آلهة الأرض
وعندما حلَّت ليلة العصر الثاني عشر، وابتلَع الصمتُ، الذي هو مدُّ بحرِ الليل، جميع التلال،
ظهر الآلهة الثلاثة، المولودون في الأرض وأسيادُ الحياة، على الجبال، فتراكضت الأنهار إلى أقدامهم،
وغمرت أمواج الضباب صدورهم،
وارتفعت رءوسُهم بجلال فوق العالم،
ثمَّ تكلموا، فتموَّجت أصواتهم كالرعد الرعيد، فوق السهول.
فأريد أن أحوِّل وجهي نحو الجنوب،
لأن الريح تملأ مشامي برائحة الأشياء الميتة.
وأنا أودُّ أن أتنشقَّها.
وهي تملأ دقائق الهواء بوفرة،
فتُزعج حواسِّي كما يُزعجها الهواء الفاسد في الهاوية،
ولذلك أريد أن أحوِّل وجهي إلى الشمال الذي لا رائحة فيه.
وهي ما أودُّ أن أتنشقَّه الآن وفي كل أوان.
إنما تعيشُ الآلهة على التضحية،
وتبرِّد غُلَّة عطشها بالدم،
وتسكِّن قلوبَها بالنفوس الفتية،
وتشدِّد عزائمها بالتأوُّهات الدائمة التي تُصعِّدها أرواح القاطنين في قلب الموت،
وعروشها مبنية على رماد الأجيال.
فأنا لن أمدَّ يدًا لأَخلُق عالَمًا،
ولا لأمحُوَ عالمًا من الوجود.
إنني ما كنتُ لأعيش لو أنني قادر أن أموت،
لأنَّ ثقل الأعصر كلِّها على كتفي،
وهدير البحر الذي لا يَنقطِع يَستنفد كنوز نومي.
فيا ليت لي أن أخسر المطلب الأول،
فأزول كالشمس الزائلة.
أودُّ لو أستطيع أن أجرِّدَ ألوهيَّتي من غايتها،
لأنفخَ أنفاس ميتوتتي في الفضاء،
فلا أكون فيما بعد.
يا ليت لي أن أَحترق وأمضيَ من ذاكرة الزمان إلى فراغ الأزمان!
فإن شابًّا في ذلك الوادي،
يُنشِد مكنونات قلبه في أذن الليل.
إنَّ قيثارته من الذهب والأبنوس،
وصوتَه من الفضة والذهب.
فأنا لا أَقدر أن أختار إلا أصعب الطرق،
لأتتبَّع الفصول، وأُخضِّد شوكة السنين؛ لأزرع البذور وأراقبها إلى قلب الأرض،
لأدعو الزهرة من مخبئها وأُسلِّحها بقوة لتَحضن حياتها، ثمَّ أعود فأقلعها عندما تضحَك العاصفة في الغابة؛ لأُنهض الإنسان من الظلمة السرمدية،
ولكنَّني أحفظ لجذوره حنينها إلى الأرض،
لأغرس فيه العطش للحياة، وأجعل الموت حامل أقداحه،
لأعطيه المحبَّة النامية بالألم، المتسامية بالشوق، المتزايدة بالحنين، والمضمحلَّة بالعِناق الأول،
لأُمنطِقَ لياليَه بأحلام الأيام العلوية،
وأسكب في أيامه رؤى الليالي المقدَّسة.
ثمَّ أحكم على أيامه ولياليه بالمُماثلة التي لا تتغير،
لأجعل خياله كالنسر على الجبل،
وأفكاره كعَواصف البحار،
ثمَّ أعطيه يدًا بطيئةً في الحكم،
وقدمًا ثقيلةً في التأمُّل،
لأمنحه مسرة ليترنَّم أمامنا، وكآبةً ليلتَجئ إلينا،
ثمَّ أجعله وضيعًا عندما تصرخ الأرض في مجاعتها طالبة طعامًا،
لأرفع نفسه عالية فوق الجلد،
ليصير قادرًا على مذاقة غدنا،
وأحفظ جسده يتمرَّغ بالحمأة،
لكي لا يتناسى ذكر أَمسِه.
هكذا يليق بنا أن نَحكم الإنسان إلى منتهى الزمان،
مقيِّدين النسمة التي تبدأ بصراخ أمه،
وتنتهي بنواح أولاده.
لأن الكأس ملطَّخة، والعصير الذي فيها مرُّ المذاق في فمي.
وأنا مثلك قد عجنتُ الطين وصنعت منه أشكالًا متنفِّسة لم تلبث أن سقطت من بين أصابعي إلى الآجام والتلال.
وأنا مثلك قد أنرتُ الأعماق المُظلمة لبداءة الحياة.
وراقبتها تزحف من الكهوف إلى الأعالي الصخرية.
أنا مثلك قد أحضرتُ الربيع ووضعت جماله؛
ليكون غواية تقبض على الشباب وتُرغمه على الإنتاج والتكاثر.
أنا مثلك قد سرتُ بالإنسان من مزار إلى مَزار.
وحوَّلتُ مخاوفَه الصمَّاء من غير المنظورات إلى إيمان مضطرب بنا من غير أن يرانا أو يَعرفنا.
أنا مثلك قد جعلتُ العاصفة الهوجاء على رأسه ليَنحني أمامنا،
وزعزعتُ الأرض تحت قدميه حتى يصرخ إلينا،
ومثلك أثرت الأوقيانوس البربري فطغى على عش جزيرته،
حتى مات في توسله إلينا.
كل هذا فعلته، وأكثر منه،
وكل ما فعلته فارغ باطل.
باطلة هي اليقظة، وفارغ هو النوم.
وثلاث مرات باطل وفارغ هو الحلم.
وفي شَعرها ألف نجمة مِن النَّدى،
وحول قدمَيها ألف جناح.
وفلحْنا الأرض في الضَّباب الأرجواني للفجر الأول،
وراقبْنا الأغصان النَّحيلة نامية،
وغذَّينا الأوراق الفتية على مرِّ الأيام والسنين التي لم تَعرف الفصول.
وحصَّنَّا البراعم ضدَّ العناصر الغَضوب،
وحرسْنا الزهرة من اعتداء الأرواح المظلمة.
والآن، وقد أخرجت كرمَتُنا عنبها،
فأنتم لا تحملونه إلى المعصرة لتملئوا الأقداح.
فأية أيدٍ أقدر من أيديكم ستجمع الثمر؟
وأي مطلب أنبل من عطشكم يَنتظر الخمرة؟
فالإنسان طعام للآلهة،
ومجد الإنسان يَبتدئ عندما تمتصُّ شفاه الآلهة المقدَّسة نسمته الهائمة على غير هدى.
كل ما هو بشريٌّ لا قيمةَ له إذا ظلَّ بشريًّا.
إنَّ طهارة الأطفال، ووجْد الشباب اللذيذ،
وهوى الرجولة العزوم، وحكمة الشيخوخة الناضجة،
إن مجد الملوك، ونصر المحاربين،
وشهوة الشُّعراء، وشرف الحاكمين والقدِّيسين،
كل هذه، وكل ما تَحمله في ثناياها، وهو خبز الآلهة.
وهي لن تكون إلا خبزًا بغير بركة إذا لم ترفعْها الآلهة إلى أفواهها.
وكما أن حبة الحنطة الصمَّاء تتحوَّل إلى أنشودة محبة عندما يَبتلعها البلبل، هكذا الإنسان إذا كان خبزًا للآلهة يتذوَّق الألوهية.
وكل ما هو مِن الإنسان سيأتي إلى مائدة الآلهة الخالدة!
آلام الحمل، وعذاب الولادة،
صراخ الأطفال الذي يشقُّ كبد الليل،
وغم المرأة وهي تصارع النوم التي تتوق إليه لتسكب الحياة الذاوية من ثدْيَيها.
الأنفاس المُلتهبة الخارجة من صدور الشباب المتقطِّعة، والعبرات المُثقلة بأحمال الأهواء التي لم تفتح خزائنها بعد.
جباه الرجولة القاطرة عرقًا وهي تَحرُث الأرض الجدباء، وتحسُّرات الشيخوخة الذابلة عندما تدعو الحياة — ضدَّ إرادة الحياة — إلى القبر.
تأملوا، هذا هو الإنسان!
مخلوق يَلدُه الجوع فيصير طعامًا للآلهة الجائعة،
وكرمة تدبُّ في تراب الأرض تحت أقدام الموت الذي لا يموتُ.
زهرة تُزهر في ليالي الأشباح الشريرة،
وعنب لا ينضج إلا في أيام الدموع والرعب والعار.
وأنتم على رغم هذا كلِّه تَطلُبون إليَّ أن آكُل وأشرب،
وترغبون إليَّ أن أجلس بين الوجوه المكفَّنة.
وأستقي حياتي مِن الشِّفاه الصخرية،
وأقتبل خلودي مِن الأيدي اليابسة!
إن الشاب يغني في أعماق الوادي،
ولكنَّ أنشودته تتصاعَد إلى أعالي الجبال،
وهو يهزُّ الغابة بصوته، ويشقُّ كبد السماء، ويبدِّد أحلام الأرض.
والعسل مرُّ المذاق في فمك،
إنني أودُّ أن أعزِّيَك،
ولكن أنَّى السبيل إلى ذلك؟
فليس يُصغي غير الهاوية عندما تُخاطب الآلهةُ الآلهةَ؛
لأن الهوَّة الفاصلة بين الآلهة لا تُحدُّ ولا تقاس،
والفضاء صامت لا ريحَ فيه،
ومع كلِّ هذا أريد أن أعزِّيَك،
أريد أن أجعل دائرتك المتلبِّدة بالغيوم نقية صافية.
ومع أننا مُتساويان بالقوة والفهم،
فإنني أريد أن أُخلص لك النصح.
عندما خرجَتِ الأرض من الفضاء، ورأينا نحن، أبناء البدء، أحدنا الآخر في النور الذي لا عيب فيه، حينئذٍ أصعدنا الصوت الخفيَّ، المُرتعش، الأول، الذي أنعش مجاري الهواء والماء.
ثمَّ مشينا، جنبًا إلى جنب، على سطح العالم الفتي الشيخ، ومن صدى خطواتنا البطيئة وُلِدَ الزمان إلهًا رابعًا، فاقتفى آثار خطواتنا، وأظلم بخياله أفكارنا ورغباتنا، ولم يرَ إلا بنور عيوننا.
ثمَّ جاءت الحياة إلى الأرض، وجاءت الرُّوح إلى الحياة، وكان الرُّوح نغمًا مُجنَّحًا في الوجود، فحكمنا على الحياة والرُّوح، ولم يقدر أحد غيرنا على معرفة مقاييس السنين، وموازين الأحلام السديمية في الأعوام، حتى جاء العصر السابع فزففْنا في مدِّ ظهيرته البحر عروسًا للشمس.
ومن مضجَع هذا الزواج المقدَّس أخرجنا الإنسان، الذي على رغم ضعفه وسقمه، ما برح يَحمل شارةَ والديه.
وبواسطة الإنسان، الذي يمشي على الأرض وعيناه في النجوم، قد وجدنا طُرُقًا نافذةً إلى أبعد الأصقاع النائية في الأرض، ومن الإنسان، وهو القصبة الوضيعة النامية على المياه المُظلمة، قد صنعنا مزمارًا نسكب من قلبه الفارغ صوتنا إلى العالم الصامت في جميع أرجائه، ومن الشمال الذي لا شمس فيه، إلى رمال الجنوب المُحترقة بالشمس، ومن أرض عرائس النيل حيث تُولد الأيام، إلى جزائر الأخطار حيث تذبح الأيام،
ترى الإنسان الضعيف القلب يتشجَّع بغايتنا،
فيغامر بالقيثارة والسيف.
فهو يُذيع إرادتنا، ويُعلن سيادتنا،
والمَجاري التي يطؤها بأقدام محبَّته هي أنهار سائرة إلى بحر رغباتنا.
إننا نحثُّ أيامه لتُفارق وادي الشفق البعيد، وتنشد كمالها على التلال،
وأيدينا تُسيِّر العواصف التي تجرف العالم،
وتحمل الإنسان من السلامة العقيمة إلى الجهاد المُثمر،
ومِن ثمَّت إلى الانتصار،
وفي أعيننا بصيرة نيِّرة تحوِّل نفس الإنسان إلى لهيب،
وتقودُه إلى وحدة رفيعة ونبوَّة ثائرة،
ومن ثمَّت إلى الصلب،
فقد وُلِدَ الإنسان للعبودية،
وبالعبودية شرفه ومكافأته،
بالإنسان نطلُب علامةً لما بنا،
وبحياته نَنشُد كمال ذواتنا.
فإذا أخرَسَ تُراب الأرض قلب الإنسان، فأي قلبٍ يستطيع أن يرى صدى صوتنا؟
وإذا عميَت عيون الإنسان بظلمة الليل، فمَن يستطيع أن يرى لمعان مَجدِنا؟
فماذا يجب أن نفعل بالإنسان وهو ابن قلبنا الأول، وهو صورتنا ومثالنا؟
إن قدمَي الراقصة الحسناء قد سكرتا بخمرة الإنشاد،
فأثارتا دقائق الهواء المُرتعشة،
وهي كالحمامة تحلِّق مرتفعةً بجناحَيها.
ولكنَّ النسر يحوم فوقها،
وهي لا تتوقَّف لتُصغي إلى الإنشاد.
أنت تريد أن تعلن محبة الذات مُتكمِّلة بعبادة الإنسان، وراضية بعبودية الإنسان.
ولكن محبة ذاتي لا حدَّ لها ولا قياس.
فأنا أريد أن أسموَ على ما يموت منِّي في الأرض،
وأتَّخذ لي عرشًا في السماوات،
فأمنطق الفضاء بذراعي، وأُحيط بالأفلاك،
وأريد أن أتَّخذ من المجرَّة قوسًا،
ومن المُذنبات سهامًا.
وباللانهاية أريد أن أحكم اللانهاية.
أما أنت فلا تريد أن تفعل هذا ولو كان في منالك.
فنسبة الإنسان إلى الإنسان،
هي كنسبة الآلهة إلى الآلهة.
وأنت تريد أن تحمل إلى قلبي التعب،
ذكرى الأدوار المنقضية في الضباب،
في حين أن نفسي نشدت ذاتها بين الجبال،
وعينيَّ تعقَّبتا صورتهما في المياه الهاجعة،
ولكن عروس أمسي قضتْ نحبها في أثناء ولادتها،
فالصمت فقط يزور رحمها،
والرمال التي تَقذفها الرياح تُرضع ثديها.
فيا أمسي أيها الأمس المائت، يا والد ألوهيتي المقيدة.
أي إله عظيم قبض عليك في طيرانك،
وأرغمك على الولادة في قفص؟
وأية شمس جبَّارة بعثت حرارتها في بطنك لتَلِدي؟
إنني لا أباركك، ولكنَّني لا ألعنك.
فكما أنك أثقلت كاهلي بأحمال الحياة،
هكذا أثقلتُ أنا كاهل الإنسان.
بيد أنني كنتُ أقل قساوةً منك.
فأنا، الخالد، قد جعلت الإنسان ظلًّا زائلًا.
أما أنت، المائت، فقد خلقتَني خالدًا.
فيا أمسي، أيها الأمس المائت،
هل تعود مع الغد البعيد،
فأقودك إلى المحاكمة؟
وهل تَستيقظ مع الفجر الثاني للحياة،
فأمحو ذاكرتك العالقة بالأرض من الأرض؟
أودُّ لو أنَّك تقوم مع جميع الأموات القدماء،
حتى تَختنق الأرض بأثمارها المريرة،
وتُنتن جميع البحار بدماء المذبوحين فيها،
ويَستنزف الويل فوق الويل كل ما في الأرض من الخصب الذاهب عبثًا.
قد سمعتْ فتاتُنا الأنشودة الساحرة،
وهي تفتِّش الآن عن المرنِّم.
وهي كالخشف، في دهشة مسرَّتها،
ترقص فوق الصخور والجداول،
فتديرها في جميع الجهات.
ما أجمل الغبطة التي تُرافق المطالب المائتة،
والعين التي تفتحها الغاية النصف المولودة!
ما أحلى الابتسامة المرتجفة لما ستتمتَّع به من الغبطة الموعود بها!
أية زهرة تساقطت من السماء،
أي لهيب ارتفع عن الجحيم،
فحمل قلب الصمت إلى هذا الفرح والخوف المقطع الأنفاس؟
أي حلم حلمناه على الأعالي،
أي فكر بعثْناه في الريح،
فأيقظ غفلة الوادي،
وفتح عيني الليل؟
وأُعطيت الفنَّ لحياكة الثياب.
فالنَّول والفنُّ سيكونان لك إلى الأبد،
وسيكون لك معهما الخيط الأسود والنور،
ولك أيضًا الأرجوان والذهب.
وأنت مع كلِّ هذا تحوك من نفسك ثوبًا.
قد نسجت يداك نفس الإنسان من الهواء الحيِّ والنار،
وأنت تريد الآن أن تقطع الخيط،
وتُطلق أصابعك الشعرية في الأبدية الخاملة.
وفي الحقول التي لم تَطأْها قدمٌ سأطلق قدمي،
فأية مسرة لي في سماع الأناشيد التي طالما سَمعها غيري، التي تلتقط ذاكرة الأذن أنغامها قبل أن يسلِّمها النفس إلى أمواج الهواء؟
إنَّ قلبي يحنُّ إلى ما يستطيع أن يتصوره،
وأنا لن أرسل رُوحي إلا إلى عالم غير المجهول الذي لا تقطن فيه الذاكرة.
بربك، لا تُجرِّبني بمجد فارغ،
ولا تطلب لي تعزيةً بأحلامك أو أحلامي؛
لأن كل ما فيَّ، وكل ما في الأرض،
وكل ما سيكون في الوجود، لا يَقدر أن يستهوي نفسي.
فيا نفسي،
إن وجهكِ صامت،
وأشباح الليل النائمة في عينيك.
ولكن صمتك راعب،
وأنت راعبة.
إن الفتاة قد وجدت المُرنِّم.
فهي تنظر وجهه المحبوب.
وهي كالنمر تتخطَّر بخطوات ساحرة،
بين الدوالي والأسيجة المُتموِّجة.
وهو يَنظر إليها الآن في وسط أناشيد محبته.
أواه يا أخويَّ، أيها الأخوان الغافلان،
هل هنالك إلهٌ آخر وقد حاك من آلامه هذا النسيج القرمزيَّ والأبيض؟
أيُّ نجم جامح قد أفلتَ هاربًا؟
ومن يفصل الليل عن النهار بسرِّه؟
ومن يضع يده على عالمنا؟
أيتها الدائرة المحترقة التي تُمنطقني بلهيبها،
كيف أستطيع أن أقود سيرك،
وإلى أي فضاء أدير شوقك؟
يا نفسي التي لا رفيق لها،
إنك في مجاعتك تَصطادين ذاتك،
وبدموعك تريدين أن تبرِّدي عطشك؛
لأنَّ الليل لا يجمع نداه في أقداحك،
والنَّهار لا يَحمل إليك أثماره.
يا نفسي، يا نفسي،
أنت تحملين سفينتك إلى الشاطئ وهي مثقلة بأحمال الراغبات،
فمن أين تأتي الرِّياح لتملأ شعارك،
وأي مد فيَّاض يقدر أن يُحرِّر دفَّتك؟
إن مرساتك حاضرة وجناحَيك على أُهبة الطيران،
ولكنَّ السماء صامتة فوقك،
والبحر الهادئ يهزأ بسكونك.
فأيُّ رجاء ثمَّت لي ولك؟
وأي تقلب في العوالم، أو تبدُّل في غايات السماء سيَطلُبك؟
هل تحمل رحم عذراء اللانهاية زرعَ منقذك،
ذلك الذي هو أقدر من أحلامك،
وستنقذك يده من عبوديتك؟
وأنفاس قلبك المُلتهِب،
لأن أذن اللانهاية الصماء، وغافلة هي عين السماء،
فنحن كل ما وراء العالم وكل ما فوقه،
وبيننا وبين الأبدية غير المحدودة لا يوجد شيءٌ غير أهوائنا التي لم تتشكَّل، وغاياتها التي لم تتكمل.
أنت تستهوي غير المعروف،
وغير المعروف، المرتدي بالضباب المتحرك،
إنما يقطن في أعماق نفسك.
نعم، في أعماق نفسك يضطجع مُنقذُك نائمًا،
وهو يرى في نومه ما لا تراه عيناك المستيقظتان.
هذا هو سرُّ كياننا،
فهل تُعرض عن جمع حصادك؛
لتُلقي بذارك بعجلة إلى أثلام أحلامك؟
وعلامَ تبسط سُحبك في الحقول الخربة،
في حين أن قطيعَكَ يفتِّش عنك،
وأنت عبثًا تجمع في خيالك؟
فتأنَّ، وأنعم نظرك في العالم.
انظر إلى أولاد محبَّتك غير المَفطومين.
إن الأرض هي مسكنك، والأرض هي عرشُك،
وفوق أرفع آمال الإنسان تَقبض يدك على قسمته،
أنت لا تُريد أن تتركه،
وهو المجاهد أن يصلَ إليك بمسرَّاته وآلامه.
وأنت لا تُحوِّل عينيك عن الحاجة التي في عينيه.
أم هل يَعبأ البحر بأجسام موتاه؟
كالفجر تنهَض نفسي في أعماقي،
عارية غير متحيِّرة.
وكالبحر الذي لا يَستريح،
يطرَح قلبي عنه النفاية الزائلة من الأرض والإنسان.
إنني لن أعلِّق بكل ما يعلق بي،
ولكنني أريد أن أسموَ إلى ذلك المُتسامي فوق ما تصل إليه قوتي.
إن روحين سائرتين إلى النجوم قد اجتمعتا في الجو للحساب.
وهما تنظران الواحدة إلى الأخرى بصمتٍ وسكون.
إن المرنم قد انقطع عن الغناء،
ولكنَّ حلقه الذي حرقته الشمس يَرتعش بالأناشيد،
ورفيقته الراقصة قد سكن الرقص في أعضائها،
بيد أنه لم ينم.
يا أخويَّ، أيها الأخَوان الغريبان،
إن الليل يشتد ادلهمامًا،
والبدر يزداد إشراقًا، وبين الغابة والبحر،
تصرُخ المحبة بأعلى الصوت تدعوكما وتدعوني إلى قلبها.
والحياة والمراقبة لليالي الأحياء،
كما تُراقبنا عين الجوزاء!
يا لحقارة مجابهة الرياح الأربع برأسٍ مُكلَّل رفيع،
وشفاء أسقام الناس بأنفاس لا مدَّ في بحرها!
إنَّ الخيَّام جالس يخبط خبط عشواء أمام نوله،
والخزَّاف يُدير دولابه بعدم اكتراث،
أما نحن، الذين لا ينامون، ويعرفون كل شيء،
فقد أُعتقنا من ظلمة الظنِّ والتخمين؛
فنحن لا نتردَّد ولا نُنعم الفكر والنظر؛
لأننا قد سمونا رفعةً على جميع الأسئلة القلقة.
فلنعش مطمئنين، ولنُطلِق طيور أحلامنا من أقفاصها.
وكالأنهار فلنسكب في البحر،
من غير أن تُديرنا حافات الصخور،
فإذا بلغنا قلب اللجَّة، وابتلعتْنا أمواجها،
انقطعنا عن المجادلة والتأمل في مصير الغد إلى الأبد.
وهذا السهر السائر بالنهار إلى الشفق،
والذاهب بالليل إلى الفجر!
أُفٍّ من هذا المد الذي يحملنا إلى الذكرى الدائمة، والنسيان الدائم،
وهذا الزرع المُتواصل لبذار الأقذار التي لا تحصد منها غير الآمال،
وهذا الرفع غير المتغيِّر للذات من التراب إلى الضباب،
لتَحنَّ إلى التراب، ثمَّ تسقط بحنينها إلى التراب،
ثمَّ لا يلبث أن يتضاعف حنينها فتنهض ناشدةً الضباب ثانية!
أُفٍّ من هذا القياس الذي بغير أوانه للزمان الذي لا يتغيَّر!
وهل تحتاج نفسي إلى أن تصير بحرًا تُزعج مجاريه بعضها بعضًا إلى الأبد، أو جوًّا تتحوَّل فيه الرياح المُتحاربة إلى زوبعة؟
لو كنتُ رجلًا، لو كنتُ عبيرًا أعمى،
لكان في طوقي الصبر على كل هذا.
أو لو كنت الإله الأعلى، الذي يملأ فراغ الإنسان والآلهة، لكنتُ أكتفي بذاتي.
ولكن أنا وأنت لسنا بشرًا،
ولا نحن بالعليِّ الذي فوقنا،
ولكنَّنا أشفاق (جمع شفق) لا تنقطع عن الظهور والزوال من أفق إلى أفق.
وآلهة، تمسك بالعالم ويُمسِك العالم بنا.
وقد قُضيَ علينا أن ننفخ بالأبواق،
ولكنَّ الرُّوح النافخة والموسيقى الخارجة من أبواقنا ليست مِنَّا، بل تأتي من فوق.
لذلك تراني أرغب في الثورة.
أريد أن أستنزفَ ما بي حتى أصير فارغًا،
أريد أن أبتعد عن بصيرتك،
أريد أن أختفيَ من ذاكرة هذا الشاب الصامت، الذي هو أخونا الأصغر، الجالس قريبا مِنَّا يتأمل في ذلك الوادي،
ومع أن شفتَيه تتحرَّكان فهو لا ينطق بكلمة.
إنني أتكلم بالحقيقة.
ولكنكما لا تسمعان غير حديثكما.
أطلب إليكما أن تَنظُرا مجدَكما ومجدي،
بَيد أنَّكما تتحوَّلان، وتُطْبقان أجفانكما، وتهُزَّان عرشيكما.
فيا أيها الحاكمان الراغبان في السيادة على العالم العُلويِّ والعالم السُّفليِّ،
أيها الإلهان الأنانيَّان اللذان لا يَنقطع أمسهما عن حسد غدِه،
أيتها التَّعِبان من أثقال ذاتكما، المُهدِّئان حدَّة غضبكما بالكلام، والضاربان مَحاجرنا بالصواعق!
ليس مخاصمتكما سوى صوت القيثارة القديمة،
التي نَسيَت أصابع القدير نصف الضرب على أوتارها، ذلك الذي الجوزاء عوده والثريا صنوجه،
وهو حتى في هذه الساعة التي تُتمتِمان وتُدمدمان فيها يضرب على عوده وصنوجه،
فألتمس منكما أن تُصغيا إلى أنشودته.
انظرا، رجلًا وامرأة،
لهيبًا مع لهيب،
يَذوبان وجدًا وهيامًا.
جذور ترضع ثدي الأرض الأُرجواني،
وزهورٌ مِن نار على صدر السماء.
ونحن الثَّدي الأرجواني،
ونحن السماء الباقية.
إن نفسنا، التي هي نفس الحياة، نفسكما ونفسي،
إنما تُقيم الليلة في حلق ملتهب،
مجلَّلةً جسم فتاة طاهرة بثَوب من الأمواج الثائرة.
إن صولجانكما لن يغيِّر هذه القسمة المُعَدَّة لنا.
وهمومكما هي الطموح بعينه؛
لأن هذا جميعه سيُمحى من الوجود في هوى الرجل والمرأة.
تأمل كيف تَرقُص الريح الشرقية الرشيقة،
وتنهض الريح الغربية مُترنِّمةً بأُنشودتها.
انظر إلى محجَّتنا المقدَّسة جالسةً على عرشها الآن،
باستسلام رُوح يغنِّي إلى جسد يرقص.
ولن أنظر إلى أولادها في الألم البطيء الذي تُسميه محبة.
وما هي المحبة،
سوى طبل مقنَّع يقود مركبًا طويلًا من الريب اللذيذ، إلى شكلٍ آخر من الألم البطيء؟
إنني لا أريد أن أنظر إلى هذا الوهم.
وأي شيء تراه هناك،
إلا رجلًا وامرأةً في الغابة التي نمت لتصطادهما في فخاخها، وتعلمها إنكار الذات،
وولادة المخلوقات لغدنا الذي لم يولد بعد؟
والقناع المظلم الذي وضعه تفحُّصُنا وتساؤلنا على وجه العالم، والاستنهاد الذي نوجهه في كل ساعة للصبر البشري!
فنحن نضع تحت حجرٍ شكلًا من الشمع،
ثمَّ نقول: إنه شكل من الطين،
فليجد من الطين آخرته.
ونمسك بأيدينا لهيبًا أبيض،
ثمَّ نقول في قلوبنا:
إنه عبير ذواتنا يرجع إلينا،
ونسمة نسمتنا الفالتة مِنَّا،
وبعد ذلك نعمد مفتشين في أيدينا وشفاهنا عن المزيد من العبير.
فيا إخوتي، آلهة الأرض،
إننا وإن كُنَّا في أعلى الجبل،
فنحن ما زلنا نسير إلى الأرض،
بواسطة الإنسان الراغب في الساعات الذهبية التي في نصيب أخيه الإنسان.
فهل تسلب حكمتنا الجمال من عينيه؟
أم هل تُخضع مقاييسُنا أهواءه فتحملنا إلى السكون، أو تقودُنا إلى مستوى أهوائنا؟
ماذا تقدر أن تصنع جيوش أفكاركم،
حيث تجتمع المحبة بجيوشها الجرارة؟
إلا أنَّ الذين غلبتْهم المحبة،
وسارت بمَواكبها فوق أجسادهم من البحر إلى الجبل،
ومن الجبل إلى البحر،
يَقفون الآن، وفي كل أوانٍ، مُتعانقَين بحياء ووقار.
باجتماع أوراق زهور محبَّتهم يتنشَّقون عبير الحياة المُقدَّس،
وباتحاد نفوسهم يجدون نفس الحياة،
وعلى أجفانهم تَرتسم صلاة مُرتفعة إلينا.
المحبة هي ليلٌ مُنحَنٍ بوقار تحت خيمة مقدَّسة،
وسماء قد تحولت إلى غابة،
بل هي جميع النجوم قد تحولت إلى حباحب.
نحن بالحقيقة كل ما وراء العالم وكل ما فوقه.
ولكن المحبة أبعدُ من أن تصل إليها أسئلتنا،
وأسمى من أن تبلغ إليها أنشودتنا.
ولا تهتم بهذا الكوكب الذي غرستَ فيه عزيمتك؟
ليس في القضاء مركز إلا حيث نزفُّ النفس إلى النفس،
ويكون الجمال شاهدًا وكاهنًا.
فتأمَّل وانظر الجَمال مُبعثرًا حول أقدامنا.
تأمل جيِّدًا كيف يملأ الجمال أيدينا ليُنزل العار بشفاهنا،
إنَّ الأبعد هو الأقرب.
وحيث يكون الجَمال يكون كل شيء.
أواه أيها الأخ الحالم الرفيع!
ارجع إلينا من عهد أرض الكآبة القاتمة.
حرِّر قدمَيك من اللامكان واللازمان.
واقطن معنا في هذه الطمأنينة الآمنة،
التي ابتنتها يداك وأيدينا حجرًا فوق حجر.
انزع عنك ثوب خفَقان قلبك،
وكن رفيقًا لنا في السيادة على هذه الأرض الفتية، الحارة بجلال خُضرتها.
هل تُريد بالحقيقة إلهًا لضحيتِك في هذه الليلة؟
إذن فأنا قادم، وبقدومي أقرب محبَّتي وألَمي.
هنالك تقف الراقصة، التي نُحتَت من شوقنا القديم.
والمرنِّم يصيح بأناشيدي في أمواج الريح.
وفي ذلك الرقص، وفي ذلك الإنشاد،
يموت إله قدير في أعماقي.
إنَّ إله قلبي القاطن وراء ضلوع بشريتي يُنادي إله قلبي المقيم في الهواء.
والهاوية البشرية التي طالما عطلت عليَّ راحتي تصرخ إلى الألوهية.
والجمال الذي نشَدْناه منذ البدء يصرخ إلى الألوهية.
وفي إصغاء قد قست هذا الصراخ.
وها أنا أُلقي سلاحي.
فالجمال طريق يؤدِّي إلى الذات المقتولة بيد ذاتها،
فاضرب أوتارك.
إنني مستعدٌّ للسير على الطريق،
فهي تمتد إلى فجر آخر.
سواء أكانت المحبة بياضًا ناصعًا أو خضرةً زاهيةً بجانب بحيرة، أو كانت جلالًا وفخارًا في القباب الرفيعة، أو كانت في بستان حافل بالناس، أو في صحراء لم تَطأها قدم الإنسان.
فالمحبة هي ربنا ومُعلِّمنا في كل حال،
فهي ليست بالشَّهوة الزائدة في الجسد.
ولا هي فُتات الرغبة المُتساقط من مصارعة الرغبة للذات.
كلَّا، ولا هي بالجسد الحامل سلاحه على الروح؛
لأن المحبة لا تعرف الثورة،
ولكنها تهجر طريق الأقدار القديمة لتسير إلى الغابة المقدسة،
لترقص وتترنَّم بأناشيد أسرارها في آذان الأبدية.
المحبة شباب قد تحطَّمت قيوده،
ورجولة قد تحرَّرت من عناء الأرض،
وأنوثة حارة بلهيبٍ مقدَّس، مُشرقة بنور سماءٍ أبهى من سمائنا.
المحبة ضحك بعيد في أعماق الرُّوح.
المحبة حملة قديرة تسير بك إلى يقظتك.
المحبة فجر جديد على الأرض،
ويوم لم تصل إليه لا عينك ولا عيني،
ولكن المحبة قد وصلت إلى قدس أقداسه بقلبها الأعظم.
يا أخويَّ، يا أخويَّ،
إنَّ العروس قادمة من قلب الفجر،
لتلاقي عروسها القادم من الغروب،
وسيكون عرسٌ في الوادي،
ويومٌ أعظم من أن تُدوَّن حوادثه.
وهكذا سيكون إلى بعد المساء الأخير.
إنَّ جذورنا قد أنبتت الأغصان الراقصة في الوادي،
ونحن أزهار عبير الأنشودة المُرتفعة إلى الأعالي.
فالخالد والمائت نهران توءمان يُناديان البحر بغير انقطاع،
وليس بين النداء والنداء فراغ قطُّ، إلا في الأذن.
فالزمان يزيد إصغاءنا ثقة،
ويضيف إلى رغباته.
ولا يخرس الصوت في المائت غير المرتاب.
أما نحن فقد تسامَينا على الشكوك؛
فالإنسان هو ابن قلبنا الأصغر.
الإنسان إلهٌ يَرتفع إلى ألهويته ببطء شديد،
وبين مسرَّته وألمه نَنام ونحلم أحلامنا.
ودعني أطمئنُّ هنيهة،
إن نفسي تريد أن تستريح الليلة.
فقد يَغلبني النوم،
وفي نومي أرى عالمًا أكثر نورًا من هذا العالم،
فتأتي مخلوقات أبهى من مخلوقاتنا فتسترق طريقها إلى فكري.
وأرقص في ذلك الحقل الذي لم تَطأه قدما إنسان،
وستتحرَّك قدما الراقصة مع قدمي،
وسأترنَّم في ذلك الملأ الأعلى،
وسيَختلج صوتٌ بشريٌّ مع صوتي.
سنَعبُر إلى الشفق البعيد،
فقد نَستيقِظ في فجر عالم آخر.
ولكنَّ المحبة باقية،
ولن تُمحى آثار أصابعها.
إنَّ الكور المقدَّس متأجِّجٌ بالنار،
وكل شعلة تصعدُ منه هي شمس محترقة.
فالأجدر بنا، والأحكم لمصلحتنا،
أن نفتِّش عن زاوية صغيرة فنَنام في ألوهيتنا الأرضية،
تاركين أمر قيادتنا إلى اليوم المقبل، إلى المحبة البشرية الضعيفة.