الفصل الثاني عشر
في صباح اليوم التالي كان فرح البارون كريستوف عظيمًا بسعادة ابنته العزيزة، لدرجة أنَّه لم يعبأ بقيود التقاليد، التي تفرضها الهيئة الاجتماعية سنة ١٨٦٠، والتي تحكم علاقات الخطيبين في ذلك الحين، فكان كل ما فعله هو أنه رافقهما إلى مسافة قريبة بعد باب فِلَّا ماري تريزا، حتى لا يثير دهشة وفضول الخدم.
وكانت فيرونيك قد حدثت والدها عن هذه المسألة في الليلة الماضية عند رجوعها من حفلة الاستقبال العظيمة في فِلَّا إليزابث، فقالت له: إنَّ لويس يريد مني أن أذهب معه غدًا إلى الريف طول النهار، لقد قال لي إن بادن بادن تزعجه.
وكان كل ما قاله والدها أن صحح حديثها في لطف: لويس! يا طفلتي العزيزة!
– أعني جلالته طبعًا.
– يجب ألا ننسى هذا، أليس كذلك؟
وودع الصغيران الوالد على مسافة قريبة من فِلَّا ماري تريزا، كأنهما طفلان قد أخذا يوم عطلة، وقال الخطيب: سوف لا نعود قبل السادسة، نرجو ألا يساورك القلق علينا.
فرد كريستوف بابتسامة: سأحاول هذا.
وسار الاثنان بسرعة حتى اختفيا عن أنظار الوالد؛ فقد كانا يرغبان في مفارقة بادن بادن وأوساطها الاجتماعية، وغاية ما يطلبان هو أن يبتعدا عن العالم، والناس، وأن يجلسا وحدهما تحت شجرة وارفة، سارا طويلًا وبسرعة كأنما كانا يركضان، ولم يتخلل سيرهما غير بضع أسئلة عادية، فكان يسألها: هل أنا سائر بسرعة زائدة؟
فترد محتجة: أوه! لا.
فيقول وقد كررها مرارًا: هل تعبتِ؟
– نعم، تعبت.
وكانت قد تعبت حقًّا، وانتظرت من مدة طويلة أن يسألها هذا السؤال. وجاء إلى مكان قُطعت بضع شجيرات منه وأُلقيت على الأرض كأنما خُصصت لجلوس العاشقين، فنظر سيرل إلى فيرونيك بحزن فضحكت في وجهه بمرح، ثم قالت: إنها مريحة بقدر الإمكان.
وجلسا متجاورين، وساد بينهما السكوت مدة طويلة، فكانت تعبث بطرف حذائها ترسم خطوطًا على الأرض، وكان هو يحدق في وجهها بإعجاب وشغف، وحدث أن رفعت بصرها إليه، وقد تعجبت من طول صمته إذ كانت فيرونيك فتاة ساذجة كالطفلة البريئة، لا تُدرك كثيرًا من شئون الحب ولا أساليب المحبين، ولكنها رغم سذاجتها أحست بمعنى نظرته، فتخضب خداها بلون الورد، وفي اللحظة التالية كانت بين ذراعيه ولقنتها شفتاه أول درس في الحب.
وكان سيرل برتراند أستاذًا ماهرًا؛ فقد كان يحبها منذ وقت طويل، وكان يتمنى هذه اللحظة السعيدة من كل قلبه، ومر وقت دون أن يروي ظمأه، وأفلحت هي في أن تخلص نفسها من هذا الاحتضان العنيف، فسألها ذلك السؤال الذي يدور على شفتي كل محب: فيرونيك، خبريني هل أحببت قبل الآن؟
– لا، لست أظن ذلك.
ولقد قالتها بلهجة أشعلت الغيرة في نفسه، فسألها: ماذا تعنين بقولك إنك لا تظنين ذلك؟
فقالت محتجة: لأنني كنت قد أعجبت برجل مرة، أعني أعجبت به شيئًا ما أكثر من أي رجل رأيته من قبل، إلا والدي طبعًا.
فقال بصوت ثابت: وهل لا تزالين معجبة به أكثر من أي رجل آخر؟
– أوه! إنه لم يفكر فيَّ هكذا، ولذلك …
– إنه لم يصارحك بحبه؟
– أوه، لا!
– إنه لمجنون!
فضحكت فيرونيك ثم قالت: ما كان لديه وقت لهذا؛ فقد كان غارقًا في رسمه.
فصاح في صوت مذبوح، وقد أمسك بيده أعلى رقبته كعادته دائمًا عندما يُفاجأ بأمر مثير غير منتظر: رسمه؟! رسمه؟!
وكان صوته غريبًا وحركته لافتة للنظر، لدرجة أنَّ فيرونيك داخلها الخوف فغمغمت: لماذا؟! ماذا قلت؟!
وأسرع مؤكدًا فقال وهو يضحك: لا شيء، لا شيء، هذا فقط ما يسميه الإنجليز ضفدعة في الحلق، هل تعرفين ما هي؟
فأومأت برأسها إيجابًا، ولكنها سألت باهتمام: هل أنت الآن أحسن حالًا؟
– أحسن تمامًا، ولكن خبريني عما رسمه هذا الرجل، أعني الرجل الذي أعجبت به.
– إنه رسم صورتي.
– أوه!
– إنها حقًّا كانت صورة جميلة، كل من رآها أعجب بها، هل أنت، أعني هل جلالتك …
– بحق السماء لا تدعني بهذا الاسم!
وكانت مقاطعته لها بخشونة وشدة جعلتها تضحك ثم تقول: لم لا؟ إن والدي ليؤنبني إذا لم أقل هذا، وإني لست أحب كثيرًا اسم لويس.
– إني أكره هذا، ولكن استمري في حديثك عن الصورة والرجل الذي رسمها، صفيه لي.
وأجالت بعينيها الزرقاوين مرة أخرى في وجهه، ثم قالت في بطء: حسنًا، إنه بصراحة يشبه جلاﻟ… أعني أنه يشبهك نوعًا ما.
– أهذا إطراء لي؟
– أوه! لا، لأنَّ الشبه كان من هنا، وكان باقي الوجه مغطى بلحية فظيعة جدًّا.
وكانت قد وضعت يدها المغطاة بالقفاز تحت أنفها فغطت فمها وذقنها، فرد عليها: ومع هذا فقد أعجبت به؟
– إنني قلت فقط شيئًا ما، لأنَّ صورتي استغرقت في رسمها أربعة أيام، ومن يومها لم أرَ الفنان قط.
– ولست ترغبين أيضًا في رؤيته؟
– لا، أظن لا.
– إنك لا تهتمين به، أليس كذلك؟
فغمغمت بلطف: لا، ليس الآن.
– عندما تكونين ملكة فرنسا؟
– لست أقصد هذا فقط.
وكاد سيرل يصرخ بصوت عالٍ؛ فقد ضعفت سيطرته على عواطفه وأحس بالألم ينهش قلبه، ولكنه حاول أن يعالج ما أصابه، وأفلح شيئًا ما، وقد لام نفسه على انسياقه وراء آلامه، وأخيرًا قام على قدميه وقال ضاحكًا: والآن، ألا نذهب لتناول شيء من الطعام؟
ولكنها لم تقم بسرعة، بل نظرت إليه في إخفاق، ثم قالت في برود: إلى أي مكان سوف نذهب؟
وأخذها فصعد إلى كلوستربرج، حيث وجدا مطعمًا صغيرًا يشرف على ليخنثال وجيرولدسو، وأشجار الغابة السوداء، وجلسا فوق كرسيين خشبيين أمام منضدة عليها غطاء ذو مربعات حمراء وبيضاء، وتناولا غداء بسيطًا، وتكلما كثيرًا وضحكا طويلًا، وعبثا بالسخرية من الزَّبائن الآخرين، وكان الاثنان يحسان كأنهما طفلان خرجا عن قيود العالم وتقاليده، فلم يشعرا إلا بالساعة التي يعيشان فيها دون أن يعبأا بالغد.
وجاءتهما الخادم بقهوة ساخنة فشرباها، ودخن سيرل سيجارًا وقد أحس برغبة في أن يعاود حديثه عن ذلك الموضوع الذي أمضَّه، فسألها: حدثيني أكثر عن راسم الصورة، ذلك الذي أعجبت به أكثر من أي شخص عدا والدك.
– لا تدعنا نتحدث عنه.
– لم لا؟
– لأنَّ لديَّ أشياء كثيرة أريد أن أحدثك عنها أهم بكثير من تخيلات بنت المدرسة السخيفة هذه.
– إذن فقد كانت تخيلات بنت مدرسة سخيفة؟
فردت بابتسامة صغيرة: لماذا؟ طبعًا كانت كذلك.
ولكم كانت حلوة ومخلصة في حديثها! ولكم كان هذا الحديث يؤلمه ويعذبه دون أن تشعر! وجمع سيرل شتات نفسه وابتسم ابتسامة مضناة وهو يرجو ألا تكتشف حقيقتها، ثم قال: وما هي الأشياء المهمة التي تريدين أن تحدثيني عنها؟
فضمت يديها الجميلتين معًا، وبانت عليها علائم التحمس والانفعال: أريد أن أتحدث عن مشروعاتنا.
– أي مشروعات؟
– أجل، إنني لا أعرفها كما تعلم، فإن والدي لا يحدثني مطلقًا عن الموضوعات العامة، هذه الموضوعات التي أرى أنني كنت أشغف بها جدًّا لو أنه حاول أن يشرحها لي.
– ما هي هذه الموضوعات؟
– أقصد السياسة.
ولم يتمالك نفسه من الضحك، السياسة! أفي هذه الأيام التي تنذر بقيام الحرب، والتي بدأ فيها نشوء الديمقراطية، تستطيع هذه الفتاة العديمة الخبرة أن تفهم شيئًا من السياسة؟! ولكنها قالت: لا تضحك، إنني جادة في قولي كل الجد.
فغمغم بجفاف: إنَّ الجو السياسي في هذه الأيام ملبد بالغيوم، على الراجح.
– إني أعلم هذا، أو على الأقل سمعت بعض الرجال يقولون ذلك، وإنَّ النساء يجب عليهن أن يبقين بعيدات عن كل هذا، ولكن …
وتوقفت لحظة كأنما لا تدري تمامًا كيف تسير في حديثها، غير أنها استجمعت شجاعتها وقالت في لطف: ولكن عندما أنال الأمنية العظيمة وأصبح ملكة على فرنسا.
– وبعد؟
– فإني سوف أرغب في سماع كل شيء عن شعبنا، شعبك وشعبي، أعني أن أجعل غايتي في الحياة هي أن أعرف كل شيء يحتاجون إليه؛ لأجعل كل رجل، وامرأة، وطفل، في فرنسا سعيدًا، بقدر ما ستكون عليه سعادتي، ولقد حلمت يومًا — بعد أن علمت بأنني سوف أتشرف بأن أكون لك زوجة وأن أشاركك العرش — بأن الفرنسيين سوف يدعونني «الملكة الطيبة فيرونيك»، كما أنك ستُعرف لديهم ﺑ «لويس المحبوب».
وجلس هو وقد ألقى برأسه فوق يده، وهو ينظر إليها دون أن يدري كم يستطيع أن يتحمل أكثر من هذا، ولقد أحس برغبة في أن يتناول هاتين اليدين الغاليتين ويتأمل في عينيها ثم يقول: «أنا لست إلا كذابًا وغاشًّا. من أجل هذا اليوم الذي وُعدتِ به، قبلت أن ألعب هذه اللعبة الشنيعة. ما أنا بملك، بل ليس لي الحق في أن ألمس يديك، فما أنا إلا راسم الصورة الحقير، الذي شعرت نحوه يومًا بابتهاج فتاة سخيف. والآن فإني سأرحل عن حياتك وبخدعة وضيعة أخرى، سوف تصبحين زوجة لمخنث ضعيف، سيجعل منك ملكة لفرنسا ولكنه لن يهبك لحظة متعة، ولن يجعلك تشعرين بلذائذ الحب.»
وبينما كان هذا الاعتراف القاسي يتفجر داخل نفسه المحترقة، كانت نظرته لها تزداد حدة وقساوة لدرجة أفزعت فيرونيك وأخجلتها؛ فقد تصورت أنها تعدت في حديثها ما كان يجب أن تقف عنده، ورأت أنه كأبيها لا يحب أن يتحدث السيدات في مثل هذه الموضوعات، وضحكت ضحكة عصبية قصيرة، أردفتها بملاحظة عن تأخير الوقت. وبذلك انقطع الحديث في هذا الموضوع.
وتركا المطعم، ثم رغبا في العودة إلى الغابة، وهناك نسيا حديثهما الجدي وعاودتهما الطفولة المرحة؛ فقد كانت فيرونيك سعيدة لأنها كانت تنظر إلى هذه الساعات المباركة على أنها استمرار لساعات مماثلة مليئة بالمرح.
وكان سيرل سعيدًا لسعادتها، وهو يعلم حق العلم أنَّ أعظم فرح سوف يشعر به في المستقبل إنما هو ذكرى هذا اليوم الذهبي.