الفصل الثاني

الصورة القصصية التاريخية

ضمن الحصيلة القصصية التي خطتها أقلام الكتاب المغاربة نجد بين أيدينا قصصًا نحَتْ منحًى خاصًّا يتحدَّد في استغلال التاريخ واتخاذه مادة للقص، وتوسيع هذه المادة، وذلك بإعطائها روحًا ومعاني جديدة على ضوء العصر واستنادًا على وقائع تاريخية بعينها، وينشأ من هذا فائدتان جليلتان تظهر أولاهما في تكييف القالب القصصي لاستيعاب الخبر التاريخي وسبكه سبكًا جديدًا يتلاءم مع شروط القص الفني. وتظهر ثانيتهما في نفخ روح جديدة في التراث التاريخي تبعد به عن الجفاف والملال وتقترب به من إهاب الفن الذي تستطيع أن تضفي عليه ألوانًا من البهاء والجدة لم يكن مالكًا لهما.

وتاريخ القصة حافل بالنماذج التي أخذت هذا المنحى وسعت إلى هذا الفرض، متوخية الاستفادة من حوادث التاريخ ونتائجها ومن العبر والأمثلة الرصينة والفنية التي قدمتها البشرية على مر العصور في عراكها مع بعضها وفي سبيل مصيرها. ويمدنا تاريخ الأدب الحديث بكاتب قصصي أوروبي اتجه في كتابته هذه الوجهة وكرس نتاجه تكريسًا كاملًا لهذا الهدف، واستطاع أن يحقق لنفسه مكانة خاصة وطريقة منفردة في تاريخ القصة الأوروبية الحديثة. لقد نهج «والتر سكوت» الكاتب الإنجليزي هذا النهج، ومن حيث أعاد صياغة تاريخ كثير من الأسر المالكة والعصور، فسح للحادثة التاريخية مكانًا ملائمًا داخل الرواية الفنية، وبلور نتاجه من ثم طريقة ونظرية في القصة التاريخية وعد بذلك: «رائد هذا الجنس الأدبي الجديد لمن بعده أصولًا ظلت هي المتبعة دون تغيير كبير في مختلف الآداب الأوروبية.»١
وفي الأدب العربي نجد جرجي زيدان قد اشتهر بهذا اللون من القصة، متأثرًا ومقتبسًا من والتر سكوت، وقد خلف نتاجًا هامًّا من القصص التاريخية التي وإن كانت هزيلة في بنائها الفني، فإن حداثتها ونجاحها كانا في تقريب التاريخ لإفهام القراء وتقديمه محمولًا في أضمومات عاطفية، ويشرح الأستاذ جرجي زيدان طريقته في التعامل مع التاريخ في المقدمة التي كتبها لرواية الحجاج بن يوسف الثقفي: «وقد رأينا بالاختيار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته، والاستزادة منه، وخصوصًا لأننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ، حاكمًا على الرواية لا بما هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة فجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضل القراء. وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقًا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج فيها قصة غرامية تشوق المطالع إلى إتمام قراءتها فيصبح الاعتماد على ما جاء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلا ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة، بل هو يزيدها بيانًا ووضوحًا بما يتخلله من وصف العادات والأخلاق.»٢
هذه الطريقة في التعامل مع التاريخ، ترسم لنا الإطار العام للقصة التاريخية عند جرجي زيدان، بل وعند كتاب آخرين أتوا بعده، وأصلوا طريقته وطوروها أمثال أحمد فريد أبو حديد، وأحمد سعيد العريان ونجيب محفوظ. ونجد من الجيل الجديد شبابًا نفخوا في التاريخ روحًا جديدة مثل جمال الغيطاني،٣ وهو من أبرز المجددين الشباب في القصة القصيرة، في وقتنا هذا.

وقد وجد القاص المغربي نفسه أمام هذه الآثار القصصية فجذبته وأثارته وألهمته، وعثر فيها على ضالته، فهو يريد أن يحكي ويعظ ويسجل، وليس كالتاريخ أحفل بهذا المرام، وأوصل إليه.

لقد ألفى الكاتب المغربي نفسه إزاء ألوان وأشكال من الكتابة النثرية القصصية الوافدة عليه من المشرق العربي، الذي كان الأدب وفنونه فيه في الأربعينيات، قد نهض قويًّا، فهبَّ يغترف منها ويسقي بها تعطشه إلى ثقافة وأدب جديدين. ومن بين ما اغترف، الكتابة القصصية التاريخية، ويمكننا تلمس أسباب أخرى اتجهت به هذه الوجهة، وتتمثل هذه الأسباب في أن صياغة التاريخ صياغة قصصية فنية، إلى جانب كونه خطوة على الطريق الوعر٤ التي بدأتها القصة في المغرب، سيساعد على استعادة ملامح الماضي المشرقة وابتعاث مشاهد من المجد الزائل وسيجدد ذاكرة التاريخ الميتة لدى أمة مشهوبة ومقهورة. ثم إن استعادة أشرطة التاريخ المتوهجة، توقظ الضمائر المخدرة والهمم الخائرة وتشحذ النفوس لإثبات الحضور في وجه الدخيل الخانق للحرية والمصير.

وستكشف دراستنا لكثير من النماذج الغاية من وراء الكتابة القصصية التاريخية، وسيتبين لنا موضع الفن فيها من موضع المادة التاريخية وكيف أنهما نجحا في أن يتكاملا أو فشلا في ذلك.

وأول طريق نسلكه للقصة التاريخية يهدينا إليه ما كانت تحفل به الجرائد المغربية مثل «الوداد» و«السعادة» من روايات مطولة تنشر متتابعة في حلقات وهذه الروايات مترجمة عن الفرنسية أو الإنجليزية، دون أن يرد ذكر لاسم مترجمها٥ وتتسم بترجمتها الرديئة وخلوها التام من المزايا الفنية، واحتشادها بالحوادث والمغامرات. ونحن ندرك تمامًا أن محرري تلك الجرائد كانوا يحرصون على نشر هذه الروايات لما فيها من قدرة على امتلاك خيال ونفوس القراء، وكذا على كسب أعداد غفيرة من القراء، وقد استمر نشر هذه المسلسلات إلى جانب ما كان يكتب من محاولات قصصية.
بيد أن ما ننوي دراسته وتفصيل القول فيه ليس من الضرب السابق، فالقصص التي سنعالج تمت بأسباب مختلفة إلى الطريقة القصصية الفنية وتجهد في اقتباس مزايا وخصائص القصة الفنية ما وسع كتابها ذلك، وهي تنتمي، شكلًا، إلى حلة الصورة القصصية.٦
ويأتي الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله على رأس مَن وجهوا أقلامهم وجهدهم للقصة التاريخية. فقد دأب زمنًا على نشر سلسلة من قصصه بجريدة «العلم» وتوصَّل بها إلى إثبات قدمه في أرضية القصة التاريخية في المغرب، وكان من روادها والمغذين لها بعزيمة وإرادة فنية وفكرية لا تفتران.٧

وتجري حوادث قصة «الجاسوسة المقنعة» أيام المعز يوسف بن تاشفين. وتقدِّم لنا جاسوسين يتسقطان أخبار المرابطين وينقلانها إلى الأعداء للكيد والإيقاع بهم. وتسجل القصة زحف ابن تاشفين على الأندلس بعد أن تفكك صرح ملوك الطوائف، فكانت حملة المرابطين لإنقاذ دولة الإسلام والمسلمين من الانهيار وما جرى لابن تاشفين، بعد ذلك مع المعتمد عباد بن مما هو مشهور.

وتحتل المرأة — كمحور أساسي — حيزًا واسعًا داخل القصة، هذه المرأة «الجاسوسة» التي ستتقدم إلينا وقد ارتبطت بعلاقة غرامية، ويسهب الكاتب في وصف هذه العلاقة وفي الحديث عن الفتاة ونحت تقاسيم جمالها وفتنتها، مما لا يفيد شيئًا في صميم تطور الأحداث.

أما قصة «غادة أصيلة» فهي تصوير لمعركة وادي المخازن، المشهورة في تاريخ المغرب، والتي دارت بين الملك السعدي «المنصور الذهبي» وسان سباستيان ملك إسبانيا، والتي انتصر فيها المغاربة انتصارًا ساحقًا، وأبعدوا بذلك خطر الاحتلال عن المغرب. ولكي تتميز هذه القصة عن الخبر التاريخي العادي، فقد حيكت فيها علاقة غرامية بطلتها غادة مدينية أصيلة، التي تسحر الفتى «سعد» والتي تعيش معه في قلب المعركة، وفي الوقت الذي نتتبع فيه سرد الخبر نكون مشدودين إلى هذه العلاقة العاطفية التي تربط قلب الشابين ربطًا وثيقًا، ويتوفق الكاتب في توحيد الدافع الذي يحدو بسعد إلى الصراع ضد الغزاة، أي أن عاطفة الحب توحد بين الغادة والوطن المهاجم وإذا كان رصد هذه العاطفة قد استأثر باهتمام القاص فإن القيمة الأساسية في النهاية هي للتاريخ.

وفي قصة «عذراء المرية»٨ للكاتب عبد الله إبراهيم، نتعرف على فتاة تعيش مع أسرتها في الريف الذي أغرمت به «إغرامًا يملأ عليها قلبها» تهيم بنفسها في الحدائق فتكرع من جمالها غير عابئة بما يحيط بها من حياة البذخ. وكانت الفتاة غريبة الأطوار يحار أهلها في فهم نفسيتها ويعتبرون شرودها وتأملاتها شذوذًا يخافون أن يودي بها و«ينزعجان من هذه المعيشة البوهيمية التي تنغمس فيها ابنتهما.»٩ غير أن الفتاة لا تعبأ بأحد، فهي «تزداد كلفًا بالريف وتعلقًا بجمال الريف وبالحياة الطبيعية الطليقة من القيود، على شدة ما تلقي في ذلك من عتاب ولوم تارة ومن تقريع وتشريب، تارة أخرى.»١٠ إلى يوم أن خُطبت ففرح أبواها لذلك أيما فرح، واهمين أن في زواجها خلاصها من سلوكها الغريب. وانحدر الجميع إلى مدينة «المرية» «ليأخذوا منها حاجتهم من الثياب والرياش.»١١ وأثناء التجوال وقعت عين الفتاة على شاب جميل أعجبها فتعلق به قلبها لحينها وشعرت: «أنها مأخوذة بشيء لا طاقة لها بمغالبته بل لا تستطيع إلا أن تستسلم له استسلامًا تامًّا.»١٢ وستكتشف أن الشاب كان قاضي المسلمين بالمرية وستعود الفتاة للبحث عنه بعد أن أخذ بمجامع فؤادها، وسينالها من هذا أسوأ مصير فينبذها أهلها، ويصد عنها القاضي وينكل بها وهي التي ضحت من أجله بكل شيء فتذهب ضحية عواطفها الهوجاء!

إن إطار القصة تاريخي محض، فهي تتخذ لها الأندلس بيئة وزمانًا وتصبغ بعض شخصياتها أيضًا بسماتها، وتبعث الرعشات القديمة للمكان، فإذا الديكور القديم يقوم إزاء أبصارنا وإذا نحن في مدينة «المرية» الأندلسية بطابعها المعماري العربي، ينقلنا الكاتب في أسواقها وأزقتها وكثير من أجوائها، مما حرص على وصفه وتشخيصه لنا تشخيصًا حيًّا، مناسبًا بين الشخصيات موفقًا في إدماجنا بالجو التاريخي في أحد أطواره المزدهرة، ولا ريب أن لذلك أهمية خاصة عند الكاتب، مما يبرز انصرافه إلى الماضي وجعله له قوامًا للتجربة، أما شخصية الفتاة وأزمتها ولماذا وضعها الكتاب في ذلك الإطار الزمني، فهذه مسألة تثير تساؤلات هامة وتوجهنا إلى أفق من التفكير سنراه لاحقًا.

وهذه قصة أخرى للكاتب المغربي «عبد الرحمن الفاسي»؛ «عذراء سبتة»١٣ تتحدث عن أمير إسباني يدعى «جوليان» يحكم مدينة «سبتة» لكنه واقع تحت سيطرة «رودريك» ذلك الفتى الطياش الذي انتزى على عرش «وتزا»١٤ ويعيش الحاكم القلق والحيرة، فهو يخاف من بطش «رودريك»: «إذا رآني في غيره جهد، بالإبعاد عن حكم هذه القلعة وهذا «رودريك» الغاصب يفتك بأصدقاء «وتزا»، وينكل بأنصار أبنائه المشردين وراودته خواطره في الانتقام منه، ولكن طنجة كانت بالمرصاد قائدها طارق بن زياد، فسخر من خواطره التي سولت له الاستقلال بحكم سبتة، كأن حركة طارق بن زياد في الميناء المقابل لا تعنيه شيئًا، وكأنه لا يعرف ما يرمي إليه مولاه موسى بن نصير.»١٥ ويضحي بابنته في سبيل إرضاء نزواته وشره «رودريك» حين يقدمها له بعلًا، ولكن هذا يهتك عرضها، وتعود إليه أو إلى والدها ذليلة منكسرة، فتتحطم نفسية «جوليان» وتغوص كبرياؤه في العار ويفكر في الانتحار ويكاد يقدم عليه لولا بقية من إباء وشمم، وتنتهي القصة و«جوليان» يبتهل إلى الله أن يقدم الفاتحون العرب لينقذوا شرف الإنسان في هذه الأرض، «رحمتك يا الله، أيها العرب، يا رسل الخير والسلام، تعالوا طهروا بلادنا من ديدان الفساد، هبوا غيرة على حرمات الآدميين.»١٦ وفي اللحظة نفسها كان جيش طارق قد طوق قلعة «جوليان» وهذه جلبة رجال طارق قد أحدقوا بقصرك أيها الكونت.

هكذا نلحظ كيف أن «عذراء سبتة» تستمد عناصر تكوينها من التاريخ الإسباني والعربي الإسلامي بالمغرب. والكاتب يقدم لنا هذه الحادثة ويصوغ قصته صياغة تلائم الغرض الذي يهدف إليه في الأخير، ألا وهو الانتصار للعرب وللدين الإسلامي الذي جاء لينقذ الناس من الظلم ويعيد إليهم حريتهم وكرامتهم، وهذا الغرض يبقى خفيًّا ولا ينكشف إلا في آخر القصة، بينما يقوم قطبان هامان داخل الأقصوصة هما شخصية الحاكم «جوليان» وشخصية «كافا» ابنته. فالقاص يسلِّط أضواء كشافة على شخصية الحاكم ويستجلي نفسيته التي تتنازعها الحيرة ويستبد بها الخوف من المصير وينهشها هذا الطموح إلى الحكم المستقر الذي يعرقله كل من رودريك وطارق بن زياد وهذه أيضًا شخصية «كافا» العذراء، التي تسير في خط مواز لسير الوالد، ويظهر فيها مثال الإنسان «الضحية» الذي يضيع حريته كي تتحقَّق أطماع الآخرين. وهنا على عكس القصص السابقة تظهر «كافا» شخصية مكملة وليست أساسية؛ إذ إن «جوليان» هو الذي يستبد باهتمام القاص ويحظى بالوصف والتحليل الأساسيين.

إن هذه الأقصوصة وقصصًا أخرى١٧ تؤلف قسمًا هامًّا من الحصيلة القصصية قيد الدرس، وهي كما تبين تعتمد التاريخ ككيان، وتمتلئ بالعديد من الأخبار والحوادث الماضية لعهود مختلفة، غير أنها لا تنحصر في هذا فحسب، إذ التجربة تتسع وتعنى بأطراف جديدة تحيا في ظلالها فتخلق بذلك محيطًا جديدًا ينشأ فيه صراع بشري وتوقع فيه موسيقى الحياة، وكثيرًا ما تعزف منه أنغام العشق على أوتار القلوب المتحابة، والتي لا تكاد تخلو منها قصة من القصص التي تستفيد في تركيبها من التاريخ.

وحركة التاريخ التي تولدت في الماضي ويريد لها هذا الاتجاه من الصور القصصية أن يبعث في الحاضر مادة أصيلة تشع منها أمجادًا ولَّت، وتوحي بأمجاد يمكن أن تخلق، لا تكتسب قيمتها وجدارتها، إلا بمدى قدرتها على التواجد في القالب القصصي وبنجاحها في فرض نفسها كفن إلى جانب حضورها كمادة تاريخية. ومن هنا أهمية البحث، أولًا عن القيمة الفنية لهذه القصص وثانيًا عن مدى استيعابها أو تكيفها مع بنية وجو الكتابة القصصية.

ويلفت نظرنا في بدء التحليل والتفصيل أن كل القصص السابقة تعتمد على السرد التاريخي، بواسطة الكاتب الذي هو الراوي ذاته، يرد علينا الخبر الأول في سرد متتابع غير متنوع، قليلًا ما يتخلَّله حوار بين شخصيات القصة وإنْ وجد هذا الحوار فهو عديم الجدوى في دلالته ويمكن إلى حد بعيد اعتباره من ضمن السرد القصصي نفسه، ويظل هذا السرد إنشائيًّا وتقريريًّا، مملًّا في أحيان كثيرة، يستخدم «كان وأخواتها» على امتداده شأن العديد من المؤرخين، والسرد بناء على هذا لا يستطيع حمل تضاعيف التجربة أو الْتقاط النبرات الخاصة للشخصية القصصية؛ إذ إنها تنطوي فيه وتخط بين الحروف والكلمات في استطالات ميتة وتلتبس مع وفرة الأوصاف التي يسبغها الكاتب على الواقع. إننا نعيش في هذه القصص في ذاكرة التاريخ، مما يلزمنا عندئذٍ بإقامة ما انهار وما تشقق من ثغرات، مما يدخل في تكوين مادة القصة.

والصورة القصصية تتسع لحيز كبير من الوصف الخارجي، بل إنه من عناصر هذا القالب الفني، فعبد الله إبراهيم وعبد العزيز بن عبد الله، يحرصان، معًا، على تمثيل مناظر البيئة التي هي مسرح قصتيهما، وتشييد كيان التاريخ المتهدِّم قصد دفعنا إلى التواجد مع حوادث القصة وملابساتها العامة، غير أنهما يقدمان وصفًا مكثفًا ومدروسًا، فالقاص يتوقف، مثلًا، في قصة «عذراء المرية»١٨ ليصف لنا السوق، دكاكينه واحدًا واحدًا وبضائعه، حركة الناس وأصواتهم، مما يكون منبت الصلة بالسياق العام للقصة أو لعله لا يمسها إلا مسًّا خفيفًا. وعند عبد العزيز بن عبد الله يأخذ الوصف سمة التسجيل الوثائقي مع قصد إلى التجميل والتنميق واضحين ويدخل في تحقيق هذا الهدف ما يلاحظ من إصرار جميع من تناول القصة التاريخية على المغالاة في الحديث عن مفاتن المرأة ورسم صور لها، قد تنجح إلى حد في الإغراء وشد القارئ العادي لها، ولكنها تفشل من الناحية الفنية.

وتفرض خاصيتا الصدفة واللاتحديد نفسيهما كخاصيتين نموذجيتين ملازمتين لقصص هذه المرحلة: هناك حكاية تحكى، على أن هذا ليس كل شيء، إذ ينبغي صقلها وتصنيعها، لتتكئ على ركائز فنية سليمة، وإلا فإننا سنستحسن الانصراف عن القصة التاريخية إلى التاريخ نفسه لنجد فيه ما يشفي غليلنا في أخبار الأولين وتاريخ الحضارات وأمجاد الأمم، مما تطمح القصة التاريخية لاستشفافه والتزود به، فنغنم حينئذ معلومات حية لا غبار عليها.

في هذه القصص تبدأ حركة الحدث أو يقدم الحدث وهو ميت من حيث هو حركة جامد من حيث هو حدث. ونحن نعرف وجوب اعتماد الأقصوصة في تكوينها على نسيج حي يحتوي بداخله الكل، يقيم علاقة حية قطباها الفكرة والصياغة الفنية، وثمرتها تجربة ذات بعد معين. إن هذا الفهم يدفعنا إلى التساؤل إن كان هناك صراع يتمثل في تطور محسوس ومبرر أو تأزُّم حقيقي له حسابه في مقياس الرؤية الفنية التعبيرية. وبالتالي، هل هناك وجود حقيقي ومتكامل لهذه الرؤيا؟

إن الوصول إلى إجابة شافية لا تتيحه لنا القصص السابقة، ففي أقصوصة «عذراء سبتة» لعبد الرحمن الفاسي، نجد الحادثة تتفكك خلال التصوير أو أثناء تطورها، إذ يكدس الكاتب تفصيلات لا حاجة لنا بها، ويرسم أجواء لا ظلال لها، بل تباعد بين أطراف الحادثة وتجزئها لنلتقي، بعد ذلك، بالتطوير الفجائي للحدث والانتقال من حال إلى حال دون توقع، فعبد الرحمن الفاسي، عندما يقدم لنا شخصية «كافا» بنت الحاكم «جوليان»، يسهب في الحديث عنها وعن شدة إعزاز والدها لها، ودون توقع يخبرنا أن «كافا» رحلت إلى «رودريك» ويسرد علينا مصيرها معه. فتيار الحدث يتوقف فجأة، وهذا يفيد أن الكاتب كان يحكي حادثة تاريخية على هواه، ولم يكن يحس بضرورة التزام عنصر التسلسل المقنع، بقدر ما كان يعنيه أن يحكي ويسجل ويصور، كل ذلك بأسلوب يظهر فيه تأثر الكاتب بالأسلوب القائم على التنميق وألوان البيان، واستغلال صور الطبيعة للكشف عن النفس الإنسانية. فحين يتحدث عن «كافا» وقد أبطأت عن تعهد «أوزها» وهو يتأمَّل: «وأحسَّ الكونت بدبيب الضعف يجرحه في كبريائه وشممه، وأخذ ينظر إلى بلاده وقد غاصت الآن في غياهب الليل وانسدلت دونها سحب كثيفة من الضباب والدخان (…) فيا ما كان أحلى كافا … في عين الملك الطافح ساعة طلعت على الحفل الراقص وقد ورد وجنتيها الحياء وناست ذوائبها الفاحمة على جبينها الوضاح»١٩ والوصف هنا، يبرز أساسيًّا، وهو يخفف من وطأة التفكك وتمزق الحدث.

أما الشخصية القصصية فهي موجودة كوجود التاريخ نفسه، دون حضور حي في قلب التجربة، كامنة في وعي الكاتب لا في وعيها التلقائي والخاص، هي ذات حجم ضئيل في أذهاننا وإن كانت تكتسح اهتمام الكاتب حتى ليخيل للقارئ أنه أمام قصة «شخصية» ولعله يجد دعمًا لهذا حين يلحظ أن كل القصص تحمل أسماء شخصيات: «عذراء سبتة – عذراء المرية – الجاسوسة – الملكة خناتة» والمهم، هو مدى قدرة هذه الشخصية على الدخول في حوار مباشر مع الفعل التاريخي، والدخول معه في علاقة جدلية، بحيث يتوقف مصيرها على هذا الوضع أو ذاك من الأوضاع، أو تقدر هي على مباشرة فعل جذري ذي سلطة في التحريك، والتبديل لذاك الوضع أو هذا، مما يكسبها حرارة وجودها الخاص وتماسك كيانها من صلب سعيها وإحساسها الذاتي.

في سبيل الإجابة على هذا التساؤل نلتقي بشخصية «جوليان» التي اكتسبت بُعدًا إنسانيًّا ولم تبقَ شخصية عابرة أو شبحية. فالحادثة التاريخية تسير بها ومن خلالها، وهي الشخصية المحورية، وليست باقي الشخصيات سوى ظلال لها ومكونات. وهذا التركيز على شخصية «جوليان» يوفر في ذاته عنصرًا فنيًّا هامًّا بالنسبة لعناصر تركيب الأقصوصة. ثم نجد عبد الرحمن الفاسي يصعد قليلًا بهذه الشخصية إلى صعيد الأزمة التي توحي بالغنى والعطاء، فيصوِّره لنا وهو يعيش صراعًا داخليًّا بين كبريائه وشموخ نفسه وطموحه وبين أطماع الطامعين وتحرش الزمن والقدر، لكن سرعان ما تخفُّ حدة هذا الصراع، وتخف الأزمة بسبب اتجاه الكاتب إلى التصريح بفرضه الخلقي والعاطفي وإعلائه بدلًا من تحقيق الخاصية الفنية الأصيلة فجوليان الذي قدمه لنا القاص شامخًا معتدًّا بنفسه ما يلبث أن ينهار ويستسلم، دون مقاومة، على صدى طبول طارق.

ونجد، أيضًا، عبد الله إبراهيم في أقصوصة «عذراء المرية» يقدم لنا معاناة الفتاة المتولهة ذات الأطوار الغريبة، في عشقها للريف وتقلبها النفسي وانجذابها لقاضي المرية. يقدم هذه الشخصية ويجهد في استكناه نفسيتها، فهي فتاة ذات ميول رومانسية (الهيام بالطبيعة – محبة الشرود والتيه – الصراع العاطفي … إلخ) وذات طبيعة مريضية عصابية باصطلاح علم النفس التحليلي. لكن ماذا بعد هذا الاستكناه والتركيز؟ إن هذه البحبوحة التي تمرح فيها الفتاة لا تجعلنا نتعرف على هدف الكاتب من وراء قصته ونتساءل عن سر اختياره للتاريخ إطارًا للتجربة، وقبل أن نجيب نضيف تساؤلًا ثانيًا وثيق الصلة بالأول وهو: هل عاطفة الحب هاته هي الحدث الحقيقي في القصص التاريخي؟ فهذه العاطفة متصلة دوما بالمرأة كقطب تلتف حوله خيوط الحدث.

والتساؤلان السالفان يطرحان أمامنا معضلة، بخصوص القصص التاريخي الذي ندرس، ويدفعنا إلى افتراضين اثنين:
  • الأول: أنه لَيُخيَّل إلينا أن الكتَّاب المغاربة لم تكُن لهم الجرأة على معالجة الحوادث ذات الصبغة العاطفية، فكانوا يلوذون بالتاريخ ملاقين فيه مهربًا وخلاصًا من احتشام المجتمع وقيوده، وصانعين لأنفسهم كوى للتنفيس عما يعتلج في صدورهم من مشاعر وأزمات عاطفية، خاصة وأن تيار العصر كان يحمل معه نسمات الرومانسية، والنتاج الأدبي في المشرق، آنذاك، والوافد على المغرب زاخر بالكتابات ذات النفس الرومانسي بالإضافة إلى رغبة خفية وحادة، أيضًا، للتعبير عن الذات التي وجدت نفسها مقموعة في خضم التكالب الاستعماري وقمع المشاعر والحريات، ألا تكون المرأة عندئذٍ بابًا من أبواب الخلاص، والانكباب على عاطفة الحب وسيلة للتنفيس، واستمراء محاسنها نوعًا من العزاء الذي يشي بفقدان شيء ما.
  • الافتراض الثاني: أن جعل عاطفة الحب محورًا، قد لا يكون بالضرورة طريقًا لالتماس ما أسلفناه، وإنما تُساق هذه العلاقة بغية التشويق والإغراء لتتبع الحادثة التاريخية من أجل كسر الملل الذي يعتري القارئ غالبًا، في تتبع السرد التاريخي المسئم، وهي وسيلة معروفة لدى كتاب القصة التاريخية ومتواترة لديهم جميعًا.

ولعل الافتراض الثاني يبدو أكثر رجحانًا لما نرى من احتفال الكتاب بالوقائع التاريخية احتفالًا يملأ عليهم نفوسهم واهتمامهم ويذهب بهم مذاهب شتى في الاعتناء بهذه الوقائع وإبرازها والتفنن في وصفها. ولا غرو إذا وجدنا كاتبًا مثل عبد العزيز بن عبد الله يطيل في القصة الواحدة فتنقسم عنده إلى حلقات وتتفتت الحادثة إلى حوادث صغيرة أشبه ما تكون بمجموعة جزر متقاربة ما يربط بينها هو الحدث التاريخي الأصلي، وعلينا نحن أن نقرب ما تباعد ونصل ما انقطع، وذلك بأن نشد العلاقة العاطفية بالجو التاريخي ونلم شتات الشخصيات بالشخصية الرئيسية، ونصمم في أذهاننا الإطار في تمامه. وسنجد أن الاسترسال في تقصي الحادثة التاريخية وتتبع ونسج خيوط ثانية تتفرع عنها، يجد تفسيره الصحيح في هذا الحنين الجارف إلى الماضي باعتباره الذخيرة والمتكأ والعبرة، باعتباره التعويض عن خواء الحاضر باعتباره الجاذبية والإشعاع في مناخ حاضر يسوده الاحتقار والاستعباد. ولا يضير الصورة القصصية، هنا، وبالاعتماد على هذا التفسير المعطى، إذا انزلقت قليلًا واقتربت من قالب الرواية المكثفة، خاصة عند عبد العزيز بن عبد الله، فطبيعة المحتوى وحجمه يبرزان التفاوت الفني للأشكال الفنية، ومن ثم فالقصص السابقة التي احتواها قالب الصورة القصصية كانت تتأرجح بين عدة عناصر فنية، كما كانت تخرج إلى مخارج متعددة حسب أهواء الكتاب.

والحديث، بعد هذا، عن الصورة القصصية التاريخية لا يبدو مكتملًا دون تقديم التساؤل التالي، والمتعلق بدلالة الوقائع التاريخية وأهمية استرجاعها:

هل ترضينا إزالة الستار عن قسم محجوب من التاريخ لمجرد الإزاحة والتذكير أم أن هنالك مطلبًا أشد أهمية ودلالة؟

الحق إننا كنا نبغي نوعًا من الاسترجاع للتاريخ يعتمد في أساسه على فهم واعٍ للماضي، فهم مضامين جديدة في الإطار القديم من حيث يستوحى منه ويسترشد به، وإلا فإن أية صياغة معاودة للماضي تفقد مدلولها إذا اقتصرت على هذا النشاط المحدود والذي يماثل القيام بطقوس بالية رثة، ولذلك فقصة مثل «تأسيس»٢٠ ليست سوى صياغة أدبية لأمر تم في الماضي متصل بتشييد جامع القرويين، وعبثًا نبحث من وراء هذا عن خفايا أو دلالات جديدة.

إننا نقصد إلى أنه من المهم للقصة التاريخية أن تشتمل في صميم تأسيسها ومحتواها على خلفية ما، وأن تعمل على صهر الماضي في الحاضر صهرًا يخلص إلى نتاج مصقول ومكتنز قاعدته أرضية التاريخ وثقله الحاضر وهمومه.

على أننا نرى أن تبرير التاريخ في وجه من وجوهه وإعادة إحيائه إحياءً جدليًّا يستلزم وعيًا ثقافيًّا علميًّا، ويتطلَّب تخمينًا متعمِّقًا لتشكيل الواقع بمختلف بنياته وركائزه وما نحسب أن الكاتب المغربي كان في مستوى هذا المطمح والتطلع.

هوامش

(١) د. غنيمي هلال، الرومانتيكية، مطبعة الرسالة، القاهرة، د. ت، ص١٦٧.
(٢) عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٣م.
(٣) انظر: أوراق شاب عاش منذ ألف عام، مجموعة قصصية، القاهرة، ١٩٦٩م – الزيني بركات، رواية، ط۱، دمشق، ١٩٧٤م – وقائع حارة الزعفراني، رواية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٦م.
(٤) سبقت الإشارة إلى ذلك في تمهيدنا لأسباب ظهور الفن القصصي القصير في المغرب.
(٥) إنني لم أعمد إلى المقارنة بين ما كتبه قصاصونا الأوائل من قصص تاريخي وبين روايات جرجي زيدان التاريخية، ولكني عرضت لهذا الأخير من باب التذكير ولأنه كان رائدًا وسبَّاقًا في هذا الباب، وما أظن أن في ذلك أي ضير. كما أني إذ سقت أسماء مثل نجيب محفوظ وجمال الغيطاني لم أقصد أي مقارنة، وغاية ما رميت إليه هو الإشارة، لا غير، وهي في ظني مطلوبة، ومن الصعب تمامًا التفكير في أي مقارنة مهما كانت بسيطة. بيد أن المقارنة، لو افترضنا جدلًا قيامها، ستكون مقبولة من حيث المبدأ بالنظر إلى اختلاف التعامل مع التاريخ من قاص أو روائي إلى آخر، ومما يتوافر من قدرة على الاستيعاب والوعي الشمولي، وكذا بمقدار تطويعه لأدواته الفنية. لقد كانت غاية قصاصينا استخلاص العبرة من التاريخ ولم تكُن فنية، بتاتًا، وجاء نجيب محفوظ فنسج رواية تاريخية ذات بعد اجتماعي وسياسي وقام الغيطاني بالعمل ذاته مع استخدام منهج فني مستحدث ومتطور.
(٦) انظر القصص التالية لعبد العزيز بن عبد الله:
غادة أصيلا: نُشرت بجريدة العلم في ستة فصول، س٤، ١٩٤٩م. من ع٨٥٥ إلى ع٨٦٥.
الرومية الشقراء: في ستة فصول، العلم س٤، ١٩٤٩م، من ع٨٥٥ إلى ع٨٦٥.
الكاهنة: في خمسة فصول، العلم، ٩١٥، غشت، ١٩٤٨م، ثم متفرقة بعد ذلك، ونشرت أيضًا في: م، رسالة المغرب، ع٩، في ٥ أبريل، س۱، ١٩٤٥م.
جاسوسة على حدود فلسطين: في ستة فصول، العلم، س٥، ١٩٥٠م، ما بين ع١٢٩٤ إلى ع١٢٩٨.
الجاسوسة المقنعة، العلم، س٣، ١٩٤٨م، من ع٨٣٠ إلى ع۸۸۷.
الجاسوسة السمراء في أربعة عشر فصلًا، العلم، س٥، ١٩٥٠م، من ع١٣٠٥ إلى ع۱۳۱۹.
انظر أيضًا: شقراء الريف وغادة أصيلا وهما منشورتان ضمن مجموعة قصصية للكاتب جمع فيها بعض القصص التاريخي الذي سبق نشره خلال الأربعينيات. شقراء الريف، دار النجاح، بيروت، ۱۹۷۳م.
(٧) المغرب الثقافي، ع١٤، أكتوبر، ۱۹۳۹م.
(٨) المصدر السابق.
(٩) المصدر السابق.
(١٠) المصدر السابق.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) عبد الرحمن الفاسي، عذراء سبتة، جريدة الوداد، س٦، ع١٤٢، ١٩٤٢م. وانظر له أيضًا:
  • غرام الشيخ المغربي، م، المغرب، ۱۹۳۸م، ع۱۳.

  • الكاهنة، م، المغرب، ۱۹۳۸م، ع۹.

(١٤) عذراء سبتة.
(١٥) عذراء سبتة.
(١٦) عذراء سبتة.
(١٧) تأسيس، م، المغرب، س٥، يناير-فبراير، ۱۹۳۷م. وانظر لعبد الله إبراهيم:
  • الندمان الثلاثة، م، الثقافة المغربية، ع١١، س۱۹۳۸م.

  • شهيد، م، المغرب، الملحق الثقافي، ع۱۲، س۱۹۳۸م.

انظر أيضًا: أمينة الله، الملكة خناتة، وقد نشرت بمجلة الأنوار، ع٤٦، يناير، ١٩٥٥م، وبجريدة صحراء المغرب، س ع٣ إلى ع٤١.
(١٨) عبد الله إبراهيم، عذراء المرية المشار إليها آنفًا.
(١٩) المصدر السابق.
(٢٠) تأسيس، مجلة المغرب، السنة الخامسة، فبراير، ۱۹۳۷م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤