الفصل العاشر
كادت كلمات فريزن تطير بلب سيرل؛ «إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة»! وبحث الاثنان عن مأوى لهما في ليسن، إذ لم يكن هناك قطار معين يعود إلى ستراسبورج في تلك الليلة، ووجدا غرفتين بسيطتين نظيفتين في فندق صغير بجوار المحطة، وتناولا العشاء معًا في غرفة خاصة، ولم يتكلم الاثنان كثيرًا أثناء الطعام؛ فقد كان كل منهما غارقًا في أفكاره؛ فريزن يفكر في مستقبله السياسي وسيرل يفكر في فيرونيك.
ودارت في ذهن فريزن أشياء كثيرة، وخطرت بباله فكرة جعل يقلِّبها في ذهنه، ويقيسها من كل ناحية، ونظر إلى سيرل بعينين فاحصتين مفكرتين، وهذا لاهٍ عنه في أفكاره، وثبتت نظرته على وجهه، وقد لاحت فيها ومضة العزم والتصميم، وقد تلاشى في الوقت نفسه ما كسا سحنته من وجوم وتجهم.
وكانا قد جلسا بعد الطعام أمام الموقد، وهما على هذا الحال من التفكير وشرود الذهن، ودقت الساعة عشر دقات، فقام سيرل وهو يهز كتفيه ثم قال: أرى أن أذهب إلى النوم الآن.
ولكن فريزن أمسكه من كم معطفه وجره، فجلس ثانية فوق كرسيه، ثم قال له فريزن في رزانه: لا، سوف لا تذهب قبل أن تصغي إليَّ.
فهز سيرل كتفيه وقال بجفاف: لست أرى شيئًا يمكنك أن تقوله بعد ذلك!
– أوه! بل لديَّ ما أقوله، فلا ينبغي أن يضر بنا هذا الغر العجوز بمثل هذه السهولة.
وسكت لحظة أو اثنتين ثم استأنف حديثه بحماس: ولن نسمح بتعريض حياة امرأة رقيقة الإحساس لأن تنهشها إلى الأبد ألسنة المسافرين.
– باسم الله، أيها الرجل، لا تتحدث عن هذا وإلا فسأصبح مجنونًا، أو أرتكب جريمة قتل، أو شيئًا من هذا القبيل.
ورد الأوستوري بثبات: ولكني سوف أتكلم عنه، وأؤكد أنك بعد أن تستمع إليَّ فإنك لن تقتل أحدًا، بل ولن تفكر في الانتحار.
– لست أدري وايْمُ الحق ماذا تريده الآن؟!
– أريد أن أجد مخرجًا من هذا المأزق، إذا أصغيت لصوت العقل وقدمت إليَّ مساعدتك.
– خطة أخرى من خططك العجيبة؟!
فرد فريزن بدماثة طبع: تمامًا! اسخر كيفما شئت، فما دمت قد رضيت بأن تعيرني سمعك فليس يهمني شيء.
ولمَّا لم يعلق سيرل على هذا بشيء؛ فقد قال فريزن بعد بضع لحظات بصوت هادئ ونبرات بطيئة مؤثرة: ليس لديَّ شكٌّ في أنَّ قصة اختطاف وسجن جلالته كلها من تدبير ألين سان أماند، ويمكنني القول بأنَّ نابليون الثالث يرغب كأي إنسان في أن يخلص من ذلك التهديد الدائم بازدياد ميل الشعب إلى أسرة البوربون، ولكنه في نفس الوقت لا يريد أن يقحم نفسه في عراك مع إمبراطوري، وهو يعلم حق العلم بأنَّ أوستوريا لا يمكن أن تسمح بترك جلالة ملك فرنسا سجينًا في مكان مثل قلعة دايك، وأنَّ إمبراطوري لن يتوانى عن أن يقلب السماء والأرض ليخلص جلالته من ذلك السجن.
ومن الواضح أن الإمبراطور نابليون لم يقصد أن يسجن الملك إلى الأبد، إذ إنَّ غاية ما يطلبه من سجنه هو أن يمنع زواجه بابنة المليونير خشية أن يشد المال أزره، وأنه ببقائه محجوزًا أطول وقت ممكن يهيئ إلى حدوث الفضيحة التي يستحيل بعدها أن يحصل على هذا الزواج، والآن هل رأيت؟
وانفجر سيرل ضاحكًا وهو يقول في سخرية لاذعة: لقد رأيت! إنك إنما تلخص الموقف لتقنع به نفسك، أليس كذلك أيها الرجل العجوز؟
– إنما أفعل هذا لتقتنع به أنت الآخر، وسترى هذا الآن. إنما كل ما عليك أن تقيس الأشياء وتجعلها معًا كما فعل، وعند هذا يمكنك أن تقدر عظم أهمية اشتراك الآنسة سان أماند في كل هذا الموضوع؛ فقد تحدث الناس بصلتها بجلالته وشاعت هذه العلاقة بين جميع الأوساط، فإذا تأخر جلالته عن إمضاء عقد الزواج، لم يكن أمام البارون كريستوف إلا أن يضع ملايينه في جيبه، وتبقى فيرونيك المسكينة وحدها تندب زوجًا وعرشًا! دعني أقل لك يا عزيزي برتراند بأنني لست أعلم تمامًا إذا كان جلالته قد نُقل إلى حصن آخر أو أنه الآن بين يدي محبوبته ألين، ولقد كان عليَّ أن أبذل ما في وسعي للعودة به، فمن سوء الحظ أنَّه لم يبق لدينا للقيام بهذا غير ٤٨ ساعة.
وتمتم سيرل لنفسه وقد ضايقه أن تتهدم آماله في إنقاذ فيرونيك: لم يبق غير ٤٨ ساعة؟! حسنًا! وماذا أيضًا؟
ورد فريزن بصوت تهزه العاطفة: ماذا أيضًا؟ ليس أكثر من هذا يا صديقي، إنني أعتقد بأنَّ الله قد أراد هذا، كما أعتقد بأنه قد خلقك تشبه جلالته كل الشبه حتى تحل محله غدًا!
– أنا؟! إنك مجنون!
ورد فريزن بنفس اللهجة المنفعلة التي صاح بها سيرل: لست أنا المجنون، فإنَّ هذا شيء في غاية البساطة، هو دور تؤديه لمدة ليلة، بضع ساعات؛ توقع عقدًا وتتسلم شيكًا ببضعة ملايين، ثم تتظاهر بالمرض وتتحاشى مقابلة الناس لبضعة أيام حتى أعثر على جلالته وأعود به ثانية!
فمانع سيرل بحرارة قائلًا: مستحيل، فإنَّ أمري سوف ينكشف.
– أقسم لك أنه لن ينكشف، إذ إنَّ جلالته لم يظهر أمام الجمهور في بادن بادن منذ سنتين تقريبًا إلا في ليلة الأوبرا فقط.
– ولكن أمي!
– سوف أمهد السبيل لها وسوف توافق، لأنها تتعرض لمخاطرة جسيمة لو رفضت.
– والآنسة كريستوف؟
– إنها لم تقابل جلالته حتى الآن.
– ولكن …
واستمر سيرل يحتج بحالة مضطربة؛ فقد فوجئ واهتز كيانه جميعه لمجرد سماعه هذا الاقتراح، فقال فريزن في ضحكة: لا تقل لي إنك خائف.
– خائف؟!
– حسنًا، إذن ماذا؟
– إنك تقول إن هناك عقدًا أوقعه.
– وبعد؟
– هل تعني بالاقتراح عليَّ أن أوقع بإمضاء أخي؟
– ولم لا؟
ثم وضع فريزن يده في جيب سترته الداخلي، وأخرج حافظة للخطابات فاختار واحدًا قدمه لسيرل وهو يقول: هذا خطاب من جلالته، «لويس، ملك» وأنت فنان فجرب بقلمك، وإن تمرين ساعة كافٍ لك، وأنا أعدك بأن جلالته سوف لا ينكر التوقيع.
– تعني التوقيع المزور؟
فهز فريزن كتفيه وقال: ولم لا؟
ولما لم يأخذ سيرل الخطاب؛ فقد أعاده فريزن إلى حافظته، ووضع الحافظة في جيبه، وقال سيرل في إلحاح: تزوير في أسفل عقد الزواج؟! فكل العقد مزور!
– ولم لا؟
– لكي نخدع رجلًا فيسلمني شيكًا ببضعة ملايين؟
– ولم لا؟ فإن كل هذا سوف يكون لمدة مؤقتة.
– لكي نخدع به امرأة؟
– لمدة بضع ساعات، ومن أجل سعادتها العظيمة.
ولم يقل سيرل شيئًا في ذلك الوقت، بل جعل ينفخ دخان غليونه، وقد أخذت كلمات فريزن الأخيرة تدور في ذهنه: «من أجل سعادتها العظيمة»، وذكر أيضًا كلماته وهما قادمين من حصن دايك: «إن الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة».
وكانت فيرونيك في الواقع أقوى سلاح في يد فريزن، فيرونيك وحب سيرل لها. وكان فريزن عالمًا نفسانيًّا، فارتأى أن يترك الفكرة تعمل عملها في ذهن برتراند، وأن يمهد للأحلام بفيرونيك وبسعادتها وعذابها السبيل لغزو نوم سيرل؛ فقال له في لطف: فكر في هذا، واذهب لتنم يا عزيزي برتراند، وأخبرني عما عزمت عليه في الصباح، فهذا يمكننا من إتمام معداتنا، وإلا فنكتب إلى بادن بادن عن هذه الأخبار السيئة.
وقبل أن يقوم فريزن خطرت في باله فكرة، فمد يده إلى حافظة خطاباته فأخرج واحدًا، وضعه فوق المنضدة أمام سيرل وقال له: أحب أن تقرأ هذا قبل أن تقرر الطريق الذي تعتزم انتهاجه.
وبعد هذا، حنى فريزن رأسه بتحية المساء، وترك سيرل وخرج، وكان الخطاب الذي تركه هو ما كتبه البارون كريستوف للسيدة البرنسيس.
ولمناسبة هذا المساء السعيد، فإني قد عملت ما يلزم لإعلان الخطبة رسميًّا، وفعلًا تم ذلك، في فينَّا وباريس وروما وبرلين، ولي الشرف أن أخبرك بأنَّ جلالة إمبراطور أوستوريا وقداسة البابا وجلالة ملك بروسيا سوف يبعث كل منهم رسولًا خاصًّا ليمثله في ذلك الحفل العظيم …
وكان في كل مرة يقرأ فيها هذه الفقرة لا يتمالك نفسه من أن يستعيد قول فريزن: «إنَّ الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة.»
•••
وفي الصباح، تقابل الاثنان على مائدة الإفطار، وكان كل منهما يعلم أنَّ الآخر لم يغمض له جفن، وأخيرًا قال سيرل: حسنًا يا صديقي، لقد فكرت في الموضوع، ولسوف أعمل بما اقترحته عليَّ.
ولما رأى ما اعترى فريزن من دهشة مضحكة، انفجر ضاحكًا وهو يقول: لا تجفل هكذا، إنني أقصد ما أقول، سوف أذهب معك إلى بادن بادن، وسأبقى لمدة ليلة واحدة صاحب الجلالة ملك فرنسا.
وكاد فريزن يسأله: «وستوقع عقد الزواج؟» ولكنه توقف عن الكلام وفضل أن يترك الكلاب نائمة، ولذا فقد كان كل ما قاله: كنت أعلم أنك ستفعل هذا يا صديقي العزيز، إنه في الواقع الشيء الوحيد الذي نفعله من أجل الفتاة.
وبعد أن تناولا الإفطار وشربا قهوتهما، جاءت خادم الفندق لتحمل صينية القهوة، ولما سألتهما عما إذا كانت النار كافية، قال لها سيرل: لا، ضعي كتلة من الخشب فيها.
وفعلت الفتاة ما أمرها به، وذهبت بصينية القهوة. وبعد اختفائها قال فريزن: أظنك قد أخطأت في طلب وضع هذه الكتلة، لقد كان الجو حارًّا جدًّا قبل الآن!
– إني آسف!
وفتح باب الموقد ونظر إلى النار المشتعلة، ثم ضحك وقال: أخشى أن تزداد الحرارة جدًّا وبسرعة؛ فقد وضعت الفتاة كتلة كبيرة.
– سوف أفتح النافذة.
وقام فريزن وذهب إليها، وفي تلك اللحظة قال سيرل: لا تتعب نفسك، فهذه أسهل طريقة.
وقبل أن يدرك فريزن ماذا يفعل صديقه، كان هذا قد أدخل يده في النار وأخرج الكتلة المتوقدة، فصاح فريزن باضطراب ووجل: برتراند! هل أنت مجنون؟!
فرد سيرل وقد ألقى بكتلة النار: لا، بل مأفون فقط.
وانتشرت رائحة اللحم المحترق في الغرفة، وبان على سيرل أنه يقاوم ميلًا لفقدان وعيه، وقفز فريزن إلى الجرس فدقه وجرى إلى زجاجة البراندي فرفعها إلى شفتي سيرل، ولما دخلت الخادم الصغيرة الغرفة أمرها فريزن قائلًا: طبيب، بسرعة! فقد احترقت يد صاحبي!
فجاهد سيرل ليقول وعلى فمه ابتسامة مضناة: لا، لا، لست أريد طبيبًا، بل أعطني قطرة أخرى من البراندي فإنه ينفعني، وسوف أذهب إلى صيدلي المدينة لمعالجتي.
وكان هذا ختام الحادث؛ فقد عالج الصيدلي يد سيرل من إصابتها الخطرة ثم لفها له.
وفي نفس اليوم سافر الصديقان بقطار الثالثة بعد الظهر إلى ستراسبورج، وكانت يد سيرل مغطاة باللفائف غير أنه كان أكثر بهجة مما كان قبلًا، ولكن فريزن ظل في تفكيره وهو يقول لنفسه: «إني أظن أنَّ الدم الإنجليزي فيه، إنَّ هؤلاء الإنجليز جميعًا مجانين!»