الفصل الثالث
ومرت على سيرل برتراند أيام تعسة كتلك التي مرت عليه أيام أن كان في باريس، فكان يذهب في كل مكان ينتظر أن يجدها فيه، ولكنه لم يرها لا في الكوراس ولا في الأوبرا ولا في أي مطعم حديث ولا في الكنيسة أيام الآحاد. لقد عادت أيامه السوداء التي عاناها في باريس مرة أخرى، بل إنها كانت أسوأ بكثير، إذ إنه في أي مكان يسير فيه كان يسمع اسمها على الألسن مرتبطًا باسم أخيه غير الشقيق.
غير أنَّ سيرل لم يكن ليعير هذه الشائعات أذنًا صاغية، وكان يرجو ألا يخرج هذا عن أن يكون أراجيف لا صحة لها.
أيمكن أن تكون فيرونيك المعبودة لأخيه الهزيل الضعيف؟! إنَّ فيرونيك له وحده، وتربطه بها قوة الحب العظيمة.
ولَكَمْ فكر في جنون أن يقتحم فِلَّا ماري تريز ثم يلقي بذراعيه حولها ويحملها بعيدًا إلى جزيرة نائية، حيث لا يسمع شيئًا عن هذا الزواج المفزع الذي كان في نظره عبارة عن حياة طويلة تعسة لها.
على أنه لم يكن هناك فائدة من اقتحامه فِلَّا ماري تريز، إذ إنها لم تكن هناك فقد أرسلها البارون كريستوف إلى أقاربها في أوستريا، إذ رأى أنَّ الأصوب لها أن تكون بعيدة عن دكان بادن لمدة قصيرة؛ فقد أدرك من اختباراته أنَّ السيدة البرنسيس متقلبة الأهواء ذات طبع شاذ، وعلى كل حال فقد بان من الأصوب أن تبتعد الفتاة لوقت قصير ثم تُرتَّب مقابلة رسمية بينها وبين خطيبها. والواقع أنَّ السيدة نفسها لم تكن تثق في ولدها، حتى إنَّها رأت هي وكريستوف أنَّ من الخير ألا يتقابل الصغيران إلا حينما يتقرر نهائيًّا أمر مستقبلهما.
•••
وأرسلت السيدة بعد سفر فيرونيك إلى ابنها تطلب إليه الحضور إلى بادن بادن، وحضر إليها وإن كان في الواقع قد حضر بسبب قوي آخر لم يكن ليخطر على بال السيدة حتى ذلك الوقت، لم يكن هذا السبب سوى إلين سان أماند التي عقدت اتفاقًا مع أوبرا بادن بادن، حيث تقوم بالدور الأول في «الباربير» إحدى روايات روسيني الخالدة.
وازدحمت الأوبرا بالمتفرجين، وكان معظمهم من أعلى الأوساط وأرقاها، وكان الإمبراطور نابليون والإمبراطورة قد غادرا بادن، فحضر في تلك الليلة البرنس بسمارك وزوجته والسيدة البرنسيس دي بوربون وكذلك البرنسيس مترنيخ والدوقة موشي والبارون كريستوف مع بعض أصدقائه، ثم البرنس دي بوربون في مقصورة أخرى، وقد حضر أيضًا روسيني نفسه وحوله جماعة من المتملقين، كل منهم مستعد لخلع قفازه الأبيض ليصفق أعلى تصفيق.
وصاح المؤلف الكبير العجوز بأعلى صوته فى آخر المشهد الكبير من الفصل الثاني: برافو إلينا، برافو! وتدلَّى نصف جسمه من المقصورة وهو يلقي بباقة عظيمة من الزهور إلى الممثلة الصغيرة الأولى.
وعندما نزل الستار تقدمت الآنسة سان أماند لتتلقى تحيات المتفرجين، فتساقطت على قدميها باقات من الزهور، كان بينها واحدة مكونة من الزنبق الأبيض ألقيت من مقصورة البرنس دي بوربون أو بالأحرى لويس التاسع عشر ملك فرنسا. وعندما رأته السيدة والدته وهي جالسة في مقصورتها ضغطت على مروحتها بعنف، فانكسرت أحد قضبانها المطعَّمة بالجواهر الثمينة، وقال صوت مشفق من جانب المقصورة: يا للأسف، لقد كانت مروحة جميلة! وكان هذا صوت الكونت فريزن حيث كان يؤدي واجب التحية للسيدة إبان الاستراحة، قال هذا وأردف كلامه بابتسامته الساخرة على وجهه الجميل، وقد لاحظ توتر أعصاب السيدة وانفعالها، وأشارت بمروحتها المتكسرة إلى مقصورة ابنها ملك فرنسا، وقد وقف على قدميه بعد أن خلع قفازه متجهًا مع الجمهور حيث كانت الآنسة سان أماند، ثم قالت بغصة: إنه ذاهب إليها!
فهز فريزن كتفيه كأنما يقول: ولم لا؟
فغمغمت السيدة: ملك فرنسا!
فقال الأوستوري وعلى شفتيه ابتسامته المعروفة: إنَّ ملوك فرنسا يا سيدتي لا يختلفون عن باقي الرجال، بل إنَّ بعض الملوك العظام مثل لويس الرابع عشر …
فاحتجت السيدة: ولكن ليس أمام الجمهور يا فريزن؟
وأردف السياسي بجفاف: لا، إني أظن أنَّ الأسلوب الذي كان متبعًا في تلك الأيام هو أن يطلب صاحب الجلالة السيدة التي يرغب في مصافحتها لتكون بين خاصته، غير أني لا أظنُّ أنَّ هذا يحفظ الكرامة أكثر من هذا الأسلوب الديمقراطي الحديث.
– لا تكلمني عن الديمقراطية يا فريزن وأنت تعلم أني أكرهها، إن لويس ما كان يجب أن يحضر هنا مطلقًا، لقد اعتذر لي عن عدم مجيئه إلى مقصورتي، ولا يعلم إلا الله من يتمسح بكتفه الآن في ذلك الزحام.
ولم يجب السياسي عن هذا بشيء لأنَّه كان يعلم أنَّ التحدث في الموضوع أكثر من هذا لا يجدي، وعلى ذلك فإنَّه بعد لحظات قلائل تحدث عن أشياء أخرى. وعند ذلك علا صوت الجرس وتوافد المتفرجون إلى أماكنهم، وطافت عينا السيدة الجميلة بين جماعات الشبان ذوي الملابس الحديثة الأنيقة، ولكن صاحب الجلالة ملك فرنسا لم يكن بينهم، ولكنها قبل أن تتمكن من إلقاء الكلمات الحادة التي تبادرت إلى شفتيها، كان مدير المسرح قد أعطى إشارة البدء وضرب الأوركسترا أول لحن لمقدمة الفصل الثالث، فقام الأوستوري ليذهب، فقالت السيدة: أريد أن أراك ثانية يا فريزن.
فأردف قائلًا: في خدمتك يا سيدتي.
ثم قبل يدها، فأتمت السيدة: إذن بعد انتهاء الرواية في الفِلَّا، أريد أن أخبرك عن الخطة التي اعتزمت تنفيذها.
•••
ولكن ما كاد الكونت فريزن يفد إلى فِلَّا إليزابث، حتى وجدها لا تزال في درجة شديدة من الانفعال، فما كاد يدخل إلى الغرفة حتى بادرته قبل أن تُقَدِّم له يدها ليقبِّلها بقولها: إنه لم يأت حتى الآن يا فريزن، لقد خبلته ابنة سان أماند.
ولم يفعل الأوستوري أكثر من أن هز كتفيه كأنما يقول: وماذا لو فعل؟ ثم قال بعد ذلك: ولكن أين قابلها جلالته أول مرة؟
وكان السياسي الماهر يدرك أنَّ أعصاب السيدة يمكن أن تهدأ دائما بالكناية عن لويس دي بوربون ﺑ «جلالته»، ولكنها في هذه المرة لم تهدأ ثائرتها، بل أجابت بحدة: في ستراسبورج، لقد كانت تغني في قهوة هناك، لم يكن يفكر أحد فيها، ولكن لويس عمل المستحيل لتوقع عقدًا هنا، ولست أدري كيف تمكن من ذلك، وعلى كل حال فها هي النتيجة.
وكان الخادم قد أحضر القهوة وبعض المشروبات، فجلست السيدة وأخذت قدحًا من القهوة، ولاحظ فريزن أنه يهتز في يدها اهتزازًا ضعيفًا، وأخذت رشفة من فنجانها، وكانت عيناها الداكنتان تتبع حركات الخادم في الغرفة كأنَّما تريد أن تخلص منه، حتى لقد كانت تتراقص على شفتيها كلمة الأمر له بالخروج.
وفكر فريزن وهو يأخذ رشفة كبيرة من فنجانه أنها امرأة لطيفة، ولو أنها متقلبة الأهواء إلا أنها طموحة، ولكن هل تستطيع أن تعمل بتعقل إذا واجهت الفشل؟
وأخيرًا خرج الخادم.
وتنهدت السيدة لتخلصها وقالت بهدوء: اجلس يا فريزن، ولا تدعنا نتكلم بعد عن هذا الموضوع المتعب، اجلس واصغ إليَّ، خذ شيئًا من هذا الشارتريز، إنه طيب جدًّا، اسمع، أريد أن أخبرك عما قررناه وإن كان لديك اعتراض …
وجلس فريزن وفنجان القهوة لا يزال في يده، وأخذ يرتشف منه وهو يفكر مترقبًا، واضطجعت السيدة على مخدة الأريكة وقالت: إنك تعلم أنَّ لويس قد قضى في هذا الصيف وقتًا طويلًا في ستراسبورج، وكنت أرجو أن يتعرف موقفه بين رجال الحصن.
وأومأ فريزن برأسه مشيرًا إلى أنه يعرف هذا. فاستمرت السيدة: حسنًا! لقد عرفنا الآن أنَّ رجال الحصن عن آخرهم من أتباعنا، ولا شك في هذا يا فريزن، فإني واثقة تمامًا مما أتحدث عنه، إن هؤلاء الرجال ليسوا ملكيين فقط، بل إنهم متحمسون للملكية، إنهم يتكونون من فصيلتين؛ إحداهما فصيلة فرسان والأخرى هي الفصيلة الثالثة من الطوبجية، ولقد جهزنا علَم الزنبقة الجميلة، ومن المؤكد تمامًا أن هذه الفصائل ستلتف حول هذا العلم القديم، وعندما يتم كل شيء فإنَّ لويس سيعود إلى ستراسبورج حيث يخطب في الرجال، وستسمع فرنسا كلها صدى هتافاتهم «يعيش الملك».
وتنهدت في تمنٍّ وأمل قائلة: إنني أرجو أن أكون هناك لأسمع هذه الهتافات.
وارتشف الأوستوري قهوته ثم وضع الفنجان فوق المنضدة وسأل: لم لا تفكرين في الذهاب بنفسك؟
فردت السيدة: لا، ليس هذا من الصواب، فربما تشك السلطات، إذ يجب أن تبقى حركات لويس مستورة، وليس من السهل لسيدة أن تعبر الحدود دون أن تستلفت الأنظار.
وتمتم الكونت فريزن: أهذا حق؟
وفكر ولكنه لم يقل: وعلى الأخص سيدة مثلك.
واستأنفت قائلة: كثيرًا ما عبر لويس نهر الرين عند كيل فوق الجسر العائم، فليس عليه خطر كبير هناك.
ثم توقفت، ولقد يظن الإنسان أنها بذلك كانت تقيس مدى تأثير كلامها عليه، غير أنها لم تكن تلقي الكلام على عواهنه، بل كانت تعني كل كلمة تقولها، ولا يشغل فؤادها سوى غرض واحد، وهو الحصول على التاج لولدها. وعلى هذا فإنها لم تلاحظ إعجاب الكونت بجسدها في ذلك الوقت، فقد كانت ترغب في أن تبعث فيه حماسًا لمشروع لويس الذي يشغلها، حتى إذا تشيَّع لفكرتها استطاع أن ينقلها لإمبراطوره ثم لقداسة البابا وفي كل أنحاء أوروبا.
ولقد مر زمن بعيد لم يخطر على بالها فيه أنها ما زالت جميلة وهي في منتصف عمرها، وقد صقل انفعالها نضرة عينيها السوداوين، وبعث في صوتها رنة امرأة غريبة واستأنفت قائلة: في ستراسبورج سيقابل لويس الجنرال ريوفو والكولونيل دي بروك ونوايانت، وأملنا كبير في أنَّ الجنرال أفيلين الذي يقود الفصيلة الثالثة سوف يعلن انضمامه إلينا.
فقال فريزن: إنَّ رجلًا مثل هذا سوف يكون ذخرًا عظيمًا عندما تنجح خطتك.
– سوف تنجح يا فريزن، لا تشك في هذه الخطة مطلقًا، إن لديَّ عزيمة تحرك الجبان.
وأخذ الكونت فريزن قدحًا من الشارتريز وشربه ووضعه ثانية، ثم قال بجفاف: ومتى إذن تتحرك الفصيلة الثالثة من الجيش؟
وأدركت السيدة ملاحظته، وكانت تعلم أنَّ صديقًا مخلصًا شفوقًا مثل فريزن لا بد أن تكون هذه الكلمات القاسية قد بدرت منه رغم إرادته، فأجابت في برود: بعد أن يخطب لويس في رجال الحصن، وسيذهب الكولونيل نوايانت إلى مجلس القرية ومعه شرذمة من جنوده في الصباح المبكر، فيجدون شيخ البلد عندما يكون قد نهض من نومه ليشرب قهوته، وبعد ذلك يكون تحت رحمتهم فيطلبون منه أن يسلم نفسه، وبمجرد أن يتم لهم هذا فإن نوايانت سيتجه بفرقته إلى مقر العمدة ويقبض عليه.
– وبعد ذلك؟
وأردفت السيدة بحدة: وبعد ذلك! وبعد ذلك! إنك تثير سخطي يا فريزن، ألا ترى أنه بالاستيلاء على ستراسبورج يكون مفتاح باريس بل فرنسا أيضًا تحت يدنا؟
ورد السياسي القديم وهو يفكر: بالاستيلاء على ستراسبورج، نعم.
فأتمت السيدة: وسيترك لويس هناك أفليس قائدًا لحامية الحصن، ثم يتخلف مع ضباطه وهيئة أركان حربه إلى الحدود حيث ينتظر رجاله عودته، وسيتخفي ضباطه في ملابس ملكية ويتخطون الحدود معه، وفي ذلك الوقت أكون أنا هنا قد جهزت كل شيء لإتمام عقد القران ولاستقبال صاحب الجلالة ملك فرنسا وحاشيته بما يليق بهم، وبعد عقد القران يعود صاحب الجلالة إلى ستراسبورج ثانية وفي جيبه مليار كريستوف، فيعقد لنفسه قيادة الفصيلة الثالثة، ويزحف إلى باريس مصحوبًا بالابتهال والفرح بعودة ملك فرنسا الشرعي إلى مقر ملكه.
وكان انفعال السيدة يزداد شيئًا فشيئًا وهي تتكلم، وقد كانت معتقدة كل الاعتقاد بنجاح خطتها حتى النهاية، وكان صوتها يعلو شيئًا فشيئًا، واللهجة الإسبانية تتضح فيه بجلاء، وقد ظهر في عينيها السوداوين بريق عجيب، وكانت تقوم من مكانها تذرع الغرفة جيئة وذهابًا، ثم تعود ثانية فتجلس منتصبة القامة وتعدل كتفيها، فيرتفع صدرها الجميل إلى الأمام، وكانت تتلألأ تحت أضواء القناديل خواتمها الثمينة وسوارها المرصع وهي تحرك يدها مؤكدة ما يصدر عنها من أقوال.
وجلس فريزن صامتًا يفكر وقد كان سياسيًّا من المدرسة القديمة، صادق الفراسة واسع الحيلة، فكان من المستحيل أن يُتصور تمامًا ما تخفيه الطلاقة التي تكسو دائمًا وجهه الجميل، والتي حبته بها تربيته العالية. غير أنه لم يسأل السيدة عن الوقت الذي تظن أنها ستبدأ فيه بتنفيذ مشروعها، إلا بعد أن رأى أنَّ السيدة تنتظر منه أن يقول شيئًا وأجابت: إنني لا أعرف الآن، وطبعًا لا بد أن يبدأ بأسرع ما يمكن، ولو أنَّ هناك أشياء ما زالت تحتاج للتفكير فيها وتنظيمها، ولكني أريد أن أعجل بتنفيذ ما تم لنا فيها حتى الآن؛ فلقد سارت الأمور على ما يُرام مع كريستوف والفتاة، ويجب أن يسافر لويس غدًا أو بعد غد إلى ستراسبورج، فأنا لا أريد أن يسير أبعد من هذا مع فتاة سان أماند هذه.
وانفجرت بصبر نافد وهي تبحث بعينيها في وجه صديقها، كأنما تريد إجباره على أن يفصح لها عن حقيقة رأيه: إنَّ ما أخبرتك به يا فريزن ليس إلا مجمل لخطتنا، ولكن أترى أن لويس سيتبع هذه الخطة حتى النهاية؟ يجب أن تنفذ الخطة حالًا بتوقيع عقد الزَّواج، فإنَّ مليار كريستوف يساعدنا في بدء التنفيذ حالًا! هل فهمت؟ ويمكن أن يكون الزفاف بعد ذلك في باريس، والتتويج سيكون بعده بمشيئة الله مباشرة.
وتنهدت تنهُّدًا عميقًا ثم قالت: وعلى كلٍّ يا صديقي، فلن يمضي هذا العام حتى تذهب دولة هذا الإمبراطور وتُقام في ريمس حفلة تتويج الملك لويس التاسع عشر.
فقال الأوستوري في حرارة: ليحقق الله هذا!
وتغيرت حالة السيدة بعد هذا مباشرة؛ فقد كانت هكذا دائمًا حامية الطبع في لحظة باردة في الأخرى، متحمسة متقلبة حتى ليستحيل أن تعرف كيف تأخذها، وقد عراها في هذا الوقت شعور بالمرارة، حتى إنها تنهدت بصبر نافد وقالت: إن ما نحتاجه هو النشاط والحزم.
وكررت هذا مرتين أو ثلاثًا، الحزم والنشاط والتصميم على النجاح.
واحتج فريزن: ولكن جلالته …
وانفجرت السيدة فقاطعته بسخرية مريرة: شاب جذاب، هه؟ يتقن فنون الرقص ويُغرَم بالسحر، إنه جميل الطلعة ومحبوب ولكنه …
وكانت تعبيرات وجهها تشتد حتى أصبحت قاسية، وباتت لا تستطيع أن تستقر على حال، فقفزت مرة أخرى على قدميها وذهبت إلى النافذة ففتحتها بعنف، وكان فريزن لا يزال جالسًا وهو يضغط يديه المشتبكتين بين ركبتيه. وبغتة تحولت السيدة عن النافذة وعادت إليه، ثم جلست ثانية على الأريكة، وعدَّلت طيات ثوبها ثم أخذت مروحة من فوق المنضدة القريبة، وأخذت تعبث بها بحالة مضطربة؛ فقد كانت عصبية تمامًا، وكانت تجري في ذهنها أفكار غريبة، وانطلقت قائلة: إنك لم ترَ ولدي الأكبر يا فريزن، أليس كذلك؟
فقال الأوستوري في دهشة محتشمة: إنني لا أعرف …
فقاطعته بخشونة: إن لي ولدًا آخر، لقد كان زوجي الأول إنجليزيًّا كما تعلم، كان جميلًا كأنما هو تمثال صنعه فيدباس، غير أنه كانت له صلابة التمثال وبروده، وكان يقدس ولنجتون ويتخذه مثلًا أعلى، ولست في حاجة لأن أخبرك ماذا نحمل نحن الإسبانيين لولنجتون هذا. لقد كان مارك متغطرسًا مستبدًّا برأيه، ولم يكن ينظر إلى المرأة أكثر من نظرته إلى كلبه أو حصانه، ولما دفعتني أعماله إلى الثورة عليه، ساقني كما يسوق العبد العاصي بالسوط في يده، ولست أعرف الآن إذا كنت قد أحببته أو كرهته، غير أني أنجبت منه أجمل ولد يمكنك أن تتصوره يا فريزن، ولكني أكرهه!
واكتسى وجه السيدة الباهت الجامد بأفظع تعبير عن الحقد والضغينة، وأحس الكونت فريزن بضيق شديد ولم يعرف ماذا يفعل أو يقول، فإنه لم يرَ طول حياته السياسية امرأة يشتعل بنفسها غضب شديد كهذا.
واستأنفت السيدة: إنه فر من المنزل منذ اثني عشر عامًا، بعد أن أخذ معه من نقودي ما استطاع أن يحمله، وما تصور أنه سيكفي حاجته، ثم عاد إليَّ بعد ثلاث سنوات وقدم إليَّ المال الذي سرقه، أو الذي اقترضه كما كان يقول.
وأتمت السيدة وهي تحاول محاولة واضحة أن تجرد نبرات صوتها من الخشونة: لقد كان أجمل ولد رأته عيناي، كانت سنه وقتذاك تسعة عشر عامًا، وكان يشبهني كل الشبه، كما كان يشبه جلالته كثيرًا، إلا أنه يختلف عنه في القوام؛ فقد كان له قوام أبيه الممشوق، وكان له بروده وغروره واعتداده برأيه، ولكنه رجل يا فريزن، إنه رجل حقًّا.
وسكتت السيدة مرة أخرى، وكان الأوستوري حتى الآن لا يدري ماذا يُراد به، حتى إنه ود لو استطاع أن يستأذن ويهرب، ولكن يظهر أنَّ السيدة في ذلك الوقت لم تكن تشعر بوجوده، وأخيرًا تجاسر وسأل قائلًا: ألم تَرَي الفتى منذ ذلك الحين يا سيدتي؟
فأجابت بحدة: لا.
– ألم تعلمي ماذا جرى له؟
– لا أعلم بالضبط، ولكن الكاردينال بنفنتي، وأظنك تعرفه، لا يزال على ما يظهر له اتصال به؛ فلقد سألته عن سيرل يومًا فقال نيافته إنَّه درس الرَّسم في باريس، وإنه يسعى بجد للحصول على شهرة عظيمة في عالم الفن.
فسأل فريزن: أتقولين سيرل يا سيدتي؟ أيكون ولدك سيرل برتراند؟ أهو ذلك الشاب الرَّسام الذي قام بعمل صورة جميلة للآنسة كريستوف وعُلِّقت في صالة العرض هذا العام؟!
فسألت السيدة ببرود: أهو يرسم صورًا؟ إنني لم أعلم؟
– أؤكد لك يا سيدتي أنَّ شهرة سيرل برتراند قد طبَّقت الآفاق في عالم الفن في باريس. إنني وإن لم أكن قد رأيته فإن النُّقاد يقولون عنه إنه يُرجى منه الخير الكثير؛ لم يكن مادحوه أقل من جان أوجست وأنجر نفسهما، بيد أنَّ فكرة أن سيرل برتراند هو أخو جلالته …
فقالت السيدة بجفاف: إنه أخ غير شقيق لا أكثر، كما لا تنسى أنه إنجليزي وأنا عليمة بأن في هذا خسارة لي.
وبعد هذا حولت السيدة مجرى الحديث بتقلبها المعتاد إلى الصور والأوبرا وغير هذا من الأحاديث التافهة، كأنما كانت تريد أن تمحو من ذهنها كل فكرة عن ولديها. ولما تأخر الوقت قام الكونت فريزن مستأذنًا وتمنى للسيدة مساءً طيبًا، ثم انحنى أمامها انحناءة كبيرة وقبَّل يدها الممدودة بجلال نحوه وكانت لا تزال يدًا جميلة، حتى إنَّ فريزن لم يتمالك نفسه من أن يفكر وهو يمسك بها لو يتوفر لهذه اليد الإرادة والحزم، فكم تكون قاسية لو ضربت!
وبعد دقائق كان واقفًا تحت مظلة باب الفِلَّا، وقد وقف خلفه بلا حراك رئيس الخدم الذي أوصله إلى الباب، فأوقد فريزن لفافة تبغ وذهبت أفكاره مع ما رآه من تلك السيدة الطموح وطفق يفكر.
إنها تطلب السيطرة والانتقام، إنها مديسي أو بورجيا جديدة، كم تكره ولدها! هي تكرهه لأنه جميل وقوي، في حين أنَّ ولدها المختار الذي هو سلالة الملوك ليس إلا مخلوقًا ضعيفًا، آه! حسنًا، سواء أكان هذا ضعيفًا أم غير ضعيف فإن إمبراطوري يرغب في أن يكون على عرش فرنسا، ولذا فيجب علينا جميعًا أن نساعده لنرفعه إليه.
ونزل الكونت فريزن درجات السلم وهو يصفر آخر لحن من ألحان جون ستراس.