(١) يوريبيديس: حياته وأخلاقه، نبوغه
كان يوريبيديس أصغر من سوفوكليس ﺑ ١٥ سنة وظلَّ يتبارى معه أكثر من نصف قرن. ومات
قبله بعامٍ واحد؛ ولذا كانا من نفس الجيل تقريبًا، ولكن إذا حكمنا عليهما من واقع
مؤلَّفاتهما بدا البون بينهما شاسعًا؛ فقد كان سوفوكليس متمسكًا تمامًا بالتقاليد
حتى
في ابتكاراته، أما يوريبيديس فلم يتمسَّك بها إلا إذا لم يستطع غيرَها، ولو أن جميع
غرائزه كانت تميل نحو الوجهة الأخرى. كان مستقلًّا في الدين والفلسفة والسياسة والفن
لا
تؤثِّر عليه الميول الوراثية، وقد عدَّل التراجيديا، حتى في عناصرها الأساسية، ففقدَت
كل أثرٍ من الطابع القديم كانت محتفظةً به حتى عصره وصارت حديثة شيئًا فشيئًا.
وُلد في سالاميس عام ٤٨٠ق.م.، ويبدو أنه لم يكن من الطبقة الأرستقراطية مثل أيسخولوس،
ولا من الطبقة المتوسطة العليا مثل سوفوكليس. ولم تصلنا أية معلومات عن طبقة والدَيه؛
لأننا لا نقبل تقرير الكوميديا في هذه النقطة. وربما لم يكن رفيع المَحْتِد. ولم
يترك
أسلافه ميراثًا يمكن وصلُه بالماضي. وربما تلقَّى التعليم الذي كان يتعلمه الشبان
الأثينيون، غير أن كل شيءٍ يدُل على أنه أكمل تعليمَ نفسِه عندما بلَغ مبالغَ الرجال.
وربما يَدين بثقافته الذهنية العالية إلى قراءته وتأملاته الشخصية، وكذلك لمقابلاته
الكثيرة مع الرجال المبرِّزين. ويمثل على أنه كان يحيا حياة التأمل ليس غير، ويتجلى
هذا
في جميع مؤلَّفاته؛ ولذا يحتمل أنه لم يتلقَّ علومه الأخيرة على أيدي معلِّمين منتظمين.
ويُقال إن أساتذته هيراقليتوس Heraclitus، وأناكساجوراس
Anaxagoras، وبروديكوس
Prodicus؛ ولذا نرى أثرهم فيه. غير أنه لا يُوجَد
ما يدُل على أن هذا الأثر اتخذ صورةَ انتقالِ المذاهب شفويًّا، وقد جمع إحدى أوائل
مجموعات الكتب العظمى؛ لأنه لا يُوجَد لها أي سجل، ولا بد أن معظم آراء ذلك العصر
قد
وصلَت إليه عن طريق الكتب.
يُقال إنه تردَّد في اختيار مستقبله، ونقرأ في «الحياة» المجهولة للمؤلِّف أنه أراد
أولًا أن يكون لاعبًا رياضيًّا ثم مصورًا. ومع ذلك فليس هناك شيءٌ محقَّق عن هذا
الأمر،
ويبدو أنه ظهر في المسرح في وقتٍ مبكر، وصُرِّح له في سنة ٤٥٥ق.م. وهو في الخامسة
والعشرين من عمره بأن يدخل المباراة التراجيدية بمجموعةٍ ثلاثيةٍ تشمل «بنات بيلياس
Pelias»، ولكنه لم يَنلْ إلا الجائزة الثالثة. ومنذ
سنة ٤٥٥ق.م. حتى مماته في سنة ٤٠٦ق.م. لم يفشل في مبارياته. وتتحدَّد تواريخ فوزه
الدرامي بالمسرحيات ألكيستيس Alcestis (٤٣٨ق.م.) وميديا
Medea (٤٣١ق.م.)، تتويج هيبولوتوس
Hippolytus (٤٢٨ق.م.)، الطرواديات
Troades (٤١٥ق.م.)، هيلينا
Helena (٤١٢ق.م.)، أوريستيس
Orestes (٤٠٨ق.م.)، إيفيجينيا في أوليس
Iphigeneia at Aulis والباكخانيات
Bacchae اللتَين مُثِّلتا في سنة ٤٠٥ق.م.، وفاز
بأربعٍ أخر في اﻟ ٣٤ سنة التالية، وهذا يُثبِت أولًا أن مؤلَّفاته أدهشَت الجمهور
الأثيني، ونالت الاستحسان ببطء. لم يُصبِح ذائعَ الصيتِ في كل مكان، وأستاذَ الرأي
العام إلا بعد وفاته.
ولما كان يوريبيديس مُولَعًا بالدراسة ولا يهتم بمراتب الشرف، ظل مبتعدًا عن الشئون
العامة. ويُقال إن حياته الخاصة كانت مضطربةً بسبب عدم سعادته المنزلية. ترك أثينا
في
سنٍّ متقدمة، وذهب ليعيش مع الماجنيتس Magnets ثم في
بلاط بيلا Pella ملك مقدونية الذي رحَّب بمَقدَمه. ومات
هناك في سنة ٤٠٦ق.م. وقد بلغ اﻟ ٧٥ تاركًا ثلاثة أبناء، كان أصغرهم، الذي يحمل اسمه،
شاعرًا. وأقام له أرخيلاوس Archelaus تمثالًا في
مقدونية بوادي أريثوسا Arethusa. وإذ خلت أثينا من
رُفاتِه أقامت له ضريحًا خاويًا، ولكنها أقامت له تمثالًا في القرن التالي مع تمثالَي
أيسخولوس وسوفوكليس في مسرح ديونيسوس الذي أُتِم بإشراف الخطيب لوكورجوس
Lycurgus.
كان يوريبيديس متقلبًا بطبيعته وسهل التأثُّر بالعوامل، ذا غرائزَ ومواهبَ متناقضةٍ
أحيانًا؛ لذا كانت أخلاقه أصعبَ دراسةً من أخلاق أيسخولوس وسوفوكليس. كانت مواهبه
الأساسية، التأثير الأنثوي والعطف الشديد المقترن بالمحبة الطبيعية، وأبسط وأرق العواطف
المتعمقة، والخيال المرح المملوء بالرشاقة والعذوبة واتساع الأفق. أما الشِّعر وحده
فكان بعيدًا عن أن يجذب انتباهه. كان ذا عقليةٍ فضوليةٍ دفعَتْه إلى البحث في جميع
أنواع القضايا، فكان كل شيءٍ يثير متعته؛ الطبيعة والمجتمع والإنسانية. وقد أُغرِم
بسؤال نفسه وسؤال الآخرين عن شتَّى المسائل المتنوِّعة. ولمَّا كان مستقلًّا وسهل
التأثُّر، فقلَّما كان يقنَع بالإجابات التقليدية، وإنما كان يميل إلى الآراء والقواعد
الصادرة عن عبقريةٍ صحيحة. وكان حاضرَ البديهة، حادَّ الذكاء، عميقَ التفكير سريعَ
الشكوك وإدراك مواطن الضعف في كل شيء. ومن المشكوك فيه ما إذا كان ذا نشاطٍ أو ثباتٍ
يساعدانه على تكوين مذهبٍ لآرائه، أو أن يتمسَّك بمثل هذا المذهب. كان مفكرًا أكثر
منه
فيلسوفًا، وباحثًا أكثر منه مؤسسَ عقائد. وأحيانًا كان نشاطُه الذهني المستمر يتخذ
صورةَ مجرَّد هواية. وهذا من العوائق التي تعترض طريق الشاعر. وفي بعض الأحيان كانت
أعماله تفقد لساعتها خلالَ الجدية والإخلاص، كان يميل إلى الطباق والمقابلة، والحديث
الألمعي غير المجدي، والثورية غير الضرورية. بَيْد أنه إذا ما قدَح ذهنه في غوامض
القلب
البشري أثبتَ أنه فذٌّ في معلوماته الكثيرة الصحيحة. وبالجملة، رغم كونه أقلَّ عظمةً
من
أيسخولوس، وأقلَّ انسجامًا من سوفوكليس، فإنه عوض عن أقليَّته هذه بتنوُّع فضائله،
ولا
سيما الكرم وعواطفه الجياشة وأدق شعورٍ بالصنف البشري.
(١-١) نشاطه ومسرحياته الباقية
يختلف عدد المسرحيات المنسوبة إلى يوريبيديس، وتشمل التراجيديات والدرامات
الساتورية، تبعًا للروايات، ما بين ٧٥، ٩٢ ولم يصلنا منها سوى ١٩ مسرحية، وتشمل
دراما ساتورية واحدة هي «الكوكلوبس Cyclops»،
وتراجيدية واحدة «ريسوس Rhesus» ليست له من غير شك.
كما أنه ألَّف بعض المراثي أو الأشعار الغنائية. وتحتفظ المصادر العلمية بمرثاةٍ
للأثينيين الذين ماتوا في صقلية، وقصيدة نصر لتكريم الكيبياديس
Alcibiades عند فوزه في الألعاب الأوليمبية،
ولدينا كسرةٌ قصيرة لكلٍّ من هاتَين القصيدتَين. وبقايا تراجيدياته المفقودة عديدة،
وأغلبها حِكَمٌ أو مقالاتٌ ذاتُ أهميةٍ شعرية أو أخلاقية، ولكنها تعجز عن مساعدتنا
في إعادة تركيب المسرحيات المفقودة، أو حتى معرفة مواضيعها بصفةٍ مؤكدة. وأهم
الكِسَر التي وصلَتنا هي من التراجيديات ذات العناوين «أيولوس
Aeolus»، و«أنتيوبي
Antiope»، و«بلِّيروفون
Bellerophon»، و«إريخثيوس
Erechtheus»، و«فايثون
Phaethon»، و«فيلوكتيتيس
Philoctetes». وعلى العموم يبدو أنه كان يفضِّل
أحداث البطولة ذات المرتبة الثانية على أحداثها العظيمة، وأنه تناولها بحُريةٍ
بالغة. وأهم ما يحدِّد اختياره هو عاطفة الموضوع. كان يبحث عن المواقف العنيفة
قَدْر المستطاع أو الزاخرة ما أمكَن بالعواطف والآلام. هذه هي خواصُّ معظمِ
مسرحياته الباقية.
نعرف بالضبط تواريخ ثمانٍ من مسرحياته، هي حسب ترتيبها التاريخي: ألكستيس
Alcestis (٤٣٨ق.م.): هي دراما ساتورية. تَقْبل
ألكستيس زوجة أدميتوس Admetus ملك تساليا أن تموتَ
عِوضًا عن زوجها، وتُدفن، ولكن هرقل خطفها من ثاناتوس
Thanatos، الذي هو روح الموت، وأعادها إلى
زوجها. ودور ألكستيس من أروع الأدوار المؤثِّرة التي خلقها يوريبيديس. وأحيانًا
يُدخِل دور أدميتوس في نطاق الكوميديا الجِدِّية، وكذلك دور والده فيريس
Pheres. أما دور هرقل، فهو كما في الدراما
الساتورية دور البطل والمهرِّج في نفس الوقت. وتحتاج هذه المسرحية إلى ممثلَين
اثنَين فحسب.
ميديا Medea (٤٣١ق.م.) وموضوعها انتقام ميديا
عندما هجرها جاسون Jason ليتزوج ابنة ملك كورنثة.
وإذ ثارت ثائرتها عملَت على موت منافستها، ثم قتلَت أولادها هي نفسها. وكان نيوفرون
السيكيوني Neophron of Sicyon قد كتب مسرحيةً في
هذا الموضوع ذاته، بَيْد أن يوريبيديس نجح أكثر منه في تصوير غضب ميديا وثورتها،
وريائها، والاعتمالات الداخلية في قلبها، والاضطراب الوحشي الذي ينتصر على عاطفة
أمومتها ومحبتها لأولادها. وما أجمل ذلك المنولوج السابق للقتل!
تتويج هيبولوتوس (٤٢٨ق.م.)، هي إعادة تركيب مسرحية «هيبولوتوس المقنع» غير
المعروفة التاريخ، كان هيبولوتوس الشاب، ابن ثيسيوس والأمازونة أنتيوبي
Antiope موضوع الحب المحرَّم بينه وبين حماته
فايدرا Phaedra. ولمَّا لم يستجب لرغباتها انتحرَت
خزيًا وعارًا، ولكنها تركَت اعترافًا تتهم فيه هيبولوتوس خدعَت به ثيسيوس فاقتنع
بجريمة ابنه، فطرده من البيت مشيعًا باللعنات، ويطلب من بوسايدون أن يُنزِل به
غضبه، فهلك هيبولوتوس ولكنه أقنع والده ببراءته فعفا عنه، وقد أثنى على دور
هيبولوتوس ذي الأهمية الأولى لما فيه من الاعتزاز الشديد بالكرامة والرقة البارعة
والنُّبل. ويُشتَهر دور فايدرا بقوة العاطفة، وتصوير الهذَيان الذي يخدع المخيِّلة،
ويغرِّر بالإرادة، ويثير الرغبات المتناقضة داخل قلبٍ يرغب ولا يرغب. وما نأسَفُ
له
هو أن يوريبيديس لما أنزلها إلى مرتبةٍ أدنى مما تستحق قد أنكر على نفسه وسيلة
ترقية شخصيتها اللائقة بها. قدَّم هيبولوتوس الأولى بجرأةٍ بالغة، فثبت أن جُرأته
كانت ضارةً بالمسرحية، ولكي يصحِّح خطأه، أهمل أثرًا ذريعًا انتفع به سينيكا
Seneca وراسين
Racine فيما بعدُ.
الطرواديات (٤١٥ق.م.) هي سلسلة من المناظر العاطفية البالغة الجمال أكثر منها
تراجيدية؛ فقد جمع فيها يوريبيديس حول شخصية هيكوبا بعضًا من أعظم الحلقات
المؤثِّرة لليوم التالي لسقوط طروادة، مثل تقسيم الأسرى، وهذيان كاساندرا، وموت
أستواناكس Astyanax.
هيلينا (٤١٢ق.م.) مبنيةٌ على فكرةٍ واحدة يرجع عهدها إلى بالينود الستيسيخوري
Palinode of Stesichorus، فيمثِّل يوريبيديس
هيلين، وقد نقلَها هيرميس إلى مصر، وأن باريس قد خُدع وما أخذها إلى طروادة هو
شبحُها فقط، وبعد سقوط طروادة، جرفَت الرياح مينيلاوس إلى ساحل مصر؛ حيث وجد زوجتَه
في نفس اللحظة التي أراد فيها ثيوكلومينوس
Theoclymenes ملك البلاد، أن يتزوَّجها،
فتعرَّف مينيلاوس وهيلين، كلٌّ على الآخر، وخدعا الملِك بحيلة، ونجحا أخيرًا في
الهروب بمساعدة الديوسكوري Dioscuri. ورغم عدم
احتمال حدوث مثل هذه المغامرات، فإن المسرحية ممتعة بسبب سِحر دَور هيلين.
أوريستيس (٤٠٨ق.م.) وموضوعها محاكمة شعب أرجوس لأوريستيس
Orestes على مقتل أبيه. وهنا أيضًا نجد ابتكار
الأحداث رومانتيكيًّا قليلًا؛ فأمامنا خطة يصير بمقتضاها أوريستيس وإليكترا
وبولاديس Pylades سادة القصر، ويُجبرون خصومهم على
الخضوع لشروطهم. وأروع المناظر في بداية المسرحية حيث نرى أوريستيس مريضًا وتُعنى
بتمريضه شقيقة إليكترا، فنشاهد هذيانه. ويكاد يوريبيديس في الخاتمة أن يقوم بدَور
الشاعر الساتوري عندما يمثِّل مناظر محاكمة تُوضَع فيها حياة المتهم في أيدي
الديمقراطية، وتفعل أخلاق الشعب المتقلِّب ما شاءت، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى
تهوُّر الشخصيات السياسية ونموذجهم مينيلاوس.
أما في مسرحية «إيفيجينيا في أوليس» (سنة ٤٠٥ق.م.) فيتناول يوريبيديس أسطورةَ
تضحية إيفيجينيا التي تناولها كلٌّ من أيسخولوس وسوفوكليس. ولم يعدِّل فيها غير
الحل مفترضًا أن أرتيميس أنقذَت هذه الفتاة، بأن وضعَت غزالةً بدلها تحت سكين
الذبح، ومن حيث تصوير العاطفة، هذه إحدى أروع التراجيديات، وقد أبرزَت إيفيجينيا
في
هذه المسرحية؛ إذ تؤثِّر في النظَّارة تأثيرًا عميقًا بإخلاصها البنوي وسذاجتها
وتمسُّكها بالحياة وتوسُّلاتها وبطولتها. وإلى جانبها، نرى أجاممنون مترددًا في
حزن، ويبدو حيويًّا حتى في ضعفه، وكلوتمنسترا تارةً متحدية، وأخرى متوسلة، وطورًا
غاضبة، وأحيانًا متوعدة، وأخيل Achilles معتزًّا
بكرامته، واسعَ الكرم، على استعداد لبدء القتال حتى ولو في غير أملٍ في
النجاح.
وتتناول الباكخانيات (٤٠٥ق.م. أيضًا) معارضة بنثيوس ملك طيبة في قيام طقوس عبادة
ديونيسوس، كما تتناول عقابه أيضًا. وأهم ما يُحدِث الأثر الدرامي هو التناقض بين
عمَى الشاب بنثيوس الشديد الاحتقار لعقيدةٍ خُرافيةٍ غريبةٍ عليه، فيعالجها في جنون
وحماقة، وبين قوة ذلك الإله الذي يبدو وسط مرحِ عابديه، في رزانته المتغطرسة
المتهكمة، ثم موت بنثيوس المفزِع إذ تمزِّقه أمه إرْبًا بيدَيها. على غير عادة هذا
الشاعر قبلُ بغير احتجاج. روح متطوِّع متحمِّس، هي روح فكرة مسرحيته.
والتسع مسرحيات الأخرى الباقية من تواريخ غير مؤكَّدة، ولكن يبدو أنها جميعًا من
عصر حرب البيلوبونيز، وبذا تكون من الجزء الأخير من حياة هذا الشاعر.
يظهر أن تاريخ مسرحية أندروماخي Andromache يرجع
إلى بداية هذه الفترة، فنرى أرملة هكتور قد صارت أمَة نيوبتوليموس Neoptolemus وأنجبَت له ولدًا. وفي غياب سيدها،
تهدِّدها هيرميوني Hermiene الزوجة الحقيقية لابن
أخيل، وموضوع الدراما هو النزاع بين هاتَين السيدتَين ووساطة العجوز بيليوس
Peleus الذي أنقذ أندروماخي. وتقع هذه المسرحية
في المرتبة الثانية من مؤلَّفات هذا الشاعر، رغم بعض مناظرها الجميلة.
ربما كانت هيكوبا من نفس هذه الفترة تقريبًا، ولكنها تتفوَّق في المتعة الدرامية.
لقد جمع الشاعر فيها بين فكرتَين؛ موت بولوسكينا
Polyscena التي ذُبحَت فوق قبر أخيل، والثأر
الذي أخذَته هيكوبا من بولوميستور Polymestor ملك
تراقية، قاتل أصغر أبنائها من بريام. والجزء الأول من هذه التمثيلية رائعٌ للصورة
العاطفية لتوسُّلات بولوكسينا وبطولتها.
يبدو أن إليكترا من عصرٍ سابق لعصر مسرحية هيلينا. أخذ يوريبيديس فكرة مسرحية
خويفوروي لأيسخولوس، ومسرحية إليكترا لسوفوكليس، وأضاف إليهما منظرًا دراميًّا.
ينتقل المنظر إلى بيتِ فلاحٍ في الريف هو زوج إليكترا بالاسم فقط. ويظهر أن
يوريبيديس اختار بنفسه بعض التفاصيل، وبالَغ في عناصر الأسطورة المسببة للكراهية،
كما لو كان يريد أن يزيدَ في بشاعة الجريمة، ولو أنها تمَّت بأمر الآلهة.
يغلب أن تكون مسرحية أبناء هرقل Heraclidae من
عصر الحرب البيلوبونيزية، فيُعيد الشاعر إلى الأذهان دَين الجميل المدينة به أرجوس
إلى أثينا، لحماية هذه الأخيرة أبناء هرقل من يوروسثيوس
Eurystheus الوصيِّ عليهم. ولمَّا كان العنصر
السياسي هو الغالب في تلك المسرحية، فإنها تفتقر إلى الحيوية والعاطفة
العميقة.
وأما مسرحية جنون هرقل Hercules Furens
فتراجيديةٌ مضطربةٌ تتضمَّن رغم هذا آثارًا دراميةً قوية، فلما ذهب هرقل إلى هاديس
عاد في الوقت المناسب، لإنقاذ أبيه العجوز وزوجته وأولاده من الموت على يدَي
المغتصِب لوكوس Lycus. وما إن قتل هرقل لوكوس حتى
أُصيب هو بالجنون، فقَتل جميع أفراد أسرته ما عدا والده، ثم استعاد صوابه فعلم بما
جنَته يداه.
كُتبَت مسرحية المتضرِّعات لمناسبةٍ خاصة، ولا بد أن يكون هذا في حوالي سنة
٤٢٠ق.م.، وقيمتها الدرامية متوسطة. جاءت أمهاتُ الرؤساء الآخيين الذين سقطوا أمام
طيبة، طالباتٍ مساعدةَ أثينا في الحصول على جثث أولادهن؛ إذ رفض الغزاةُ السماحَ
لهن بدفن تلك الجثث، فتعهَّد ثيسيوس بإعادة حقوق الموتى المقدَّسة، وهزم الطيبيِّين
وأدَّى آخرَ تكريمٍ لأولئك القتلى.
لا بد أن يرجع تاريخ مسرحية إيفيجينيا في تاوريس إلى آخر سِني حياة ذلك الشاعر.
نقلَت أرتيميس إيفيجينيا إلى تاوريس؛ حيث كرَّسَها ثواس
Thoas ملك تلك البلاد للطقوس الدموية لعبادة
تلك الربة. ولمَّا كانت على وشك أن تذبح أخاها أوريستيس، الذي حثَّه وحيٌ على
الذهاب إلى ذلك الشاطئ المُقفِر، تعرَّف كلٌّ منهما على الآخر، ونجحا في الهروب
معًا. وإنا لنُعجَب في هذه المسرحية باستقامة الفعل الدرامي والتصوير الدقيق
للعواطف.
وأما مسرحية إيون Ion التي يصعُب تحديد تاريخها
ولو بالتقريب، فبالغة القيمة. وموضوعها هو أن أخايوس
Achaeus ملك أثينا، الذي تزوَّج كريوسا، قد
تبنَّى إيون الذي كانت كريوسا قد أنجبَته من أبولُّو. هناك سحرٌ عميق في دَور الشاب
المجهول الأصل، والذي كرَّس نفسه لعبادة أبولُّو، وقد استطاع الشاعر إجادة تصوير
تعرُّف الأم على ابنها في سلسلةٍ من المناظر المؤثِّرة أبلغَ تأثير.
يرجع تاريخ مسرحية الفينيقيات Phoenissae إلى
أواخر أيام إقامة يوريبيديس في أثينا. إنها نظمٌ مناسب، يدور حول المبارزة بين
الشقيقَين إتيوكليس وبولونيكيس، التي سبق أن تناولها أيسخولوس في تراجيدية السبعة
أمام طيبة (قد زاد يوريبيديس في مادتها بعده حلقاتٍ متنوِّعة). ويقع الجمال الرئيسي
لهذه المسرحية في دَور إيوكاستا Iocasta والسرد
المدهش المؤدي إلى وقوع الكارثة.
هذه هي التراجيديات التي وصلَتْنا من يوريبيديس، وأما مسرحية ريسوس، التي ليست
له، فسنتكلم عليها فيما بعدُ. ويُضاف إلى هذه التراجيديات دراما ساتورية الكوكلوبس،
التي قدَّم فيها مغامرة أوديسيوس مع الكوكلوبس، المذكورة في الباب التاسع من
الأوديسة، قدَّمها في سِحرٍ بالغ وطرافةٍ جذَّابة. وفضلًا عن القيمة الدرامية لهذه
المسرحية فإن لها قيمةً خاصة؛ لأنها النموذج الوحيد الباقي من هذا النوع الأدبي
العجيب.
(١-٢) الفكرة الجديدة للدراما، تنوُّع العواطف، طبيعة الفعل الدرامي، المقدمات
والحلول
لا يبدو أن يوريبيديس قد أدخل أي عنصرٍ هام في التنظيم المادي للتراجيديا، ولا في
طريقة تقديمها على المسرح، كما فعل كلٌّ من أيسخولوس وسوفوكليس. كانت التقاليد
محدَّدة في هذه الناحية عندما بدأ اشتغاله بالشعر، وربما لم يُحاوِل إحداث تغييرات.
ومع ذلك فقد عدَّل كثيرًا في فكرة طبيعة الدراما، وربما فعل هذا عن غير قصدٍ جريًا
وراء ميول عقله الطبيعية.
لم يعتبر يوريبيديس التراجيديا، كما اعتبرها أيسخولوس، تمثيلًا لحادثةٍ أسطوريةٍ
عظيمة، من وجهة النظر الدينية. لا يمكن أنه كان ينكر في صراحةٍ الأفكارَ السائدةَ
في ذلك العصر عن نفوذ الآلهة في شئون البشر. لا شك في أنه كان يضع على لسان أشخاصه
خلال الفعل الدرامي، ألفاظ المفكِّر الحر التي تعبِّر عن آرائه الشخصية. وربما تصل
به الدرجة إلى أن يضع في أذهان المتفرِّجين احتجاجًا سريًّا على بعض العناصر
الدينية في الأسطورة، ولكنه اضطُر، في الحقيقة، إلى قبول هذه العناصر؛ لأنها كانت
جزءًا من صورة الإنشاء الذي استخدمه. لم يكن بوسع أي فرد بأثينا في القرن الخامس
أن
يؤلِّف تراجيدية فلسفية في جميع أجزائها ولا تتضمَّن أيةَ عناصرَ دينية. وعلى هذا
اتبع يوريبيديس التقاليد، حتى من الوجهة الدينية، باستثناءِ بعضِ تفاصيلَ معينة.
بَيْد أن هناك فرقًا بين هذا الخضوع الاضطراري وحماس أيسخولوس من كلِّ قلبه. ومن
الواضح جدًّا أن الشاعر الذي بهذا الاستعداد لا يمكن أن ينظر بعين الغبطة إلى
قرارات المصير ولا يحاول إبراز قوَّته، فإذا كانت الآلهة كثيرة العمل في مسرحه —
وإذا تدخلَت كثيرًا أو أكثر مما تتدخل في أي مسرحٍ آخر— فلا ننكر أنها كثيرًا ما
كانت متقلبة عديمة المبدأ، أو الأسوأ من هذا، عديمة الأهمية. ولم تكن وظيفتها في
كثير من الحالات إلا تسهيل الحصول على الحل، ولا يتطلب عملهم أية متعةٍ دينيةٍ
حقيقية.
لم ينظر يوريبيديس إلى التراجيديا، نظرة سوفوكليس لها، على أنها التطور الطبيعي
لرغبةٍ أو لصفةٍ أخلاقية. وتتضمن طريقة معالجة المواضيع الأسطورية هذه تأملًا
فنيًّا مستمرًّا وصبرًا طويلًا لضمان الانسجام، وتزويد الفكرة العامة ببعض الأحداث
الثانوية، غير أنه لم يألف ذلك. وينتُج عن هذا أنه يضحِّي بالتنوُّع في سبيل
الوحدة، وكان التنوُّع أحد العناصر التي يميل إليها ميلًا شديدًا.
كانت دراما يوريبيديس متنوِّعة قَدْر الإمكان بالنظر إلى قلة عدد الممثلين
وإمكانيات المسرح الإغريقي المتوسطة. وكان يفضِّل تعديل الموقف بالحوادث غير
المتوقَّعة، على أن يُطيلَه، وذلك لكي ينوِّعه بحلقات أو يجدِّده بأحداثٍ إضافية.
ودائمًا تقريبًا، عندما يبني هؤلاء الشعراء الثلاثة مسرحياتهم على نفس الأسطورة،
نجد الفصل الأول في مسرحية يوريبيديس يتضمن مسرحية أيسخولوس، كما يتضمن في أغلب
الأحوال مسرحية سوفوكليس، وتتسع مسرحيات يوريبيديس وتتفرَّع كلما تعاقبَت مناظرها.
ويسمح التنوُّع الذي يبحث عنه باستخدام كثيرٍ من العناصر الدرامية وأهمها العواطف.
وعلى العموم يتحيَّن اللحظة المناسبة في كل موقف. ويقتصر منذ البداية على أقوى
العواطف أو أقوى الآلام، وبعد أن يستخدم هذه إلى أقصى حدٍّ يبحث عن غيرها؛ ومن ثَم
تتضمَّن بعضُ مسرحياته مثل هيكوبا أو الطروادية عدة مواضيع. وفي حالة عدم وجود
العواطف أو الآلام يرغب في مناقشاتٍ تسمح له باستخدام الأسباب التافهة. ويبدو أن
المناقشات كانت تعجبه، وأخيرًا يبدو أن المجموعاتِ البارعة — كسوء التفاهم والتقاء
أشخاص دون أن يعلم أحدهم بوجود الآخر، والحوادث غير المتوقَّعة والتأمل في الأسرار،
والتعرُّف وبالاختصار كل قائمة الابتكارات الممكِنة — ذاتُ مكانٍ هام في تقديره
أكثر منها في تقدير سابقيه.
إن التراجيدية المؤلفة بهذه الطريقة مؤثِّرة حقًّا؛ فهي تُدهِش الجمهور بمناجاتها
وتَأسِر مشاعرهم. ولا بد لنا من أن نعترف بأن الانطباعات الحيوية التي تُحدِثها
تُخفِي بطريقةٍ ما كونها متحيزة وغير عادلة، وقد لاحظ أرسطو مزيجَ الميزاتِ والعيوب
الطبيعية هذه عندما قال في كتابه «الشعر»: «ولو أن تأليفَ يوريبيديس غيرُ جيد إلا
أنه أعظمُ شاعرٍ تراجيدي.»
هناك بعض الغرائب في تركيب مسرحياته تحت تأثير العادات والميول التي ذكرناها. ومن
أهم هذه الغرائب، استخدام الحوارات القصصية التي يُلقيها ممثلٌ يخرج وحده قبل أن
تبدأ المسرحية ذاتها، وهذه أعظم صور الطبيعة للغرائب التي يمكن أن تخطر على البال.
ولا تُوجَد مثلُها في سوفوكليس إلا في مسرحية التراقيات
Trachiniae ولا تُوجَد قط في أيسخولوس. وتكاد
تكونُ عامةً في يوريبيديس وتقوم بعدَّة أغراض؛ إما فردية وإما بالاشتراك مع غيرها.
إنها طريقةٌ لإعطاء فكرةٍ تمهيديةٍ عن المناظر الافتتاحية. وما إن يعطي الشاعر
التفسيرات الضرورية حتى يبدأ من فَوره بالعناصر الدرامية المؤثِّرة. وهذه التفسيرات
التمهيدية أكثر لزومًا عندما يتناول الأساطير في حريةٍ مطلقة ويزيد في تعقيد
المواقف. كما أنها وسيلةٌ لربط الحلقات المفكَّكة، فإذا ما أعلنها على النظَّارة
أضفى عليها مظهر الوحدة. وأحيانًا تكون أداةً سهلة لإخبار الجمهور بعملٍ إلهي لا
يتوقعه المرء في الدراما رغم ضرورته للموضوع. وهناك غريبةٌ أخرى لا تقل عن السابقة،
وهي استخدامه Deus ex machina ليختم المسرحية. ولا
يتردَّد في استخدامها رغم أنها تبدو لنا مبتذَلة، ولا يستعملها أيسخولوس إطلاقًا،
ويكاد لا يستخدمها سوفوكليس. أما يوريبيديس فيجد فيها ميزة إبداء نتائج فعلٍ درامي
تظل مستترةً في المستقبل، كما أنها تُسنِد إلى الآلهة الدور الذي يطلبه الرأي العام
— وهو دورٌ لا يعطيه على الإطلاق في الدراما نفسها. والأهم من هذا كله أنه استطاع
بهذه الطريقة أن يختم المسرحية في نفس أزمة العواطف؛ إذ إن الهدوء النهائي نتج
فجأةً تحت تأثير قوةٍ إلهيةٍ تفرض إرادتها. كما يتجلى هنا ولعُه بالمنظر العاطفي
الذي يُعجبه أكثر من تطوُّر المشاعر الطبيعي.
(١-٣) الأشخاص، الرغبة والعاطفة، الواقعية والمثالية، المجتمع المعاصر في
مسرحياته
يتضح مما سبق أن المرء لا يجب أن يطلب من بوريبيديس دراساتٍ كاملةً منظَّمة
لسيكولوجيا الدراما. قلما يُوجَد مثالٌ واحد في جميع تناوله للشخصيات يُمكِن أن
يوضِّح لنا في خلال الفعل الدرامي جميع خواصها الأساسية. وإنما يعطينا الشاعر مجرد
قليل من الآراء في طبيعتهم الخلقية. يقدِّمهم لنا في حالة من المشاعر العنيفة ولو
أنها مؤقتة، فنرى فايدرا ضحية عاطفةٍ قويةٍ أهلكَتها، ولكننا لا نعرف من سياق
الكلمات القليلة كيف تكوَّنَت هذه العاطفة، وما المقاومة التي أبدتها وأرادتها إزاء
هذه العاطفة، وما الطريق التي سلكَتها في مشاعرها المضادة. وتُوجَد بعض مميزاتٍ
غريبةٍ ممتعة في هيبولوتوس ولو أنها جميعًا دفاعية، ولا تكفي لتنميتها أو للمحافظة
عليها. وهيكوبا رائعة في عاطفة الأمومة عندما تُدافِع عن ابنتها، ولكنها تختلفُ
عن
هذا تمامَ الاختلاف وهي تثأر من بولوميستور، ثم يجب علينا أن نقرِّر أن هياجَها
الوحشي لا يتفق مع حزنها غير الغني الذي يؤثِّر على قلوبنا بتلك الطريقة. ويُمتع
أجاممنون فضولنا في خليطٍ إنساني من الطموح والرقة الأبوية والضعف والعظمة، ولكنه
لم يُصور لنا إلا إجمالًا فحسب، وعندما تأتي اللحظة الحرجة الحاسمة لتوضِّح لنا
نفسيته نجده قد اختفى. وتمنعنا الضحايا الصغيرة، أمثال إيفيجينيا وبولوكسينا،
برقَّتها ووقارها وبطولتها، ولكن هذا الشاعر لا يسمح لنا بفرصٍ كافية تمكِّننا من
معرفة أولئك الضحايا حتى نعلم شخصيَّاتهم على حقيقتهم؛ فقلما نراهم وهم ذاهبون إلى
الموت. وتكاد ميديا وحدها أن تشذَّ عن ذلك. ومع ذلك فليس لدى الشاعر فكرةٌ محدَّدة
عن شخصيتها؛ فلا يخبرنا عما إذا كانت لا تزال تُحب جاسون حبًّا غير اختياري مصحوبًا
بالكراهية العميقة التي تُكِنها نحوه؛ ولذا نجد من الصعب حقًّا أن نفهم كيف أن
سيدةً حقيرةً مثلها يمكن أن نفكر في سلامتها الشخصية.
والحقيقة أن يوريبيديس أقلُّ إمتاعًا في القرارات الجديرة بالاعتبار منه في
المشاعر والعواطف الغريزية. وما يصوِّره اختياره ويصوِّره جيدًا هو القوى الخفية
التي تعمل في داخلنا نصف واعية. ولم تلقَ نماذجُه العظيمة من النساء العاشقات
ارتياحًا في المسرح الأثيني؛ فلم يحدث قَط أن كُشف القناع بمثل هذه الحرارة عن
الأعمال الغامضة للطبيعة البشرية؛ ففي فايدرا وميديا، تبدو القوى العاتية تنبعث
من
أعماق الطبيعة البدنية والأخلاقية — تلك القوى التي تُبدي إرادتها ورفضها وتُناضل
بحرية من أجلهما. ليست العاطفة القوية وحدها هي المتأصلة فيه، بل والمحبة والمشاعر
والبطولة. لا يمكن أن نتوقع في يوريبيديس فعل بطولة قبل حدوثه بمدةٍ طويلة كما يحدث
في سوفوكليس؛ إذ لا ينتج من مبادئَ مفهومة تمامًا، ولا عن قوانينَ يفرضها ضمير
الشخص، بل يحدث فجأة عندما تحتِّمه الظروف، وأحيانًا لا تبدو الشخصية، نتيجةً لهذا،
حقيقية كما يجب أن تكون.
تُساعدنا هذه التأملات على فهم الأهمية المُسنَدة إلى صغار الأشخاص وإلى السيدات.
ولما كان مصورًا بغريزته، فإنه يميل بطبيعته إلى الصفات المحفِّزة أكثر من ميله
إلى
الصفات التي تكثر فيها القوى الخلقية عمومًا. ولم يسبقه أحد أو يتفوق عليه في تمثيل
الشخصيات العبقرية.
تتكوَّن طريقة يوريبيديس الحقيقية من خليطٍ ممتعٍ بالغ التأثير من الواقعية
والمثالية. ورغم التقاليد، ودون خوف من إفساد الوقار التراجيدي، نراه قد تجرَّأ
على
توجيه الأذهان إلى تفاصيل الحياة الواقعية، التي يلتقي بها الفن الأكثر ملاحظةً
للعظمة، وأحيانًا يتصادف أن يقع في الأحداث الشائعة المُبتذَلة. ويلوم عليه
أريستوفانيس في أنه يسعى إلى إثارة جمهوره بطرقٍ فظَّة، ويقدِّم مثلَها المصاحبة
المادية للبؤس والآلام، مثل الأسمال، والعجز، وعلامات الشيخوخة الظاهرة. ويدعم هذا
النقد بأكثر من مثالٍ في المسرحيات الباقية، بَيْد أننا إذا بالغنا في أهمية هذا
النقد غمَطْنا يوريبيديس حقه؛ فعندما يكون لديه خادمٌ مطيع، في ألكيستيس، يصف
الملكة في آخر لحظات حياتها وهي تجري جيئةً وذهابًا في بيتها، تلمسُ لآخر مرة
الأشياء المألوفة في طريقها، وتبكي فراشَ زواجها، ثم تُخاطب أطفالها في رفق، وتُلقي
بضع كلمات لكل فرد من خدمها. هذا واقعية بغير شك ولكنه واقعية ممتازة. يُرينا
الأشياء الصغيرة والتفاصيل المألوفة، ولكنها أعظم السبل طبيعيةً للتعبير عن الشعور
النبيل. هنا، وتبعًا لهذا، تكون واقعيَّته الجديدة في خدمة المثالية
الفذَّة.
وأحيانًا يتخذ صورةً مخالفةً تمامًا لهذه فيتجه ميله، قليلًا أو كثيرًا، نحو
النقد اللاذع للحياة، وعندئذٍ قد تكون عرضةً للرقابة كعنصرٍ تراجيدي، ولكنها ذات
متعةٍ خاصةٍ على الأقل، فيهاجم يوريبيديس أخطاء السيدات بنوعٍ خاص. ولم يسبق لأحد
في المسرح أن انتقدَهن بهذه الكثرة وتلك الشدة، ولو أنه لم يكن محقًّا دائمًا في
فعله ذاك. وينسبُ إليه معاصروه كراهيةً شديدة للنساء، ولكنهم، بكل تأكيد، أساءوا
فهمَ مشاعره الحقيقية. وقد رأينا أنه على الرغم من انتقاده السيدات في حدة وعنف،
فإنه قد صوَّر فضائلَهن كذلك. وزيادةً على هذا فلم يكن نقده قاصرًا على السيدات
وحدهن؛ فهو، لجميع الطبائع الحساسة، ذو إدراكٍ دقيق للشرور والمساخر، ولم يدَّخر
وسعًا في التنفيس عن مشاعره بالوسائل التي تحت تصرُّفه. وفضلًا عن هذا يقدِّم في
مسرحياته كثيرًا من الشخصيات الأنانية والمستهترة والجشِعة والفظَّة والغادرة. لقد
كشف يوريبيديس الستار بصراحةٍ عن الرذائل التي أخفاها سوفوكليس أو لفَّها في غلاف
من العواطف، كي يعترفَ بها أصحابها. وليس من النادر أن يكون اعترافُهم صريحًا بعض
الشيء، فإذا لم يعترفوا بها أعلنَها غيرهم. إذن فما من شكٍّ في أن هذا تصويرٌ حيٌّ
للمجتمع المعاصر. ولقد غيَّر نمُو الديمقراطية والتنازع الوحشي من أجل المصالح
الفردية، وربما نفوذ السفسطائيين، الساسة والخطباء وزعماء الرعاع والأشخاص الجشعون
العديمو مبادئ الأرستقراطية القديمة والوقار التقليدي، فنشأ رجال الشرف، بين جموع
الشعب، فاضمَحلَّ شيئًا فشيئًا احترام الوفاء، وتقدير روابط الصداقة أو المحبة
العائلية، وبعض الفضائل الواهية كعرفان الجميل؛ كل هذه أشياءُ أبرزَها يوريبيديس
في
مسرحياته، وإذ عُولجَت التراجيديا بهذه الصفة اقتربَت من أنواع الكوميديا الجدِّية
— تلك التي لا تسعى إلى إثارة الضحك بقَدْر ما تسعى إلى إظهار العيوب والحماقات.
وبنفوذه انتشرَت مثل هذه الكوميديا في بلاد الإغريق في خلال القرن التالي.
(١-٤) الفِقرات الغنائية
لا داعي للتمسك بالفِقرات الغنائية في التراجيديا التي طُورَت على هذا النحو.
أخذَت أناشيد الكورس تميل إلى الانفصال تدريجيًّا عن الفعل الدرامي. وربما كان
الشاعر لا يزال يُحاول ربطَهما برباطٍ محسوس، بين أنه من الجلي كانت محاولاته
متصنعة أكثر منها طبيعية. لا تصدُر تلك الأناشيد عن فكرة الحوار، ولا تُوحي بها
العواطف العظيمة التي ينتجها الفعل الدرامي، ولم تعُد تسعى إلى فصل حقائق الفلسفة
الدينية والأخلاقية. وكثيرًا ما تكون تلك الأناشيد مجردَ زخارفَ للفعل الدرامي؛
لذا
فهي تفتقر إلى العظمة والقوة، وقلَّما تُسهِم في إحداث الفزع والشفقة الخاصة
بالتراجيديا. ومع هذا التحفُّظ، هناك ما يدعو إلى تقريظ رقَّتها وسِحرها المتنوِّع
وتصويرها البديع؛ فكثيرًا ما يختلط بها حب الطبيعة في عاطفةٍ رقيقة، وبذا يكون
الأثر مبهجًا. ولنذكُر الآن مثالًا واحدًا على الأقل، من أنشودةٍ جميلةٍ في مسرحية
هيلينا؛ حيث تصف الفتيات الإغريقيات البحر وقد سكن من أجل عودة مينيلاوس، ثم يتخيلن
أنفسَهن طائراتٍ في أجواز الفضاء كأنهنَّ الطيور المهاجرة تعود إلى وطنها (هيلينا
١٤٥١ق.م.).
أيتها السفينة الفينيقية، يا مركب سيدون Sidon
الخفيف، اجعَلي أمواج نيريوس Nereus تُزمجِر
بمجاذيفك الجميلة. قودي كوروس الدلافنة المرِح عندما لا يُوجَد نسيمٌ يعكِّر صفو
سطح البحر، وعندما تقول طفلة بونتوس Pontus
وجالانيا Galanea ذات العينَين الزرقاوَين: انشُري
أشرعتك واسعةً تاركةً إياها لنسيم المحيط، وأنتم أيها البحَّارة، دونكم ومجاذيفكم
المصنوعة من خشب الشربين، وأرجعوا هيلين إلى شاطئٍ كريم، إلى أرض أبناء بيرسيوس،
وَيْ! هل لنا أن نحلِّق في الهواء كأسراب الطيور النازحة من ليبيا في موسم الأمطار،
والتي تُطيع أنشودةَ أكبرِها سنًّا، ذلك الذي يقودها بطيرانه وصوته إلى سهولٍ خصبةٍ
وعديمة الأمطار. أيتها الفرقة المُجنحة، يا منافسات السحب بأفرادك ذوات الريش
الطِّوال الأعناق، اذهبي عند شروق بلياسوس Pleiasus
وأوريون Orion المجموعتَين المتألقتَين خلال ديجور
الظلام، واحمِلي الأنباء إلى يوروتاس Eurotas بأن
مينيلاوس قد استولَى على مدينة داردانوس، وهو الآن في طريقه إلى وطنه.»
يُحسُّ المرء في هذه المقطوعة بجمالِ الشِّعر حيث تلعب المخيِّلة السهلة الرشيقة
بالتفاصيل، فتُرسِل الصور الجميلة متراكمةً عبْر حقبةٍ طويلةٍ في شيءٍ من الدعابة
الخفيفة الحركات التي تحكي لجة الماء. ما من أفكارٍ كثيرة وراء تلك التموُّجات،
وإنما سِحر البراعة وتنوُّع الصور.
أما دَور الشاعر الفلسفي فيتجلى في كل موضعٍ خلال أناشيد الكورس، ثم يظهر سافرًا
دون أن يكلِّف نفسَه عَنَاء إخفاء شخصيته، ويعلن بعض أفكاره العامة المولَع بها،
والتي تُضفي على شِعره صفةً تهذيبية، فيخبرنا بتأملاته وبما قرأه أو لاحظه، وإذ
ينطق به على شفاه الرجال المُسنِّين أو عجائز السيدات الذين يستخدمهم مترجمين للسان
حاله، يُنزل الدهشة في نفوسنا، ولكن ذلك لا يمنع مثل هذه الفِقرات، لو نظرنا إليها
في حد ذاتها، من أن تُحدثَ تأثيرًا عميقًا، وتكتسبَ جمالًا رائعًا.
غالبًا ما تحتوي مسرحيات يوريبيديس، علاوةً على أناشيد الكورس، كثيرًا من
الفِقرات الغنائية في صورة مونولوجاتٍ ملحَّنة وأناشيدِ رثاءٍ فردية. ولو أن هذه
كانت نادرةً حتى ذاك الوقت، فإنها كثيرةٌ في تراجيدياته. وإن تقديرنا لها عمومًا
غيرُ كبير. وإذ صُممَت المسرحيات بحيث تسمح بمدحٍ طويل للأصوات أو لحديثِ الممثلين،
فإنها تعتمد كثيرًا على الألحان المصاحبة للألفاظ، وعلى الفعل الدرامي، لإقناع
النظَّارة. نظَم هذا الشاعر مَراثيَه الفردية دون الاعتماد كثيرًا على الأفكار،
دائمًا كان جلُّ اعتماده على الألحان الموسيقية المصاحبة لها، شأنُه في ذلك شأنُ
كاتب أغاني المسرحيات الغنائية (الأوبرا). في مثل هذه الأحوال ليست الألفاظ إلا
أداةً موحية، ولا تكمل العبارة إطلاقًا.
(١-٥) أسلوب يوريبيديس
لما كان يوريبيديس مجددًا في جميع عناصر الدراما تقريبًا، فإنه لا يقلُّ تجديدًا
في اللغة التي يتكلمها أشخاصه، ويتبع هذا التجديد نفس المبادئ والغرائز؛ فهو يميل
بنوعٍ خاصٍّ إلى تطوير لغة التراجيديا؛ بحيث تقرب كثيرًا من لغة الحياة
العادية.
أثنى عليه أرسطو (البلاغة، الجزء الثالث، ٢)؛ لأنه أوهم الجمهور بأنه يتكلم لغة
مجتمعهم العادي، بينما هو في الواقع يعبِّر بأسلوبٍ سامٍ. وأساس هذا الإيهام هو
طريقة ترتيب العناصر المستعارة من الكلام المألوف. ومؤلَّفاته أقلُّ احتواءً
لمصطلحاتٍ شعريةٍ مختلطة بألفاظٍ عامية، من مؤلَّفات سوفوكليس. بَيْد أن الفرق بينه
وبين سوفوكليس لا يرجع إلى اختيار الألفاظ بقَدْر ما يرجع إلى طريقة استخدامها؛
فرغم أن مصطلحاته ليست بنفس الكثرة ولا نفس البريق، إلا أنه أكثر توضيحًا لمختلف
الأفكار، ويقدِّمها في صورٍ أقل دراسة — وبذا تكون أكثر فهمًا. وأهم ما يجعل أسلوبه
ممتعًا، طبيعتُه وسهولتُه، ورغم أنه دُعابيٌّ وتهكُّميٌّ لاذع عندما يتصف بهاتَين
الصفتَين، فإنه لا يبدو متكلفًا. إن به شيئًا مألوفًا عديم الفن، ومرتجلًا، يُضفي
عليه سِحرًا قويًّا، ومع ذلك فليس هذا الأسلوب السريع المفكَّك جافًّا على الإطلاق،
وإن الأذن لترتاح لسماعه كما يرتاح له العقل، نظرًا لسلاسته في تدفُّقه السهل، تلك
السلاسة التي أُعجِب بها أريستوفانيس، وأجهَد نفسَه في محاكاتها.
كان أسلوبه ملائمًا بدرجةٍ عجيبة لاحتياجات حضور البديهة المولَع به الأثينيون.
ليس بوسع أحد أن ينظِّم ويُطيل تبادُل الآراء الوقتية واللاذعة والرفيعة بين
متحدثَين يردُّ كلٌّ منهما على الآخر شِعرًا بشِعر، مثلما يفعل يوريبيديس؛ إذ
تستلزم المناقشات الحادة والمنازعات لغةً حاضرةً عنيفة، وفي غاية الإيجاز والدقة
والمرونة. ولا يجب أن يحدُث تردُّد أو تلعثُم أو عباراتٌ ثقيلة النطق. كما يجب أن
يبدوَ المصطلحُ جديدًا دائمًا ولو أن الأفكار تبدو متشابهة، ويجب أن تكون حركة
العبارات سريعة كي تقطع الحوارات المُمِلة، أو على نقيضِ هذا، تكون هناك تراكيبُ
بارعة، تُعطي من فَورها لأفكار الخصم معنًى غامضًا، أو مخالفًا لما يقصده.
وعندما تقتضي الضرورة تتغيَّر اللغة من تهكُّمية إلى رقيقة، فيجب أن تنزلق من فوق
الأشياء التي لا ينبغي أن تمسَّها، فتحتوي على شبة دلالات، والتواءات، ودوران،
وألفاظٍ موحية، ومعانٍ ثانوية رائعة، وتعبيراتٍ عاطفية حارَّة تجعل الدمع يترقرق
فجأةً في عينَي الإنسان. وليست هذه بأقلَّ تنميقًا من لغة الحقائق الثابتة. وكان
يوريبيديس حتى عصر ميناندر الذي حاكاه، أعظم قائل للحِكَم والأمثال التي عرفَتها
بلاد الإغريق. وفي هذا الصدد ساواه كونتيليانوس بحكماء القرن السادس، الذين أصبحَت
حِكَمهم أقوالًا مأثورةً، أخلاقية، سواء أكانت حقيقية أم زائفة. بَيْد أن البونَ
شاسعٌ بينه وبينهم. يستطيع يوريبيديس أن يوضِّح بإيجاز ومهارة تلك الحقائق العامة،
التي تقع قيمتُها في مجرد التعبير الرقيق، ليس هذا فحسب، بل وعندما يفعل هذا يعطيها
صِبغةً من صفاته الخاصة تُضاعِف من قيمتها.
طُبقَت نظرية «الشرعية» التي كانت وقتئذٍ في طور النمو، على لغته، وعلى المناظر
المبكِّرة في مسرحياته. وقد رأينا كيف يجعل أشخاصه يترافعون في خطبٍ صورية، بطريقةٍ
رائعة حتى أوصَى أساتذة فن التعبير بجعلها نماذج. في مثل هذه المناظر تتجلى العناصر
المنطقية في لغة هذا الشاعر؛ فالاستقالات قصيرة، واللف متنوِّع وبسيط، والأسلوب
لا
يخضع قط لوتيرةٍ واحدة. وإذ كانت عباراته عمومًا قصيرة، ولكن ليست دائمًا هكذا؛
فإنها تكون ثقيلةً عندما يريد تأكيد قضية، وخفيفةً في مواضع تدفُّق الكلام، وسريعة
عندما تقتضي الضرورة ذلك. وبين آونةٍ وأخرى نجد كلمتَين أو ثلاثَ كلماتٍ داخل
قوسَين، فتضيف إلى العبارة حيوية وخفَّة، وعندما تتولد فجأةً فكرةٌ طارئة كالتصنيف
أو الذكريات أو الأسف، تختلط بالفكرة الأصلية دون أن تُفسِدها. وهكذا كان يستعمل
كثيرًا من الواقعية، وقليلًا من البلاغة، والمحسِّنات البديعية. وإذا كثُرَت هذه
الأخيرة في لغته فإنَّه يستخدمها في سلاسة واحتراس.
أما عيب لغة يوريبيديس الشعرية فهو أنها لا تصطبغ بصفة عاطفة أشخاصه، وليست
أرستقراطية بدرجةٍ كافية عند استعمالها للأبطال المستعارين من أساطير البطولة؛ إذ
تُضفي على الأبطال صفة العصر الحديث، وتجعلهم يَبْدون في صورةٍ معاصرة للأثينيين،
كما تجعل كلًّا منهم شبيهًا بالآخر. إنها لغةٌ ملائمة للتعبير عن الآراء والعواطف
العامة ولو أنها تبدو غير ملائمة للتراجيديا ولا لأخلاق الأبطال. وهذا هو السبب
في
أن شاعرًا كوميديًّا أصيلًا مثل أريستوفانيس، قد حاكى يوريبيديس حتى في حياته. كما
أنه يبيِّن لماذا تُنوقلَت لغته دون تعديلٍ أساسي، ميراثًا لميناندر وشعراء
الكوميديا الجديدة.
(١-٦) إكمال عصر التراجيديا
تكوَّنَت لدينا فكرةٌ عامة عن نشأة التراجيديا وتطوُّرها في أهم مظاهرها، وذلك
بأن تناولنا بالدراسة والمقارنة ثلاثة الشعراء التراجيديين العظام في القرن الخامس.
ولإكمال دراستنا نجد لزامًا علينا أن نقول بضع كلمات عن خصائص الشعراء الآخرين
الذين هذَّبوا هذا النوع من الأدب في نفس العصر أو بعده، كما نبيِّن في إيجازٍ كيف
أنهت التراجيديا عصرها في بلاد الإغريق.
يبدو أن عدد الشعراء الذين اشتركوا في مباريات التراجيديا بأثينا، خلال القرن
الخامس، كان عظيمًا؛ فلم يُشتَهر وقتذاك أيُّ نوع من الأدب كما اشتُهرَت
التراجيديا، كما لم يضمن للفائزين مجدًا وربحًا مثلها. ومن المحتمل أن يكون كثيرٌ
من هؤلاء الشعراء قد وضَعوا مسرحياتٍ قيمة؛ فقد فازت بعض مسرحياتهم على مسرحيات
أيسخولوس وسوفوكليس ويوريبيديس. بَيْد أن الأجزاء الباقية منها عبارة عن عناوينَ
وكِسَر ليس غير، وهذه لا تساعد على الدراسة الأدبية. وعلى هذا لا يُمكِننا ألا
نذكُر بسرعة بعضَ أسماءٍ قليلة.
نجد سلسلةً كاملة من شعراء التراجيديا في أسرة أيسخولوس، مثل ابنه يوفوريون وابن
أخيه فيلوكليس Philocles الأكبر، وفي الجيل التالي
لهذَين مورسيموس Morsimus، وميلانثيوس
Melantheus، ولدَي فيلوكليس ومعاصرَي
أريستوفانيس، وهناك شعراءُ آخرون بنفس هذه الأسرة في القرن التالي. وقد أحرز إيوفون
Iophon ابن سوفوكليس بعض النجاح في حوالَي
نهاية حياة والده. أما الشعراء خارج هاتَين الأسرتَين المحظوظتَين، فمنهم إيون
الخيوسي Ion of Chios وكان شاعرًا غنائيًّا
وتراجيديًّا ومؤرخًا، وإلى حدٍّ ما فيلسوفًا، وأخايوس الإريتري
Achaeus of Eretria وقد اشتُهر في الدراما
الساتورية أكثر من التراجيديا، وأريستارخوس
Aristarchus الأركادي أحد مواطني تيجيا
Tegea، ونيوفرون السيكوءوني الذي يبدو أن
تراجيديته ميديا كانت نموذج ميديا يوريبيديس، ويُشتهَر موسخيون
Moschion بمحاولاتِه إعادةَ حياة التراجيديا
التاريخية، وكريتياس Critias أحد طغاة أثينا
الثلاثين، وأجاثو Agatho الذي اشتُهر بنوعٍ خاص في
أنه الشاعر الوحيد بعد أساتذة التراجيديا الثلاثة الذين درسناهم، الذي أبدى طرافةً
حقيقية، ويُقال إن بقية الشعراء يُشبِهون إلى حدٍّ ما إما سوفوكليس، وإما
يوريبيديس، وإما كلَيهما معًا. وُلد أجاثو في سنة ٤٤٥ق.م. وقدَّم في حوالي نهاية
ذلك القرن؛ أي في حوالَي سنة ٤١٥ق.م. نوعًا من التراجيديا يختلف قليلًا عن
التراجيديا المألوفة. كان تلميذًا للسفسطائيين المشهورين، لطيف المعشر، رقيق الخلق،
وقد ذاع صِيتُه لمدة عشر سنوات تقريبًا. غادر أثينا في حوالي سنة ٤٠٥ق.م. ويُقال
إنه مات صغير السن في مدينة بيلَّا Pella بمقدونية
قُبيل نهاية القرن الخامس. وأشهر تراجيدياته: تدمير إيليوم، وأنثوس (الزهرة) أو
أنثويا Anthoea ذات القيمة الخاصة التي تضمَّنَت
ميزةً خاصةً نادرة جدًّا في المسرح، وهي أن الأفكار والأشخاص كانت كلُّها جديدةً
تمامًا. وأعظم تجديدٍ له أنه استعاض عن أناشيد الكورس القديمة ذات الصلة القليلة
أو
الكثيرة بالفعل الدرامي، بقطعٍ موسيقيةٍ لا تَمُتُّ إلى التراجيدية بأية صلة، وهي
عبارةٌ عن فواصلَ موسيقيةٍ بسيطة يمكن نقلُها بسهولة من مسرحية إلى أخرى. وأهم
ميزات مسرحياته، أناقة الأسلوب الذي يتجلى فيه غرامُه بمحاكاة جورجياس
ودراسته.
في حوالَي نفس ذلك الوقت جاء كاركينوس Carcinus
الذي أتمَّ ابنُه مؤلَّفاته، فخرج الحوار الخطابي بالظواهر البصرية الناتجة عن
استخدام الآلات، وأعطى أهميةً أعظم لرقصات الكورس (الباليه). وبعد بداية القرن
الرابع أخذ تاريخ التراجيديا يسير شيئًا فشيئًا نحو الغموض. ونرى أنه يسير في طريق
التدهور. ظلَّت المسارح تعرض التراجيديات غير أن المسرحيات كانت هي القديمة
الكلاسيكية لأولئك الأساتذة العظام — إذ اعتبرَت المسرحيات الجديدة أقلَّ قيمةً
من
هذه. وأكثر العروض كانت لمسرحيات يوريبيديس. وقد نال الممثلون الموهوبون شهرتهم
بتمثيل الأدوار الرئيسية في مسرحياته. وانتظَم الممثلون في جمعيات، وأخذوا ينتقلون
من مدينة إلى أخرى يعرضون أشهر المسرحيات. وأقامت أغلب كبريات المدن الإغريقية
مسارحَ دائمة. وزادت فخامة المناظر بتقديمِ فنِّ الخطابة التراجيدية، ولكن يبدو
أن
مقدرةَ الشعراء على الابتكار أخذَت تضمحلُّ بنفس النسبة. ومن الصعب تحديدُ صفة
التراجيديات الجديدة الأخيرة في حالة غياب المؤلَّفات العظيمة الباقية.
يبدو أن عددًا معينًا من الشعراء كرَّسوا أنفسهم للاستمرار في تراث الأساتذة ولا
سيما متأثرين من يوريبيديس، فاقتصروا على عددٍ قليلٍ من الأساطير العاطفية، وبنَوا
عليه وحدة كل إنتاجهم الأدبي، ساعين إلى تجديده، ليس بزخرفة الأشخاص الذين يبدو
أنهم أُنهِكوا، وإنما بالتراكيب البارعة، والتلاعب بالأفكار المدروس جيدًا، وتفسير
الأفكار القديمة، والأحداث غير المتوقَّعة واستخدام الشرعية والمنطق اللذَين شاعا
في ذلك العصر. وبطبيعة الحال كانت هناك اختلافاتٌ فردية غير معروفة لنا. ونذكُر
من
أشهر هؤلاء الشعراء: أفاريوس Aphareus الابن
المُتبنَّى لأيسوقراطيس، وأستوداماس Astydamas
الأكبر، أحد نسل أيسخولوس، وابن أستوداماس الأصغر، وثيودكتيس الفاسيلي
Theodectes of Phaselis الخطيب والشاعر
التراجيدي الذائع الصيت، وكثيرًا من الأسماء غير هؤلاء وأقل قيمةً منهم.
هناك قلةٌ قليلة علَّقوا أهميةً كبرى على أهمية البلاغة، يتجلى في أعمالهم
مَيْلهم إلى استخدام الزخارف اللفظية. إنهم شعراءُ ضعيفو الموهبة الدرامية، اعتبروا
التراجيديا أساسًا للتضخيم أو الأوصاف، ويبدو أنهم كانوا يهدفون إلى أن تُقرأَ
مسرحياتُهم أكثر من أن تُمثَّل. وأشهر المعروفين من هؤلاء هو خايريمون
Chaeremon الذي ترك لنا كِسَرًا قليلة. يبدو
أنه كان شاعرًا أنيق الأسلوب رغم افتقاره إلى القوة، غير أن أناقته كانت أنثويةً
وغيرَ ملائمة للمسرح.
لم يصلنا من هذه الحقبة الغامضة إلا تراجيديةٌ واحدة هي ريسوس، المنسوبة خطأً إلى
مخطوطات يوريبيديس. وهي تصويرٌ دراميٌّ للأنشودة العاشرة من الإلياذة، عنوانها
«موقف دولون Lay of Dolon». وتقدم موت ريسوس، ملك
تراقية، الذي جاء لمدِّ يد المعونة إلى طروادة، ففاجأه أوديسيوس وديوميد
Diomed في معسكره وقتلاه. إنه مَثلٌ عجيبٌ للفن
المركَّب يُبدي محاكاة أساتذة الدراما الكلاسيكية الثلاثة العظام، مع ذوقٍ ملحوظٍ
لفخامة مناظر التمثيل والإلقاء.
وأخيرًا في حوالي منتصف القرن الرابع، في عصر الإسكندر الأكبر، ظلت التراجيديا
تحتل مكانتَها في المسرح، ولكنها كفَّت عن إنتاج المسرحيات الأصلية. واستمرَّت في
العصور اللاحقة في المسارح التي أقامها خلَف الإسكندر ولكنها لم تتجدَّد. كان أثرها
الذي حقَّقه لها الأساتذة العظام الكلاسيكيون بالغًا، فنشرَت في كل مكانٍ معارفَ
الأساطير القديمة وتراث العواطف الدرامية، وكانت أحدَ عوامل انتشار الهيلينية وجميع
الأفكار والعواطف المتعلقة بها. كانت السبب في نشأة التراجيديا الرومانية، وبعد
ذلك
بمدةٍ طويلة، بعد العصور الوسطى، أسهمَت بقسطٍ وافرٍ في نشأة الدراما الكلاسيكية
الحديثة. ورغم هذا فمنذ عهد الإسكندر يمكن اعتبارها مضمحلة؛ إذ كفَّت عن الإيحاء
بالشعراء العظام. ويبدو أن إحياء هذا النوع لم يكن طبيعيًّا، وذلك بفضل مواهب
الممثِّلين الذين حاولوا الاحتفاظ له بقوَّته، ثم جاء الوقت، كما تنبأ البعض، الذي
ملَّ فيه الجمهور مشاهدة المسرحيات التي شاهدَها عدة مرات، ففضَّل رؤية المناظر
الصامتة للتمثيل بالحركات الذي يعرضُ نفسَ الأساطير دون عناء التكرار
المستمر.
(٢) يوريبيديس وعصره
من متعات دراسة التاريخ الإغريقي القديم — كما يمكن أن نقول، من ميزاته — أن أحداثه
تبدو واضحةً جلية، تحدُث بسرعة، حتى ليتولَّد لدينا انطباع، بأنه في مدَى مجرد قرنٍ
واحد، أو نحوه، وقعَت أحداثٌ أكثر وتغيراتٌ أكثر مما نجد في عصورٍ أطول، مأخوذة من
عصور
الدول الأخرى.
ومن الصعب، في التاريخ الإغريقي كله، أن نجد عصرًا أغنى وأكثَرَ تنوعًا وأسرعَ
أحداثًا من عصر ذلك الكاتب المسرحي الأثيني يوريبيديس
Euripides … يحتمل أنه وُلد في عام ٤٨٥ق.م. ومات في
الخارج. وربما كان هذا في سنة ٤٠٦ق.م.، وقبل مولده بخمس سنوات، حارب الأغارقة في
معركة
ماراثون
Marathon،
١ وكانت انتصارًا للديمقراطية الأثينية الحرة الجديدة على من أطلق عليهم اسم
«حشود الأجناس الشرقية»، الذين كانوا، تبعًا للمعنى الأثيني الحديث «خارج القانون».
وعندما كان يوريبيديس طفلًا في الخامسة من عمره، ربما شاهد من ضَيعة والده في سالاميس
Salamis،
٢ ربما شاهَد تلك الموقعةَ البحرية
العظمى، التي حطَّمَت، في النهاية، آمال ملوك الفرس الذين أرادوا مد فتوحاتهم غربًا،
والتي أبرزَت أثينا، ليس فقط كمنظَّمةٍ سياسيةٍ جديدة، بل وكأعظمِ قوةٍ بحريةٍ في
البحر
الأبيض المتوسط.
لا شك في أن ذلك الطفل كان صغيرًا جدًّا؛ بحيث لا يمكنه أن يدرك تمامًا مجد تلك
الأيام المبكِّرة للتجديد الأثيني، وهيبة أثينا وعظمتها المفاجئة. وفي هذه الناحية،
يختلف يوريبيديس عن كاتبَين مسرحيَّين عظيمَين من كُتَّاب ذلك القرن نفسه، هما أيسخولوس
Aeschylus،
٣ الذي حارب في ماراثون، وسوفوكليس
Sophocles٤ الذي كان شابًّا، وقاد فرقةَ ترتيل أنشودة النصر بعد معركة سالاميس. غير أن
يوريبيديس قضى أيام شبابه ورجولته المبكِّرة فيما اعتبره معظم الأثينيين «شعلة العظمة
الوطنية». وإذا ألقينا نظرةً إلى الوراء إلى تلك العصور، أمكننا أن نراها حِقبةً
فريدة
من حِقَب تاريخ العالم، حِقبة وضعنا فيها أسس مدنيَّتنا الحاضرة. رأت تلك الأيام
مولد
الدراما، وازدهار النحت والمعمار، وأُسس القانون والسياسة والعلوم والفلسفة، ولكن
هذه
كلها كانت مجردَ مظاهرَ لحياة اكتُسبَت بمعجزة تبدو لنا، نحن الذين نُلقي عليها نظرةً
إلى الوراء ببضعة أجيال من الناس. حاول الناس بطرقٍ لم يكن لها مثيل في التاريخ من
قبلُ، حاولوا أن يفهموا ويفسِّروا، على الأقل، ما يختص بالعلاقات الإنسانية بالعالم
الذي عاشوا فيه، نظروا إلى كل شيء بعيونٍ خالية من التعصُّب، واستخلَصوا مما رأَوه
معارفَ جديدةً من النظريات والخيال والسلوك.
يُمكِننا أن نصف عدة أفراد، في طُرقهم، بأنهم يمثلون تلك السنين العظيمة للقرن الخامس
ق.م. وبوسع المرء أن يتكلم بحقٍّ عن عصر سوفوكليس وعصر بركليس
Pericles،
٥ أو ينسب عصورًا إلى ثوكيديديس
Thucydides٦ وسقراط
Socrates،
٧ وكثيرين غير هؤلاء، ولكننا، كذلك، عندما نفكِّر في يوريبيديس، فإننا، على
ما أعتقد، نفكر في عصر يمثل كثيرًا من مظاهر القرن الخامس، وفي عصر يقرب من هذا العصر
الذي نعيش فيه اليوم، وعندما نقرأ يوريبيديس نفسه، فإننا نقرأ أحدثَ كاتبٍ مسرحي
للعالم
القديم.
والخاصيَّتان الواضحتان لعصر يوريبيديس، ولعصرية يوريبيديس هما: أولًا، النوع الكامل
للمعقولية، وثانيًا التأكيد على الفرد (وخصوصًا على معاناة الفرد) التي لم تكن معروفةً
من قبلُ في تاريخ العالم. ولا يُدهِشنا أن نجد أن سقراط كان من المعجَبين العظام
بمسرحيات يوريبيديس، أو أن أريسطو
Aristotle،
٨ أطلَق عليه اسم «أعظم شعراء التراجيديا»؛ وعلى هذا فإننا نفهم من التعبير
«أعظم تراجيدية»، شيئًا مثل: «الشاعر الأعظم قابليةً لأن يُحسَّ بالشفقة
ويُثيرَها».
تحتاج معقولية عصر يوريبيديس إلى بعض التفسير من وجهة النظر التاريخية. إنها معقوليةٌ
تشبه معقوليتنا نحن أنفسنا، ولكنها كانت في عصر يوريبيديس ككثير غيرها «بدعة جديدة»،
وقد انتقدها بشدة، الشاعر الكوميدي أريستوفانيس
Aristophanes،
٩ الذي يجمع بين يوريبيديس وسقراط، كأصحاب نظرياتٍ مُختلِّي العقول. كما أن
لهما بمذاهبهما تلك، تأثيرًا خطرًا منشقًّا على الأخلاقيات. وعندما نتذكَّر أن سقراط،
وهو أستاذ وتلميذ هذا النوع من المعقولية، قتله فعلًا زملاؤه المواطنون، لتأثيره
المدمِّر، يُمكِننا أن نرى أن الفكرة الجديدة، لم تكن فقط موضوعَ كوميدية، بل واعتبرها
كثيرٌ من الناس المحترمين، خطرًا حقيقيًّا. ومع ذلك، فإن الأثينيين، دون سائر الناس،
يفخَرون بشُهرتهم التي يستحقونها كمبتكرين لحرية الكلام التي تمتَّعوا بها. لم يُسمَح،
منذ ذلك الوقت، لأي كاتبٍ في زمن الحرب، أن يهاجم من منبرٍ عام، سياسة حكومته أو
شخصيتها، كما فعل أريستوفانيس. ومع ذلك فإن سقراط بوصفه «واضع نظريات» وليس سياسيًّا
قد
أُعدِم. أما يوريبيديس، بشهرته في هذه «المهارة» الغريبة، ورغم شهرته في بعض الدوائر،
شك فيه معظم رجال الشارع، وكرهوه.
وكما يمكننا أن نرى الآن، كان المستقبل مع سقراط ومع يوريبيديس. وبعد موت يوريبيديس،
سرعان ما اشتُهرَت مسرحياته أكثر من شهرة مسرحيات الكاتبَين المسرحيَّين الآخرَين
اللذَين تمتَّعا، في حياته، بنجاحٍ أكثر من نجاحه. وإن الكوميدية الجديدة التي حلَّت
محل الكوميدية القديمة الفريدة لأريستوفانيس، والتي قُورنَت في كثير من الوجوه
بالمسرحيات العظمى التي نراها اليوم، اقتبسَت الكثير من طريقة يوريبيديس. وبينما
نرى من
الصعب أن نجدَ في أشخاص مسرحيات يوريبيديس اللاحقة أو خطَطِها، التي تذكِّرنا بنظيراتها
في أيسخولوس وسوفوكليس، يبدو يوريبيديس كمُنشئٍ أو مُوحٍ. ومع ذلك، فربما كان هذا
نتيجة
«الفردية» أكثر مما هو نتيجة «المعقولية». وعند مناقشة كلتا هاتَين الصفتَين، يجب
أن
يحذَر المرء ألَّا يعتبر «العصرية» استحقاقًا لازمًا. أما فيما يختص بالمعقولية
الجديدة، بنوعٍ خاص، فعلينا أن نعترفَ بأن بعضَ انتقادات أريستوفانيس كان
صحيحًا.
الحقيقة، أن هذه المعقولية كانت محطِّمة لما ثبت كثيرًا أنه طيب. وقد آمن مَن حاربوا
في ماراثون، وبعضٌ منهم، بالديمقراطية الجديدة، وكلهم (وبوسعنا أن نتأكَّد من هذا)
كانوا على استعدادٍ لأن يحاربوا ويموتوا. كما قيل إن كثيرًا من الأغارقة منذ ذلك
الحين،
آمنوا بتحقيق الاستقلال، ولكنهم آمنوا كذلك، بالآلهة وبالتقاليد، وبأفكار الاستقامة
والخطأ، التي قَبِلوها ودرَسوها، بدلًا من ابتكارها ومناقشتها، وربما افتخَروا بالآراء
الجديدة، والأساليب الجديدة، وطرق التفكير الجديدة، التي اشتُهرَت بها مدينتهم. ولكنهم
فَزِعوا، وبعضُهم في سن الشيخوخة، من أن هذه الفكرة الجديدة، وقد دُرسَت من قبلُ،
لا
تحترم أي شيء، سواء كان شخصًا أو نظامًا أو عُرفًا مرعيًّا أو فكرة «لا تعتدُّ بنفسها».
ويبدو أن الآلهة أنفسهم هُوجموا. وكان يستحيل على العابد أن يفسِّر أن ذلك الهجوم
كان
نوعًا من التقوى.
هناك وازعان؛ أحدهما قيِّم، والآخر ليس بالغَ القيمة، عَمِلا معًا في خلق المعقولية
الإغريقية والأوروبية؛ فهناك «الروح» التي نَصِفها اليوم بأنها «علمية»، والفضول
المتزايد والاحترام الشديد «للحقيقة»، في إطار قواعد التفكير. وهناك نوعٌ من العلوم
التطبيقية لاستخدام الذهن في الهدف الأساسي للحصول على القوة. وكثيرًا ما امتزج هذان
الوازعان في نفس الأشخاص «السفسطائيين» الذين لا يؤمنون بالحق. ليس هذا فحسب، بل
ويفخَرون بأن في مقدورهم أن يعلِّموا تلاميذهم كيف يُحوِّلون الباطل ليظهر في صورة
الحقيقة، وذلك بوسائل الإقناع الإغرائية، ويبدو بهذه الصورة في المحاكم وفي المجالس
السياسية. وطريقتُهم الألمعية الجديدة للإقناع والاكتشاف، مبنيةٌ عادةً على «مذهب
التشكيك» العام؛ فمثلًا جورجياس
Gorgias،
١٠ مواطنٌ ليونتيني
Leontin، ذلك السفسطائي
الواسع الشهرة في أثينا، كتب رسالةً قرَّر فيها (١) أنه لا شيء موجود (٢) وأنه إذا
وُجد
شيء، فلا يمكن أن يُعرف (٣) وإذا أمكن معرفتُه، فإنه لا يُمكِن أن يُنقل بالألفاظ.
وهناك سفسطائيٌّ شهيرٌ آخر، هو بروتاجوراس
Protagoras،
١١ قرَّر أنه فيما يختَص بالآلهة، فلا يُمكِن القول بأنهم موجودون أو غير
موجودين. ويُشتهَر بقوله: «الإنسان هو المقياس.» وهذا قولٌ ذو ميزاتٍ عمليةٍ كثيرة.
ويبدو لمن يؤمنون بالله أو بالآلهة، يبدو خطرًا وغيرَ كاملٍ على الإطلاق.
يبدو أن هناك معنًى «يكون فيه» مذهب التشكيك «الكامل» بالغَ القيمة، كما كان في حالة
سقراط وديكارت
Descartes١٢ ولكن، لكي يكون قيِّمًا، يجب أن يهدف إلى الحقيقة. قد يعترف الإنسان
بالجهل، ولكن دون أن يُنكِر إمكانَ وجود العلم. غير أنه حدث مرةً أن اعتُبرَت جميع
العلوم مجرَّد عُرف، أو أشياء تغدو خَطِرة. وهكذا نقترب من مسألة الإخوة كارامازوف
Karamazov، مسألة ما إذا كانت «كل الأشياء
قانونية»، وعلى الأخص ونحن ضد مسألة القوة، بنوعٍ خاص. هل لأيِّ فردٍ الحق في أن
يُقاوِم الأقوى عندما يبدو أن المقاومة لا تُجدي؟ وهل للأقوى أي «واجب» غير المحافظة
على نفسه؟ وُجدَت هذه المسألة، باستمرار، في أدب القرن الخامس، وقد ذكَرها ثوكيديديس،
ربما في أثمَن صورة، في مؤلَّفه «الحوار الميلي
Melian
Dialogue»، ولكنها تظهر كثيرًا جدًّا في يوريبيديس، وفي المجادلات
المنسوبة إلى سقراط.
ولا يُنكر الآن، أن الطريقة الجديدة للمعقولية قد لعبَت دورًا عظيمًا في خلق ظروف
لإيجاد أمثال هذه الحالات للفوضى الخلقية الكلية، كالتي يصفها ثوكيديديس بأنها وُجدَت
بعد الثورة في كوركورا Corcyra، وبعد الطاعون في أثينا.
وبوسع الشخص المحافظ المتعصِّب غير الذكي، أن يتمسَّك بسهولةٍ بأن التعاليم الجديدة
قد
اقتُبسَت من السفسطائيين، أو من يوريبيديس أو من سقراط، حتى نشأ الجيل الذي يحقِّق
الخيانة السياسية، وعدم احترام الكبار وعدم تمسُّك الزوجات بعفافهن، وعدم الإيمان
بالآلهة، وكافة الرذائل الأخرى التي انتشرَت في ذلك العصر، والتي تخلَّت عن الطهارة
البعيدة عن نقد العصر الماضي. لم يُلاحِظ مثل ذلك النقد أن المعقولية الجديدة يمكن
أن
تزوِّد أي فرد بجدلٍ منطقي، ظاهريًّا، في أي موضوع. وكان أهم مَن استخدموا ذلك قد
كرَّسوا أنفسهم للحقيقة وللإنسانية في حماسٍ غير عادي.
كذلك نلاحظ في كلٍّ من سقراط ويوريبيديس نوعًا من الاحتشام، وهو صفةٌ نادرة بين أنصار
المعقولية في الماضي أو في الحاضر. وبالتأكيد، لا بد أنهم تمسَّكوا بأن كل شيء تحت
الشمس، يجب أن يُنتقد، وأن كل شيء، في طبيعته، بمنأًى عن النقد والفحص، ولكنهم كانوا
يدركون باستمرارٍ أنهم يتخبَّطون في الظلام، في عددٍ من الموضوعات.
ومن المفيد في هذا الخصوص، أن نشير باختصار إلى تناول يوريبيديس للآلهة. ويبدو، في
كلٍّ من العصور القديمة والحديثة، أنه قُرِّظ وهُوجِم، لأسبابٍ خطأ.
هذا، وقد اعتبَر الملحدون الوطنيون، في جميع العصور، اعتبَروا يوريبيديس واحدًا منهم.
إلا أن هذا الاعتبار لم يتأكَّد تمامًا. وربما استند إلى أن يوريبيديس، في كثيرٍ
من
مسرحياته، لا يصوِّر الآلهة يسلكون مسلكًا شائنًا، فحسب، بل ويذكُر بوضوحٍ أنهم يسلكون
مسلكًا غير لائق؛ لذلك افترض أنه لا يمكن أن يكون مؤمنًا بوجود أمثال هذه الكائنات.
ونستنتج أحيانًا استنتاجاتٍ غيرَ مؤكَّدة تقول إن يوريبيديس لم يؤمن بأية آلهة على
الإطلاق.
والآن، أولًا، يجب أن نتذكر، أن جميع التراجيديات الإغريقية عُرضَت في عيدٍ ديني،
وأنها جميعًا، باستثناء عددٍ قليلٍ جدًّا، تناولَت قصصًا أُخذَت من علم الأساطير
عن
أفعال الآلهة، والأبطال وعظماء الرجال. في الماضي البعيد، وفي كثيرٍ من هذه القصص،
(وهذه حقيقةٌ لا تقبل الإنكار)، تلعب الآلهة دورًا شائنًا. ولم يكن يوريبيديس هو
أول
كاتبٍ مسرحيٍّ لاحظ هذا؛ فنجد أيسخولوس، على الأقل، قد تأثَّر كثيرًا، مثل يوريبيديس،
بمسألة الأساطير المرضية لأية فكرةٍ سامية أو معقولة عن الآلهة. وإنه لرجلٌ عميقُ
التديُّن في نظرته (وهذه نقطةٌ هامة جديرة بالملاحظة)، ومتديِّن جدًّا بطريقةٍ غيرِ
مألوفة لنا؛ فمثلًا، يرينا في مسرحية من ثلاثِ مسرحياتٍ باقية، سلوك زوس
Zeus١٣ في أشد الحالات العُرفية والقاسية والاستبدادية. وقد يُغلب بروميثيوس
Prometheus١٤ على أمره، ولكنه رغم هذا يظلُّ بطل المسرحية. ومع ذلك ففي نهاية المجموعة
الثلاثية للمسرحيات، خفَّت الحدَّة. حدثَت بعض الترضية (لا نعرف ما هي، على وجه
التحقيق)، بين زوس وبروميثيوس، ولكن لكي تحدث هذه الترضية، كان لا بد لكلٍّ منهما
أن
يقدِّم بعض الامتيازات للآخر؛ وعلى هذا، لا بد أن يكون ذلك الحاكم الكلي القدرة،
حاكم
الآلهة والبشر، زوس، لا بد أن يكون قد اعترف بخطئه. وبمعنًى آخر، فإن الآلهة أنفسهم،
كانوا قادرين، كما هي الحال مع البشر، كانوا قادرين على التحوُّل من نوعٍ من الوحشية
إلى طريقةِ حياةٍ أسمى. ولا بد أن كانت مثل هذه الفكرة غريبة تمامًا على من يستعملون
كلمة «إله» في سياق التقاليد اليهودية أو المسيحية. والحقيقة، أنه يكاد أن يكون من
الخطأ دائمًا، رغم كونه خطأً لا يمكن تحاشيه، أن نترجم الكلمة الإغريقية
«
Theos» بكلمتنا «إله»؛ فكثيرًا ما يكون معنى هذه
الكلمة لا يشير إلى أكثر من «قوة»، سواء من الناحية السيكولوجية أو من الناحية المادية؛
فمثلًا، الحب الجسدي «قوة» من هذا النوع. وكما ظهر في هيبولوتوس
Hippolytus،
١٥ يمكن أن يكون كذلك رغم أن كلمة «
Theos»
مدمِّرة وغير أخلاقية، تبعًا للمسئوليات الطبيعية. كذلك الشمس «قوة
Theos»، وقد اتُّهِم الفيلسوف أناكساجوراس
Anaxagoras،
١٦ أمام المحاكم بعدم التديُّن عندما أصر على أن أية قطعة حجر ساخنة إلى درجة
الاحمرار، «قوة». لا شك في أن هذه القوى، وهذه الأجسام البعيدة العظيمة كالشمس والنجوم،
موجودة، ولا بد من أخذها في الاعتبار. ومع ذلك فإنها تبدو غالبًا للمتمسِّك
بالأخلاقيات، غير عادلة، وغير مسئولة، كما تبدو سخيفةً لمن يعملون بأذهانهم. ويبدو
أن
الفلاسفة اللاحقين؛ أفلاطون
Plato، وأريسطو، قد عملوا
بنوعٍ من «التوحيد». ومثل هذا المذهب محترمٌ ذهنيًّا، على الأقل. وأفلاطون، كرجلٍ
أخلاقي، لا بد أن طهَّر القصص القديمة التي تتناول الآلهة قبل أن تتناولها أيدي
الصغار.
كذلك كان يوريبيديس أخلاقيًّا بطريقته الخاصة، ويشعُر بالمعضلة الأخلاقية عندما
يفكِّر في الآلهة، وفي الصعوبة المتناهية لتحقيق طرقها على البشر؛ فقد توسل هيبوليتوس
إلى الربة أفروديتي
Aphrodite١٧ بكلامٍ معقول جدًّا، «نظن أن الآلهة يجب أن تكون أكثر تعقُّلًا وأكثر
اعتدالًا من البشر». ومع ذلك، فإن المتفرِّجين كانوا قد سمعوا من هذه الربَّة، بالذات،
أن أكثر الأعمال وحشيةً ضد البشر الأبرياء، قد دُبِّرَت، لمجرَّد جرح كرامتها. إنها
من
وجهة نظرنا ليست أعقل ولا أكثر اعتدالًا من البشر.
وعند عرض المسرحية، كان بوسع أي كاهن بالكنيسة أن يصف أفروديتي بأنها شيطانة أكثر
منها «ربة»، ولكن يبدو أن الجمهور الأثيني لم يجد هذه المسرحية منافية للدين. كانت
هذه،
إحدى مسرحيات يوريبيديس القليلات التي نالت الجائزة. ويشير يوريبيديس نفسه إلى أنه
تُوجَد قوًى كثيرة متعارضة بين جموع الآلهة أنفسهم. ويبدو أنه يذكُر حقائقَ فحسب.
ومع
ذلك، فلا تزال هي حقيقة من حقائق الطبيعة التي يجدها غير ملائمة وغير سارة. وقد سمح
لهيبوليتوس نفسه، الذي يخاف الآلهة، سمح له بأن يقول: «أتمنى لو أن الجنس البشري
كانت
له القوة لأن يلعن الآلهة.» وفي أحد الكورسات يعبِّر عن رأيه بقوله: إن بوسعنا أن
نخمِّن تخمينًا معقولًا، من وجهة نظر المؤلِّف، فيقرأ الأقوال المتناقصة:
سيريحني حقيقة من أحزاني عندما،
تأتي إلى ذهني فكرة الآلهة.
ولكن، رغم أنني أخمِّن أملًا في حكمتهم،
فإن ظني يخيب عندما أنظر إلى حظوظ البشر وأعمالهم.
والحقيقة أن «التخمين مع الأمل» وصفٌ عادل جدًّا لمعقولية يوريبيديس لدى التعرُّض
للموضوع. إنه بعيدٌ عن القول بأن الآلهة يجب أن تُتجاهَل كما أنه بعيدٌ كلَّ البعد
عن
أن يقول إنهم غير موجودين، ولكن يحيِّره تدخُّلهم أو غير تدخُّلهم، ما في هذا شك؛
فإننا
لا نجد في أية مسرحية من مسرحياته، أية محاولة تبيِّن، كما فعل أيسخولوس في «أوريستيا
Oresteia»، أعمال الهدف المقدَّس الذي تصعُب رؤيته،
إلا أنه يُمكِن الإعلان عنه بتوقيره؛ ففي ميديا، كما في عدة مسرحياتٍ أخرى تبدو الآلهة،
لا تلعب دورًا هامًّا على الإطلاق، فيما عدا تزويد البشر بطريقٍ للهروب في النهاية.
أما
في هيبوليتوس، فلا شك في أهمية الآلهة، كما في يوريبيديس؛ حيث يكون الرجال والنساء
هم
الذين يهتمُّون. ويُوجَد في هذه المسرحية بالذات، جمالٌ مؤثِّر، في عبارة الشاب للربة
العذراء أرتيميس
Artemis.
١٨ وهناك شيءٌ مُفزِع ومُرعِب عن قوة أفروديتي البالغة. ومن المؤكد أن أي
جمهورٍ متفرِّج لا بد أن يُحسَّ بوجود تلك القوة ويحسب لها أكبر حساب، ويمكن استنتاج
نفس الدرس من الباكخاي
Bacchae١٩ التي كتبها يوريبيديس العظيم في شيخوخته. وكذلك نجد في مسرحية هيلين
Helen، التأكيد على الحظوظ وعلى آلام البشر ووسائل
هروبهم، أكثر من التأكيد على الآلهة، يغلب دَور الآلهة في الماضي السابق للمسرحية.
والدَّور الذي يلعبونه بسيط وهو دور الغشَّاشين. وبسبب الغَيرة بين الآلهة، فإن جميع
آلام الحرب الطروادية تحدُث. إنها قضيةٌ عديمة المعنى تمامًا؛ لأن الهدف الأصلي من
تلك
الحملة لم يكن إلى طروادة إطلاقًا.
إذن، يمكننا أن نستنتج أنه بينما من السهل علينا فهم معظم الموضوعات، فإنه يُمكِن
أن
نرى يوريبيديس معقولًا لأنه يتكلم بنفس اللغة المنطقية. أما فيما يختَص بالآلهة،
فهو
غير سهل الفهم. ومن الخطأ اعتباره ملحدًا أو من أتباع مذهب عدم كفاية العقل لفهم
الوحي،
أو مؤمنًا، بالمعنى الدارج بيننا.
بَيْد أننا عندما نعتبر نظرته إلى الرجال والنساء وهي ما أطلقَت عليه «فرديته»، فإننا
نجده عصريًّا تقريبًا، بالمعنى الذي نعرفه لهذه الكلمة. ويُمكِن تفسير بعض هذه الحقيقة
بالمقارنة بين نظرته ونظرتنا. وكما رأينا، عاش يوريبيديس في عصر اكتشافاتٍ واختراعاتٍ
مذهلة، وخصوصًا عصر التساؤل الذي دخلَت فيه جميع آراء التفكير والسلوك تحت الفحص
والنقد. كذلك عاش في عصرٍ كانت الحروب فيه مستمرةً تقريبًا، وقد عرضَت مسرحياته في
سنوات النضال الطويل بين أثينا وإسبرطة Sparta: ويبدو
أن يوريبيديس قد تأثَّر، أكثر من أي كاتبٍ آخر في العصور القديمة، بفظائع الحرب
ودمارها، وبمعاناة ضحاياها. ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام بمعاناة الأفراد هو أكثر من
حُب
للسلام. وبوسعنا أن نستنتج عدديًّا وجود أشد الويلات البشرية في أوقات الحروب، كما
أشار
ثوكيديديس، مع انهيار الكبت الطبيعي، فتبدو الطبيعة البشرية وحشيةً غريبة. ومع ذلك
فإذا
لم تكن هناك حروب، فإن المعاناة لا تزال موجودة. وزيادةً على ذلك فإن العبد العادي
أو
المرأة العادية أو الرجل العادي، يمكن أن يُعانيَ نفس ما يُعانيه الملك. وإن يوريبيديس
لينال لقب أكثر الشعراء تراجيدية، في مجال الفردية والجماعية.
كذلك، رغم أن له معجبيه المتحمِّسين له، فقد أساء إلى عُرف عصره. وأحيانًا حدثَت
الإهانة للعرف المسرحي وحده. من المفروض أن جميع الملوك يجب أن يظهروا على منصة المسرح
في ملابسَ فاخرة، وقد قُدِّمَت عدة شكاوى ضد إهانة يوريبيديس، لوضعه ملوكًا على المنصة،
ليسوا أقلَّ من مينيلاوس
Menelaus،
٢٠ في ثيابٍ مُهلهَلة، ويظهرون غير بارزين، فلا يمكن تمييزهم من عامة الشعب
الذين تحطَّمَت بهم السفن. كذلك كَم من عُرفٍ أقل من هذا أهانه يوريبيديس في معاملته
للنساء، ولا سيما في المسرحيتَين ميديا وفايدرا
Phaedra؛ إذ عرض في كلتَيهما سيدتَين مصابتَين بالحب،
ولو أنه ظهر أن حب ميديا كان كراهية. ولا شك في أن كثيرًا من النقاد اعتبروا هذا
العرض
غيرَ لائق، وقد اعترض الأثينيون على ظهور النساء على المنصة يتصفن بالقوة والحماس،
أو
حتى بالطباع الخبيثة، وإن كلوتمنسترا
Clytemnestra
أيسخولوس، وغيرها من النساء الكثيرات في المسرحيات الأخرى، لتبرهن على هذه الحقيقة.
وما
سبَّب الإهانة فعلًا هو على ما يبدو «طبيعية طريقة يوريبيديس»، فيتهمه ناقدوه بنقص
الهيبة. ويعتبرون من الفن الرديء والأخلاق الرديئة، أن يضع على المنصة ملكةً لم يبرِّح
بها الحب فحسب، بل وفي قبضة حبٍّ آثم. وأسوأ كل شيء هو التعبير عن ذلك الحب بلغةٍ
تبدو
شبيهةً بلغة النساء الأثينيات العاديات، باستثناء كونها لغةً حادَّة تُلقي ضوءًا
على
الأماكن المظلمة في النفس، وفي حالاتٍ كثيرة، على أماكن يعتقد رجل الشارع أنها غيرُ
موجودة إطلاقًا. أما المعجَبون به، ويُمكِننا أن نتصوَّر من بينهم سقراط الذي أعجب
به،
ليس فقط لكونه عصريًّا (المهارة وتنوُّع الجدَل الشفَوي، مثل المناظر بين جاسون وميديا)
ولكن كذلك لنظرته الداخلية السيكولوجية النفَّاذة، نقول أما المعجَبون به فبوسعهم
أن
يقرِّروا كَونَ نساء يوريبيديس طيباتٍ أو خبيثات، ليس هو الهدف. ويمكنهم إعطاء أمثلةٍ
للطيبة في مسرحيتَي إيفيجينيا
Iphigeneia وهيلين،
يُمكِن أن تُحدِثَ توازنًا بين السوء في ميديا وفايدرا، ولكن النقطة الهامة هي أن
النساء كنَّ حقيقيات، وحقيقيات بطريقةٍ جديدة؛ لأنهن خُلقن للنوع الجديد للعطف. كانت
القصص من الأساطير، تبعًا لما اقتضَته الضرورة، ولكن هذه الشخصيات الأسطورية تُولَد
من
جديد كبشرٍ معاصرين، يتمتع كلٌّ منهم بكامل حقوقه أو تتمتَّع كلُّ امرأةٍ بكامل
حقوقها.
ولثقة الكاتب المسرحي في الفرد هذه، تأثيرٌ كبير في معرفة طريقة عمله. ويمكن أن يُقال
إن يوريبيديس، بغَض النظر عن احترامه للعُرف المسرحي لعصره، يزوِّد مسرحياته بمقدمة
وخاتمة، كثيرًا ما يكون الأشخاص المتكلمون فيهما، من الآلهة. ويكتب بين المقدمة
والخاتمة، المسرحية الحقيقية التي لا تهتم إلا بالمخلوقات البشرية، ولكن مثل هذه
النظرة
تبسيطٌ أكثر مما يجب. وفي بعض المسرحيات (وخصوصًا الباكخاي) نجد الآلهة جزءًا كبيرًا
من
العمل الدرامي. ويتكلم في كثيرٍ من هذه المقدمات ممثلون آدميون، يتكلمون شخصيًّا
في
مقدِّمات المسرحيات وعلى عكس الخطَط، تبدو أنها تتبع قاعدةً عامة، وهدفُها أن تقدِّم
للجمهور، بسرعة، حقيقةَ ما ستكون عليه المسرحية، وما ستنتهي به. كان هذا إجراءً
مسرحيًّا ضروريًّا، رغم أن النظَّارة الأثينيين يعرفون القصص التي بُنيَت عليها
المسرحيات. كان يوريبيديس يميل كثيرًا إلى استعمال قصصٍ جديدة تمامًا، أو التعبيرات
التي هي من خصائصه في القصص المعروفة من قبلُ. أما الخاتمة، فكثيرًا ما أُلقيَ اللوم
على يوريبيديس فيها، عن نوع من الإهمال وعدم المبالاة في استعمال deus
ex machina، كمجرد طريقةٍ للخروج من مأزقٍ في الخطة أو الدخول فيه،
أو إشباع رغبةٍ دينية رغم أن المسرحية الأصلية قد انتهت من قبلُ.
تُختم ميديا خاتمةً طيبة وطبيعية، ويبرُز عنصر المعجزة ويزيد من حدَّة العواطف
البشرية التي شعَرنا بها طوال المسرحية. وفي هيبولوتوس (التي ربما كانت أعظم مسرحيات
يوريبيديس كمالًا في التكوين) نرى ظهور الربة أرتيميس في النهاية محركًا للعواطف
بدرجةٍ
كبيرة. وكذلك انسحابها وهي تغادر المنصة أخيرًا، للابن المُحتضَر والأب الذي يتصالح
معه. ومن الممكن أن يجد المرء في مسرحية هيلين شيئًا سخيفًا مضحكًا، في الظهور المفاجئ
في نهاية مسرحية الديوسقوري
Dioscuri،
٢١ الذي فعل شيئًا ما ليساعد خلال الوقت الطويل كله، الذي احتاجت فيه إلى
المساعدة، ولكن هذه المسرحية هي كوميدية أكثر منها تراجيدية. ونهايتها جيدة التنميق،
وإذا كانت هزلية قليلًا، فلا أظنها غير ملائمة.
أما فيما يختص بهيكل الجزء الأوسط من المسرحية، فإن يوريبيديس يتبع فيه العرف
التراجيدي، ولو أنه يستخدم فيه بعضَ تنوُّعات من أساليبه الخاصة به. وعلى العموم،
فإن
الهيكل هو إحدى الحلقات أو الأحداث الدرامية التي يفصل بين كل حلقتَين منها فاصلٌ
من
الكورس.
تتضمَّن المسرحيات بعضًا من العمل الدرامي العنيف، أو تقود إليه، ويقع هذا العمل
الدرامي العنيف خارج القصة؛ ولذلك يُنقل على لسان الرسول التقليدي على هيئة خطبة.
ويُشتهَر يوريبيديس بخُطب الرسل. ولا تُوجَد أمثلة لذلك أجمل مما في أعمال يوريبيديس،
وتُوجَد في ميديا وفي هيبولوتوس. أما في الحلقات فإننا نجد الحوار بين الممثلين رائعًا
بحق، لدرجةٍ جعلَت الجميع يُعجَبون بيوريبيديس لمناظره ذات التعرُّف (ومن أمثلتها
مناظرُ مسرحية هيلين). وأعجَب ما اشتُهر به يوريبيديس وشُهد له بمهارته فيه هو التعبير
عن العواطف في الفِقرات، والتي يتبادلها الممثِّلون وكتبها يوريبيديس بالوزن الغنائي
على أن تُعرض بمصاحبة الموسيقى.
ويختلف استخدام يوريبيديس الكورس عن استخدام سوفوكليس له. وفي أيسخولوس، كثيرًا ما
يلعب الكورس دورًا عظيمًا في المسرحية. ويصاحب الممثلين من قرب. وفي بروميثيوس، يُسهِم
الكورس في مصير البطل. أما في يوريبيديس، فكما رأينا، تنحصر الدراما الحقيقية للرجال،
ويشترك فيها النساء. ويقوم الكورس بدور المستمعين العاطفيين، أو يُنشِد أشعارهم
الشكلية، فيُمِد الجمهور بنوعٍ من الأدوار الموسيقية أو المقطوعات الشِّعرية ليُخفِّف
عنهم متاعبَ فظائعِ العمل الدرامي. وتُوجَد أمثلةٌ طيبة لهذا النوع في المقطوعة الشعرية
الشهيرة في هيبولوتوس، والتي تُنشد عندما تغادر فايدرا
٢٢ المنصة لتنتحر. وليس لهذه المقطوعة الشِّعرية شأنٌ بالعمل الدرامي الأصلي
للمسرحية. والحقيقة أنها تذهب بنا بعيدًا عن هذا العمل الدرامي، إلى عالمٍ مثالي؛
حيث
يكون من المستحيل وقوع أمثال هذه الأحداث، ثم تعود بنا ثانيةً تدريجيًّا، في حالةٍ
ذهنيةٍ غريبة تختلف عن جو التراجيدية، الذي وقع فعلًا. وفي الإخراج الحديث للمسرحيات
الإغريقية، يُشكِّل الكورس مزيدًا من المتاعب للمخرج، أكثر من أي شيءٍ آخر، وقد يرى
المخرج أن يستغني عن الكورس تمامًا، ولا سيما إذا كان دوره ضئيلًا، كما في يوريبيديس.
ومع ذلك، فإذا حذَفنا الكورس من أية مسرحية ليوريبيديس، وضحَت الخسارة على الفَور.
وسواء كان الكورس فعَّالًا أو غير فعَّال فإنه جزءٌ متكامل من الدراما. ولا بد أن
يبقى
ليكون إما مصدرَ متعةٍ للمخرجين، أو مصدرَ متاعبَ لهم.
وما قلناه عن الكورس، يجوز أن ينطبق أيضًا على العناصر المسرحية الأخرى، أو على كل
ما
يجول في ذهن يوريبيديس، الذي من أجل التخفيف، حاولنا عزلَه، ولكنه، في الواقع، هو
كل
أجزاء الوحدة الحية. ولقد أكَّدت، بنوعٍ خاص، ما أطلقتُ عليه «المعقولية» و«الفردية»
أو
الإنسانية الخاصة بيوريبيديس. غير أنه لا يُوجَد تضارب بين هاتَين الصفتَين، بل إن
كلًّا منهما تفسِّر الأخرى. كذلك نجد بعض الصفات الأخرى الجديرة بالتأكيد؛ فمثلًا
أن
يوريبيديس هو أول كاتبٍ رومانتيكي في الأدب الأوروبي. وبالطبع، ينجذب إليه المرء
بسبب
عدة عوامل، لنبوغه في التعبير عن خصائص العصر الذي يعيش فيه ذلك المرء. ونحن أيضًا،
ككثيرٍ من المعجَبين به من المواطنين الأثينيين، ندهَش في الحال من مهارته التي قد
نجدها، تبعًا لطباعنا الخاصة، جذَّابة أو منفِّرة، ولكننا، في النهاية، نجد هذه المهارة
ضعيفةً جدًّا، ونرى أنها كلمةٌ غيرُ ملائمة، لنقولها عن هذا الشاعر. كما أننا لنُعجَب
به، ليس فقط لألمعيَّته، وإنما لتفهُّمه، ذلك التفهُّم القلبي والعقلي، وعدم تحيُّزه،
وكذلك عدم تعصُّبه. ونجد هذه الصفات مليئةً بالعطف، في طبيعتها الطيبة والحساسة للعطف؛
حيث لا تُوجَد الطيبة. إنه شخصيةٌ فذة، في عصرٍ بعينه وفي مدينةٍ بعينها، ولكن المجد
الرئيسي الخاص بذلك العصر، وتلك المدينة، هو أن إنتاجه الأدبي قريبٌ جدًّا من عدم
الانتساب لأي عصرٍ معروفٍ لنا.