الفصل الثالث عشر
اترك كل شيء جانبًا يا عزيزي فريزن، واحضر حالًا.
وكان فريزن معتادًا هذه الرسائل المستعجلة، غير أنه في هذه الحالة كان واثقًا من سبب هذا الاضطراب؛ فقد قال له سيرل إنه سوف يقضي مع فيرونيك يومًا في الريف وحدهما، دون أن يعبأا بالتقاليد المرعية في مثل هذه الأحوال. وقد عمل فريزن جهده لكي يمنعه؛ فقد توقع من هذا حدوث متاعب من أي نوع، ولكنه كان عنيدًا فلم يعبأ باعتراضه.
وعلى هذا فقد ذهب فريزن إليها، ووجد السيدة في حالة انفعال شديد؛ فقد رآها عند دخوله تذرع الغرفة جيئة وذهابًا، وما إن خرج الخادم الذي أعلن قدومه، حتى غاصت السيدة في كرسي ذي مسندين، ثم مدت إلى فريزن بيد مرتعشة شيئًا أشبه بالخطاب وهي تقول له: اقرأ هذا يا فريزن، اقرأه!
أمي الجليلة المحبوبة
لا يدهشك أنني عدت إلى بادن بادن؛ فقد وصلت هنا أمس، وإن كنت قد تأخرت جدًّا عن الحفلة المزرية التي كانت تربطني طول الحياة بامرأة لم أرها من قبل، ولست أعتقد أنني أحبها، وكان الغرض منها كما أعلم هو أن تحتفظي لي بذلك المستقبل الذي لا أشعر برغبة فيه. يا والدتي المحبوبة، حاولي أن تفكري فيَّ لا بصفتي ملك فرنسا غير المتوَّج، والذي لن يُتوَّج، بل بصفتي ولدك، الذي يأتيك طامعًا في حبك وعطفك. لقد فكرت طويلًا في هذا الموضوع، وإني على ثقة يا أماه بأنَّ الله لم يخلق فيَّ الاستعداد للسيادة والحكم، ولقد كانت إرادته ظاهرة من خلقه لي ضعيف الجسم والإرادة.
وربَّما ساورك من هذا يأس مرير؛ لأنني أعلم إلى أي حد ترغبين من كل قلبك في نجاح مشروعنا، ولكن الإنسان لا يمكنه أن يسير ضد طبيعته، وطبيعتي تتوق إلى السلم والهدوء بين ذراعَي امرأة يمكنني أن أعطيها فؤادي، فلئن اتبعت مشورتك فكأني أضع الأساس لتعاستك ويأسك الشنيعين، وربَّما انتهى بك الأمر إلى أن يتحطم قلبك خجلًا من ولدك وملكك.
على أنني لست أعرف ما جرى هنا في هذه الأيام الأخيرة؛ فقد علمت أنَّ الكونت فريزن كان يسعى بجد في أن يأتي بي إلى هنا، ويخرجني من السجن الذي أبقاني فيه بوليس نابليون مدة ثلاثة أيام، خرجت بعدها إلى حيث رافقتني المرأة التي تفهمني وتقوِّي كل ضعفي.
أتوسل إليك بكل احترام، ألا تحاولي منعي عن إتيان ما أعتقد أنه الشيء الوحيد الصائب الذي أفعله؛ فلقد عوَّلت على أن أتنازل عن حقوقي لعمي الدوق دي بوردو؛ الملك الشرعي الوحيد لفرنسا، والذي سيُعتبر أمام الجميع رأس أسرة البوربون، وسيُتوَّج إن شاء الله، وبمعاونتك، يومًا ما في كنيسة ريمس. ولقد أرفقت بهذا نسخة من الإعلام الذي عوَّلت على أن أرسله لجميع السلطات العليا في أوروبا. وإنه ليسعدني أنك بعد قراءتك له تبعثين لي بموافقتك عليه. لقد أتيت إلى بادن بادن لكي تسمحي بأن أتفاهم معك في هذا الموضوع شخصيًّا، وعلى كلٍّ فقد كتبت لك هذا بكل إخلاص واحترام، وغاية ما أرجوه الآن هو حبك.
وقرأ فريزن الخطاب بإمعان، وقد كرر بعض فقرات منه مرارًا، وأخيرًا نظر إلى السيدة وقد ذهبت نظرتها وزاد شحوب وجهها، وقد أعوزه ما يقوله لها؛ فلقد كانت المعضلة هي أن كل ما قاله لويس في خطابه كان حقًّا صريحًا، وأنَّ أمه على علم أكيد بهذه الحقيقة، وأنَّ هذا هو الذي يحز في فؤادها الآن.
وفكر فيما يقوله إمبراطوره عن كل هذا، وإلى أي حد سيلومه على هذه الفضيحة، أجل وإنها لفضيحة أن يتنازل لويس عن حقوقه في العرش من أجل مغنية، ثم يعيش معها تحت سقف واحد. وأحس فريزن برغبة في أن يزأر عاليًا، وربما كان قد فعل هذا لولا أن نظرت إليه السيدة، ثم قالت فجأة: هذا هو الشيء الوحيد الذي نفعله، يا فريزن.
وجمع الأوستوري شتات نفسه، وقال كأنما كان يحلم: ما هو يا سيدتي؟
– يجب أن يستمر ذلك الرَّجل في دوره، إني أكرهه ولكن لا بد من هذا، ألا ترى هذا؟ ألا ترى أنه لا بد …
– ولكن يا سيدتي …
– هناك متاعب، أعلم ذلك، لقد فكرت فيها جميعًا منذ أن تسلمت هذا الخطاب المزري، وقد اقتنعت بها جميعًا، لأنِّي أظنُّ أنه سوف يكون راغبًا في ذلك.
– هو؟
– أعني ولدي سيرل طبعًا، ألم تره في الليلة الماضية؟
– طبعًا رأيته.
– إنني أعرف كيف أقرأ وجوه الرجال، فريزن، إنَّ ولدي هذا يحب فيرونيك كريستوف.
فأقر فريزن: إنه يحبها فعلًا.
– هل قابلها من قبل؟
– لقد رسم صورتها، وأظنك يا سيدتي تذكرين أنني قلت لك هذا.
– كنت قد نسيتها، ولكن على كل حال فإنَّ هذا يؤكِّد ما رأيته في الليلة السابقة، ويجعله راغبًا في أن يستمر في تمثيل دوره الملكي حتى …
– حتى ماذا يا سيدتي؟
– حتى يمكننا أن نتفاهم مع جلالته ونجعله يتعقل الأمر.
ولما وجدت من صمت فريزن ما يدل على قلة وثوقه من فائدة هذا، استأنفت قائلة: يمكننا أنْ نفعل هذا يا فريزن، أنت لا تجهل قوة تأثيري وإياك عليه، فوق ما تفعله ملايين كريستوف بسان أماند هذه لو لوحنا لها بشيء منها في مقابل ترك لويس، وأنا قمينة بأن المال لديها سوف يتغلب على رغبتها في لويس، يمكننا أن نفعل هذا يا فريزن، ويجب أن نفعله.
ولم يقل فريزن شيئًا بل ظلَّ شاردًا يفكر في هذا الاقتراح الجديد الذي عرضته السيدة، فقد كانت امرأة لا ينضب معين نشاطها، ولا يقف تدبيرها عند حد، فوق أنها ولوعة بالسيادة والتسيطر. وأخيرًا قالت له: والآن خبرني هل لديك اعتراض؟
وانتظر فريزن قليلًا قبل أن يجيب، ثم قال: حسنًا، إنني أصارحك القول بأني لا أظن أن سيرل سوف يفعل ما أردت منه.
– ماذا تعني؟
– أعني أنه سوف يكسر عصاه ويجري كما يقولون.
– ماذا يدعوك لأن تظن هذا؟
– لأنه قال لي هذا صباح اليوم، ثم لأنني أعلم أنه عنيد، ومن الصعب تغيير رأيه.
– لا تنسَ أنه وافق من قبل على أن يلعب دوره.
– تحت تأثير ظرف واحد، وهو منع الفضيحة عن الفتاة المسكينة وإنقاذها من العار، ولأنه كما قلت الآن مغرم بها.
– إذا كان رفض سيرل هو ما تخاف منه فلا تفكر في هذا.
– كيف؟ إني أكاد لا أرى عائقًا أقوى منه.
فقالت السيدة بنفاد صبر: أيها الرجل الطيب، كيف لك أن تظل في معالجة الشئون السياسية طول هذا العمر، ثم لا تعرف حتى الآن عن الطبيعة البشرية؟ قل لأي رجل محب إنه يستطيع أن يبقى يومًا آخر أو ساعة أخرى مع من يحب، قبل أن يفترق عنها ربما إلى الأبد، وانظر ما إذا كان سيجيبك بنعم أو بلا، أشكرك فقد اكتفيت! تكلم مع سيرل في هذا الموضوع، وسترى أنني كنت واثقة من النتيجة.
وسكت فريزن قليلًا ثم غمغم: نعم، سوف أتحدث إليه.
فقالت مستأنفة حديثها: وماذا غير سيرل؟
– هناك الفتاة سان أماند، فإنها تستطيع أن تعطل عملنا في أي لحظة.
– سوف أتدبر أمر الفتاة سان أماند هذه، إنها خطرة، أعلم ذلك ولكنني أستطيع أن أتفق معها.
– كيف؟ بالرشوة، التي لا شك أنها ستتحول إلى ضريبة مستمرة؟
– ليس بالرشوة وحدها.
– بالتهديد؟
– بما يشبه ذلك، وسوف أذكره لك في حينه، والآن سأبين لك ما يجب علينا عمله، إنَّ جلالته مع تلك الفاجرة في فِلَّا أجلانتين، فسوف أرسل نوسي ليراقب خروجها، وعند هذا تذهب أنت وتراه يا فريزن وسوف يكون جلالته وحيدًا، ويمكنك أن تجعله يرى الطريق الصواب، أنت ماهر جدًّا يا فريزن، ويمكنك أن تشرح الموضوع له بسهولة وتقنعه، وفوق هذا فإنه عندما يعرف أنه هو وألين سيصبحان صعلوكين فقيرين سوف تجده قد غير رأيه. إننا نعيش — كما تعلم — على تلك الإمدادات التي يرسلها إلينا أصدقاؤنا في الخارج، فإذا حدثت الفضيحة انقطعت هذه عنا، ولا يبقى لديَّ سوى تلك الثروة الضئيلة التي تركها لي زوجي الإنجليزي، وهي لا تكفي ليعيش بها جلالة الملك السابق في بذخ، ها أنت ترى أنني أقول لك الصدق بصراحة، ألا ترى هذا يا فريزن؟
فأومأ فريزن قائلًا: نعم، أنا أعلم ذلك.
– وسوف تعرف تمامًا كيف تقول هذا لجلالته، أليس كذلك؟
– إذا استطعت أن أراه.
– يجب أن تراه يا فريزن، يجب من أجلنا جميعًا، ثم بعد أن تتكلم معه عليك أن تحضره رأسًا إلى هنا.
وأطرق فريزن هنيهة يفكر، وأخيرًا رفع رأسه قائلًا: ماذا في أن تكتبي سطرًا لجلالته، إنه ينتظر جوابًا لرسالته، فإذا لم ينله ربما اندفع إلى عمل غير مرغوب.
وقامت السيدة في الحال واتجهت نحو مكتبها وهي تقول: الحق معك، سأرسل له بضع كلمات.
أؤمل أن أراك غدًا. ومهما كانت الظروف فإنه يمكنك أن تعتمد على حب أمك وفهمها لحالتك.
وكان تعليق فريزن: في غاية الكمال.
وعنونت السيدة الغلاف: إلى «جلالة ملك فرنسا»، ودقت الجرس ثم أعطت الخطاب إلى رئيس الخدم، وأمرته قائلة: خذ هذا الخطاب، واذهب به بنفسك إلى فِلَّا أجلانتين وسلمه ليد جلالته، لا لأحد غيره.
وما إن ذهب الرجل حتى تنهدت بعمق لتفرج عن نفسها، ثم غاصت في كرسي ذي مسندين، ورأى فريزن أن يخرج، ورفع بصره إلى الساعة المعلقة على الحائط وكانت تشير إلى السادسة، فقال: سوف يعود سيرل بعد قليل، وسأعود إليه لأراه، أتسمحين لي أن أراه منفردًا؟
فأجابت السيدة في برود: أوه، طبعًا، فلست أحب أن أراه أكثر مما أحتاج.
وقام فريزن مستأذنًا في الخروج فمدت إليه السيدة يدها، وما إن هَمَّ بتقبيلها حتى أوقفته، ثم قالت في رزانة وتؤدة: تذكر شيئًا يا صديقي عندما تتحدث مع سيرل أو مع لويس أن عندي أوراق تحقيق شخصية ولديَّ كليهما، شهادتَي ميلادهما ثم تعميدهما، وليس أسهل عليَّ من تبديلهما، ولذا فلا يخشَ سيرل شيئًا، هل فهمت؟ أعني في حالة ما إذا لم يستمع لويس لصوت العقل في مدى أربع وعشرين ساعة، فإنه سوف يصبح رسميًّا ابن زوجي الإنجليزي، والآن هل رأيت كيف يمكن التفاهم مع تلك الفاجرة سان أماند، وكيف أنها ستكون على استعداد لطرح جلالته ظِهريًّا عندما تدرك هذا الموقف! ولاحظ أن الأوراق ستكون قانونية، وستبين أنَّ الرجل الذي أجهدت نفسها لإغوائه لم يكن سوى ولدي الأكبر سيرل برتراند، وأنَّ سيرل ما هو إلا ابن لويس السابع عشر ملك فرنسا، والله يعلم كم سأكرهه من أجل هذا، ولكني سوف أعمل هذه التضحية من أجل أسرة البوربون، هل فهمت يا فريزن؟
ولم يستطع فريزن إلا أن يبتسم لنفسه متأملًا فيما إذا كانت حقيقة تظن أنه يعتقد أنها لا تعمل من أجلها هي أيضًا. وعلى كل حال فإنه لم يقل أكثر من ترديد ما قالته، مؤكدًا: نعم، من أجل الأسرة.
وأخيرًا استأذن في الخروج، وقد شعر كأنما هو متآمر قد استأذن في ترك شركائه، وإن كان قد عوَّل على أن يسير معها إلى النهاية في تنفيذ خطتها حيث كانت تتفق ورغباته في هذا الموضوع.
ولقد زال من نفسه كل شك في قبول سيرل الاستمرار في دوره، بعدما أدرك ما يمكنه أن يطمئنه به. على أنَّه رغم هذا لم ينسَ أنَّ اللعبة في الحقيقة قد أصبحت أكثر خطورة من قبل، إذ تشابكت الظروف بشكل يجعل أي تعقيد فيها باعثًا على انكشاف الأمر، ولئن حدث هذا فإنَّ الفضيحة التي تحدث تكون بمثابة ضربة قاضية لموضوع أسرة البوربون، كما أنها تكون نهاية مخجلة لمستقبله السياسي، حتى إن السبيل الوحيد الذي يخلصه من العار هو أن يحطم رأسه برصاصة من مسدسه.