الفصل الثالث

الصورة القصصية الاجتماعية

قصص من المغرب والصورة القصصية الاجتماعية

***

في خضم المد الاستعماري وعبر تواتر أشكال السيطرة والاستغلال الأجنبيين، ومع تكاثر مظاهر المدنية الجديدة، والدخيلة، وعلى أثر الاحتكاك اللاهب بين مستويين متباعدين التفك من التفكير والحضارة، وجد الكاتب المغربي نفسه مزحومًا بدوافع عدة وأحاسيس متباينة ومشاعر مضطربة لا يكاد يتبينها التبين كله، ويحاول أن يخلص من دائرة الخلط وثقل التراكم بثمرة، بحصيلة ما تعلن عنه وتقدم تبريرًا باسمه إلى المجتمع، يحاول أن يتبين الطريقة المعتمدة التي وجد نفسه يتعثر في حلكتها ويسير وروحه تتنازعها شتى الأفكار والميولات، لا جرم أنه واقع حصار مزدوج:

هناك، أولًا، الشعور الذاتي المسيطر وهو الذي يتحكم في الكاتب قبل سواه، فيلون له العالم من حوله بتلوينات خاصة ويبرز له الوجود كحقيقة مطلقة متسامية يتعلق بذوائبها وينشد التوحد بها، ومن هنا تنداح أحاسيس الفنان وتتموج انفعالاته في رؤى وأشكال تعبيرية مختلفة، يصعد هذا النداء الداخلي الحار يربك النفس متحرقًا إلى الانطلاق، إلى السمو، والتعلق بمطلق الوجود، ألا يكون هذا هو نبع الفن مهما تعددت أجناسه وأساليبه؟ ألا تكون هذه هي حقيقة كل فنان أيًّا كان ميله واعتقاده؟

وهناك، ثانيًا، الشعور الجماعي الذي يدفع الفنان في أفق المجتمع الأوسع ويتنفس في غمرة واقع تنسجه وتغلفه أزمات وتناقضات كبيرة، وتندلق على حوافيه سيول من المشاكل والالتباسات، تتولد من مجموع هائل يتركب من الإنسان كذات شاعرة حساسة ومن ظروف حياته على اختلاف أنماطها ومن تحديات الزمن حسًّا وإحساسًا، هذا المجموع يسجل كثافة الواقع التي يجد الكاتب نفسه تحت ضغطها، ويتنفس هواءها، تمارس تأثيرًا خطيرًا على وجدانه ووعيه، ومن ثَم فهي تقوده — في أحسن الأحوال، ووفق درجة التأثر ودرجة الاقتناع والاستجابة — إلى سلوك إيجابي، إلى اختيار عينات هذا الواقع وتلمس أطرافه وشرائحه، ومعانقة الوجدان الاجتماعي، بؤرة تأزم الواقع ومصهر حوادثه.

فأين يولي الكاتب وجهه بين هاتين الجاذبيتين؟

هل يستطيع الانشداد لسحر الذات على حساب الآخَر أم يضحي بالأول لحساب الأخير؟

لقد كان القاص المغربي مطالبًا في آنٍ واحد بالتعبير عن أحاسيسه الخاصة وعن الواقع المغلول بالاستعمار والمشاكل التي نجمت عنه.

وبناءً عليه، هل أحسَّ إحساسًا تلقائيًّا وواعيًا بهذه المسئولية، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف استطاع التوفيق بين هذين المطلبين؟ وليس يهمُّنا تقديم أجوبة مباشرة لهذه الأسئلة بقدر ما يهمنا رسم خريطة واقع فكري وأدبي بذاته يسطر لنا — حسب تحليلنا — بعض التطورات التي من شأنها أن تجلي ما يقف أمامنا ملتبسًا.

ويبدو لنا، في البداية، أن الكاتب المغربي قد تنبَّه إلى بعض الأمراض والطفيليات التي أخذت تطفو على ساحة الحياة الاجتماعية، ووجد نفسه منساقًا إلى التنديد بها وتدبيج كتابات تستلهم الظروف والأزمات القائمة التي وجد نفسه في لجتها. وقد اضطلعت المقالة القصصية١ بمهمة إزاحة تلك الطفيليات وبخوض توجيه خلقي، بوازع من شعور وطني فرض نفسه بحدة، لكن تلك الكتابات، حسب محتواها الخلقي، بقيت محصورة غير مؤهلة للارتفاع إلى مستوى فني مُرضٍ. ويمدنا تراث الأقصوصة المغربية بنماذج امتلكت قدرًا من التطور وفهمًا متجددًا وممتلئًا بشحنة الواقع والإحساس القومي كذلك. وقد استطاع كثير من القصاصين هدم الجدار الفاصل بين الذات والموضوع، بنية رسم صورة واقعية تسجل النتوءات البارزة والمشاهد المعبرة عن وضعية اجتماعية محددة، لكن هذا التسجيل بقي تعميميًا وعائمًا مما يدفعنا إلى القول بأن تيار الحماس الوطني عهد الاستعمار كان يخفي الصراعات ويغطي الالتباسات، ويدفعنا، أيضًا، إلى الاقتراب من تبني رأي الناقد المصري شكري عياد حول موقف القاص المصري من الظرف الحضاري والتاريخي الذي كان يعايشه والشبيه لما نخوض فيه، يقول: «إن الوعي القومي الناشئ كان يحجب الشعور بالتناقضات الطبقية والإحساس بالتخلف الشامل يطغى على الإحساس بسوء توزيع الثروة»،٢ ولعل في هذا الرأي ما يفسر لنا عدم اكتمال الرؤية الصحيحة لدى القاص المغربي.
والحق أننا، بالنسبة للصورة القصصية التي التمست احتواء صورة الواقع بمركباته وأزماته،٣ لدى محمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وسواها، ويتبين أن العلاقات التاريخية والاجتماعية التي ميزت وأحاطت بكتاب تلك المدرسة هي نفسها التي ترسم طرق كتابنا أيضًا، بيد أن الكتابة باتجاه الواقع، هنا، لم تأتِ تعبيرًا عن رد فعل طبقي أو عن وازع فكري مخطط له أو بدافع إنصاف للفئات المسحوقة في المجتمع أو الانتماء إليها بتبني وضعيتها والاحتجاج لها مما يشكل قيمًا على رصيف التاريخ الفكري للفنون. وكل الذي يبدو مقبولًا هو أن اتخاذ المنحى الواقعي وليد إحساس بالبؤس الجماعي ووليد نزعة خلقية تهدف إلى دحر الفساد، والحد من تضخم سرطان التفسخ الاجتماعي، ومن هنالك لزم انتظار فترة طويلة، نسبيًّا، حتى يتأتى للقاص المغربي أن ينضج ويعي منطلقاته ويجعلها موضوعية ويحول رؤيته الفكرية والفنية إلى هادفة ومتماسكة.

إن هذه الملاحظات بدت ضرورية لتقودنا إلى طريق المعالجة التطبيقية للنصوص القصصية التي سنستلهم منها المقاييس الخاصة، فكريًّا وفنيًّا، بالمنحى الاجتماعي للصورة القصصية: ونجد عند عبد الرحمن الفاسي، وهو من أبرز من يمثل هذا الاتجاه حاسة الناقد القصصية تسير في خط مستقيم قاصدة مساحات محددة عازلة لها عما يتجاورها، منكبة عليها في حرص وأناة لاستنطاق خفاياها. وهذا القصد يوحي في البداية بفهم متطور لطبيعة الأقصوصة، باعتمادها على اقتطاع شريحة اجتماعية من قطاعات المجتمع الكبير والكشف عن منابت العطاء والإشعاع فيها، إنه يتوجه إلى وجوه بشرية تعيش في وضع مضطرب ومهزوز ماديًّا ونفسيًّا، ويترصد لأزمتها، ساعيًا في الوقت ذاته إلى وضع يده على أزمة أكبر وعلى منابت السوس في الوسط الاجتماعي.

ففي أقصوصة «مبيد الأحزان»٤ نتعرف على شاب تمزقه أحزانه وأتعاب العمل المضني، ولا يجد متنفسًا إلا في رفقة أشقياء يعاقرون تدخين «الكيف» والنقر على «الكنبري»: «كانوا ثلاثة أيفاع من صناع المدينة قد اقتعدوا مصطبة عظيمة، وهب نسيم الأصيل معطرًا منعشًا، وعبقت نسمات «الكيف» شهية مغرية، فعب الثلاثة من «العيسى»٥ فهم لاهون عن المدينة وضوضائها، لاهون عن صناعتهم وأوصابها». ويرجع كلٌّ منهم آخِر الليل، ليواجه واقعه التعس داخل بيوت يفتك بها الحرمان والعوز، فهذه الأم تصرخ في وجه ابنها وتذيقه أمر الشتائم والتأنيب: «وفعلت كلمات أمه فعلها في نفسه فهو يتلظى بسعيرها ويعاني من وقعها في نفسه مثل ما يعانيه من سماعها في مثل هذه الساعة من كل ليل»،٦ وهذا وضع متميز بالبؤس والضياع بوجهيه المادي والروحي، ويبدو ألَّا مهرب إلا في ذهاب العقل، أي في المخدر، دليل الاستسلام والعجز عن المجابهة.

ويقف عبد الرحمن الفاسي في النقطة التي يبدأ فيها عمل كاتب القصة القصيرة فقد بلور لنا وضعية اجتماعية من صورة ممثلة في شاب حرفي، يقود نفسه كل مساء إلى المخدرات كما قدم مسحًا صريحًا لتلك الحالة، إذا ما قيس بالتفاتات الكاتب واستهواء صور جانبية لقلمه، وتوقف الخبر في القصة يسير في رفقة واهنة مع التصوير القصصي وهو عنصر هام في القصة، والذي يبدو أقرب إلى الضعف عند كاتبنا. لكن الخبر والتصوير المحدود لا يفيان معًا بالغرض، وتبقى حصيلة التجربة في حدود التسجيل العابر والمتفاوت في الوصول إلى صلب الحدث، وتلزم الأقصوصة موقفًا متأرجحًا بين توصيل انطباع والوقوف عند تسجيل ظاهرة اجتماعية، ثم لا نجدنا أمام حدث مجسد بقدر ما نطفو فوق حالات شعورية نابعة من طبيعة الصراع الاجتماعي، الذي لا ينجح الكاتب في الوصول إلى لبه وتمثله عبر القصة. وهذه الحالات الشعورية هي ما يستغله القاص في نسج خيوط من العلاقات ورسم كيان مادي لها. غير أن الصورة القصصية لا تقع عادة على حدث تام متكامل، حدث فني يصوغ الروابط والأسباب والشخصيات والدلالة الفكرية في قالب موزون، وهي لذلك تظل بعيدة عن أحداث تأثير لتوقيعات رنانة في نفس القارئ تدفعه إلى التخمين وتلف ذهنه بدوار من الأسئلة المنتجة.

يقف عبد الرحمن الفاسي على العتبة، ينزع القشرة الخارجية دون أن يغوص أو يستقصي ثناياها ولفائفها شأن الكاتب القصصي الموهوب والمدرك لأسرار صنعته. ولذلك نلاحظ أن عبد الرحمن الفاسي، وهو يسعى لتجاوز حدود موهبته، يتحلل الحدث على يده إلى خلايا متباعدة وتمتد له استطالات بعيدة عن ساحة الفعل القصصي، فتتراكم الأوصاف الخارجية الفضفاضة والمشاهد الطبيعية التي تأخذ فيها يراع الكاتب حريته واسترساله: «استوى المعلم علي واقفًا ثم صبَّ عليه جلابته صبًّا واتجه نحو السوق تحت وابل الأمطار التي كانت تتهاطل وكأنها منحدرة من أفواه القرب، ولكن السماء سرعان ما حبست روادف غيثها المدرار وتربعت «عروسة المطر» على قمة «زلاغ» الخائض في سحبه القاتمة، فانعكست على فاس المطيرة خيوط وضاءة من ألوان أردافها زاهية»٧ وواضح كيف أن هذا الاسترسال بالأسلوب الإنشائي يبعد القصة عن تركيزها وكثافتها.
ويحملنا عبد الرحمن الفاسي، مرة أخرى، إلى نموذج آخر يغاير الأول في الصورة ويماشيه في الانحدار والتصنيف الاجتماعي، وبينهما فراغ من الزمن تجمد فيه التاريخ. إنه «عمي بوشناق»٨ مؤذن ونادل، رافض لكل جديد بوازع من شعوره الديني المتزمت، ويمثل هذا الشيخ جيلًا في طريقه إلى الانقراض لا يزال متمسكًا بسلوك الماضي وعقليته، لكن الزمن يسير بينما «عمي بوشناق» ساكن أبدًا، ولذا فهو يثور على الذين تخلوا عن الزي الوطني وعلى الذين يدخنون السجائر: «إن الساعة آتية لا ريب فيها. أليس من أشراطها تبرج النساء وظهورهن متهاديات في جلابيب الرجال؟ أليس من علاماتها شرب الدخان وقص الشعر؟ أليس من أماراتها أن ترى الرجال حلقوا اللحى وعفوا على الشوارب.»٩ إنه، إذا، احتجاج جيل وتاريخ في طريق الانطواء، ولكن الاحتجاج لا يخضع لوتيرة فنية وتنسيق موضوعي، وإنما يبقى ضوضائيًّا ومتهافتًا ولو أمكن لعبد الرحمن الفاسي أن يستوعب منطق التحول التاريخي والاجتماعي ويفقه حقائق وعقلية الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها «عمي بوشناق» لكان قد بلور لنا أزمة دقيقة من الأزمات التي تمر بها الشعوب في فترات اصطدامها بالمدنية الجديدة، ولقدم لنا صراعًا متعمقًا يجعل من الذات، بشتى نوازعها، مرتعًا لاحتدام قوي وقاسٍ أو يدفع بهذه الذات وبالعقلية المتحصنة ضد التطور في علاقة متفاعلة مع العالم الخارجي، في صيرورته وانفتاحه. غير أن الصورة القصصية تكتفي بالإشارة والرصد العائم، تسير في خط مستقيم لا يتألق من التواءات أو منحنيات أو سلالم يرقي عليها الحدث وتتمايل فوقها أوجه الصراع. ومن هنا تبقى قصة «عمي بوشناق» محدودة الشكل، تجهد لتعبق منها النكهة الفنية المطلوبة، وتقف، في الوقت ذاته، عند الصورة القصصية من حيث الشكل الفني، وإن بدا أن عبد الرحمن الفاسي طمح إلى أكثر من التسجيل والتناول الخارجي، وغاص قليلًا في صلب الوضعية المبعثرة التي يعيشها «عمي بوشناق» بدلًا من التحليق فوقها.
فهو من جانب عمل على تكثيف هذه الشخصية وكشفها من جوانب مختلفة، إنْ شكلًا وإن عمقًا: «فأنت ترجع البصر إليه وأنت سائر فإذا أنت أمام شيخ ربعة إلى الطول، آدم في اصفرار، قد شاب منه الرأس والقذال، ونمت تجاعيد وجهه على الثمانين، وتثبت إلى ناظرك منه لحية كثة قد انسدلت على صدره بيضاء منعرجة تحسبها أمواجًا من ضياء»١٠ وهذه أوصاف نجد ما يماثلها عند «محمد تيمور». ولا شك أن عبد الرحمن الفاسي قد قرأ لهذين الكاتبين وتأثَّر بهما وشخصية «عمي بوشناق» تقارب شخصيات تيمور في كيانها العام. إننا هنا أمام شخصية هرمة وبئيسة، ليس لها قدم راسخة في أرض الواقع، حركتها والجو الذي تحيا فيه لا يؤلف وحدة اجتماعية متميزة ذات أرضية طبقية واضحة المعالم، تنتمي إلى الفئات المنهارة في المجتمع، لا تتحد معه في طريقة معينة في التفكير أو العيش، وتبقى رهينة نفسيتها وثيقة الصلة بوجهة خاصة في السلوك والتفكير، وهي، على العموم، غير ذات رصيد كبير روحي أو مادي، غالبًا ما تقف على ذروة المثالية الخلقية تتصلب في موقف وعنه لا تريم، ولكن الزمن لها بالمرصاد؛ إذ يتألب عليها ويضيق عليها الخناق ساخرًا منها سخرية مرة تجذبنا ناحيتها كمتعاطفين مشفقين لا مشاركين متأثرين، وهي لذلك تبقى بعيدة عن مرمى الواقع الحقيقي، منحصرة في نطاق الواقع الضيق، أي الواقع من وجهة نظر القاص وحسب فهمه وليس الواقع كمحصلة لجملة من العلاقات المادية والاجتماعية التي يضبطها خط وتطور معينين. ولعل ولع الفاسي بشخصيته هو ما جعله يقع في هذا الالتباس، المشفوع بما أظهره من إجادة في رسم حدود الشخصية ونفسيتها، مما يعد شيئًا إيجابيًّا بالنسبة للعمل القصصي.
وهناك جانب ثانٍ له قيمته، كذلك، ويمثل درجة ثانية من الإتقان في الأقصوصة لدى الفاسي، إذا الأصيل والخاص في «عمي بوشناق» هو تحوله من مركز الإدانة إلى مركز الاتهام، من المحتج إلى المحتج عليه، من موقف المستبكي على المجتمع وقيمه المتبدلة إلى وضع الاستنكار نفسه: «فكأن مظاهر الحياة المستجدة أبَت إلا أن تكون ألبًا على هذا الرجل وكأن الزمان قد أعد عدته ليقوم بهجوم حاسم على هذا الشيخ الفاني. وكانت طلائع الحملة انتشار جوانب الدخان في فاس». غير أن السخرية تتحقق وتنشب أظفارها، فإذا بيت بوشناق نفسه يصبح مدخنة للسجائر، وهذا ما يجعل صوابه يطير، ويبرز إحكام قبضة الزمن إحكامًا لا فكاك له منه، أنه منطق المفارقة أهم ما يميز القصة القصيرة: «إيه …١١ أعويشة تشرب الدخان؟ أعويشة تشرب الدخان، زمان!» وعويشة هذه هي بنت «عمي بوشناق» نفسه.

إن المستوى الذي قدمت فيه الشخصية القصصية، والسخرية التي وصلت إليها، وفَّرا عناصر جيدة في قوام أقصوصة الفاسي ولكنها تبقى، على ذلك، مهلهلة من جهة بنائها العام وحبكتها القصصية، وهي في الوقت ذاته تقع موقعًا جيدًا من الصورة القصصية.

وإذا كان عبد الرحمن الفاسي قد وضع يده ولمساته على بعض الشخصيات، واجتذبته الأوضاع التي تتميز بالانحلال والتهتك أو بالجمود واعتراض حتمية التطور، فإن كاتبًا مثل عبد الله إبراهيم يندفع قليلًا إلى الأمام لتحتوي عدسته قطاعًا اجتماعيًّا آخَر، أو قريبًا منه، والواقع هنا أيضًا بئيس …

إن أقصوصة «خادمتي»١٢ للأستاذ عبد الله إبراهيم تلج بنا عالمًا عتيقًا ومثقلًا بحكايات طويلة من الضعة والصغار، عالمًا محكومًا عليه بالدونية، مسجونًا في قفص الظلم وسوء توزيع الحقوق بين الناس١٣ هذا العالم الذي يلجه عبد الله إبراهيم ويقصد إلى كشف ما يختفي وراءه من وضع بشري مرهون بشروط غير عادلة للعيش، يلجه وفي ذهنه تتحرك فكرة أساسية تنبئ عن بعض من الإدراك لتناقضات الواقع:
  • (١)

    الظروف التي تجعل من هذا خادمًا ومن الآخر سيدًا، واعتمادًا على قانون الشبع والجوع.

  • (٢)

    هل يمكن للمحتاج أن يكون حرًّا؟

من هاتين الفكرتين ينطلق ليسرد ويقدم رفضه ويكشف لنا عن الصفات المميزة لخادمته، وهو يصرح في البدء إن ما يدفعه للتحدث عنها هو شعور الشفقة لا غير. والشفقة في حد ذاتها لا تقدر على الارتفاع بالوعي الفكري للقاص حتى يسبر الأعماق الدفينة لشخصيته ويستكنه ما هو دفين في دواخل المجتمع من أوصاب وأزمات. ونتعرف بالتدريج، على خادمته بعد مدخل نثري أقرب إلى أسلوب المقالة منه إلى القصة.

فما بال الخادمة إذَن؟ إنها بسيطة جدًّا، خلو من كل ذكاء أو علم: «خادمتي كالسواد الأعظم من فتيان المغرب وفتياته لم يسبق لها أن دخلت مدرسة … مسحة من الكآبة العميقة تطبع ملامحها بطابع قوي، ونظراتها الذابلة المستسلمة تتحدث عن شباب عام في أمواج الآلام والشقاء والظاهرة البارزة فيها هي استسلامها للحوادث وعجزها عن رسم صورة لها في فكرها، تتساوى ألوان الحياة في نفسها»١٤ ويضيف: «أجنحة خيال خادمتي متكسرة، وتصورها لا يكاد يثبت على شيء. وعاطفتها باردة متكاسلة لا تندفع ولا تعاند»١٥ وهي إلى الأوصاف السابقة تصدر عنها تصرفات بلهاء ولذلك يقول الراوي: «أنها كثيرًا ما تأتي من الأمور ما يضحكني.»١٦

هذه الأوصاف هي التي تحدد العلامات الرئيسية والمميزة للخادمة، وهي علامات مادية ونفسية، ونحمد لعبد الله إبراهيم هذا التعيين للشخصية، إذ قليلًا ما اهتم به قصاصو المرحلة الأولى، وإن كان هذا التعيين سطحيًّا، لم يغص في الوجدان ولم يسر بالإحساس والفكر — مثلًا — في خط قصصي ذي نسق حركي فضلًا عن أن التعريف المعطى لشخصية الخادمة ورد بصورة تقريرية وبطريقة السرد الجافة، دون إشعاع أو إيحاء وبلا تصوير أو تمثيل يفيان بالغاية القصصية المطلوبة في رسم الشخصية.

إن الشخصية القصصية ليست فكرة تحلل إلى عناصرها الأولية أو بناءً أنيقًا تفرد جوانبه ومعالمه، بلاطه وطلاؤه، ولكنها صورة حية، حياة تغلي بالحركة، يقدح الكاتب زنادها خلال سير الحدث وبناء القصة، لتتلمس وجودها وهي بصدد الفعل وتوحي لنا بوضعها وطرائف فهمها ودخيلة نفسيتها، الشخصية القصصية هي الشخصية أثناء الفعل، بينما نلاحظ أن تقديم عبد الله إبراهيم، بعيد عن هذا الفهم، فالأوصاف تتابع آليًّا، ونحن لا نحس بهذه الشخصية أو نشتم نفحة منها، فالراوي هو الذي يعكس صورتها ويقرر وجودها أو ينفيه تبعًا لفهمه لوضعها ومشكلتها. أما عدا ذلك فهي ميتة في أذهاننا ومخيلتنا. ولا تثير فينا ولو شعور الشفقة الذي حدا بالكاتب إلى التحدث عن خادمته: «لا أستطيع أن أتحدث عن خادمتي من غير أن يتملَّكني الشعور بالشفقة عليها.»١٧

لكن كيف نرغب في فعل للشخصية بينما الحدث لا يكاد يتجسم في ثبوت أو ظهور حقيقي. لقد كان عبد الله إبراهيم موفقًا إلى حدٍّ في كتابة الصورة القصصية التاريخية؛ إذ كانت بيده أخبار تاريخية اهتدى بها إلى تطوير أفكاره أو انطباعاته، لكنه تعب هنا في الوصول إلى حدث يدير حوله فكرة القصة. وهكذا تقف الصورة القصصية على مشارف القطاع الاجتماعي، ذاك، تتلمسه أو تدغدغه دون أن تنبش في تربته وتقيم فضاءه، أو أنها بتعبير آخَر تنهج طريق الواقعية التسجيلية الحرفية التي تنظر غالبًا من عل.

وعلى الرغم من الهفوات العديدة التي تتعرض لها الشخصية القصصية، وسوء الفهم والإدراك لوظيفتها وكيفية وجودها داخل نص قصصي. فإنها استمرت في الصورة القصصية تشكل عموده الفقري ونتوءه البارز؛ إذ بواسطتها ومن خلالها يتم عرض جزء من الواقع والكشف عن التباس أو معضلة من معضلاته العامة أو الخاصة مجسمة في لحظة تأزم معينة أو في حالة من التناقض مع الآخرين أو الواقع عمومًا. هذا التناقض والاصطدام تقدمه لنا قصة «مجذوب زلاع»١٨ للأستاذ أحمد بناني. وتطلعنا هذه القصة على مشهد من مشاهد التحول الحضاري والاجتماعي، وتحملنا إلى عالم رسخت جذوره وتمكنت منه أنماط التفكير والسلوك والميول فبات يستصعب كل جديد ويرفض الخنوع لكل طارئ يزحف على وجوده القديم. نعم إن المجتمع في شموله ما يلبث أن ينصاع ذليلًا، يتأثر بضغط التيار الحضاري الجديد الذي يفرض نفسه على شموخ الماضي الهرم بيد أن العقلية المزمنة في القدم يصيبها التحجر فتأبى السير في الركب الجديد وتحمل لواء المعارضة والتمرد مؤثرة الخلود إلى تفكيرها القديم. صادة عن الحاضر الزاحف ولو أنها تعاني الاحتضار. إن «مجذوب زلاع» أو «العم رضوان» يعجب من «سر هذه الآلة الجنية التي جعلت لبي حائرًا (يقصد المذياع) وفكري ذاهلًا إذ يزعمون أنها تأتي بالأصوات من أنحاء العالم أدناها وأقصاها.»١٩
فالمذياع يشعره أن العهد قد تبدل وأن الركب قد فاته. «مات الأشياخ، ومات الأهل والإخوان والرفقاء، وبقيت غريبًا في هذا العالم الجديد»٢٠ وتبسط هذه الغربة ظلها على امتداد القصة، تظهر لنا حالات هذا الشيخ الذي قسا عليه الزمن فجعله يعيش تمزيق وعنت الدهر مع تيار الحضارة الوافد والذي لا يستطيع له قبولًا ولا مجابهة، ومع كل شيء فهو يقاوم: «قام في نفسه خاطر، وهو إن أجمع هذه الأصوات الهائمة في الفضاء قبل دخولها المدينة، فأريح الناس منها … فكنت أخرج إلى جبل زلاع المشرف على المدينة اصطادها، وأملأ بها القوارير.»٢١ لكن ما سر هذا الرفض وهذه المقاومة، إن العم رضوان يجيبنا: «كنا في زماننا لا يمر علينا يوم إلا وتمتعنا بلذة السكون. كنا إذا خلونا خرجنا من حالة الغفلة، واشتغلنا بمحاسبة النفس وتكرار الأذكار ولذة المناجاة، غارقين في بحر الصمت، لأن الصمت هو الذي ينتج الفكر»٢٢ أما هذا العهد الجديد «فما اكتفى الناس بكلامهم وهو كثير طويل عريض، حتى أقبلوا على هذه الآلة التي لا نهاية لكلامها، ولا حد للغطها … فأرخِ سمعك ليلًا، فإنك لا تسمع، إلا هذه الآلة الجنية التي تسكت جميع الأصوات في ظلام الليل، وتبقى هي صائحة لا يلحقها عي ولا كلل.»٢٣ لكن قوة الجديد أعتى من القديم ولا قِبَل لهذه بالصمود أمامها، ولذلك فكل مقاومة العم رضوان تذهب سدى، فالأموات أنفسهم الذين يسكن بينهم في المقبرة يتذمرون منه ويصرخون منه بعد أن تحطمت القناني وخرجت منها الأصوات التي زعم أنه جمعها إنها تصرخ فيه: «أين رضوان؟ أين هذا البشر المغرور؟ أين هذا الذي ما ترك من الجهل شيئًا؟»٢٤ ولا تلبث أنفاس هذه المقاومة أن تخمد؛ إذ يحس العم رضوان أنه في معركة خاسرة مع الزمن، وهو، لذلك، ينهار وفي انهياره يقول مخاطبًا صاحبًا له: «لقد ذهبت القافلة وبقيت غريبًا تعبث بي الأيام، فادعُ الله لي أن يقيني أرذل العمر.»٢٥
إن قصة «مجذوب زلاع» تقدم لنا نموذجًا جيدًا لهذا التحول الذي مسَّ المجتمع، ولريح الحضارة التي هبَّت على مغربنا مع الاستعمار ومستحدثاته وما أصاب الناس من جرائها، وتتقدَّم شخصية العم رضوان هنا لتحتوي رمز الواقع والناس، وفي مجموعهم، وموقف جيل وعقلية من واقع يتحدى، إنه، إذَن، اصطدام بين ذهنيتين وحضارتين، إنه صراع بين الموت والحياة، تجلى من خلال العم رضوان وحينًا آخَر قدم بشكل سرد مملى من طرف الراوي، وهو في الحالين معًا، استطاع أن يفي لقالب الصورة القصصية، ويعرض علينا الشخصية القصصية ويصورها تصويرًا يوحي بدخيلة نفسها وبما يقلقها، يقول الراوي: «في إحدى الليالي بقيت منهمكًا في عملي إلى منتصف الليل، حتى أغلقت الدكاكين، وخلا الشارع، فلا غاد ولا رائح، وبينما أنا كذلك، إذا بباب المقبرة فتح، وخرج عمي رضوان، وكأنما هو ميت بعث من قبره، يمشي الهوينا، ورأسه منكسر، وفرائصه ترتعش، ووجهه أشعث …»٢٦ مثل هذا التصوير جيد وجديد في الصورة القصصية عند أحمد بناني وهو يغفر له ما ينصرف له، أحيانًا، من تقرير ووعظ كما يجعل من الصورة القصصية، إلى حد، تسير في طريق الإبداع القصصي الفني أو تحاذيه. وهذا الحكم لا يتأتى من قصة واحدة عند أحمد بناني، فقصة «حتى الطيور في حيرة»٢٧ من المجموعة السابقة تكشف لنا بدورها عن لون بديع من التصوير القصصي وعن وجه آخَر من الصراع الاجتماعي وعن صورة الواقع وهو يتحول، مكثفًا ملونًا في إطار الصورة القصصية ذات الاتجاه الاجتماعي.

(١) قصص من المغرب والصورة القصصية الاجتماعية

لا تتوقف الصورة القصصية الاجتماعية عند الحدود التي سبقت، والشكل الذي أبرزنا، بل إنها، وهذا ما يوحي بالتطور والنماء، تتخذ عند كل مبدع وقاص لبوسًا، وتستمد إهابًا، وإنْ لم يكُن جديدًا فهو متفوق على سابقيه، طامح لدفع القديم واقتراح الجديد، في الفهم وفي التعبير وفي التقديم الفني، وذلك في الحدود التي تهيئها له ثقافته وممارسته الاجتماعية وإدراكه لأسرار صنعته.

ولعل أحمد عبد السلام البقالي كان أكثر هؤلاء الكتاب فهمًا وإدراكًا لمجال الكتابة القصصية، وأشد التصاقًا بمناخ وجو التعبير القصصي، فقد جاء متأخرًا عن السابقين الرواد، استفاد حتمًا من كتاباتهم، ودرج على درب القصة زمنًا قبل أن يطلع علينا بمجموعة قصصية متكاملة ومتضامنة في معانيها وبنائها. أتيحت له من ظروف التعليم والتكوين الثقافي ما لم يتح لغيره، ساعدته على ذلك لغة أجنبية (الإنجليزية) يقرأ بها ويتقنها، وهيام بالوسط الاجتماعي هيامًا استمسك بنفسه وأخذ عليه كل مجامع تفكيره. ومن غير شك فلهذا الهيام بالبيئة ما يجعل معالمها وأجواءها وناسها وحياتهم وعاداتهم تلتصق بالذاكرة وتملأ شغاف القلب، مما يعمر المخيلة ويولد فيها الصور تلو الصور ولذلك فمجموعة «قصص من المغرب»٢٨ لأحمد عبد السلام البقالي كانت، إلى حد بعيد، مولودًا متكاملًا من جهة استيفائها لشروط وصف البيئة التي شغف بها القاص، ورصد أجوائها وتقلبات أناسها، على أن أشكال هذا الاستيفاء والرصد والمعاينة والتعبير عن كل ذلك مما يدخل في شروط الفنية القصصية يقتضي اهتمامًا خاصًّا والتفاتًا دقيقًا، حتى يتبين لنا إلى أي حد تطورت الصورة القصصية ونعي عناصر التجديد والتطور فيها مما سبق.

تضم «قصص من المغرب» ثلاث قصص طويلة. وهذا العنوان لا يرد عفو الخاطر، بل إنه يساهم منذ البداية في تعرية القشرة الخارجية للقصص المكتوبة وفي تبيان علاماتها وبنيتها، والحق أنها قصص مغربية بالدرجة التي تسفر اللثام عن مظاهر ووجوه من الحياة المغربية «المغلقة»، وفي المستوى الذي يبدو فيه العمل الكتابي مرآة عاكسة لجغرافية الحياة التقليدية، ولا ريب أنه سواء بالنسبة للنتاج الأدبي أو الحياة نفسها هناك مقاييس وقوانين تحتم تبادل التفاعل والبلورة. غير أن ذلك هو من صميم التجربة نفسها مما يدعو بدءًا إلى الاستفسار وإلى عرض هذه القصص في أبرز أحداثها وأكثر مقاطعها دلالة.

(١-١) رواد المجهول٢٩

قصة مدينة صغيرة بالتباساتها وأنماط حياتها التي تتخذ شكل قوس ووتر مشدود والسهم بينهما لمَّا ينطلق، الآباء والتقنين والسلطة الاجتماعية والأطفال هم موضع الحصار والترويض. فهل هي قصة صراع بين جيلين يرسم ويعمق خط تطور راسخ؟ يعسر الجواب إذا عرفنا التفاصيل واندفعنا الكاتب نجوب الأزقة والساحات الصغيرة، حيث يتجمع الأطفال فوق أسطح المنازل لممارسة شقاوتهم وخططهم العدوانية ضد الكبار، رغبة في التحدي وإثبات الذات في وسط مدموغ بالقمع، وهذا يثير احتجاج السكان: «لقد أشركونا في حرب لا نعرف لها معنًى ولا سببًا، رعب وفزع وحجارة تتساقط على البيوت من كل جانب. لا تخرج امرأة، ولا يفتح دكان ولا يمشي أحد في طريقه آمنًا»٣٠ وإذا استهوتنا الجولة نصحب الكاتب إلى «المسيد» (الكتاب القرآني) أو الزنزانة بالنسبة للمتعلمين، فننزع أحذيتنا وندخل الكتاب فنستقبل صورة الفقيه في جلال وتقديس وحشيته في أقصى المكان، وفي جو فائض ندخل وفي وعينا فكرة شاملة عن معنى هذا الفقيه ووضعه ونظرته إلى العالم من حوله: «كان شريف النسب من آل غيلان، أكبر بيت في أصيلا، انتهت إليه رئاسة الأسرة ونقابة الشرفاء، فكل يمثل المحافظ المتطرف أدق تمثيل يأبى الاختلاط، بالأجانب، ويأباه على كل مَن يحبهم وهو لم يتخذ لنفسه رسمًا فوتوغرافيًّا، ولم يخرج قطُّ إلى الأحياء الأوروبية خارج أسوار المدينة لم يلبس ثيابًا لم تكُن معروفة قبل الاحتلال وهو يستنكر على تلاميذه لعب الكرة ودخول السينما.»٣١
هذه هي الخطوط التي ترسم قوام «السي الغزواني» الفقيه، وتعطيه مع أوصاف وتصرفات أخرى صورة كاريكاتورية تضعه في أنفسنا موضع السخرية والرثاء في الآن عينه. إن مكانة الفقيه وسلطته لا تتأتى إلا في نظام غير عادل يحشر فيه «الطلبة» مقموعين تحت قبضة التقاليد وملسوعين بسياط الرهبة، فيمثلون عندئذٍ طرفًا جانيًا ومجنيًّا عليه يلزم ردعه وزجره والقضاء على كل بادرة تطاول منه على صوت السلطة الاجتماعية الأضخم وعندما يحتك الجيلان — ترى هل يحق لنا أن نقول هذا — يقدح الزناد ولا بد للنار أن تأكل حينئذٍ الأخضر واليابس. إن رهبة المجتمع و«عدالته» تتسلط على «حسن» وهو يتلوى على ضربات القضيب السفرجلي. ويبدو هذا هينًا؛ إذ الكارثة أشد قسوة من ذلك: «وفي حركات تموجية كان يحدثها ليخلص قدميه من بين ذراعي حامله. تعرى رأسه وكان يكسوه شعر فاحم لماع، صُفِّف بعناية، وشذبه مقص الحلاقة بفن وجمال، ودهنه بالبريانتين والكولونيا، ووقعت عين الفقيه على رأس «حسن» العاري فجحظت عيناه وفقر فاه (…) وتراكضت في ذهنه الخيالات الحمراء دون أن يستطيع لها تفسيرًا أو فهمًا … ولم يزد على أن أشار إلى الطالب أن يفرج عنه، وهو يستعيذ بالله ويستغفره ثم أشار إلى حسن أن يخرج من الجامع.»٣٢ لقد فلت الزمام من يد الفقيه وهذا النبذ قد تم وتاريخ الفقيه «الغزواني» قد أصدر حكمه الذي لا يقبلا أي استئناف أو نقض: «لن أقبل يهودًا ولا نصارى فقد بنيت المدرسة للمسلمين، المسلمين فقط، ولن يرجع إليها أحد في رأسه شعر أبدًا.»٣٣ إن الإدانة حددت الأطراف المتصارعة، لكن بلا صراع حقيقي. ونتيجة لهذا الاصطدام تسير القصة في مسالكها المرسومة سلفًا في ذهن الكاتب، يعلن «حسن» البطل، العصيان مع زمرة من زملائه في محاولة لكسر سيف الإباء المصلت على أعناقهم ويطول أمد العصيان مع تقهقر من الزملاء وبقاء «حسن» وزميل آخر الشاهدين الوحيدين على صلافة مجتمع وجبروته، والصمود يستدعي صراعًا شديدًا ما يلبث أن يولد عواقب وخيمة تريد أن تودي بمصير الفرد «حسن» وإحقاره تحت سياط الخنوع. ولا تطرح هنا معاناة الإنسان كقيمة وجودية غنية بالدلالات والإشارات وإنما تبقى منحصرة في مبتدأ التكوين للفرد العادي، ولكن في مستوى منحدر يذكرنا بعهود الاستعباد وامتهان الإنسان إنه الماضي، كصورة الفقيه الفلكلورية، يستعاد بشكل كاريكاتوري لا يتيح الفرصة للإحساس بمأساة الفرد ويجعلنا نقف موقف الشفقة والاستنكار فحسب، وهما حالتان عابرتان: «كان الحداد يثبت حلقاتها (أي السلسلة) في رجليه ويديه وعنقه٣٤ فقد دخل به أبوه دكان هذا الحداد وكلمه في الأمر، وكانت عند الحداد سلاسل من تلك التي تلقى في أعناق المجانين (…) سلاسل ثقيلة من النوع الذي تقيد به الفيلة، وضع لها الحدَّاد خمسة أطواق، وضع اثنين في يدي «حسن» وآخرين في رجليه والخامسة في عنقه.»٣٥ و«سمعت أمه وقع حبل غليظ على ظهر ابنها وأنينًا مزعجًا، ثم صراخًا حادًّا يمتزج بقرقعة السلاسل، وصليل الحديد» إنه مشهد من العذاب الوحشي من غير شك، ضريبة التحدي، ثم يستمر «حسن» في صموده ومحاولاته للفرار بجلده والهروب من القيود التي في رجليه وبعيدًا عن التحكم واغتيال شخصية الفرد، إلى طنجة، وهي يومئذٍ تمثل التحرُّر والتفتح على أوروبا. وتنتهي القصة بنجاح «حسن» في الفرار والعمل بطنجة والهجرة بعدها إلى «أمريكا» حيث بريق الثروة والنجاح يغري ويجذب.
والأقصوصة الثانية «قطط وفئران»٣٦ لا تبتعد كثيرًا عن سابقتها، اللهم في بعض الوقائع والخطوط الخارجية، التي وإن تغيرت، فإنها تبقي وحدة الجو ووحدة الإطار الاجتماعي المحلي الذي يسعى الكاتب إلى رسمه وحشرنا بداخله، فقصة «قطط وفئران» تصوير لشقاوة الأطفال وعنادهم وما يحدثونه في كل حي من جلبة واضطراب وإزعاج وعدم توقير للكبار رجالًا ونساءً، مع ما يصاحب هذا من معارك ومرح صبياني مثير لحنق السكان. يتقدَّم إلينا هذا كله في مشاهد حركية تستطيع القول بأنها شديدة الشبه بالصور المتحركة وفيها يتعرَّض الفقيه لمغامرات الأطفال ومكرهم: «جمعنا كل ما وقعت عليه أيدينا مما يرمي ولا يرمى … وقمنا في وجهه فجأة … فرجمناه وأمطرناه بوابل شديد (…) ثم نعود فنرميه بقصديرة كبيرة أو بحصير قديم (…) وبأخينا الصغير فنزل على قفاه ونزل فيه عضًّا وقرصًا.» إننا لسنا أمام قصة تُحكى وتُبنى بناءً فنيًّا أو تقصد إلى إثارة فكرة أو مغزى بذاته، ولكننا أمام مشاهد تتابع أحيانًا في بطء وتارة في تسارع، وهي مشاهد لطيفة دعابية، فيها استعادة لذكريات الطفولة وما تحفل به من مرح وبهلوانية.
القصة الثالثة «السلسلة الذهبية»،٣٧ وهي تهدف إلى نفس الغاية من تقديم لمجتمع ووسط محلي تكتنفه خصائص ذاتية تقليدية محلية في أغلبها، وتقصد لرسم لوحة واقعية لحياة الإنسان مفردة ومجموعة، مجزَّأة حسب معايشاته لظروف حياته اليومية المقيتة والقاسية، وما يتخلَّلها من أنغام رتيبة ومن ألوان البؤس والحرمان، إنها حياة الفرد المحروم داخل مجتمع يعيش فيه جل الناس شبه يُتم جماعي، وهذه الحياة أيضًا تتخذ لنفسها الدلالة الكبرى من تعدُّد أنماط الحياة المتشابهة والخصوصية فيفسر لنا ذلك مغزى الدلالة ومرماها، وتتبين في النهاية الروح التي يبثها الكاتب في مجموعة «قصص من المغرب»، روح الكاتب المغربية البئيسة في حدود تكوينها، الفنية في حجم رؤيتها، وهي إلى ذلك لا تهدينا إلى فهم عميق أو واعٍ، بل تظل في محيط شبه أسطوري وفي تعامل محصور الفهم والفنية لوجوه الواقع وأنماطه المتعددة.

«السلسلة الذهبية» تصور وضعًا بئيسًا غير تام التكوين، من حيث إنه لا يستطيع اكتساب خاصية الشمول ومن ثَم الإيحاء، فالكاتب، بتخطيط ذهني مبتسر أو بنظرة غير نفاذة إلى الواقع، يلجأ إلى اجتزاء جانب منه ليقدم عنه فهمًا واسعًا ومتعددًا، وهذا لا يتأتى بعاهة، فالأب «الحوات» الوجه الأول الذي نتعرف عليه في القصة، الطاعن في السن والذي خذلته قواه، ثم ابنه الصغير «أعليلو» وجارهما «بابا السي المهدي» معالم منهارة في إطار حياتي ميسمه البؤس. وهذه لا ترتفع مجموعة، التفاوت الحاصل في أدوارها، إلى مستوى النموذج العادي ولا تقدر على لفت النظر إلى مستوى محدود على قاعدة مجتمع بذاته، مع أن البقالي ينشد كتابة أقصوصة، مما يجيز له التصرف في المعطيات الخاصة للعالم الخارجي واحدة إثر أخرى، غير معزولة ولا تامة التفاعل، ولكي يتبيَّن لنا أن فهمه لطبيعة العمل الفني قاصر وأنه بذلك لا يجوز الاحتكام إلى فنية الأقصوصة وشروطها كضوابط حتمت الملاحظات السابقة. غير أن شعور اليتم والضياع من وجهة المضمون، الذي يفرضه علينا «أعليلو» يبقى له أثره الفاعل في نفوسنا ولكن دون أن يتوقف البقالي في تصعيد الانفعال على سلم الشعور الإنساني؛ إذ سرعان ما يتطور الحدث نحو وجهة غير متوقعة ويضيع في متاهة الخرافة والتسطيح التام للفكر والواقع.

أما حوادث القصة فتنساق بالشكل بالتالي: فالأب الحوات يموت تاركًا وراءه ابنه الوحيد «أعليلو» للفقر والعدم تحت رحمة جاره «بابا المهدي» فيرعاه هذا الأخير خير رعاية ويحرص على تعليمه، ثم يبعث به بعد إتمام حفظه للقرآن إلى فاس؛ حيث يستمر في أخذ العلم عن كبار علماء القرويين. ويعود الابن بعد ردح من الزمن حاملًا في صدره العلم الغزير ويتبوَّأ مكانة محترمة في مسقط رأسه «أصيلا» وإلى هذا الحد يبدو الأمر متسلسلًا ومعهودًا. غير أن السرد لدى الكاتب القاص وما يعتقد أنه حجر الزاوية في قصة «أعليلو» هو ما أسرَّ به الأب لابنه قبل وفاته، إنه سر «الكنز» الذي ستكشف مغاليقه وتنفك رموزه على يد «أعليلو» إن هو تمكن من الوصول إلى مكانة علمية مرموقة وسيكتشف «أعليلو» في نهاية المطاف وبعد إصراره على التوجه إلى مخبأ الكنز إن الأمر حديث خرافة وسيكون «بابا المهدي» هو من يزيح غبار الخرافة ليوقظ العالم من غيبوبته ويكشف له أن الكنز الحقيقي يكمن في سعيه نحو العلم والمكانة التي أحرز عليها بين قومه وعروسه الفاتنة.

القصص الثلاث المشار إليها هي التي تكون مجموعة «قصص من المغرب» وقد تحدثنا عنها مؤكدين على إطارها العام وأهم أحداثها، وسنعمد الآن إلى استجلاء الخصائص الفنية وعناصر التكوين القصصي فيها:
  • (١)

    إن أول ما يلفت نظرنا في هذه القصص هو طولها الذي يزيد قليلًا عن الطول المعهود للقصة القصيرة، لدرجة إننا نتساءل إن كنا أمام مشروع رواية لم تكتمل، وحجم القصة يهمنا من جانبه الفني لا الكمي؛ إذ إن القصة القصيرة، على صغر حجمها، قادرة أحيانًا على استدعاء مسافة يرتع فيها الفكر والإحساس.

  • (٢)

    الحبكة القصصية داخل المجموعة مرتبكة وليست مشدودة إلى بعضها شدًّا وثيقًا بالقدر الذي يبعدها عن الخضوع إلى الصدفة والافتعال والتلفيق، مما سبق تبيينه بالنسبة لقصص المرحلة الأولى، والحق أن أحمد عبد السلام البقالي، قاص عارف بحدود صنعته وأدواتها، موفق في تقديم البداية الجيدة والخاتمة الجيدة، وفي الربط بينهما بحبل لا يلين من الأحداث، أجل الأحداث وليس الحدث القصصي الذي يشكل عصب القصة ومجراها الرئيسي. إن الحدث الرئيسي عنده يضيع ضمن حشد من اللقطات والمشاهد التي تمت بسبب واهن إلى الحكاية، وتفسيرنا لذلك هو استهواء معالم العالم الخارجي وزوايا المحيط الذي ينبع منه الوازع الحكائي، فتراه يندفع وراء كل ما يثير فيه ذكرى خاصة أو يعتقد أنه يساعد على كشف جوانب الصورة.

  • (٣)

    إن القصص تحفل بعدد كبير من الشخصيات الثانوية، التي غالبًا، ما تطغى أصواتها وظلالها على الشخصيات أو الشخصية الرئيسية في كل قصة، ومما يجعلها معيبة أن حذفها وما يتصل بها من أحداث لن يضير القصة في شيء، بل لعله يزيدها تماسكًا ويتيح لها قدرًا أوفَر لممارسة حضورها مباشرة من صميم إرادتها ووعيها، خارج تدخلات الكاتب أو تأثيره في التوليد والتقدير. غير أن الشخصية القصصية الحية والفاعلة لا نكاد نجد لها أثرًا، فهي حية حياة، لا تملك روحها وإرادتها في التحرر والحركة والتأثير، هذه الروح التي يهيمن عليها القاص أو الراوي ولم ينجح في زرعها في الدمى التي صنعها.

  • (٤)

    إن أحمد البقالي كاتب متمكِّن من أداة اللغة، مدرك لأسرارها، متمكن من أسلوبه فيها، وخلال المجموعة كلها نستمتع بتعابير صافية، مشرقة، وبأسلوب حي متفنِّن يشعر بطول باع في اغتراف الكاتب من ينابيع اللغة المصقولة، لكن هذه الميزة لا تشفع له اندفاعه لاصطياد أو مغازلة مفاتن اللغة ومكامن إشراقها، فكل جنس أدبي يبغي الحلة التي تناسبه ولا تفوت عن مقاسه، وأحسب أن البقالي لم يكُن متفهمًا لهذا الشرط في إنشاء الأقصوصة، فبقيت عنده، مرتعًا لإظهار براعته في الكتابة النثرية المرسلة.

  • (٥)

    وبدهي أن يتعرَّض الحوار لكثير من النواقص كنتيجة حتمية لما سبق ملاحظته عن اللغة والأسلوب، فالحوار أداة توصيل للفكر وللشعور، وسيلة لإنمائهما وإنماء التجربة نفسها وتمتين الصلة بين محاورها بدرجة تعادل بين الحوار والوصف والسرد وتفرد له مكانه المناسب، لغة الحوار لمَّاحة نفَّاذة ومركزة تتجنَّب الثرثرة والاسترسال بدون جدوى تساهم في البناء والتشكيل وليس في التهويم أو التعويم للفكرة أو الدلالة ولدى البقالي نجد أن مفهوم الحوار العادي واليومي قد اختلط بالحوار القصصي ذي المستلزمات الخاصة ولم يتفق له أن يعثر على الفهم السليم لوظيفته، الشيء الذي جعله ينحرف عن الأداء وإنماء التجربة إلى نبرة الصخب والخطابة والتقرير الفج.

فهل تقدم لنا الخصائص السالفة صورة أو مفهومًا واضحًا للأقصوصة عن «أحمد البقالي»؟ بوسعنا أن نقول نعم إذا أخذت القصة كحكاية في عموم تكوينها مع الأعضاء عن كل النواقص. وفي وسعنا أن نقول لا بالنظر لما عرفناه، من قبلُ، عن تقنية الأقصوصة، وبالنظر لتعدد الثغرات التي تبتعد بقصص البقالي عن المستوى الفني للأقصوصة المكتملة ولتقترب بها من «الصورة القصصية» وتندرج كعمل هام في المرحلة التي ستقود إلى نتاج أشد نضجًا وأكثر تمثلًا لمعايير القصة الفنية.

فالقاص يتحلَّل من الحبكة القصصية لا لعدم مراعاة أو إساءة فهم ولكن بدافع قصدي يبرز في رغبته لترجمة واقع عريض وتقديمه حرفيًّا ونصًّا، أنه يهتم، أساسًا، بحشد مجموعة من المشاهد والملامح الخارجية لمجتمعه، أو بالأحرى، لبيئته الصغيرة الضيقة «أصيلا» يقدمها ويصفها بإعجاب والْتذاذ لا يخفى، فهو ينظر إلى الواقع من زاوية متسعة تريد أن تشمل وتستوعب وتلتقط ما يقع تحتها، سواء دخل في نطاق الحدث القصصي أو نفر منه؛ إذ المهم — لدى الكاتب — هو حشد اللقطات والصور ووصفها وتزويقها بمقدار أهميتها، دون احتفال بمقياس الطول ولا بمقياس التركيز في الوصف والقص، كما يحرص أشد الحرص على تقديم جغرافية المكان والزمان، ورصد سلسلة من الحوادث التي تعطينا في نهاية الأمر وصفًا عريضًا وفهمًا محددًا لبيئة محلية تقبع في ركن من التاريخ وتتداول بينها عددًا من الطقوس والعادات وأنماطًا من العيش استغرقتها مدى من الحياة وأقامت أركانًا لها متفاوتة في الصحة، وحضنت بين هذه الأركان أو الجدران خلقًا يعيش ويتنفس ويقتات من حصيلة أخلاق وقيم مزمنة.

إن أحمد البقالي يقدم لنا، إذَن، «صورًا قصصية» في مجموعته تلك، وهو لذلك لا يعبأ كثيرًا بأحكام المعمار القصصي وشد أطرافه فتنفسح الأقصوصة لأكثر من حدث ولشخصيات عديدة، ويمتد عدد الصفحات إلى حجم وافر ما دام مقياس الحجم قد بات باطلًا.

(١-٢) خصائص كيانية في المجموعة

إن مجموعة «قصص من المغرب» ترشح نفسها لمستوى آخر من التحليل والمعالجة، يتصل بمدى اقتراب قصص «البقالي» من السيرة الذاتية.

إن اقتصار الكاتب في قصصه على التحدث عن عالم الطفولة بكل ما يزخر به من مغامرات وأفراح ونزق، وربطه بين هذا العالم كقاعدة أساسية ووجه بارز وبين عالم الكبار المتمثل في قوة الآباء وهيمنتهم الروحية والمادية وسلطة الفقيه الزجرية القامعة كواجهة ثانية يتم بها نشوب الاحتكاك والصراع ترشح قصص «البقالي» لتدرج في قصص «السيرة الذاتية» … فالبقالي يسرد علينا قصصًا تبدو لنا كذكريات حميمة عند الكاتب، يحكيها بوجدان الطفولة وروحها الراعشة والمرحة، وحوادث القصص كلها تجري بمدينة «أصيلا» وهي مسقط رأس الكاتب ومرابع طفولته، وحديثه عنها حديث العارف بأصولها المتمكن من أدق جزئياتها، فجاءت بذلك قصصًا تحكي سيرة الذات وتاريخ المكان.

إن هذا الفهم — على نسبيته — يعطي لقصص البقالي قيمة متميزة ويحقق ما شاب صوره من نواقص، بل يهبها مكانة خاصة في حدود نتاج المعاصرين له أو السابقين.

الخاصية الثانية، والتي تسترعي النظر في المجموعة بأكملها، وهي التي يمكن تسميتها ﺑ «الظاهرة الفولكلورية» وإذا بحثنا عن تحديد علمي واضح للمصطلح فسنجد أنه: «يقتصر على دراسة المأثورات غير المدونة للشعب كما تبدو في القصص الشعبي والعادات والمعتقدات والسحر والطقوس»٣٨ ونعرف أن من أهم مقاصده: «أن ينشئ من جديد التاريخ الفكري للإنسان لا كما تمثله كتابات الشعراء والمفكرين المرموقين، بل كما تصوره أصوات العامة الأقل جهارة.»٣٩ ولا نزعم أن قصص البقالي تمثلت هذا الفهم أو صدرت عنه. غير أنها حامت حوله ونشدت الاقتراب منه وإن بقيت إلى الخرافة والتحريف أحيانًا أقرب منها إلى الفولكلور في معناه وتعبيره الحقيقي لأنه يمثل ثراءً روحيًّا ووجدانيًّا ومرحلة نفسية وثقافية في تاريخ العشيرة، ولكنه يتجلى لنا مظهر عجز كاسح وسندًا واهيًا يوحي بالعجز والانهيار وسيادة عقلية ممعنة في التخلف والكساح الثقافي، تعود بالقارئ إلى المجتمعات الأولى وتشعر بالغياب التام للمدركات العقلية، فالقصص المشار إليها احتشدت بشتى الصور والوقائع الخرافية، التي وإن أبانت عن محتوم الواقع وبعض تكوينياته، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى الدلالات والإشارات الميثولوجية، فالغيلان تطل من أكثر من مكان وتعشش في أدمغة الناس زارعة الرعب في نفوس الأطفال كقوى خفية تشد إليها خيوط هذا العالم وتوجهه بمحض إرادتها، وحكايات الجن بأسرارها الغريبة وقواها الأسطورية تحشر أنفها في هذه القصص وتصبغ ظلالها على كثير من أجوائها، بل أنها في قصة «السلسلة الذهبية» تعد قطب الرحى فيها، هي البداية والعقدة والخاتمة، والظاهرة الفولكلورية هاته لا تستشف من خلال ما أورده القاص عن الجان والشياطين والأسرار الغابرة الخفية، بل تظهر أيضًا، وبصورة أجلى، في طريقة تعامل الكاتب مع الواقع وفي طريقة اختياره لشخصياته والأدوار التي تمارسها في حقل الحياة.
أما بخصوص المضمون في جوهره، فيطرح أمامنا ما يلي:
  • (١)

    صراع الأجيال: يجوز لنا بعد تأمل قليل أن نزعم أن قصص البقالي استطاعت أن تبلور الحياة الاجتماعية وتعكسها في انشطار متقابل حينًا ومتصادم حينًا آخَر، على أساس إبراز صورة الصراع بين جيلين. لكن هذا الصراع يظل محصورًا في صعيد أحادي دون أن يبلغ مستوى الجدل الحي.

  • (٢)
    الواقع والواقعية: لأول وهلة يتبادر إلى ذهن القارئ أنه أمام نموذج للكتابة الواقعية، خاصة إذا اعتبر بما يسرده القاص من وقائع ومغامرات أو مشاهدات مسرحها الشوارع والأزقة والبيوتات والأسواق، بيد أن هذا النموذج سرعان ما يفقد قيمته حين يغرقنا في الخرافات والتهاويل والمعتقدات الغريبة، الأمر الذي يثير لدينا هذه الملاحظات:
    • (أ)

      إن هذه المجموعة تمثل شبه انكفاء مرضي على الذات الاجتماعية يتمثل في موقف هروبي يغرق في الماضي الغارق في الخرافة والأباطيل، ويدغدغ الحاضر ويسالمه.

    • (ب)

      وحتى لو اتجهت النية، والنية وحدها لا تكفي في الفن الذي هو في النهاية معاناة ومسئولية، إلى إسقاط سلطة الماضي وتفنيد أباطيله، فإن الكاتب يهوي في فخه المنصوب دائمًا.

    • (جـ)

      إن هذا إنما يبرهن غياب الوعي الاجتماعي السليم في كيفية تسخير العمل الأدبي لممارسة مسئولية النضال في ظرف كان يتطلب ذلك.

    • (د)

      لعله، بعد هذا، من التجني قياس عرض الواقع والوعي بقياسات، ربما لم تكن مناسبة لطموحه في الاتساع.

هوامش

(١) انظر الباب الأول، الفصل الأول.
(٢) شكري عياد، فن القصة القصيرة في مصر، ص١٥.
(٣) يحيى حقي، فجر القصة المصرية.
(٤) ج «الوداد»، ع١١٤، ٢٦ سبتمبر، س٥، ١٩٤١م.
(٥) المقصود به «الكيف» وهو نبتة مخدرة تزرع في شمال المغرب، في منطقة كتامة بجبال الريف.
(٦) المصدر الأسبق.
(٧) المصدر السابق.
(٨) «الوداد»، ع۹۱-۹۲ فاتح أبريل، ١٩٤١م.
(٩) المصدر السابق.
(١٠) المصدر السابق.
(١١) المصدر السابق.
(١٢) م، رسالة المغرب، ع۱۰۸، ۳۰ أبريل، ١٩٥١م.
(١٣) انظر: المدني الحمراوي، غاسلة الصوف، ج الوداد، ع١٥٢، ۱۸ دجنبر، ١٩٤٢م، س٦، والقصة تعالج أوضاع المحرومين والكادحين وهي أوضاع يهتم بها المدني الحمراوي وكتب حولها الكثير من المقالات في جريدة الوداد. انظر أيضًا: الأمل المحطم، الوداد، ع١٣٥، ٢٠ مارس، ١٩٤٢م، س٦.
(١٤) المصدر السابق.
(١٥) المصدر السابق.
(١٦) المصدر السابق.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) أحمد بناني، فاس في سبع قصص، مطبعة الرسالة، الرباط، ١٩٦٨م.
(١٩) المصدر السابق.
(٢٠) المصدر السابق.
(٢١) المصدر السابق.
(٢٢) المصدر السابق.
(٢٣) المصدر السابق.
(٢٤) المصدر السابق.
(٢٥) المصدر السابق.
(٢٦) المصدر السابق.
(٢٧) من مجموعة «فاس في سبع قصص.»
(٢٨) أحمد عبد السلام البقالي، رواد المجهول، (قصص من المغرب) المطبعة العالمية القاهرة، د.ت.
(٢٩) رواد المجهول، من ص٥ إلى ص۸۷.
(٣٠) رواد المجهول، ص٩.
(٣١) المصدر السابق، ص١٠.
(٣٢) المصدر السابق ص١٥.
(٣٣) المصدر السابق ص١٦.
(٣٤) المصدر السابق ص٣٢.
(٣٥) المصدر السابق ص٣٣.
(٣٦) المصدر السابق من ص٨٧ إلى ص١٠٧.
(٣٧) المصدر السابق، قصص من المغرب، من ص۱۰۸ إلى ص١٥٠.
(٣٨) ألكساندر ميرتي كراب، علم الفولكلور، ترجمة رشدي صالح، دار الكتاب العربي، القاهرة، ١٩٦٧م، ص١٧.
(٣٩) المصدر السابق، ص١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤