الفصل الأول
الصورة القصصية
مدخل.
الصورة القصصية التاريخية.
الصورة القصصية الاجتماعية.
الصورة القصصية النضالية.
***
سيكون على القصة المغربية أن تقطع شوطًا جديدًا في سعيها نحو التكون والتشكل والتطور، أيضًا، وهي في هذا السعي تتذبذب بين ملامح حالتها الأولى المتسمة بالبدائية والهزال الفني الشديد، وبالضحالة الفكرية والابتعاد عن الشروط التي يمكن أن تحقق لها مستوى معينًا من الفنية، وبين وقوفها على عتبة الفن القصصي ومحاولة التسرب من منافذه الحقيقية لإعطاء صورة باهتة عن الكثير من جوانبها، ولكنها، حسب رؤية الفنان المتطورة نسبيًّا، وبناءً على غليان الأحداث، في مسار حركة الواقع وتطور المجتمع، استطاعت أن تأخذ بعض التحدد وتلتمس قدرًا من النضج وإمكان التصوير الحي.
- الأولى: تجدد إدراكنا بصعوبة مرأس هذا الجنس الأدبي وجدته بجانب الأجناس الأدبية الأخرى، الشيء الذي أدى إلى تعقد وتنوع عناصره الفنية، التي تبين أنه ليس من السهولة الاحتكام في ظلها وإخضاع الحكاية لها بسهولة.
- والثانية: توضح أي جهد كان على الأديب المغربي المحدث أن
يقدمه كيما يتماثل مع منحنيات هذه الدورة الفنية
الجديدة إطلاقًا، والأكثر جدة عليه، بصفة خاصة،
وأيضًا كيما يستطيع التعبير عن الجوانب النفسية
والأوضاع البشرية في حياة المجتمع بواسطة المقدرة
الحكائية الفنية.
لقد توفرت النية وصحت العزيمة، ولكن هاتين ليستا كافيتين للاقتناع بجدارة الفنان وبثقل بإنتاجه، إذ من البديهي أن رسوخ القدم في أرضية خلق أدبي بعينه يفرض منهجية طويلة ومحكمة، ويلزم بقطع خطوات واسعة وئيدة تغرس جذورها خلال السعي، فتأتي التجربة الفنية الحصيلة الحقيقية الوحيدة لهذا الجهد.
لكن أليس للقاص المغربي، بعد هذا، أن يستنكر كل نقد، متذرعًا بضيق مدار التجربة وجدة الميدان المولوج وحداثة النبرة اللغوية، والصعوبة في استخلاص الجوهري من وسط ركام من المحصلات والوقائع الخارجية والباطنية التي تأتي كثافة الأحداث عامة لتحول دون معاناتها وتمثلها، الشيء الذي يعقد فقس جنين التجربة ولا يشمل تمييز الحدث الملائم والمنسجم مع الشرط الفني، كما لا يسهل تحديد قوام قصصي جيد ومتماسك؟
لا تهمنا الإجابة بقدر ما يهمنا أن هذا ينبئ عن طول المسافة التي آلت الأقصوصة المغربية على نفسها أن تقطعها بكل ما يعتورها من مصاعب وعثرات، كما ينبئ عن عسر الوضع للعمل القصصي وتعدد وجهات التجربة فيه.
ومن هذا التعدد جاءت الصورة القصصية. والتوصل إلى مفهوم الصورة يقوم، من ناحية، على استقصاء مكوناتها وعناصرها، كما يتم على أساس من التفريق بينها وبين كل من المقالة القصصية والقصة القصيرة، وإن كان التفريق وحده يكفينا لنتبين طبيعة الصورة القصصية وعناصر تكوينها.
-
افتقارها إلى الموقف الدرامي الذي يؤكد وحدة الانطباع ويهيمن على كل ما تحتويه القصة من تفصيلات.
-
بقاء الصورة عند الصورة عند حدود «الملاحظة» التي يمكن أن تكون مجرد بداية لإثارة الانفعال والتفكير.
-
تبدو الصورة عملًا أدبيًّا أوليًّا، بمعنى أنه قليل الاستيعاب، قليل التعقيد في الوقت نفسه.
-
لا تخلو الصورة من أحداث، ولكنها أحداث ترى أو توصف ولا تمثل.
-
مناط القوة في الصورة القصصية مجرد الملاحظة والتسجيل، واكتشاف الوقائع والنماذج لا استبطان الواقع وتفسيره.
ولا شك أن الصورة القصصية، كما ظهرت عندنا، خطوة حاسمة على طريق القصة في المغرب، وذلك بما زخرت به من إمكانات الرصد والتعبير القصصيين، وهي كمرحلة تعبيرية ودقيقة، ترتبط بقدرة التجديد والتطوير، تلتمس في صعيدها وعلى امتداد التركيب الاجتماعي المتبدل باستمرار ألوان من الصياغات، تختلف حسب درجة الموهبة والثقافة لدى الأفراد، وأيضًا بحسب القيم السائدة خلال سياق الواقع والمجتمع.
إن الصورة القصصية، كمرحلة من مراحل الأقصوصة في الأدب المغربي الحديث، ما فتئت، منذ وصل القاص المغربي إلى عتبتها، تتطور وتغير حللًا بحلل ومضامين بأخرى، لا يعوزها النماء ولا يضيرها القصور. فمن أحمد بناني إلى عبد الرحمن الفاسي إلى غيرهم من القصصيين ممَّن شادوا بنيانها ودأبوا على تمرين أقلامهم في حقل القصة، متراوحين، بين صقل اللغة وإعداد سبائك جديدة منها تصير مطواعة لحشد الحكاية، وإيصالها في لبوس صاف ودقيق القياس إلى أن يتم تخليصها من زوائد اللغة النثرية التقليدية والعائمة، وبين الاطلاع النسبي على ما أنتجه رواد هذا الفن والمبدعون فيه، رغبة منهم في تحسين أدوات الصنعة القصصية ومتراوحين كذلك بين الاستفادة من معطيات الواقع اليومي ومن حمية التضاد والالتقاء التاريخي بين حضارتين وعقليتين ووعيين اجتماعيين يولدان النغمات الناشزة، تهز حاسة القصاص البصيرة بقدر لا يستهان به. وقد قدمت لنا قصص عبد الرحمن الفاسي تأييدًا فعليًّا لذلك وتجسد فيها نموذج حي ومتميز للصورة القصصية التي تفلت كثيرًا من إسار التقريرية المقيدة ومن روع الجهبذة الكلامية المفرطة، وكذلك من مظهري الابتسار الفني والفكري وحالات التهويل والإسقاط والانفعال الذي يخنق كل تجربة قصصية، وهي في طور التكوين، فجاءت صورة القصصية مثالًا متناسقًا ومتفاوتًا في رصد صورة الواقع والعصر إلى حد غير يسير.
والصورة القصصية بعد هذا، شأنها شأن المقالة القصصية، لم تسِر في طريق واحدة، ولم يكُن لها محتوى متماثل؛ إذ تعددت محتوياتها وتباينت أفكار وميولات كتابها، ومن هنا يمكن إدراجها بدورها، ضمن اتجاهات مختلفة، وتتبع التطور والصفات المميزة لها ضمن هذه الاتجاهات، التي تعطينا، مجتمعة، الصورة الكاملة لهذا الضرب من التعبير القصير، والتي تستكشف لنا عن ماهية الصورة القصصية وقيمتها في سياق التطور العام للقصة القصيرة بالمغرب.
كما أننا نحب الطمأنة والإشارة لمَن قد يتخيل بأننا هنا سنخضع تحليلنا لعامل الشكل أو أننا نتراوح بين الشكل تارة والمضمون تارة، نحب الإشارة إلى عدم وجود هذا التعدد ولكن إلى قيام تركيز على هذا الجانب أو ذاك بحسب ما يقتضيه الموضوع والمادة المدروسة. والحق أن هناك تكاملًا بين كل من الشكل والمضمون، وهو الأساس الذي درست عليه المادة القصصية في هذه الرسالة.
فدراستنا للمقالة الاجتماعية القصصية، مثلًا، خضعت أكثر من أي شيء لعامل المضمون بما يتناسب والظاهرة المرصودة نفسها، ولكننا، في الآن عينه، لم نغفل، لحظة واحدة، عن تبين العناصر الفنية بالإشارة أو بالتحديد.
كما أن انصرافنا إلى التأكيد على أهمية الشكل في الصورة القصصية وتلمسنا المتواصل للجانب الفني، فلكي ندعم افتراضنا بانضواء المادة القصصية داخل هذا القالب، فكان لا بد، إذن، من فرز الناحية الفنية والعناية بها، لكن بما لا ينفي أو يتعارض مع الالتفات إلى المضمون والربط المستمر به.