في كل موطن، من الرسالة الإخوانية إلى تأليف الكتب … فبعد أن كنت لا تعثر على أي نثر كتب بطريق الترسل، إلا نادرًا، صرت لا تجد مَن يكتب بطريق السجع إلا فئة قليلة بقيت محتفظة به كما يحتفظ بأحد الآثار الجميلة، وهي إلى الجيل الماضي أقرب منها إلى هذا الجيل ومنها «محمد غرنيط».»٢

ولا شك أن الفضل في ظهور هذا اللون الجديد من الكتابة، وكذا السر في تحرُّر أسلوب الكتابة بالمغرب، فضلًا عن عامل ظهور الصحافة، يعود إلى عنصر التأثر بالكتابة في المشرق العربي، هذه الكتابة التي أتيح لها من التحرُّر والتخلُّص من أدران الأسلوب المسجوع المقيد، والاستسقاء والتأثر أحيانًا بأسلوب الكتابة في أوروبا ما جعل الكثيرين يؤثرونها على الكتابة التقليدية ويحتفلون بأساليبها فيما يكتبون وينشئون، ولسنا في حاجة إلى تقديم الأمثلة في هذا المضمار، وحسبنا الإشارة إلى مقالات ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق وعبد الله النديم وعبد العزيز البشري، وعلى الخصوص مصطفى لطفي المنفلوطي في كتاباته المشهورة والتي طرقت آفاق كل البلاد العربية ووجدت لها آذانًا وخلفت أصداء وأقلامًا تقلدها أو تنهج نهجها أسلوبًا ومحتوًى. وقد امتدَّ هذا التأثير ونما ليفرض نفسه على كثير من الأقلام ويصبح هو الأساس وغيره الاستثناء والنشاز.

ونجد بعد المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي بأسلوبه المعقد، بعدهما أتى تأثير جيل طه حسين وأحمد أمين والعقاد والمازني وأحمد حسن الزيات وزكي مبارك، نجد خاصة أن هذا التطور أخذ مجرًى آخَر؛ إذ لم يقتصر على تطويع الأسلوب العربي وسلخه عن الزعانف التي علقت به طيلة قرون الانحطاط، كما لم يقف عند حد التأثر بجماليات أساليب الكتابة الرومانسية وما تحفل به من احتفال بعناصر الطبيعة من ألوان وأشكال وأصوات، بل تجاوز هذا كله إلى الخروج بالكتابة المقالية من مجراها الطبيعي والجنوح بها إلى مجرًى آخَر تلتقي فيها مع حدث أو حكاية ما فتعانقها، وتتسربل الحكاية أو الحدث بهذا الأسلوب، ويكون كلٌّ منهما وجهًا من الصورة، ولنا في مقالات المنفلوطي عن الفقراء والبؤساء والأيتام والحب والوطن نماذج كثيرة تبين لنا هذا الالتقاء وتعطينا مثالًا للشكل الذي صارت عليه المقالة على يد مصطفى لطفي المنفلوطي.

ذلك أن المنفلوطي بوعي منه أو بغير وعي فني، كان يحور المقالة ويجنح بها نحو طريق القصة، أي أنه كاد يستخدم الأسلوب المقالي في صياغة بعض الأحداث أو سرد بعض الحكايات التي تصور الحب أو البؤس أو غيرهما. وهذا لا يفيد أن المنفلوطي اتجه إلى القص بل إن غايته الأولى كانت متجهة إلى الأسلوب ينمقه ويرصعه وإلى الحماس الخطابي يذكيه وينميه متخليًّا عن بناء الحكاية ملتفتًا إلى الأفكار أو المشاعر التي من شأن إثارتها، إلهاب حماس القرَّاء ومس نياط قلوبهم وإثارة أحاسيسهم وهز نفوسهم.

لقد اتجه المنفلوطي إذَن إلى كتابة المقالة القصصية أي إلى صياغة أفكاره وتصعيد مشاعره عن طريق استغلال بعض عناصر الخلق والوصف القصصين، ولكن القيمة الأولى في هذه الكتابة تعزى للفكرة أو الشعور، وليس للقصة بما فيها من بناء ونسج. وتكمن أهميتها هذه الكتابة، بعد ذلك، في أنها هي وغيرها كانت خطوة تلَتْها خطوات في المسيرة التي كان على القصة القصيرة العربية أن تقطعها حتى تصل إلى ما تعرفه اليوم من تطور وتجديد وإبداع حق. ويبقى بين المقالة القصصية والأقصوصة الفنية فرق شاسع وقد تنبَّه محمود أحمد شوكت إلى مثل هذا الفهم حين قال: «لقد مهدت قصص المنفلوطي المترجمة والمولدة ومقالاته القصصية لتهيئة أذهان القراء لتقبل القصة القصيرة، وبذلك كونت القصة التعليمية ذات المغزى مقدمة حركة القصص القصيرة التي ألفت فيما بعد. وإنما يعود وجودها بصورتها الفنية إلى تأثير الآداب الأوروبية المباشر، كما حملته البعثات العائدة من الخارج لا سيما فرنسا. وبين قصص المنفلوطي وقصص محمد تيمور ومحمود تيمور، فرق بين قصص تدعو لفكرة وتعتبر وسيلة للدعاية وأداة لتصوير الحياة تصويرًا ذاتيًّا إنشائيًّا لا يدقق في النواحي الفنية، وبين قصص تسعى لتصوير الحياة فتبرز سلوك الناس، وتصور الحوادث من وجهة نظر خاصة، ولكن الهدف الأخلاقي فيها ثانوي.»٣

وقد أخذ الكتاب عندنا، انطلاقًا من أواخر العقد الرابع لهذا القرن، يميلون إلى تقديم أفكارهم وصياغة مواقفهم من المجتمع والحياة في إهاب قصصي، أي في مقالات قصصية تشدد على جانب التصريح بالأفكار والدعوة إلى الإصلاح والتنديد بالفساد وترمي، أساسًا إلى مخاطبة الناس في أمور عيشهم ودنياهم، ولكنها تتوخى إلى هذه المخاطبة قالب القص، فتصطنع الفكرة حكاية من شأنها أن توحي بتحقق الخطر أو المشكل. وما أن تحبك الخيوط الأولى حتى تنفلت منه وتمتلئ بعبارات النصح والوعظ أو التهديد والوعيد، ثم تعود، ثانية، فتجد في همها مذكرة الكاتب بما قصد إليه في البداية من هدف خلقي أو غيره. ولم يكُن بوسع كتابنا أن يوفقوا، بأي حال، بين الأفكار التي تنادوا بها وبين القالب القصصي الذي اتجهوا إليه، وهو الفن الجديد الذي لم يسبق لهم أن عرفوه، وإن امتلأت نفوسهم بروح القصص والحكاية.

ويبدو لي أن هناك طائفة من الأسباب تضافرت وجعلت المقالة القصصية هي أول شكل من أشكال الأقصوصة في الأدب المغربي الحديث. فصعوبة هذا الفن وجدته وضعت الكاتب المغربي أمام مشقة اقتحامه مباشرة، خاصة ونحن نعلم أن الفن موهبة وتمرُّس وليس زيًّا يرتدى أو مقدرة تكتسب بسهولة هنا ومن تولدت حتمية التدرج على سلالم سابقة للوصول في النهاية إلى أفق الفن الصحيح. وإذا أضفنا صعوبة الخروج على التقاليد الأدبية المتعارف عليها وشدة أحكام (التقليدية) المحافظة والمهيمنة على الوجدان والفكر المغربيين، فضلًا عما يقتضيه التقليد والتجربة من أخطاء وعثرات قد تكون المقالة القصصية إحداها، فإن هذه المقالة القصصية تبدو لنا عندئذٍ جسرًا ضروريًّا لزم عبور القاص المغربي فوقه ليرقى بعد ذلك درجات التطور وليست الأقصوصة المغربية بدعًا في ذلك، فالملاحظ أن القصة قبل أن تبلغ بعض النضج على يد شباب المدرسة الحديثة في مصر، مرت بهذه المرحلة ذاتها وأن ما كتبه المنفلوطي من مقالات تعالج قضايا إصلاحية واجتماعية يستعير خصائص الإطار القصصي لدليل ثابت وبين على ذلك.

وهكذا تأتي المقالة القصصية لتكون فاتحة الكتابة القصصية القصيرة في الأدب المغربي الحديث ولتشمل مجموعة لا بأس بها من التجارب، استمرَّت مسافة عقد كامل، وأمكن لبعض الكتاب أن يطورها، فيقتربوا أكثر من ضفاف القصة القصيرة في أبسط مظاهرها ووفروا لقصصهم تماسكًا أكبر وفنية أوثَق. ويبقى البعض الآخَر متخلفًا معيدًا سحنة الشكل القديم، يردِّد دون أن يملك الفهم والقدرة على تجاوزه إلى غيره الأصفى والأنضج.

والمقالة القصصية بعد أن تم التعرُّف بها، وفهمها والنظر في وجوه ظهورها وأسباب نشوئها، سيتم درسها وتفصيل الحديث فيها بحسب المنهج الذي حددناه، أي من خلال المضامين التي تتفرع إليها الكتابة وتتشعب فيها، وقد دفعنا وهدانا لهذا التوزيع ما رأيناه من غلبة وتجمع بعض المواضيع والاهتمامات على جانب دون آخَر، وكذلك من خضوعها جميعًا لنسق متشابه في الأسلوب وطرق الأداء، مما يشكل بجانب المحتوى التجربة الكتابية كاملة غير منقوصة.

هوامش

(١) ارجع إلى كتاب «أحاديث في الأدب المغربي الحديث» ص۳۹، فيه نموذج لما أصبح يخوض فيه النثر من موضوعات، وكذلك يظهر تطور الأسلوب فيما كتبه محمد الحجوي في فصل الفقه قبل الإسلام، نموذج للنثر العلمي، مقال ابن المواز وهو نموذج للكتابة السياسية وللأسلوب المتحرر (ص٤٢-٤٤)، نموذج للمقالة الاقتصادية في «الاقتصاد السياسي» من إنشاء عبد القادر الوزاني، كتب سنة ١٩٢١م.
(٢) المصدر السابق، ص۳۸.
(٣) محمود حامد شوكت، الفن القصصي في الأدب العربي الحديث، دار الفكر العربي، ط الأولى، القاهرة، ١٩٦٣م، ص۲۰۳.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤