الفصل الثالث

المقالة القصصية الاجتماعية
بوسعنا التعرف على مغزى هذا الاتجاه ومنزعه في طريقنا للتعرف على واحد من رواد القص القصير ورائد هذا الاتجاه أيضًا، إنه «أحمد بناني» الذي يستوجب الحديث عنه وقفة متأنية، وعندما فاضت به قريحته وما سجله يراعه من قصص اختلفت أساليبها ومنازعها، ولم تتوقف عند حد فني بعينه، بل أمكنها أن تقف في عدة حدود وأشكال فنية، وتقدم شهادة حية لكثير من المشاغل والهموم والتقاليد الاجتماعية التي كان يضطرم بها الواقع خصوصًا، والعصر عمومًا، يقول عنه الأستاذ علال الفاسي: «كاتب المجموعة خبير بنفسية كلٍّ من الإنسان المغربي والأجنبي، قادر على إبراز جوانب الشخصية في جميع تقلباتها، ليصل بها إلى غاية لا بد منها، وهي نقد المجتمع والناس، ومحاولة تحويلها إلى مجتمع وطني نافع بكل معنى الكلمة …»١ وهذه العبارات استشفاف واعٍ وعميق للنتاج القصصي لأحمد بناني، سوف يتأكد لنا ونلمسه عند تناولنا لقصصه بالتحليل والنقد. ثم إن الكاتب نفسه في الديباجة التي وضعها لقصصه يعطينا لمحة مركَّزة عن إنتاجه وإنتاج كتَّاب جيله قائلًا: «وإنتاجنا على وجه العموم كان ينبعث من أعماق قلوبنا وكان مستمدًّا من واقع حياتنا وما يخالج صدورنا من آلام وأحلام ومُثل عليا.»٢ ولِنرى؛ فإن هذه الأهداف كانت، حقًّا، هي ما يرمي إليه النابهون من كتَّاب المغرب خلال المرحلة الاستعمارية. فكانوا يحاربون في واجهتين اثنتين، فهم من نحوٍ يرسِّخون بنيان اللغة العربية ويشدُّون من عضدها ويذهبون بها في مذاهب التطور والتجديد مقدار ما أسعفتهم ثقافتهم ومواهبهم، وهم، من نحوٍ آخَر، يصدون هجمات الاستعمار وحملات المسخ والتشويه التي يقوم بها لاجتثاث الكيان المغربي من أصوله. وهكذا فقد كانت مهمتهم مزدوجة، نضال ثقافي وصراع سياسي واجتماعي يجد مجاله وتنفسه فيما يكتبون. وبذلك كانت قصص أحمد بناني وكتَّاب جيله يسير جُلُّها في هذا الخط الاجتماعي والنضالي، وكانت المشاكل الاجتماعية وقضايا الناس بطبيعة الحال هي التي تستأثر ببال الكاتب فيفرد لها الصفحات الطوال مشفيًا في ذلك غليله. وبالنظر لطبيعة الهدف الذي هو اجتماعي صرف يروم النقد والتغيير، فإن قصصهم وقصص أحمد بناني جاءت، بحكم عوامل فنية وثقافية، لتندرج في قالب المقالة القصصية، أي إن مستوى الوعي الفني ونوعية الظرف التاريخي هما العاملان الأساسيان هنا.

يتعلَّق الأمر، أولًا، باللغة القصصية وبماهية وسيلة الأداء القصصي، وباللغة التي ينبغي أن يطرق بها هذا العالم الغاص بالكائنات والأشياء، كيف يشكله ويقدِّمه ناضجًا، متوهِّجًا وكاملًا إلى ذهن القارئ ووجدانه؟

إن أحمد بناني يكتب بلغة نثرية سليمة ذوقية، غير أنه ينساق وراء قلمه ويشرد به ذهنه، فتعجبه الجملة فيردفها بأخرى تكون في اعتقاده أكثر قدرةً على الأداء فيردفها بثالثة، وهكذا … ويحاول، ما وسعه خياله وانقادت له قريحته وقلمه، أن يتفنن في الوصف متأثرًا بأوصاف كتاب الطبيعة وما يجذب انتباههم «يقضي عزوز أصيل يومه ساهمًا في دنيا خياله، سهوم هذه القبور المتناثرة من حوله، ويسرح طرفه في هذا الفضاء الذي اضطجعت فيه المدينة محفوفة بالهضاب الخضراء وأشجار الزيتون، يباغم طيره الذي يمرح ويشدو في قفصه المنصوب على شاهد قبر.»٣ لا خير في هذا، فإنه يدل على تمكن وإحساس خاصين. ولكننا نقصد إلى القول بأن الكاتب لم يكن يتحكم في سرحات قلمه بالقدر الضروري. ولم يكن ليكيف أسلوبه لمقتضيات الكتابة القصصية، إذ نعرف أن لغة القصة وأسلوبها خاصان ومتميزان، لغة القصة متميزة عن اللغة النثرية التي تصلح لكتابة المقالات الأدبية أو الخواطر الذاتية الإنشائية والتي يجوز فيها للكاتب أن يدبج ما شاء له التدبيج ويقنص من التعابير والصور ما واتَتْه به نفسه ومقدرته. لكن إلى أي مدى يجوز لنا محاسبة أحمد بناني وأضرابه من القصاصين الذين سنعرض لكتاباتهم، والمتصلين بمرحلة البداية هاته؟ والإجابة على هذا السؤال بدقة لا تبدو ضرورية حين نلتمس العذر لكاتبنا، في الذي أسلفنا، وفي كونه كان يخطو في طريق جديدة وفي كون المناخ الأدبي حوله لم يكُن يقدم له نموذجًا للاحتذاء.

بعد هذه الحكاية نرى الكاتب يرتِّب قصته ترتيبًا تظهر فيه الوقائع والمشاهد بما يؤاتي قصته، فالقصة تبدأ البداية التي ظهرت في التلخيص وتطورت من خلال شخصية عزوز وما أدخله الطائر على حياته من بهجة وحبور ثم جاءت النهاية المفجعة التي عرفنا. أي أننا أمام بداية ووسط ونهاية تصنع حدًّا ينتهي به النفس والتفكير.

ترى هل نحن أمام أقصوصة حقيقية انطلق الكاتب يُعالجها وهو على بصر بقواعد هذا الفن، وتنبه للمسالك التي سيعيرها، أم إنه انطلق عابئًا حينًا وغير عابئ بما يصوغ أحيانًا أخرى، بحيث يسمح لنفسه بما يجرؤ عليه الفنان القاص دون احتراز من أن يقع ما يتنافى مع روح وأصول القص الفني؟ فالاستطراد، مثلًا، يُظهر خاصية بارزة في أقصوصة «حتى الطيور في حيرة»؛ إذ يكاد يطغي عليها من البداية إلى النهاية: ونقصد بالاستطراد هنا انفلات خيط القص من بين يدَي الكاتب وانفلاته هو أيضًا وخروجه إلى أجواء بعيدة ترضي ميلًا في نفسه. فيعرض علينا ما يمكن تسميته بمشاهد جانبية، انظر إليه كيف ينساق واصفًا ومتحدثًا عن (الصداحة أم الحسن)؛ «يا للعجب كيف أسلست قيادها وأرهفت لسانها في هذا القفص الموصد، وهي التي ما غنَّت إلا على الأغصان؟ ولكن أتراها تكلفه سهلًا؟ إنها تكتفي من القوت وهي حُرة بسقط الديدان، فإذا أوصد عليها الباب أبَت أن تقتات إلا بحبات قلوب الخرفان الفتية للانتقام من بني آدم الذين طالما سجنوها بين قضبان الأقفاص …» ولو أحببنا أن نستمر لوجدنا كلامًا مسهبًا آخَر عن الصداحة أم الحسن هاته، وعن عزوز وجولاته وما إلى هذا من الاستطرادات التي ينساق إليها الكاتب غافلًا عن متابعة سرد حكايته وإتمام التوصيل بين أطرافها، وتوثيق عُرى التماسك بين حلقاتها، ولخلت، عندئذٍ، من كثير من الكلام والأوصاف والتعليقات الهامشية، كأن يرد خلال القصة قول الكاتب: «الله أكبر، الله أكبر، هذا آذان المغرب يتصاعد من كل جانب من مآذن فاس، جاء يذكرهما أن الحياة سعي وكفاح، لا غيبوبة وأحلام»! مما يحدث التباعد ويفصم التسلسل.

وإلى هذا الحد يمكننا طرح سؤال أساسي: ترى هل كان أحمد بناني يقصد إلى كتابة أقصوصة؟ ويعقبه سؤال آخَر: هل كان مدركًا لفنية الأقصوصة وهوية هذا الجنس الأدبي، والحدود التي يتحرك فيها من يلج باب هذا الجنس، نتساءل لنعرف إن كان بوسعنا أن نحاسب الكاتب محاسبة نقدية ونأخذ قصته هذه بوسائل التقويم القصصي الفني.

على إننا نعتقد أن أحمد بناني في قصته «حتى الطيور في حيرة» وتأسيسًا على الأفكار والتحليل السابقين، لم يكُن ينوي كتابة قصة قصيرة، ولم يكُن تصورها يشغل نفسه أو فكره حتى يوفر لها ما تستوجبه من شروط وسمات. وكل الذي يبقى لأحمد بناني هو أنه سواء انتوى أو لم ينتوِ، وعى أو غاب عنه الوعي الفني، فقد أعطانا حكاية ذات مضمون اجتماعي في قالب مقالي وقصصي ملائم للتساؤلات والهموم الكبيرة التي شغلت ذهنه ونفسه.

وإن التساؤلات التي مهد بها الكاتب لقصته، كانت في رأس ما سيشغله وهو لم يكُن ليدمجها داخل الحكاية، أو في حوار الشخصيات أو يجعلها تتلامح بين الأسطر دون تقرير. إن البدء بها وطرحها بالتتابع يشير إشارة واضحة إلى أن الكاتب نشد معالجة هذه الأفكار وطرح هذه الاستفهامات على الآخرين، ومحاولة إثارة الأذهان إليها، وأيضًا محاولة إيجاد حلول عاجلة ومبرئة لما يحار فيه الشباب المغربي وما يمزق تفكيره وسلوكه فهذه: «أزمات تترى، ومشكلات تترى يجد نفسه أمامها متسائلًا كل حين: كيف أسير في هذه الحياة؟» وهذه، كما يظهر، وظيفة الباحث الاجتماعي أو المصلح الأخلاقي أو ميدان كتابة المقالة، التي يلتقط كتابها ما يراه صالحًا وداعيًا للمناقشة أو ما يشغل أذهان الناس ويحير حياتهم، فيثير المشكلة ويناقشها ويمثل لها ومن ثم يقترح من الحلول ما يراه مناسبًا لاستئصال جذرها. وأحسب أن القاص بعيد كل البعد عن هذا المضمار أو على الأصح ليس مطلوبًا منه أن يتبنى جهارة هذا الموقف أو ذاك ويطرح، بالضرورة، بعضًا أو مجموعًا مما يغمر المجتمع من سيول المشاكل والأزمات، لأن الفن شيء غير هذا والكتابة الأدبية الفنية بعيدة عن المعالجة المباشرة والجدل المفصح والفنان في الحالة التي يربط نفسه برباط وثيق بقضايا المجتمع ويتبنى مواقف نضالية فكرية فيتجه إلى النقد الاجتماعي أو السياسي، فإنه، فهمًا لفنه ووعيًا صحيحًا للوضع الذي يتحرك فيه أو تتحرك فيه شخوصه القصصية، يؤثر التلميح على التصريح والهمس على الجهر، والإشارة الخفية بدلًا من التلويح. وهو في ذلك يضمن نجاحين اثنين: الأول في جبهة الفن، والثاني في جبهة النضال الاجتماعي.

لكن أحمد بناني لم يكن قاصًّا بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولكنه كاتب متنبِّه لمشاكل مجتمعه ومواكب، نسبيًّا، لقضايا عصره. أحس بما يعانيه الناس من أزمات نفسية وسلوكية بدت له خطيرة، فأحبَّ أن يُنير السبيل أمامهم وأن يطرح المعضلة طرحًا فكريًّا فنيًّا، ولكي يبتعد مسافة عن كاتب المقالات الصحفية ويقترب من ظل الكاتب القاص اختلق حكاية طريفة تمثل للأزمة التي أثارها وتكون وعاءً فنيًّا لأفكاره، فتجعلها بذلك سهلة الفهم دانية القطاف، ومشوقة بصفة خاصة وسواء أدت الحكاية دورها أم لم توده، فإن ذلك ليس ذا أهمية ما دامت الأسئلة المثارة هي الهامة، وما دام الأمر يتصل بمعالجة قضية اجتماعية وحضارية سببها ظهور «الراديو»: «أصبح العطار «أبا مكي» صاحب المعهد في نكد، فهذه الأزمة التي عمت كل ما حولهم٤ وتسربت إلى قعر دورهم لم تنج منها حتى هذه الطيور البريئة، فما عادت تثير ذلك النشاط والزهو والانشراح فما مصيرها؟ الله وحده بذلك عليم.» وهذه النهاية تختم القضية التي أثارها أحمد بناني، والاختتام يكاد يناظر البداية، وتتم أمامنا هذه المقالة القصصية الاجتماعية لكن المصير يبقى معلقًا.

وعندما نقول مقالة قصصية اجتماعية نقصد أن الكاتب مهموم بمشاكل مجتمعه يثيره ويؤلمه ويشغله ما يتخبط فيه الناس من مصاعب ومتاعب فيتخذ قلمه وسيلة للتشهير بالظلم والسعي وراء العلاج.

وقد أحس أحمد بناني إحساسًا حادًّا بالهوة التي سقط فيها المجتمع المغربي نتيجة للاستعمار الذي ضرب عليه حصارًا حصينًا وسلبه جل مقومات حياته وتفكيره، وأحس بشدة تخلف هذا المجتمع وبعده عن أجواء الحضارة الجديدة وإمكاناتها التقنية الحديثة، وانغماره في حياته البسيطة الساذجة الخالية من التعقيد، وإن كانت واقعة تحت هيمنة الجمود والتخلف. تنبه للتحدي الجديد للحضارة الغربية ودرجة تأثيره على الشعب المغربي المستعمر، لقد حلت المصيبة بسبب «الراديو الذي يصيح ليل نهار من كل مكان» في نفوس الناس، ولكنها من جهة تصرخ بحقيقة التطور، وتبين من جهة ثانية عن اصطدام منطقين متعارضين، وتشير من بعيد، وكتكثيف لهذا كله، وبشكل إيجابي وروح غيور من الكاتب على شعبه ووطنه، إلى خوف من تزعزع القيم والتقاليد القومية والخشية على اهتزاز الكيان الوطني وسقوطه مرة واحدة بين مخالب المستعمر. فالراديو ليس إلا تجسيدًا ماديًّا لتحديات أكبر ذات تأثير خطير على الذهنية والسلوك. وكان خوف الكاتب شديدًا أكثر على «الشباب المغربي» راصدًا لهذا القلق والحيرة التي أخذت تجتاحه فلا يعرف أي طريق يسلكه في الحياة؟ أي تفكير يتبع؟ أي موسيقى، أي زي يرتدي؟

إنها قضية خطيرة، حقًّا، هاته التي أثارها أحمد بناني شاطره فيها كتاب آخرون من المغرب والمشرق. وهذا التنبه يدل على إحساس الكاتب بعصره وفهمه له، ويبرز هدفه الاجتماعي الالتزامي من الكتابة «كانت لنا حقًّا أهداف واضحة أهمها هدم الحماية بجميع أنواع الهدم، والدفاع عن كياننا وقيمنا ولو في صور أدبية صرفة»٥ وإذَن فمن أجل الدفاع عن الكيان الوطني والقيم القومية الأصيلة، من أجل قضية تكمن في دفع الناس إلى التشبث بأصالتهم والدفاع عن أوطانهم في وجه المستعمر، كتب أحمد بناني «حتى الطيور في حيرة» وجاءت في قالب المقالة القصصية ولا ضير في هذا بتاتًا؛ إذ الأمر رهين بمرحلة جنس أدبي، وبالسير في طريقه ببطء ورفق.
ولما كان العهد عهد استعمار فإن كثيرًا من وجوهه وجوانبه تدخل في احتكاك مباشر وغير مباشر مع واقع المجتمع المستعمر (بفتح الميم) وتحدث تأطيرات متباينة على صعيدي الفكر والسلوك لتلحظ بعد ذلك عدة نزوعات تأخذ عنصرها المحرك من طبيعة التأثير الأجنبي الدخيل وما سببه من مشاكل وأثاره من قضايا محيرة فتكون مثار اهتمام الفئة الواعية والمثقفة، وتتناولها أقلام الكتاب بالتحليل والمناقشة في قالب مقالي أو ضمن إطار فني، كل حسب مقدرته واستعداده. ونحن في هذا التحليل نلح على أن الاستعمار كان يفرض قضايا بذاتها تحدث ارتجاجًا في أذهان الناس وأنماط سلوكهم المعهودة وتقلق وجدان وتفكير المثقفين الذين كانت أبصارهم موجهة صوب الكيان الأساسي لوطنهم وقومهم يخافون عليه غائلة التخلخل والتشويه. ومن هذا الجانب فإنه من البدهي أن تكون المواد الفنية التي تنبثق عنهم نابعة عن الإحساس العام الذي كان شائعًا في تلك الفترة التاريخية وللتخوفات الاجتماعية التي كانت مهيمنة على نفوس بعض الكتاب دون غيرها.٦

فإذا كان أحمد بناني في قصته «حتى الطيور في حيرة» قد استلفت نظرنا إلى الخطر الذي أحدق بشخصية الأمة وبدأ يهددها في «أصالتها» وشخصيتها المميزة. فإن كاتبًا قاصًّا هو «حمزة بوكوشة» يأتي بدوره ليضع يده على إحدى المشاكل التي بدأت ترتعش في محيط المجتمع المغربي الواقع بين فكي الاستعمار، ولا نريد أن نقول أنها شبيهة كل الشبه بقصة أحمد بناني، أو نعطي فكرتها موجزة، سريعة، بل نؤثر أن نقدم الأقصوصة أولًا مستعرضين أحداثها وشخصياتها، وكي ترى، بعد ذلك، إلى أي شيء أراد بوكوشة أن يصل، وهل وضع يده على مصدر الداء وكيف؟ وهل استطاع أن يكفل للقضية التي يعالجها إطارًا قصصيًّا جيدًا، وهل ألبسها مسحة فنية تبعدها عن كثير من الشوائب التي تكسر بناء القصة أو تبتعد بها — نهائيًّا — عن أن تدخل في نطاقي هذا الجنس الأدبي، الأقصوصة.

«ذهب رمضان بذهاب أحمد»٧ قصة شاب ينتمي إلى أسرة غنية، أراد أن يكون ابنه مثقفًا جامعًا لمعارف عصره وأن يدرس علم التجارة والاقتصاد فيبعث به إلى أوروبا، منبع العلم ومركز إشعاع الحضارة عهدئذٍ، ونصحه بألَّا يتعرض لملاهيها وإغراءاتها وأن يعود إلى وطنه محملًا بالشهادات والمعارف. لكن تيار الحياة أقوى من إرادة الوالد، فالابن بعد وفاة أبيه يبذر ثروته في اللهو والتمتع في فرنسا، وتذهب دراسته أدراج الرياح، ويعود أخيرًا وأخيرًا إلى وطنه برفقة امرأة أجنبية، تظهر له المحبة والتودد والإخلاص، لكنها ما تلبث أن تحتال عليه في النهاية، فتستولي على ثروته وتقلب له ظهر المجن وتولي فارَّة إلى أوروبا، لتتركه يعض على بنان الحسرة والندم.

هذه القصة شديدة الطول في حجمها، حاولنا أن نجمع شتاتها ونلم بأهم ما فيها من الأسطر السابقة، فما الذي صنع حمزة بوكوشة، إذَن، في هذه القصة؟

إن أول ما يلمسه الدارس لهذه القصة هو تفككها الغريب حتى لتكاد تشبه رداءً مرتقًا وممزقًا، فالتمزق والتشتت سمة واضحة فيها، فالحدث في القصة، بغض النظر عن طوله، يتميز بهذا التصدع في داخله، حتى يحيله إلى حلقات أو مشاهد تفتقد الربط وتترى بتتابع ممل. ودائمًا فإن العنصر الرابط هو عنصر الحكاية المشار إليه، اعتقادًا من القاص أن توفر هذا الشرط قمين بأن يترك له حرية التصرف ويقيه أو يغفر له مواقع الزلق والشطط، فهو يشحن قصته بكلام طويل لا يبدو ضروريًّا لفهمها أو نموها أو توصيل فكرتها النهائية، فعندما يخبرنا أن الابن ينتمي إلى أسرة غنية يسهب في الحديث عن هذا الفنى ورصف بعض مظاهره، فالأب يملك كذا من الهكتارات وكذا من المواشي، ويتحدث عن نفسه بأنه رجل تقي ورع يعرف الله وحدود الدين، لا يبطر ولا يتكبر رغم غناه، وعندما يصل الحديث إلى الابن يبيين لنا كيف كان محاطًا بالرفاه والعيش الهنيء، معاملًا بدلال لا نظير له، لا هم له في هذه الدنيا سوى التمتع والنوم العميق، ويأتي بعد ذلك الربط بين الابن وأبيه بسبب رغبة هذا الأخير في تثقيف ابنه وتنشئته تنشئة علمية وإعداده ليكون من العلماء وليكون فخرًا للأسرة ويترك لها «الصيت الذائع»، ثم يتلو هذا إعداد السفر يستغرق كلامًا طويلًا ويحل السفر ثم وفاة الأب والحديث عن زوجة الأب، وكنا نرجو لو استفدنا من هذا الإسهاب في الحديث عن الشخصيات، كأن يعمق الكاتب نفسياتها ويشرح بعض همومها وأفكارها، مما قد يكون له صلة بنمو القصة وأداة لإنضاجها وإعطائها بعدًا فكريًّا ما، أو بتزويد القراء بما يساعدهم على فهم الشخصيات أو بعض منحنيات القصة غير أننا — للأسف — لا نظفر بشيء من هذا، حتى إن الملل قد يقعد بنا عن متابعة القصة والسير معها إلى نهايتها.

ولقد أشرنا — فيما سلف — إلى ظاهرة الاستطراد، ولاحظناها عند أحمد بناني، وأبنَّا عن العيوب التي تلحق بالقصة بسببها. ولكنها هناك — أي عند بناني — لا تبدو مزعجة، من حيث إنها تتيح للقارئ التفرج على بعض عادات الحياة ومشاهدها، مرتبطة برغبة مقصودة الكاتب لتشويق قرائه. بينما يحدث النقيض عند «بوكوشة» فهو يكثر من تطويقنا بكثير من الوقائع، والمرور بنا على محطات من الوقائع عديدة، إذ ينتقل مثلًا من بيئة عربية لها جوها الخاص إلى بيئة أوروبية مناقضة، ويملأ الكاتب هذا الانتقال، بالوصف لكلا البيئتين، فمن جو البادية المغربية وتقاليدها إلى باريس وشوارعها وحاناتها وملاهيها، الأمر الذي يعيد إلى ذاكرتنا وصف أحمد فارس الشدياق البيئة الأوروبية في كتابه «الساق على الساق فيما هو الفارياق» وبعده رفاعة رافع الطهطاوي في وصفه لباريس في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص أخبار باريز» ويجعلنا نشتَمُّ رائحة التأثر بهما، ونهَجَ نهجَيهما وإن كان لاهتمام الكاتب بالبيئة الأوروبية سبب سنعلمه فيما بعد.

ونحن لا نرى في هذه الملاحظة (الاستطراد) ظاهرة عابرة أو سمة غير ذات بال، بل إنها مع أخرى غيرها، كالإكثار من الشخصيات الثانوية التي لا تحتملها الأقصوصة القائمة عادة على شخصية مركزية، وتتعدد الوقائع والمشاهد الجانبية التي تلوح متطفلة على السياق العام للقصة، وأيضًا كشغل القصة ببعض التفسيرات والتدخلات. إن كل هذه السمات تدفع بنا إلى التنبه لقضية تستحق وتستوجب الإثارة ونحن بسبيل معالجة أقصوصة حمزة بوكوشة.

هذه القضية تشير إلى اتساع القالب المقالي القصصي لأجناس أدبية أخرى. فمن قبل تحدثنا عن الخاطرة وكيف أنها تسربت إلى قصة «دموع اليتيمة» وكذا قصة «من ضحايا الحب» وكان ذلك متناسبًا مع مضمونهما القصصي وروحهما العامة، وهنا، أي في قصة «بوكوشة» وآخرين غيره، سنقف عندهم، يتلامح لنا جنس أدبي آخر هو «الرواية» أو بعبارة أصح تتبدى لنا معالم الإطار الروائي. فازدحام الحوادث وتعددها وكثرة الشخصيات وتنوع الأجواء والانتقال بين أزمنة وأمكنة عدة وما إلى ذلك مما هو من صميم تكوين الرواية وبنيتها وهو الذي يبين إطارها التقليدي ويكون ضروريًّا لإكمالها، بينما نجده أمرًا منفرًا في الأقصوصة بل ويتنافى معها تنافيًا مطلقًا ويحيد بها عن جنسها ليلقي بها في مزيج من الخلط والتضارب الفني، فقصة حمزة بوكوشة إلى كونها تنتمي إلى المقالة القصصية أي نهج القصص الفني دون أن تبلغه تتحول أو تكاد إلى رواية مكثفة فإنها ليست رواية كاملة بالشروط والخاصيات المعلومة واللازمة ولكنها تستجمع — دون وعي — بعض معالم الكيان الروائي، ولعل هذا التداخل بين لونين من الكتابة يعزى إلى وقوع الكاتب في ظل قراءات قصصية متعددة، بين الرواية والقصة القصيرة، فلا يمسك نفسه عن التقليد واحتذاء ما يقرأ محاولة منه مشاكلة الكتاب الآخرين الذين يؤمن، ولا شك، بتفوقهم وأستاذيتهم، ومع ذلك يمكن استبعاد هذا السبب الذي يبدو أكثر حيوية ومنطقية ونجد آخر أكثر إقناعًا في عدم تمييز كتابنا الرواد لعمق ما يقرءون ويكتبون، تركهم يعتقدون أن الأقصوصة هي الحكاية، وأن هذا يتيح لهم أن يجمحوا ويطلقوا العنان لأقلامهم كي تحيط بكل شيء، مما يعطينا، في النهاية، شكلًا أدبيًّا هجينًا يتخبط بين الأقصوصة وبين الرواية، كما لا يمكن تصنيفه إلى جانب ما سماه حسن اليافي،٨ في دراسته للقصة القصيرة السورية، بالرواية المكثفة، والتي مثلت، بالنسبة إليه، أولى المراحل في مسيرة الأقصوصة السورية العربية. وهذا الشكل الهجين، الذي نلحظ أنه يتبلور في هذه الأقصوصة، سنجده يمتد إلى آثار قصصية عديدة تلي مرحلة المقالة القصصية، وسنرى أن الكتابات القصصية لن تتمكن أو تستطيع الإفلات من إسار هذه الهجنة إلا بعد أن يتيسر للكتاب أن يستوعبوا قدرًا وافيًا من الثقافة الأدبية في المجال القصصي، وبعد أن تتمرس أقلامهم بكتابة القصة، وكذلك بعد أن يتسع قراءاتهم لتشمل ما كتبه أفذاذ هذا الفن ورواده الحقيقيون، ونحن لا نعتب على كاتب مثل «بوكوشة» أو «أحمد بناني» أو غيرهما من أن يختلط فهمهما لماهية الفن القصصي القصير والمحدود الحجم، العميق النفس، أو من أن يضطرب لديهما توازن القصة فيشحن بكل ما يرِد على الخاطر أو يقع عليه البصر عن قصد أو بدونه، بل إن كل ما وددناه، من إثارة هذه القضية، هو رصد بعض الملامح أو الخصائص التي تطبع الجنس الأدبي الذي ندرس، ثم التنبيه على ما له علاقة من بالمقالة القصصية، إذ إن قالبها يساعد أكثر من أي شكل آخر على احتواء كل دخيل.

و«بوكوشة» بعد أن ينتقل بنا في أجواء مختلفة ويعرض علينا شخصيات ثانوية وزائدة، ويقفز على حبلَي أو نسقَي الأقصوصة والرواية، يأتي في النهاية ليقودنا إلى الخاتمة المرسومة في ذهنه، سلفًا، كدأب الكتاب الأخلاقيين الذين يرتفع عندهم منسوب الأخلاق على منسوب الفن، وهذه الخاتمة هي التبرير الوحيد لما كتبه، وللصراخ والاحتجاج الذي يصدر عنه، هو الوازع الأولي والعمق الداخلي للمقالة القصصية. والخاتمة هي أن «أحمد» سيعود من أوروبا بزوجة أجنبية، وهذه نتيجة. وأن هذه الزوجة ستحتال عليه وتنهب ثروته وتولي فارَّة، وهذه نتيجة ثانية، وأحمد سيعود إلى وطنه كافرًا بكل التقاليد والمواضعات الاجتماعية ويذهب به انحرافه إلى حد هتك حرمة شهر رمضان والجهر بأكله علانية، وهذه «أم الكبائر وأخطر النتائج» وأحمد بوكوشة يكاد يقرر هذه النتائج، ويلفت النظر إلى خطورتها.

وإذَن، فقد لحظ «حمزة بوكوشة» كل هذه الأخطار وأراد أن يدق ناقوس الخطر متوسلًا إلى ذلك بحكاية يستجمع فيها ملامح المجتمع وبعض مظاهر الفساد التي أخذت تستشرف فيه، لأنه اعتقد أو تصور أن القالب القصصي أو في من غيره في تبليغ هذه الرسالة وفضح تلك الأخطار، ولأنه أحس أن ما رآه لا يجوز السكوت عنه، فجاءت قصته «ذهب رمضان بذهاب أحمد» في قالب مقالة قصصية تنهج وجهة اجتماعية وإصلاحية.

والقصة، بعد هذا، محاولة لتقديم وجه من وجوه المجتمع المغربي في شموليته لا في ملامحه الدقيقة التي تفرده عن غيره، هذا الوجه يمثل الواجهة السلوكية الفرد بل وللجيل كله، سلوكه، عقليته، تحدياته التي تتخذ لها مظهرًا انحرافيًّا وعصيانيًّا تثير أعصاب الشيوخ. إن قصة «أحلام أم»٩ لمحمد الضرباني تميل إلى تقديم هذه الصورة، والكاتب فيها مستاء من شباب بلاده استياء تامًّا: «هؤلاء رجال سادوا على أهوائهم فسادوا على دنياهم وكانوا لأمتهم ودينهم مكان الدين والأمة لهم» أولئك هم الأجداد … أما الشباب فلا يُرجى منهم أمل «لقد تركنا لأحفادنا محجتنا بيضاء منيرة، وتركنا لهم تراثًا ومجدًا فإنْ هم ضيعوهما فلسنا منهم في شيء» وتتابع الخطابية حين يعلن الكاتب على لسان أحد الخطباء: «إخواني الشباب، إنكم قلب الأمة النابض، فيكم صلاحها وبكم فسادها.»
إن وظيفة الكاتب الاجتماعي هي الوعظ والإرشاد في هذا المقام و«تنبيه الغافلين» ولا يرى الضرباني١٠ خيرًا من آية قرآنية يختم بها قصته تكون تذكرة وعظة: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.

و«محمد الضرباني» لا يهتدي إلى أي رابط أو لحم فني، والخيط الوحيد، الذي يجمع بين عالم الحلم وجمعية شباب الأمة، بخطبائها الشباب وجوها المختلط وبين ما جرى للام مع ابنها المستهتر، هذا الخيط خلقي بحت، محبوك بالوعظ والوعد والوعيد. غير أن «الضرباني» لم يكُن ليضمن أي تماسك للعمل القصصي، بل وينبغي أن نعتبر التخلخل سمة أساسية تطبع البناء القصصي بل الكتابات القصصية الأولى، والمتقدمة أحيانًا.

ويمتد هذا التخلخل إلى لغة الكاتب وأسلوبه أيضًا؛ إذ هو أسلوب تقريري في جمل طويلة لا تحمل الإحساس ولكن تنقل الفكرة فجة ليلقي بها في مسامعنا أسلوب لا يعتمد التصوير ولكن رصف كلمات وكلمات لا تفيد شيئًا البتة «فرأيت وقد بعثنا الله في أرض مديدة الأرجاء لا يأتي على حدها البصر، وسرت ما شاء الله أن أسير وإذا بي أمام بناء عظيم.»١١ ثم إن النزعة التقريرية ليست نشازًا، فهي منسجمة مع طبيعة المضمون القصصي الذي هو أخلاقي وعظي صرف، فاللغة تسمها المتانة والقوة والفخامة المؤاتية للكلام ذي الرنة الوعظية: «لقد تركنا لأحفادنا محجتنا بيضاء منيرة، فإذا هم حادوا عنها هلكوا …»١٢ والتقرير هو القادر على نقل الفكرة التي يتوخى الكاتب توضيحها وبثها في أذهان القراء بعيدًا عن أي لبس أو تغليف قد يذهب عنها وضوحها فهو لا يلتمس الصور الموحية وإنما يكتفي بإلقاء آرائه صريحًا بما يلائم هدفه الوعظي ثم لا يستنكف عن إيراد الآيات القرآنية. ولعله لم يكن له الخيار في شيء مما ذكرنا، فالقاص المغربي في الأربعينيات كان شديد القرب من عهد المقالة ذات الأغراض المختلفة، كما أن المقالة استمرت بجانب المحاولات القصصية التي لم تكن تفترق عنها بمميزات كبيرة.

وتعد النزعة التقريرية سلطانها على الشخصيات في القصة، فنحن لم نتمكن من تصورها أو وضع اليد عليها، في حيز محدد، أو على ملامحها أو نحس مشاعرها أو نتفهم ردود أفعالها فالشخصيات موجودة كأسماء ومعدومة كحضور وحياة، غائبة كفعل يشق طريقه ويتبلور وجوده خلال الحدث، ولكن هذه الشخصيات (الراوي الذي يحلم – الشباب – الأم – الابن المستهتر) ليست مخلوقة لذاتها، أي لكي تمارس الحياة والفعل داخل حركة القصة وضمن تطورها، وليست منتقاة انتقاء فنيًّا بحيث تتطلب منها أن تكون متناسبة ومكملة لبعضها أو معمقة ومقدمة للمتلقي كعنصر أساسي من عناصر العمل القصصي، وعبثًا نطلب، أنها شخصيات جيء بها، أو أنها أسماء تشير إلى أنماط بشرية ووضعيات عامة تفتقد كل خصوصية، وقد قدمها الكاتب على اعتبار أن كل قصة لا بد لها من شخصيات تحياها وتنشئها وتقود أحداثها. هذا على نحو، وعلى نحو آخر، لأن الكاتب مفتقر إلى «مكبرات صوتية» يطلق منها أفكاره في الحياة والمجتمع. ويمكن إرجاع هذا الغياب للشخصية إلى عدم فهم لوجودها في القصة، من ناحية، ولربما، إلى أزمة الفرد المغربي نفسه في مجتمع الاستعمار.

أما الرمز الذي تضمنته القصة، فلم يعرف الكاتب كيف يهبه الإشعاع والإيحاء، بل تحول، هو الآخر إلى أداة خطابية.

لقد قدم الضرباني، إذَن، مقالة قصصية، إذا كان حظ الفن قد خاب. فيها، فإن حظ الأخلاق والوعظ يمثل ميزتها وثقلها.

في نفس الخط الوعظي الإصلاحي نجد كاتبًا آخر هو «أحمد الهرابلي» يسعى لتوضيح معالم الخارطة الأخلاقية للمجتمع المغربي، ويضم صوته إلى أصوات زملائه من الكتاب المغاربة الذين جندوا أقلامهم للتصدي لأساليب المسخ الاستعماري للشخصية الوطنية ولتحصين بنائها وأرضيتها السلفية، إن أقصوصة «زواج لم يتم»١٣ تتوخى الطريق نفسه مع فارق أنها تحاول تخطي رتابته المملة دون أن تصل، وذلك حين تتنوع الأوتار التي يعزف عليها الكاتب، والتي، هي في النهاية، الموضوعات الخارجية. غير أن النغمة تبقى واحدة والعلاقات هي نفسها، وكذا النتائج، وهذا يدفعنا إلى التساؤل إن كان هناك توافق مبدئي من أجل الاستجابة للرسالة النضالية. أو أن الأمر يقع اتفاقًا لا غير. وما نراه أبلغ في الدلالة هو أن هناك إحساسًا عامًّا وواحدًا كان يفرض سيادته على مشاعر كل الكتاب والمثقفين عهدئذٍ مما يعطي لكتاباتهم نفسًا متماثلًا، وهو ما نراه، من وجود أبجدية ثقافية، كانوا جميعًا، يتعلمونها ويتمرسون بها. وهذه الأبجدية ذات تكوين مركب، تعتمد التراث الإسلامي والعربي من جانب، والقيم الاجتماعية والقومية من جانب آخر. ثم إنهم، وهذا هو الأهم، تلاميذ أوفياء المدرسة المغربية الكبيرة، مدرسة الحركة الوطنية التي غذتهم بروح نضالية والتزامية عجيبة، كيفت أقلامهم لبلورة مبادئها وأسسها الفكرية.

فكيف أخلصت أقصوصة «الهرابلي» إلى هذه المدرسة؟ وما هي مكانة هذا القاص داخل هذا التيار المقالي القصصي؟

تسير بنا أقصوصة «زواج لم يتم» الوقوف على عيبين اجتماعيين لهما رسوخ في تقاليد البيئة: العيب الأول هو الزواج بالمرأة طمعًا في مالها والتماسًا لجاه عائلتها، وهذا ما أشرف «عمر» أن يقع فيه مدفوعًا إلى ذلك بإرادة أبويه اللذين رأيا في المصاهرة بعائلة السيد «فلان» شرفًا كبيرًا لهما وهو من أكابر التجار وأصحاب الملايين، وقد كادت الصفقة أن تتم لولا أن صديق العمر تدخل على حين غرة، فأسدى له جزيل النصح وسديد الرأي و«هو أديب يقيس الأمور بميزان العقل والعلم»،١٤ والمهم هو أنه «ناقم على كثير من الفساد في أحوال المجتمع المغربي.»١٥ ونصيحته لعمر هي: «أنه من اللوم غير المحدود اشتراط المقبل على الزواج أن تكون خطيبته غنية، وأن في ذلك ما يقتل في النفس عزتها ويذهب بالشرف، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على شغف الثقة بالنفس بالمستقبل كذلك، ولم يفتح في وجه المتزوج بيتًا يعيش فيه أميرًا، ولكنه يزجه في سجن يكون فيه خادمًا ومطيعًا فبئست العافية.»١٦ ويصادف هذا النصح استجابة في نفس «عمر» الذي أشرف على حافة الهاوية، فيؤمن على قول صديقه قائلًا: «إن كل نساء عائلتي يحببن من النساء القصيرة الغليظة الناصعة البياض حتى ليحسب أن بها برصًا. أفٍّ لهن ولذاك الذي يحببن. وما أراهن إلا يردن إغرائي بوصفهم المبهم، إن ذاك حقيقة، أن المال قد فتنهن أيضًا.»١٧
أما العيب الثاني والخطير الأثر فيتبدى في وقوف نظم البيئة وعاداتها حاجزًا أمام الشباب وأمام تحقيق ما تجاوب من القلوب وائتلف من العواطف والنفوس، إن عمرًا الذي أحب فاطمة ورغب فيها كزوجة يصطدم بمنطق الواقع وقسوة التقاليد، ذلك أن أبويها يعلمان بالحب الذي سكن قلبيهما، ويحولان دون تحقيق مرامهما: «صارحاه بأنهما قد علما عن فاطمة أنها عرفت الحب وسكن قلبها الغرام ورغم أن ذلك بها من جهته فقط، فلا ينبغي أن يسمع شيء عن الأسرة من هذا القبيل ولا يليق بكرامتهما أن يدنسا بيتهما بشيء من تقاليد البيئة المرعية.»١٨ والنهاية، بناءً على هذا، معروفة ومفجعة: وظل كل واحد منهما يعالج١٩ سكرات الحب في زاوية قلبه ولم تسمح لهما نظم البيئة بالاجتماع.

ذانك هما العيبان اللذان تكشفهما الأقصوصة بروح تتضمن الإدانة توحي بأنها تنحي عليهما باللائمة والسخط.

ونبل الهدف ليس كافيًا لتقدير هذا العمل، فهناك مقاييس الفن أولًا. ومن أولها أن «الهرابلي» يتجنب التمهيد لقصته بخطبة عصماء شأن إضرابه. ولكنه يمهد لها تمهيدًا طيبًا ينبئ عن بعض الفهم لروح القصة، فيقدم في التمهيد مشهدًا حيًّا، يشبه ما نجد عند أحمد بناني من براعة في التصوير: «في حي من أحياء مدينة فاس الفيحاء تحت نافذة عالية كان يجلس عمر وبعض خلانه للتروح بعد العشاء في كل ليلة على عتبة دار كبيرة.»٢٠ ثم يتابع وقد أمسك بعنان الحكاية: «وكان حديث سمرهم قلما ينتقل عن الزواج والأسرة والعشرة والحب وأثر ذلك في بناء الأسرة …»٢١ وكنا نؤثر لو قدم لنا الكاتب حوارًا ذكيًّا نستلهم منه روح الموضوع ونمسك منه بأول خيط بدلًا من هذا الإجمال المسف. ثم أنه ما يلبث أن ينحدر فنيًّا حين يجري حوارًا بين شاب ينشد الزواج وآخر يزجي النصح، ويستغرق هذا الحوار أسطرًا كثيرة ويبعد عن الحوار الفني ويتحول إلى حوار مصطنع وتحليل وشرح بعيدين عن القصة، حوار عن الزواج وشروطه وعن أصوله وعناصره ومقاييسه … إلخ، والذي يشد هنا أكثر هو انتقال الكاتب، طفرة واحدة، إلى موضوع آخر وحكاية مختلفة دون توفير أية رابطة أو صلة موضوعية محكمة أو غيرها، مهيئة لاستقبال الحدث الثاني الذي يعقب مباشرة اقتناع الشاب بنصيحة صديقه «عمر». وعمر هذا أحد محوري الحكاية الثانية: «استوقف عمر صوت أحس أنه يأتي من فوق وإذا بفاطمة التي تلهت بسماع حديث عمر مع صديقه تلألأت في عينيه كالنجم الساطع.»٢٢ وفاطمة، هي الحبيبة والزوجة المنشودة، وهي التي تكون المحور الثاني للقصة، ويقف المجتمع دون تحقيق مرادهما، فتحسرت وشقت صدرها وانقطعت كل صلة بينهما … ولم تسمح لهما نظم البيئة بالاجتماع.٢٣
إن التقابل الذي لجأ إليه الكاتب بتقديم وضعين بشريين مأزومين يقف جمود التقاليد في وجههما يُعد محاولة لتوسيع صعيد الرؤية وإظهار نية لإغناء العمل الفني بمزيد من الفهم، وحبذا، لو أمكن للهرابلي، بعد هذا، أن يربط بين الصورتين، غير أنه يزيد تفريطًا فيحشر نفسه ويتشبث بالراوي عوضًا عن ترك الحادثة تتحرك وحدها، مقيمًا بينه وبينها مسافة محايدة. ففي معرض التساؤل عن تأثر عمر بفاطمة يرتفع صوت الكاتب: «ولكني لم أتأكد من أنها مست كل عروقه.»٢٤ وكأن الأمر يتعلق بالإدلاء بشهادة، لكن التخطيط الذهني المسبق يفرض هذه المباشرة المفضوحة ويحتم الأمور كما تجري بحذافيرها، ويدفع إلى ترادف الحوادث بصورة اعتيادية، فيقصد أمرًا ويعقبه بآخر غيره، وهدفه في الختام طرح العبرة والمعرفة، وهذه هي النغمة الأصلية في إيقاع المقالة القصصية التي تجعل الكاتب يطرح خصوصيات الفن وعناصره ويضع نصب عينيه الإقناع بمقولات أخلاقية وذهنية.
وعلى الرغم من ملامح الضعف هاته فإن «الهرابلي» يحاول أن ينقذ كتابته من الإسفاف والعقم، وذلك عندما يعمد إلى تمرير خيوط الحادثة من خلال سلوك الشخصيات، وإن افتقدت القدرة على الفعل والحركة انطلاقًا من تصميمها، ويعمد أيضًا إلى تحليلها والنفوذ في غشائها الخارجي إلى ثناياها الداخلية، فيتبدى لنا إحساسها وشعورها وهو يشع ببعض الألق الداخلي الذي يصبغ الشخصية بمسحة من الجلاء والإشراق، ويسير بها خطوات في سبيل الحركة والتغيير: «وقف عمر مبهوتًا ونظره إلى النافذة تائهًا حيران وأحس بشيء يسري في نفسه، فلم يقوَ على إرسالها إلا زفرات متتالية.»٢٥ ويأتي الإشعاع الرومانسي عقب هذا، فهذا الجمال: «إذا اقترب مني احترقت وعلوت السماء دخانًا، حبذا لو أموت شهيدًا أمام هذا الجمال الفاتن.»٢٦ وهذا «عمر» بعد هذا الشوق والألم قد «أخذته رعشة اضطر معها أن يقبض بالحائط ليتابع خطواته نحو داره التي لم تكُن تبعد عنه كثيرًا. ودخلها في عناء ومشقة باديًا أثرها عليه.»٢٧
وأنه لجميل أن نعثر على تصوير قصصي الشخصية بمثل هذا المستوى، الذي وإن بدا في أعيننا، الآن، متواضعًا وبسيطًا، لكنه مثل في أيامه براعة لها أهميتها. لكن الهزال سرعان ما يسري في جسم هذا الوصف فعندما يأخذ الهرابلي في رسم صورة فاطمة وخلقها ليقنعنا بجمالها يأخذنا التساؤل أن كنا أمام شخصية بشرية حية أو أمام دمية ميتة ينتقي لها الكاتب ما يروق له من صفات الحسن: «كانت فاطمة وديعة رزينة تجمع فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، أخلاقها طيبة حميدة ومعاملاتها رءوفة لينة.»٢٨ قد نتحمل هذه الصفات التقليدية، غير أن هناك ما هو أكثر مبالغة: «أما جمالها فحواجب مزججة وعينان دعجاوتان بهما حور، وخد أسيل متوردًا احمرارًا وأنف أشم، أما ثغرها فالجواهر المنضدة وشفة كحد السيف في بريقه ولمعانه، لونها قرمزي.»٢٩ ولا بأس هنا من الاستشهاد كذلك ببيت ابن الرومي في «وحيد المغنية»:
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ
إذا هي نصته ولا بمعطل

إن تلك الأوصاف كلها من محفوظ الذاكرة وليس فيها أثر من حقيقة الشخصية، مستمدة من معجم الشعراء الغزليين في وصف المرأة على مختلف عصور الشعر العربي، وهذه الأوصاف تعبر أيضًا عن فهم جامد للجمال ينتسب إلى الذوق التقليدي لا إلى مستلزمات الشخصية القصصية التي هي شخصية بشرية عادية وبعيدة عن أن تكون مذهلة أو خارقة.

وشبيه بهذه القصة في الموضوع وفي الفنية، قصة «حب ووفاء»٣٠ ﻟ «محمد بن أحمد الصقلي». فالكاتب هنا، أيضًا، يعالج العوامل المعوقة لتحقيق اللقاء الإنساني المتمثلة في تقاليد البيئة وجشع الآباء وسطوة العرف الاجتماعي، والإلحاح على هذا الموضوع كان قويًّا لدى الكتاب آنذاك، ولا يفسر العكوف على مثل هذه الموضوعات سوى أمر واحد يتمثل في الدائرة الاجتماعية والفكرية التي كان الكتاب يتحركون وسطها.

إن أقصوصة «حب ووفاء» تخوض نفس الغمر، الزواج ومشاكله وشروطه، فعبد الله يحب عائشة ابنة عمه وهي تبادله حبًّا بحب. لكن إرادة الوالد تولد فجأةً كعنصر شرخ لتحول دون هذا اللقاء، فهو يريد تزويج ابنه من أسرة غنية ذات جاه، ومال عريضين، لكن عبد الله يتصلب في موقفه ويخلص لحبه ولعواطف ابنة عمه ويقرران الفرار بحبهما إلى مكان بعيد، وتنتصر عاطفة الحب على جشع الوالد وتتم النهاية الموعودة.

بيد أن «محمد الصقلي» بعيد عن أن يكون قاصًّا، فكل ما يملكه من القصة هو الحكاية التي سردناها، هي شديدة البساطة واضحة التلفيق، وليست قمينة بأن تكون رحمًا لعمل فني جيد. يمتد السرد من البداية إلى الوسط إلى النهاية، ويقفز الكاتب فوق موقع التأزم حول شخصياته «الشبحية» وعواطفها، ويصل أخيرًا إلى تلك النتيجة التي بدت له مفرحة وحاسمة، انتصار الحب؛ وهو وصول سهل ربما حقق للصقلي متعة خاصة وأحدث له تجاوبًا مع القراء، ولكنه أفقر أقصوصته من الصدق وجمد فيها الحركة الضرورية، وإذا كان بعض الكتاب من الذين تعرضنا لهم يضحون بالأداة الفنية من أجل أفكارهم، فإن هذه التضحية تؤتي أكلها حين يتم الاقتناع بدعوتهم الاجتماعية والخلقية التي تبدو صادقة وهادفة ولو جاءت متحررة من لبوس الفن، بخلاف أقصوصة «حب ووفاء» التي سقط فيها كلا الثقلين الفني والفكري، ولا نخرج منها سوى بحصاد هزيل: أن والد عبد الله «رجل أرستقراطي لا يرضى بأن تكون زوجة ابنه من بنات الأغنياء مثله سواء كان يرضاها الابن أم لا وسواء أكانت أصغر سنًّا أو أكبر فهو لا يهتم بشيء من ذلك ولكنه يهتم بأن تكون كثيرة المال والجاه.»٣١ وتقول الأم «إننا سنختار لك فتاة من طبقتك.»٣٢ هذه الفكرة التي قد تبدو منطقية جدًّا هي المرتكز الحقيقي لهذه الأقصوصة وهي التي ستضعها في صف المقالات القصصية ذات الهدف الإصلاحي بجانب ترشيح عاطفة الإنسان وميوله الحقيقية ضد أهواء التقاليد.
وفي الخط ذاته، أي الخط الاجتماعي الإصلاحي، نلتقي مع أقصوصة «الزوجة الرشيدة» لمحمد الخضر الريستوني٣٣ نتعرف على «أحمد» الذي يقوم بوظيفة خليفة لحاكم المدينة، وهو يعيش عيشة مترفة ويتبختر في حلل العز والمتع له زوجة «علية» جميلة وتكنُّ له حبًّا كبيرًا، بينما سكان المدينة «يتردد اسمه على لسانهم في كل حين.»٣٤ ولكن سمعة الخليفة تتعرض للفساد «فعقارب الزمن تمرُّ مرورًا سريعًا وإذا بالخليفة يصبح مستهترًا ماجنًا.»٣٥ ويتطور الأمر إلى غضب الحاكم على خليفته، فيجرده من منصبه وكل ما يملك، وإذا بهذا الأخير يتلفت حوله ليلقي نفسه في قبضة العوز والضياع، ويشرف على الانتحار لولا زوجته التي تعيد له الأمل بما كانت تدخره في غفلة من زوجها.
هذه هي الأقصوصة في وقائعها العامة، ولئن كان «الريسوني» قدم فكرة القصة أو العبرة منها تقديمًا جاهزًا في بدء القصة: «ليست السعادة فيما يملكه الإنسان من ثروة طائلة ودور تزخر بالخدم، وإنما السعادة زوجة مثالية رشيدة تعمل لأجل هناء زوجها وسعادته.»٣٦ وقد دأب الريسوني على ذلك في كل قصص المجموعة، على أنه إن صنع ذلك فهو لا يفسر الوقائع والشخصيات لتتمثل حرفيًّا الفكرة أو العبرة الجاهزة والمستخلصة من الحادثة، وإنما يدع الحدث يولد وينمو نموًّا طبيعيًّا دون أن نحس بقوة ضاغطة تدفعه قسرًا لتحقيق النتيجة المبتغاة، فالكارثة قبل أن تحل ﺑ «الخليفة» تكون مسبوقة بما يلفت النظر إلى طريق التأزم والتحول، فزوجته لا تصرِّح بما يشي بالحقيقة كلها، بل تخاطبه بكلام يلمح ولا يصرح: «قالت له ذات يوم وهو يعد الأوراق المالية ليدفعها في نفقات بناء المنزل: لماذا ستشيد المنزل، أما كفانا أن نعيش عيشة هادئة بمنزلنا هذا؟ إن الدهر غادِرٌ فاتِك.»٣٧ هذا الحوار وكثير غيره في الأقصوصة يشير إلى المصير ولا يعلن عنه ويبني بناء متدرجًا عقدة القصة، وأن بفهم ساذج، وحين نبلغ الخاتمة نكون محملين ببعض الاقتناع والاستعداد لقبولها مع توفرها على عبارات مثل «وتمر عقارب الزمن مرورًا سريعًا» أو «سرعان ما كشر الدهر عن أنيابه فغضب غضبته»، لا تعتبرا نشازًا، فهي من العبارات المتداولة لدى القصاصين الناشئين وفي المحاولات القصصية الأولى. وكل القصص الأولى عندنا أو في المشرق العربي اشتملت على خاصية الاختزال الزمني القسري، والذي يدمج الأحداث ويلخصها بتعسف في «كان» و«مر». وبين «الأمس واليوم» وما شابه هذه الكلمات التي لا تؤدي إلى توفير الإحساس والجو اللازمين للانتقال في الزمن.

•••

وإننا بعد أن رأينا هذه الاتجاهات التي ذهبت إليها المقالة القصصية وبعد أن عرفنا معنى كل منها ومحتواه، والأشكال التي تلبستها، والألوان التي اعترتها، والتي شكلت في مجملها مظهرًا أوليًّا من مظاهر التمثل البدائي للأقصوصة المغربية، بعد هذا نجد أن المقالة القصصية، على ما كانت عليه من ضعف وتمزق بين أسلوبين ومضمونين، وبالرغم من بعدها الشديد عن أصول الفن القصصي الصحيحة، وتفكك تركيبها وتمزق نسيجها وتداخل مضامينها وأفكارها، نراها وجهًا من وجوه التعبير القصصي القصير في المغرب مثلت مرحلة شق الطريق الأولى لهذا الفن العسير، وخوض غماره الهائج.

ومما يثبت صعوبة هذه البداية عدم وجود تراث من الماضي يستند إليه الكاتب، أو نماذج حية يحتذيها أو يتعلم منها أصول صنعته، وإن وجدت فإنها لا تعدو بعض القصص والروايات التي كانت تقع في يده اتفاقًا.

يُضاف إلى ذلك ارتباط القصة بأسلوب المقالة ومضمونها. وهذا الارتباط يعد بحق طبيعيًّا ومعقولًا، خاصة إذا عرفنا أن كتاب القصة أنفسهم كتاب مقالة، وأنه لم يكن بوسعهم أن يتخلصوا من هذا الأسلوب ويتخذوا لهم أسلوب الكتابة القصصية وحيدًا دون غيره …

إن نشأة فن القصة القصيرة عندنا، على هيئة المقالة القصصية، يُعد حالة طبيعية، ولم يكن بالإمكان ظهوره في غيرها لأسباب أشرنا إليها سلفًا، وهو، على أي حال، مرحلة هامة في شتى الأشكال والمضامين التي ظهرت بها، وبمختلف ألوان التعبير والصياغة والعناصر الفنية التي تضمنتها الكتابة القصصية، مرحلة أقامت فنًّا جديدًا غير مسبوق وغير ذي أصول في أدبنا المغربي، وقدرت له أن يتحرك ويمتد في أشكال أكثر نموًّا وأرحب مجالًا وأصفى شكلًا وأكثر نضجًا. وليست الصورة القصصية — على ما بها من ضعف هي الأخرى — إلا دليلًا على هذا النمو، وبرهانًا على ما كانت الأقصوصة المغربية تتلمسه من نضج، وتسعى إليه من إزالة أسباب النقص في بنيانها والضعف في تلوينها.

هوامش

(١) علال الفاسي، مقدمة «فاس في سبع قصص»، مطبعة الرسالة، الرباط، ١٩٦٨م، ص١٥.
(٢) أحمد بناني، فاس في سبع قصص، ص٣٠.
(٣) المصدر السابق، ص٦٤.
(٤) معاد الضمير على مجموع الناس، أي السكان الذين أصبحوا عرضة للتأثير.
(٥) فاس في سبع قصص، من ديباجة المؤلف، ص٢٩.
(٦) انظر: عبد القادر الهاشمي، المتفرنجة، م، الثقافة المغربية، نوفمبر، دجنبر، ١٩٤١م، ع٤-٥. وتدخل قصة المتفرنجة في سياق المقالة القصصية الاجتماعية وهي تعرض لقصة فتاة دخلت المدرسة الحكومية وأصابت حظًّا لا بأس به من التعليم، وتقدم مَن يطلبها حليلة فقبلت، وهل كان لها أن ترفض؟ لكن زوجها كان محافظًا ودونها ثقافة؛ إذ: «أبي إلا أن يخضعها لقوانين الحياة الزوجية المتعارفة التي ذهب في تطبيقها إلى أبعد حد، فغلق عليها الأبواب وشدد المراقبة وأحاطها بسياج من الشكوك والظنون لم تكن لتنفذ منه إلا بثمن الهجران وما يترتب عليه من المشاجرة والخصام، وحظر عليها السفور ثم حرم عليها الخروج» وبعد وفاة زوجها انقلبت سيرة الفتاة رأسًا على عقب وتبدل مزاجها وسارت في دروب الحياة العصرية مما حرك النفوس ضدها، وظل المجتمع متربصًا بها وهي ممعنة في التحدي إلى أن وضع أخوها حدًّا لحياتها «هذه الفتاة وقد تقدمت زمانها بكثير». والقصة، كما هو واضح، تثير مشكل الصراع بين جيلين بكل ما يعتور هذا الصراع من عقبات واصطدامات. وتتضمن جوهر الخوف والحيرة الاجتماعية التي كانت قائمة وقتئذٍ، والتي تتجلى في مقاطع خطابية مطولة تتضمنها القصة وتشير إلى شرور الانقياد إلى إغراءات الحضارة الغربية وتطليق التقاليد الاجتماعية.
(٧) الأنوار، ع٩، دجنبر، ١٩٤٨م.
(٨) نعيم حسن اليافي، مجلة القصة المصرية، ع٤، س۱، أبريل، ١٩٦٤م.
(٩) الوداد، ع٦٠، س٤، ١١ ماي، ١٩٤٠م.
(١٠) محمد الضرباني (؟-؟).
من الكتاب المجيدين والمساهمين في الحقل الأدبي خلال الأربعينيات مدير مدرسة بالدار البيضاء عرفت باسمه، وكانت خلال الفترة الاستعمارية من معاقل الحفاظ على اللغة الغربية.
سنتعرف من خلال سطور على الكاتب محمد الضرباني، كما ورد في مقالة تحمل عنوان: «ساعة مع أدباء البيضاء وكتابها» نشرت بالوداد، ع١٤٢، س٦، ٢٢ ماي، ١٩٤٣م:
«… وهناك الأستاذ محمد الضرباني الرجل البسام الضحوك الذي تلقاه فيقلب مشكلات التعليم كلها على رأسك … وهذا الرجل متعب جدًّا لأنه ينتقل بك من موضوع إلى موضوع ويبلبل رأسك ولسانك بلا ترفق فمن الحزم ألا تمر عليه حين تزور الدار البيضاء».
له مساهمات في المقالة الصحفية والقصة المسرحية في جريدة الوداد التي كانت كتابته فيها منتظمة، ورسالة المغرب وسواهما. انظر مثلًا: «الشعر والخيال» دراسة الوداد، ع۱۲۳، س٥، ۲۷ نوفمبر، ١٩٤١م.
الطائفة الشوينهرية، حول المرأة، الوداد، ع۱۱۹، أكتوبر، ١٩٤١م.
مدرسة أفكار (مسرحية أخلاقية) الوداد، ع١٣٥، س٦، ۲۰ مارس، ١٩٤٢م.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) الوداد، ع٦٠، س٥، ۱۱ ماي، ١٩٤٥م، س٤.
(١٤) المصدر السابق.
(١٥) المصدر السابق.
(١٦) المصدر السابق.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) المصدر السابق.
(١٩) المصدر السابق.
(٢٠) المصدر السابق.
(٢١) المصدر السابق.
(٢٢) المصدر السابق.
(٢٣) المصدر السابق.
(٢٤) المصدر السابق.
(٢٥) المصدر السابق.
(٢٦) المصدر السابق.
(٢٧) المصدر السابق.
(٢٨) المصدر السابق.
(٢٩) المصدر السابق.
(٣٠) الوداد، ع٦٠، س٤، ١١ ماي، ١٩٤٨م.
(٣١) المصدر السابق.
(٣٢) المصدر السابق.
(٣٣) محمد الخضر الريسوني، أفراح ودموع، ص١٥.
(٣٤) المصدر السابق، ص١٦.
(٣٥) المصدر السابق، ص١٨.
(٣٦) المصدر السابق، ص١٤.
(٣٧) المصدر السابق، ص١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤