كلمة المترجم

أخيرًا تحقق أمل حياتي، وحُلم عمري، وأعظم هدف طالما تمنَّيتُ أن أصلَ إليه.

لم تكن ترجمة مسرحيات هذا الكتاب هي الأمل أو الهدف المنشود، ولم يكن التغلب على النص اليوناني الذي كنتُ أنقل عنه هي المشكلة التي تمنَّيتُ أن أتخلصَ منها وأقضيَ عليها، ولكن الحُلْم الذي راح يُراوِدني سنينًا وسنينًا هو متى أتمكَّن من طبع أعظم تراجيديات خلَّفها لنا يوريبيديس الخالد.

ثلاثَ مراتٍ ضاعت منِّي هذه المسرحيات وخرجَت من حَوزَتي وسافرَت إلى بلدَين عربيَّين إلى ليبيا أولًا، ثم إلى الكويت، وفي كل مرة كنتُ أستردُّها بمعجزة. كانت هذه المسرحيات «محجَّبة».

لقد سرقَها في مصر موظفٌ مسئول بإحدى الهيئات الحكومية ولم أستردَّها منه إلا على يد النيابة، ولم أستردَّها من ليبيا إلا بعد أن ماتت زوجة الوزير الذي أخذَها مني واستولى عليها في حادث سيارة بباريس، فأعادها إليَّ بعد أن صحا ضميره وتعذَّب.

ولن يصدِّقني القارئ العزيز لو قلتُ له إنني بعتُ سيارتي كي أحصُلَ على المال الذي قد يساعدني على طبع هذه المسرحيات على نفقتي الخاصة، إيمانًا مني بأن هذا هو الحل الأخير لإنقاذها تمامًا من الضياع، ولضمان خروجها إلى النور بالشكل الذي أعانَني عليه المولى عز وجل.

هناك مسرحيَّتان ليوريبيديس لم يضُمَّهما هذا المجلَّد الضخم هما مسرحيَّتا «هيكوبا» و«أوريستيس»؛ ذلك لأنه قد سبق لي طبعُهما ضمن مطبوعات دار الفكر العربي.

لعلَّني بهذا المجلد الكبير أكون قد أضفتُ إلى المكتبة العربية عملًا هامًّا يُطاوِل ترجمتي لرائعتَي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» ومسرحيات الكاتب الكوميدي «أريستوفانيس».

والمُتتبِّع للمكتبة الكلاسيكية في العالم العربي يؤلمه تخلُّفُها وعجزُها عن مسايرة ما تزخَر به المكتبات الكلاسيكية في العالم الغربي. ومن المؤلم أن المجتهدين في ميدان التراث الكلاسيكي أراهم يتقلَّصون وينكمشون، بل أستطيع أن أَجزمَ بأنهم الآن لا يتواجدون، وأغلب الظن أنهم منعدمون تمامًا؛ لذا تغمُرني سعادةٌ بالغة أن أُمِدَّ الدارسين والمثقَّفين بسِفرٍ كامل يضم أعمال أعظم كاتبٍ تراجيدي عرفَتْه البشرية قديمًا وحديثًا أيضًا.

أرجو من القارئ الكريم أن يتقبل مجهودي المتواضع هذا بروحٍ مفعمةٍ بالرضا والتسامح؛ فقد يظهر بالعمل أخطاءٌ مطبعيةٌ غيرُ مقصودة، وقد يجد في الترجمة بعضَ الغموض الذي حاولتُ جاهدًا أن أتحاشاه فلم أُفلِح، نظرًا لحرصي الشديد على أن يكون نقلي للنص نقلًا أمينًا دقيقًا إلى أبعد الحدود التي ترتضيها الأمانة العلمية.

بهذه الكلمات البسيطة أعتقد أنني أفضيتُ إلى القارئ الحبيب بجزء من بعض مشاعري التي ظلت حبيسة صدري، والتي كانت كلها تدور حول مصير هذه المسرحيات، التي كما سبق أن قلتُ وذكرتُ أنها بغيابها عني وعن بيتي وعيوني سبَّبَت لي متاعبَ نفسية تفوق الوصف، وقلاقل أرقَتْني كثيرًا وحرمَتْني طعم النوم اللذيذ.

والآن كلي أمل في أن أوفَّق في طبع ما عندي من مسرحيات أخرى، خاصة بميناندر وسنيكا وأيسخولوس، والتي يسعدني أن أُطَمئِن القارئ العزيز بأنني قد فرغتُ فعلًا من ترجمتها، وأنتظر الوقت المناسب لأقدِّمها له مطبوعة ليستفيد منها، ويطَّلعَ عليها، وينهلَ من نبعها النمير الغزير.

مع عظيم تقديري لدار المأمون ومطبعتها التي أخذَت على عاتقها أن تقوم بطبع هذا السِّفرِ الجليل، مستعينةً بكل ما عندها من إمكانيات، غيرَ عابئةٍ بكل ما قد يقابلها من صعوبات وعقبات.

أخيرًا، منَّ الله عليَّ بالناشر الذي رأى في هذه المسرحيات موسوعةً فكريةً وعلميةً لا يُمكِن إغفالها أو تجاهلها، فوافق من فَوره على أن يكون هو ناشرها وملتزم طبعها وموزِّعها؛ ألا وهو الناشر العصامي محمد مدبولي، الذي أصبح اسمُه الآن في دنيا النشر من ألمع الأسماء النظيفة الساعية نحو كل مفيدٍ جليلٍ في خدمة القارئ العربي في كل أنحاء الوطن العربي، ولا يسَعُني إلا أن أشكره داعيًا له بدوام التوفيق في الميدان الذي بدأ فيه من الصفر، ثم استطاع باجتهاده وأمانته أن يتبوَّأ أعلى مكانةٍ بين الناشرين لا في مصر وحدها ولكن في العالم العربي برمته.

والحمد لله الذي وفَّقني إلى خدمة العلم والوطن والمسرح والأدب، والله وليُّ التوفيق.

أمين سلامة
جاردن ستي في ٢٦ / ١٠ / ٨٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥