الفصل الثاني

بادن بادن مدينة صغيرة، جميلة؛ هي مدينة الأحلام والفخامة، مدينة الرجال المتأنقين والنساء الجميلات. لقد كانت هذه المدينة في تلك الأيام ﮐ «مونت كارلو» الآن، كان يؤمها جميع العظماء، ورجال المال المترفين من جميع أنحاء أوروبا، فتغص بهم فنادقها الفخمة العظيمة التي كان يختلف إليها نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني، ثم ليوبولد الأوَّل ملك بلجيكا، والملك وليم الأول ملك بروسيا، والملكة أوجستا، والدوق مورني، والبرنس مترنيخ، كما كان يؤُمُّها كبار رجال الفن وملوك المال والأعمال.

وكان بين الفِلَّات الجميلة التي اشتُهرت بها المدينة فِلَّا إليزابث ذات السقف الأحمر الذي يطل فوق أشجار الكستنا المزهرة، وكانت تستأجرها في هذا الوقت من السنة سيدة وابنها يدعيان رسميًّا باسم البرنس والبرنسيس دي بوربون، ولم يكن سرًّا أن يُعرف أنَّ هذا البرنس هو ملك فرنسا الحقيقي لويس التاسع عشر، حفيد الملك لويس السادس عشر والملكة أنطوانت، وأبوه الملك لويس السابع عشر الذي يعرف الجميع أنه قد أُنقذ من السجن وهو طفل صغير وأُخذ إلى أوستوريا (النمسا)، حيث تزوج سيدة إسبانية وأنجب منها ولدًا يُعتبر أمام معارفه وأمام الله بعد موت والده الملك الشرعي لفرنسا.

وكان البرنس دي بوربون — وكما يُصمم البعض على مناداته بصاحب الجلالة ملك فرنسا — قد لاقى نجاحًا كبيرًا في الهيئة الاجتماعية، فكان يُرى — إذا كان الجو معتدلًا — في الكوراس وفي أغلب الليالي إمَّا في الأوبرا أو في قاعة اللعب، لا يفارقه طبعه الدمث الذي حببه إلى الرجال والنساء على السواء.

غير أنه كان في صالونه الخاص في فِلَّا إليزابث لويس ملك فرنسا لا أقل من ذلك، ورُبَّما كان هذا راجعًا إلى تأثير أُمِّه؛ فقد كانت تعمل جهدها لكي يعامله الجميع بأصول الإتيكيت، حتى إنه كان يعقد مقابلات رسمية فيلاقي ضيوفه جالسًا على مقعد مُذَهَّب مرتفع أشبه شيء بالعرش، فكانت السيدات يَنْحَنِينَ إذا مررن أمامه راكعات نصف ركعة، حتى تلمس أطراف أثوابهن المستديرة أرض الغرفة، كما كان يلبس الرجال في هذه الزيارات ملابسهم الرسمية الكاملة، وكان يُعتبر حظًّا كبيرًا أن ينال أحدهم يد الملك لتقبيلها. وكانت الملكة الوالدة تجلس بجانبه على كرسي أقل ارتفاعًا عن عرش الملك، ولو أنَّها تعدت العقد الخامس من عمرها إلا أنَّها كانت امرأة جميلة تظهر عليها مخايل العظمة ممزوجة بالوقار.

لقد كانت نموذجًا جميلًا للمرأة الإسبانية؛ فقد كان شعرها المتحول إلى اللون الأبيض لا يزال يوري جمال أصله الذهبي، وكانت عيناها السوداوان تنبئان عن أنها كانت في صباها امرأة جذابة، وكانت تتكلم الفرنسية بلهجة إسبانية واضحة.

على أنه لم يكن يعرف أحد شيئًا عن مولدها ولا عن أصلها، وقد ذهبت محاولات الكثيرين في البحث عن هذا سدى.

ولم يكن للبرنسيس دي بوربون إلا أصدقاء قلائل، وكان هناك شخص واحد فقط هو الذي حاز ثقتها، ويجوز أن يُعتبر أقرب المقربين إليها، وهو الكونت فريزن الذي كان مديرًا لسفارة أوستوريا في باريس، تحت رياسة البرنس مترنيخ، وكان يفد عادة إلى بادن بادن في فصل الصيف، فيزور فِلَّا إليزابث دائمًا.

لقد كان كل هذا قبل سنة ١٨٥٨، ولكن منذ هذا التاريخ تغير كل شيء؛ فقد كانت البرنسيس دي بوربون تذهب كالعادة إلى فِلَّا إليزابث، ولكن البرنس كان يُرى نادرًا في بادن بادن؛ فقد قيل عنه إن صحته ليست على ما يرام، وقد نصح له الأطباء بالإقامة في سويسرا مدة طويلة، وفعلًا لم يزر أمه في مدة سنتين إلا بضع زيارات قصيرة.

وكان من النادر أن يُرى خارج الفِلَّا إبان هذه الزيارات.

ولم تكن قلة ظهور البرنس دي بوربون في المجتمعات لتثير فضول الناس أكثر من حياة البرنسيس دي بوربون الخاصة؛ فقد قيل عنها إنها تسعى لاستعادة عرش فرنسا لابنها، وأخذ الناس يحسبون عليها حركاتها ويؤولونها بمختلف التأويلات. والواقع أنَّ تلك السيدة التي يندر أن تزور أحدًا قامت بزيارة البارون ألبرت كريستوف المالي العالمي الكبير في فِلَّا تريز، وشاهدت مجموعة الصور التي عنده، والتي تعتبر أشهر مجموعة في أوروبا، كما أنها دعته لزيارتها في فِلَّا إليزابث، وقد قال البعض إنها فعلت كل هذا بمشورة الكونت فريزن، إذ إن البارون كريستوف كان أوستوري الجنسية أيضًا. وازدادت العلاقة بين السيدة والبارون وكثر تزاورهما، وشوهدت السيدة أكثر من مرة تركب إلى جانب البارون في عربته الفخمة، وتهامس الناس عن كنه هذه العلاقة ومداها، وذهبت الظنون بهم كل مذهب؛ فقد قال البعض إنَّ السيدة تسعى للتأثير على البارون واستمالته إلى جانبها فتستفيد من أمواله لتحقيق أغراضها، وقال آخرون إن البارون نفسه يسعى لاستعادة آل بوربون العرش طمعًا في أن يزوج ابنته الجميلة فيرونيك للبرنس دي بوربون، الذي سيصبح فيما بعد ملكًا فعليًّا لفرنسا.

•••

وصل سيرل برتراند إلى بادن بادن، وتساقط إليه ما دار على الألسن عن موضوع فيرونيك ومشروع زواجها للبرنس دي بوربون، وذهب فيرونيك أيضًا إلى بادن بادن بعده بأسبوع، فكان يراها بعد هذا كل يوم تقريبًا تسوق جوادها في طريق ليخنثال، أو في قاعة الملعب بالكوراس، أو في الأوبرا، غير أنها ما كانت تلاحظ وجوده مطلقًا، ولم تلق يومًا إليه نظرة واحدة وهو يتأمل وجهها بنهم وشغف.

لقد كانت عنده المرأة الوحيدة في العالم التي يفضلها أكثر من حياته، بل ويرغب فيها أكثر من كنوز العالم أجمع، ولكنه كان يدرك رغم كل هذا أنه لا قيمة له إذا قاس نفسه بها، فما هو إلا رسام مجهول قام بعمل صورة لها، ونال أجرته على عمله، وأن الثلاثة الأيام التي قضتها في الاستوديو لا بد أنها قد مُحيت من صفحة ذاكرتها … كان هذا ما يدور بخَلَد الرسام المسكين الذي يقدس الآنسة فيرونيك، وهو ينتظرها يوميًّا في الطريق وقت خروجها للنزهة، رغم ما ترامى إليه عن مشروع زواجها بأخيه ملك فرنسا غير المتوج.

لقد كان يكره هذا المكان لأنَّ أمه تعيش فيه، أمه التي تكرهه كل الكره، وكذلك أخوه غير الشقيق الذي يعتبر نفسه بالنسبة إليه كأنما هو فرد من الشعب، ولهذا فقد فكر سيرل في أن يرحل إلى باريس ليكوِّن لنفسه مركزًا في عالم الفن ليجعل اسمه علَمًا خفَّاقًا، أو يعمل بجد ويغرق في العمل حتى ينسى أحلامه وجنونه، ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا، بل بقي في بادن بادن ليشاهدها كل صباح ويذهب إلى الكوراس أو الأوبرا ليسمع ضحكاتها العذبة وصوتها الجميل عن قرب، ألا ما أشدَّ جنونه! إنه يعلم أن هذا الجنون يحطم فؤاده ولكنه لا يجد في نفسه القوة الكافية لصد نفسه عنها.

•••

كان أولئك الذين يعرفون فيرونيك كريستوف يسمونها «الفتاة المحظوظة»؛ فقد كان لديها كل شيء من الجمال والثروة والجاذبية والشاعرية، ولقد كانت فيرونيك في الواقع خيالية بمعنى الكلمة، إذ كانت الشاعرية والخيال في سنة ١٨٦٠ من مميزات شباب ذلك الجيل، وعلى الأخص الفتيات، فكنَّ يسبحن في تصوراتهن وأحلامهن، فكانت الحياة لديهن عبارة عن نسيج خيالي من الأماني، ولا يعتبر الحب لديهن حبًّا إلا إذا كان قويًّا لدرجة الموت، وكنَّ يطلبن الحياة كأنها امتداد مستمر لساعة حب ونشوة بين ذراعي حبيب صادق، أمين، ولقد كان بعضهن يلاقي الفشل نتيجة لهذه النظرية الخيالية، ولكنهن رغم هذا كنَّ يستسلمن لأحلامهن العذبة. ولقد مر على فيرونيك كريستوف وقت كانت فيه نهبًا لمثل هذه الأحلام، ولو أنه لم يستمر طويلًا؛ فقد كانت تحلم بالثلاثة الأيام التي قضتها في استوديو مونتمارتر، لقد أحبت تلك الغرفة القليلة الهواء وأثاثها البسيط، وكانت رائحة زيت التربنتين التي تملأ المكان تسرها، وتلك الأصوات المتعددة الغريبة التي كانت تتسرب إلى أذنها من بين أصوات منظفي المداخن وهم يسيرون في الطريق، ونداء: «أصلح الكراسي» و«أطباق ومواجير». وكانت تحب ملاحظة الرسام وهو يقوم بعمل صورتها، وتلمح عينيه وهو يرفع خصلة شعره التي تتدلى فوق جبهته، وكانت تتأمل وجهه وهي تفكر فيما يكون عليه بغير تلك اللحية وهذا الشارب المهملين اللذين يخفيان تعبير فمه وشكل ذقنه. وفكرت فيرونيك في الفنان بعد ذلك عندما تركت باريس لتقضي بضعة أيام بين أقاربها في أوستوريا، وكان لديها هناك فسحة من الوقت لتفكر وتحلم، وقد شاهدت الصورة معلقة في صالة العرض، وسمعت وقرأت أغلب ما كتبه النقاد عنها من مدح وتقريظ، غير أنها لم تشاهد الفنان بعد ذلك. ولقد حدث أكثر من مرة أن عرض حديث عن الصور والمصورين على مائدة الطعام وتساءل البارون كريستوف عن الفنان البارع وماذا جرى له، وكانت فيرونيك تسائل مثله نفسها نفس السؤال.

ولما حل شهر يوليو سافرت فيرونيك إلى بادن بادن لتلحق بأبيها في فصل الصيف، ولم تكن قد ذهبت إليها من قبل، ولقد سرتها تلك البلدة بما فيها من مباهج ومسرات، واجتاحت الحياة الاجتماعية ومباهج المدينة المغرية أحلام استوديو مونتمارتر وجوها الهادئ. وحتى هذا الوقت لم تكن فيرونيك تعلم شيئًا عن مشروع زواجها بملك فرنسا المنتظر، رغم أنَّ الموضوع قد سُوِّي فعلًا بين والدها والسيدة البرنسيس دي بوربون والكونت فريزن السياسي الأوستوري، وكان هذا الأخير يعمل وفقًا لرغبة إمبراطوره الذي كان يود حصول هذا الزواج تبعًا لما تلقاه أسرة دي بوربون من تقوية مالية نتيجة لذلك، وكانت السيدة البرنسيس تدرك تمامًا قيمة الجانب المالي في مشروعها الكبير، إلا أنَّها لم تكن قد رأت فيرونيك كريستوف بعد، وكانت رؤيتها لها لأول مرة في الأوبرا في ليلة الافتتاح لرواية «روبير الشيطان» حيث كان جميع المتفرجين من الطبقة الممتازة، وقد حضر الإمبراطور والإمبراطورة وكذلك البرنس والبرنسيس وبسمارك ملك بروسيا.

وكانت فيرونيك جالسة في مقصورة والدها، وفي الاستراحة كانت محاطة بجماعة من الشباب خلاصة البيوتات وأعراق الأسر، يحومون حول الوريثة الغنية، كما يحوم الذباب حول طبق من العسل. وأشار الكونت فريزن نحوها ليريها للسيدة الكونتيس، فأمسكت هذه بمنظارها وأطالت النظر إلى الفتاة، ولا شك أنها كانت جميلة جدًّا، ورائعة بشعرها الأدكن الناعم، وعينيها الزرقاوين العميقتين، وشفتيها القرمزيتين، وقوامها الرائع المتناسق، حتى إن السيدة لم تتمالك نفسها من أن تبدي إعجابها العظيم بالفتاة، وفكرت في ولدها ملك فرنسا، وكيف أنه لا بد له من أن يتزوج الفتاة لنفسه لتسنده ملايين كريستوف في السعي لنوال حقوقه؛ فقد قال لها الكونت فريزن مرارًا بكل أسف إنه لا يمكن أن يتنازل البارون كريستوف عن جزء من ملايينه في مقابل شيء أقل من تاج لابنته.

وأنزلت السيدة نظارتها والتفتت لصديقها، ثم ألقت عليه نفس السؤال الذي سألته من قبل أكثر من عشر مرات: ألا يزال البارون كريستوف على رأيه؟

فأجاب بتأكيد: نعم، لا يزال على رأيه.

– والفتاة ماذا قالت؟

– لا تعرف شيئًا حتى الآن، ولكن بمجرد أن تتشرف بتقديمها إليك …

– ماذا تظنها قائلة؟

– لا بُدَّ أنها ستوافق على رغبات والدها، فليس من السهل لامرأة أن تنال تاجًا.

تنهدت السيدة ثم قالت بجفاف: إني أخشى أن تكون طماعة.

– إني لا أظن أن فيرونيك كريستوف طماعة بالمعنى الذي تقصدينه يا سيدتي، إذ إنها صغيرة جدًّا وخيالية بمعنى الكلمة، والمستقبل الذي يرسمه لها أبوها سوف يغريها، لا بما فيه من عظمة فحسب بل بما فيه أيضًا من خيال.

ووضعت السيدة منظارها على عينيها، وأخذت تحدق النظر في فيرونيك مرة أخرى، وعلَّقت تعليقها الجاف قائلة إنها في الحقيقة جميلة جدًّا.

ورد الكونت فريزن بحرارة: سوف تكون أجمل ملكة رأتها فرنسا.

ولكن هذا التعليق لم يلائم أعصاب السيدة المتوترة فقالت بغضاضة: لا يمكنك أن تتصور يا فريزن أن يعطي ملوك فرنسا القدماء أنفسهم مقابل هذه الصفقة.

فرد الكونت باضطراب خفيف: سيدتي، إنَّ ملوك فرنسا القدماء لم يعيشوا في عصر ديمقراطي.

فردت عليه السيدة بفرنسية حادة مكسرة: أنا أكره الديمقراطيين، ولو أنَّ عمنا لويس فيليب كان يظن أنه سيكسب حب الشعب بخروجه في باريس بلا حراس وهو يحمل مظلته فوق رأسه، إلا أن الباريسيين قابلوه على هذا بإعادته إلى إنجلترا، ولا شك أنه وجد أنَّ مظلته هناك أفيد له.

وقطعت حديثها وعادت إلى الموضوع الذي يشغلها: ألا ترى أنَّه شيء مروع، أقصد هذا الزواج يا فريزن؟

فأردف السياسي بتحفظ: إنَّ للضرورة أحكامًا يا سيدتي، بل ما أكثر الزيجات الملكية التي حكمتها الضرورة، ولكن لماذا تعتبرينه شيئًا مروعًا؟

– ملك فرنسا وابنة ألبرت كريستوف!

فرد الكونت فريزن بتأكيد: إنه رجل لا غبار عليه، وتعم شهرته جميع أنحاء أوروبا، وفوق ذلك …

وتوقف عن الكلام ثم ضغط شفتيه على بعضهما، فإن الكلمات التي قالها ما كان يجب أن يتلفظ بها؛ فقد كان سيقول: «وفوق ذلك فإن لويس السابع عشر ملك فرنسا تزوجك أنت انيزدي جامبا الممرضة المجهولة الأصل، أرملة ضابط بالجيش الإنجليزي، فلماذا لا يتزوج لويس التاسع عشر بفيرونيك كريستوف ابنة أحد أصحاب الملايين؟» إلا أنَّ فريزن كان أكثر سياسة من أن يترك مثل هذه الكلمات تخرج من فمه.

وتنهدت السيدة بنفاد صبر وقالت: لو يساعدنا إمبراطوركم أو قداسة البابا، فإنا لا نكون في حاجة إلى معاناة أمر هذا الزواج.

فأردف الأوستوري برزانة: إنَّ إمبراطوري وقداسة البابا مشغولان بمتاعبهما الخاصَّة، ولا يمكنهما الإقدام على هذا ونذير الحرب يملأ الجو في كل مكان.

وردت السيدة باندفاع وحمية: ولكن نداء الدم، دم إمبراطورتكم العظيمة ماري تريز وماري أنطوانت الجميلة الذي يجري في عروق ولدي.

وعادت الابتسامة الساخرة تتراقص على شفتي الدبلوماسي الماهر، وقال: للأسف يا سيدتي! إن نداء الدم ليس أقوى من نداء المال، إنَّ الإمبراطور يساعدك أدبيًّا، وتأكدي أنَّ كل شيء يمكن عمله من الناحية السياسية سيُعمل، وإذا نجح ملك فرنسا في استعادة عرشه، فسنعمل بكل الطرق الدبلوماسية للاحتفاظ به، ولكن لا شك أنك في حاجة إلى المال لتحقيق هذا، إلى مبالغ عظيمة من المال وألبرت كريستوف راغبٌ في تقديمها تحت شرط تستطيعين القيام به، بل ويجب عليك القيام به.

فقالت السيدة بتصميم: ولكن هل أنت متأكد تمامًا من أن البارون كريستوف لا يكفيه أن يعقد الملك لويس زواجه على ابنته بشرط أن يسقط حقها وحق أولادها منه من الإرث والملك شرعًا؟

فهز الكونت رأسه بصبر نافد وهو يقول: لا شيء يكفي كريستوف سوى التاج لابنته، فإذا استوثق من هذا فإنه …

– ماذا؟

– في اليوم الذي يوقَّع فيه عقد قران الآنسة كريستوف بلويس التاسع عشر ملك فرنسا، فإنَّ البارون كريستوف سيضع بين يديك نصف مليار فرنك.

– أواثق من هذا يا فريزن؟

فرد الأوستوري مؤكدًا: كما أنا واثق من أني حي يا سيدتي، ورجائي ألا تشكِّي في هذا مطلقًا، إن كريستوف رجل يوثق بكلامه، وإلا فما كان له أن يصل إلى هذا المركز الذي يحتله.

وابتسم السياسي ابتسامة ذات معنى وتمتم: وعلى كل حال، فمن الناس من يتأخر عن أن يرى ابنته وهي تتوَّج ملكة على فرنسا في مقابل بضعة ملايين، في حين أن لديه منها الكثير!

ولم تزد السيدة شيئًا في ذلك الوقت، وحوَّلت عينيها الجميلتين عن مقصورة البارون كريستوف إلى أسفل الصالة، ودق الجرس مناديًا المتفرجين، فبدءوا يعودون إلى أماكنهم، فقام الكونت فريز مستأذنًا، فمدت السيدة إليه يدها بجلال فقبلها وهو ينحني انحناءة كبيرة، ثم سألها: متى يكون لي الشرف بتقديم الآنسة كريستوف لسموك؟

وكان في نغمة صوته رنة التصميم والعزم، فارتعدت السيدة قليلًا وسحبت يدها وهي تتنهد، وكانت أمهر من أن يخفى عليها أنها سوف تقبل في النهاية؛ فلقد كان الكونت فريزن صديقها، ولكنه فوق كل شيء كان يخدم إمبراطوره الذي كان يرغب حقًّا في هذا الزواج لتتدعم مالية آل بوربون. إنه على حق، ولا بد لها وهي تحلم بقصر «التويلري» لولدها وتتويجه في ريمس من أن تخضع لهذه الظروف، وأخيرًا قالت: سأستقبل الآنسة فيرونيك غدًا. ولكن نبه كريستوف بألا يذكر لابنته شيئًا عن الموضوع قبل أن تخبره.

واكتفى الكونت بذلك، فخرج وكان الأوركسترا قد بدأ في عزف أول قطعة من افتتاحية الفصل الثاني، وشعر بالرضا عن نتيجة مهمته السياسية.

وقال بارتياح: سوف تدق أجراس الزواج قريبًا.

•••

وفي اليوم الثاني دعا البارون كريستوف وابنته فيرونيك لتناول الشاي في فِلَّا إليزابث، ونال البارون شرف تقديم ابنته للسيدة البرنسيس دي بوربون، ولما كانت فيرونيك أوستورية الجنس وفرنسية المولد وفوق ذلك فقد كانت من أشياع الملَكية وتدين بمذهبها وتؤمن بالحق الشرعي للملوك؛ فقد كان الملك الشرعي الوحيد لفرنسا في نظرها هو حفيد الملك لويس السادس عشر.

ولقد كانت التحية والبشاشة اللتان قدمتهما للسيدة البرنسيس أعمق بكثير مما عملته من قبل للإمبراطورة أوجيني؛ فقد كانت تلك التحية وذلك التظرف أشياء لا يستطيع الشخص الذي يريد أن يجعل لنفسه مركزًا في باريس أن يستغني عنها، إلا أن هذا الذي عملته أمام والدة ملك فرنسا كان منبعثًا عن إخلاص صادق، حتى إنَّ السيدة سرعان ما تغير رأيها في الفتاة وفكرت في أن فيرونيك بجمالها وصحتها وشبابها فوق ما فيها من حيوية وقوة؛ تخلق الحياة والنشاط في ولدها الضعيف المخنث، ولقد حمدت الله على توفر هذا الجانب فيها.

وارتاح الكونت فريزن لمجرى الحوادث في ذلك الوقت؛ فقد اغتبط بما لاحظه من دلائل الألفة التي تمت بين السيدة البرنسيس دي بوربون والآنسة فيرونيك كريستوف بعد مقابلتهما الأولى، وسرعان ما أحست السيدة بالارتياح والثقة بالفتاة ودار بينهما الحديث، فذكرت السيدة لها أحلامها وأمانيها وصورت لها ما سوف يحدث عند تتويج ملك فرنسا، وما سيكون عليه قصر التويلري وفرسايل، وقالت: إنَّ قداسة البابا سوف يحضر ليضع تاج القديس لويس على رأس الملك ويباركه، كما سيحضر إمبراطور أوستوريا أيضًا، والواقع أنَّه سيجتمع في الحفل كل الرءوس المتوجة في أوروبا.

وأنصتت فيرونيك لكل هذا وهي مطرقة، وكان فؤادها يرتجف إذ وجد خيالها في كل هذا مادة مشبعة له، ولكن حتى هذا الوقت لم تكن السيدة ولا البارون قد ذكرا شيئًا عن مشروع الزواج للفتاة.

وحدث بعد ذلك أن زارت الفتاة فِلَّا إليزابث وجلست مع السيدة في الشرفة، حيث تطل على منظر جميل فوق الطريق المؤدي إلى ليخنثال، وكانت السيدة كعادتها تتحدث عن فرسايل والتويلري، فقالت: ألا ترين يا عزيزتي أنَّ الإنسان يستطيع أن يعقد استقبالات رائعة في فرسايل؟ إنه مكان مدهش للحفلات مع ذلك المدرج العظيم.

وقالت الفتاة ملاطفة: إنني لم أشاهده مطلقًا يا سيدتي.

وأقرت السيدة: ولا أنا أيضًا، غير أنه يمكنني أن أتصور كم يكون جميلًا بأولئك العظماء الذين يجتمعون فيه ليؤدوا التحية للويس! بل وما أعظم حضور البابا خصيصًا إلى ريمس ليضع التاج على رأس ولدي!

وقالت السيدة بغصة: وعلى كل حال فقد توج بيوس السابع ذلك البونابرتي المحدث الذي لا يمكن أن يكون جديرًا حتى يلعق حذاء لويس.

فغمغمت الفتاة بلهفة: لا بد أن أذهب إلى ريمس، إنها حتمًا ستكون رائعة.

– إنني أكاد أسمع هتافات الشعب القوية، هل تسمعينها يا فيرونيك؟

– وأجابت الفتاة بابتسامة: إنها تطنُّ في أذني.

وفي ذلك الوقت ملأت الجو هتافات بعيدة ظلت ترتفع شيئًا فشيئًا، حتى إذا اقتربت امتزجت بها جلجلة الخيل وقرقعة العجلات، فقفزت فيرونيك على قدميها وجرت إلى طرف الشرفة حيث أمكنها أن تكشف بالنظر طول الطريق، وقالت السيدة: إنه نابليون وأوجيني.

لقد كان الازدحام عظيمًا وكانت الأصوات والهتافات ترتفع إلى عنان السماء مرحبة بنابليون الثالث وهو في أَوْج مجده وأوجيني في عز جمالها.

وتنهدت فيرونيك ثم التفتت إلى السيدة التي نمَّت عيناها الجاحظتان وشفتاها المطبقتان عما يضطرم في نفسها من مرارة قاسية، وكانت أصابعها المرتعشة تمزق أطراف منديلها المطرز، وعادت فيرونيك إليها ثم ركعت على ركبتيها ورفعت أناملها الرقيقة فوق يدَي السيدة المرتعشتين وهمست: سوف لا يبقى هذا طويلًا.

وأردفت السيدة بحرارة: يا إلهي، لا تجعله يبقى طويلًا!

وكانت السيدة تجاهد في ضبط عواطفها وتحاول إخفاء اضطرابها، ولقد أفلحت في هذا إلى حد ما، فأمسكت بيدي فيرونيك كأنها تستمد منهما السلوى، ونظرت في عيني الفتاة الصغيرة وقد امتلأت بالدهشة والإشفاق، ثم تمتمت: أيمكن أن أثق بك يا فيرونيك؟

فاحتجت الفتاة بلطف: سيدتي!

فأتمت السيدة وقد تخلل صوتها الأجش نبرة حنان تحرك القلب: ترين أنَّ أصدقائي الذين أثق بهم قليلون، فليس لديَّ في الواقع غير فريزن، الذي يسير معنا في مشروعاتنا برغبة لا تقلُّ عن رغبتي فيها، ولكن الواحدة تود في بعض الأحيان لو تتحدث مع امرأة مثلها.

فقالت الفتاة برقة: إنَّ هذه الثقة التي تضعينها فيَّ توليني فخرًا عظيمًا.

ولكن السيدة لم تبدأ الحديث مباشرة، بل بقيت جالسة وقتًا ما تنظر إلى الفضاء بعينين ذاهبتين، وبدأت تتكلم بعد لحظة دون أن يقع نظرها على الفتاة التي لم تزل راكعة تحت قدميها، وكأنما كان صوتها لنفسها أكثر منه إلى الفتاة؛ فقد تحركت شفتاها ولكن أفكارها كانت بعيدة عما تتفوه به.

– لم تكن الحالة السياسية في أي وقت بعد موت زوجي العزيز أصلح لنا منها الآن، فإن البونابرتيين يفقدون أتباعهم في وطنهم، وقد أصبحوا مكروهين في كل مكان خارج البلاد، فقد أصبح الإنجليز لا يطيقونهم، وكان ملك بروسيا يترقب الفرص ليعلن عليهم الحرب.

وتوقفت بغتة ثم ألقت بنظرة فاحصة إلى فيرونيك، ثم تمتمت وهي تتنهد تنهدًا طويلًا: آه لو كان لدينا المال!

فبدأت فيرونيك بانفعال: أنا واثقة من أن والدي …

ولكن السيدة لم تدعها تذهب إلى أبعد من هذا؛ فقد استأنفت الحديث كأنما تكلم نفسها: يمكننا أن ننجح، ويجب أن ننجح.

وتمتمت مرة أخرى: سوف يلتف الجيش حول العلم القديم الذي قاد فرنسا إلى النصر، ورجال حصن ستراسبورج جميعهم يتبعوننا، إنَّ ما نحتاج إليه هو المال، المال الذي يجعلنا نبدأ عملنا.

ورفعت يديها ببطء وهي تشير نحو العربة الفخمة التي اختفت عن الأنظار تتبعها الهتافات المتعددة، ثم قالت: انظري إلى هذا البونابرتي كيف دبر الخطط ونظمها للوصول إلى العرش وقد نجح في النهاية، ومن يكون هذا إن لم يكن سوى شحاذ اعتلى أعظم عرش في أوروبا، ذلك العرش الذي يجب أن يختص به ولدي لويس التاسع عشر ملك فرنسا؟

فلما ازداد انفعال السيدة البرنسيس ازداد صوتها قوة واتضحت فيه لهجتها الإسبانية، وإذا بها تسير جيئة وذهابًا في الشرفة لتهدئ من حدة اضطرابها.

وقامت فيرونيك تتبعها وهي لا تقل عنها انفعالًا، وقد حرك الجو الذي أثارته شتائم السيدة المنفعلة الدم حارًّا إلى خدَّي الفتاة، وكان ذهنها يشتغل باحثًا عما يجب أن تفعله لتساعدها وما سوف يفعله والدها عندما تستعطفه وتتعطفه؛ أن سوف يمد يد المساعدة إليها، إنها واثقة من هذا، لو كان يعلم كيف أنها تأثرت منه، إنَّ والدها لا يمكن أن يرفض لها طلبًا ما دامت تطلب منه وتستعطفه بإلحاح.

وضمت فيرونيك يدها إلى صدرها ودعت ربها بحرارة وقوة لم تصدر من قلبها من قبل: يا إله السماء، يا ملك الملوك، سدد خطوات لويس التاسع عشر ملك فرنسا في استعادة عرشه!

•••

بعد ذلك بأيام قلائل أذنت السيدة للبارون بإخبار ابنته بمشروع الزواج المنتظر بلويس التاسع عشر، وانعقد لسان فيرونيك لدى سماعها هذه الأخبار، أتكون ملكة فرنسا؟! إنَّ هذا لا يمكن أن يصدق أحد وقوعه لامرأة، وأغمضت عينيها وحاولت أن تتصور ما يقصد بكل هذا، وعاد إلى ذهنها ما قالته السيدة البرنسيس عن كل تلك الأشياء الجميلة العجيبة الرائعة، التي ستحدث عندما يصبح لويس ملكًا على فرنسا، وتصورت قداسة البابا وهو يرفع بين يديه تاج ماري أنطوانت!

لا يمكن أن يكون هذا حقيقة، لا بد أنه حلم وأن والدها كان يسخر منها، وأنها سوف تستيقظ حالًا وتتحقق من أن كل هذا لم يكن سوى حلم.

وأمسك أبوها بيدها وأخذها على ركبته، وفتحت عينيها وهي تنظر إلى وجهه مسدِّدة نظرها في عينيه، فرأت فيهما بريقًا لم تشاهده من قبل، حب، انفعال، نصر، كل هذه كانت تتلألأ في تينك العينين الشفوقتين اللتين تفيضان حنانًا ورقة.

– صغيرتي فيرونيك، ملكة فرنسا!

واغرورقت عيناها: أهذا حقيقي؟ فأطرق مؤكدًا.

وأحست برغبة في الصياح؛ فقد كانت أصغر بكثير من أن تتحمل أعصابها مثل هذه الصدمة العنيفة، وألقت برأسها على كتف والدها وصرخت، وضحكت، بينما كانت يده تمر برفق على رأسها الصغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤