الفصل السابع
وصل الكونت فريزن عند ظهر اليوم التالي إلى «بواجولي»، وهو اسم المنزل الصغير الذي تسكنه الآنسة سان أماند، وكان يقع على نفس الطريق الذي يوصل إلى سيتجاند، ولم يجد أي صعوبة في العثور عليه؛ فلقد كان الجميع يعرفونه حتى سائق العربة.
ولما نزل سأله مستفهمًا: هل هذا منزل الآنسة سان أماند؟
– أجل يا سيدي، فإنَّ الآنسة قضت طول حياتها هنا، وقد توفي والداها فيه، وورثته هي عنهما، وهي دائمًا تنزل هنا في الوقت الذي لا تغني فيه، آه يا سيدي! يجب أن تسمعها إنها بلبل حقًّا.
وأمر فريزن الرجل أن يعطي خيله العلف وينتظر لأنه سوف يعود معه ثانية في المساء إلى ستراسبورج. ودخل فريزن حديقة المنزل وهو يحس بأنَّه مُقدم على حرب كلامية ليجتذب لويس إلى جانبه، ودق جرس الباب ففتحته امرأة مليئة متوسطة في العمر، وقالت وهي تبتسم لدى رؤيتها ذلك السيد الحسن البزة قبل أن ينطق هو بحرف: أرجو المعذرة يا سيدي! ماذا يطلب سيدي؟
فأجاب فريزن بابتسامة خفيفة: فقط أريد أن أدخل، وأن تخبري الآنسة سان أماند أن الكونت فريزن يطلب التشرف بمقابلتها.
– سوف أفعل يا سيدي في الحال، إنَّ الآنسة هنا، هل يسمح سيدي بالدخول؟
وتركته في الصالة ثم جرت إلى الداخل، فوضع الكونت قبعته فوق المنضدة وخلع معطفه، ووقف ينتظر، وبعد لحظات عادت المرأة وقد علا وجهها اضطراب وخوف كأنما قد أنَّبتها سيدتها، ثم قالت بصوت خشن تلك الجملة التقليدية: تفضل يا سيدي.
وفتحت أحد الأبواب فدخل الكونت حجرة استقبال أنيقة، ولم يطل انتظاره حتى دخلت الآنسة سان أماند وقد ظهر عليها أنها تملك نفسها تمامًا، وقد ارتدت كعادتها أجمل وأحسن الأزياء، ولاحظ فريزن أن في ترحيبها به والابتسامة على وجهها كأنما كان هو الشخص الوحيد في العالم الذي ترغب في رؤيته، وأخيرًا أتمت في خفة: هل لك أن تجلس؟ أرجو أن يكون لديك من أخبار بادن بادن الشيء الكثير، ولكن قبل كل شيء خبرني ماذا تحب، لا بد أنك متعب وجوعان، إنَّ لديَّ بعض أطباق من «التوكاي» اللذيذ.
وجلس فريزن تبعًا لدعوتها، ثم قال وهو يشير بيده: لا شيء يا سيدتي العزيزة، أشكرك، إنَّ زيارتي يجب ألَّا تطول، إذ لا بد أن أعود إلى ستراسبورج هذا المساء، ولكن قبل كل شيء أرجو أن تخبريني كيف حال جلالته؟
فانتفضت وقد ظهر عليها الاضطراب والدهشة كأنما قد سُئلت سؤالًا غريبًا، وقالت مستنكرة: جلالته؟
وفي اللحظة التالية تغيرت حالتها تمامًا فأطبقت يديها معًا، وسألت في نغمة شديدة الحزن: آه، إنك لم تعلم إذن؟!
– أعلم ماذا؟
– ليس جلالته هنا، لقد كان آتيًا ليقضي بضعة أيام معي هنا؛ فقد كان متعبًا جدًّا وفي حاجة إلى الرَّاحة، ولكن أوه! لست أستطيع أن أخبرك!
قالت هذا وقد طفرت من عينيها الدموع، فأتمت بصوت تحطمه العبرة: إنه فظيع! فظيع جدًّا!
– يا إلهي! ماذا حدث؟!
واستجمعت الآنسة قواها، ومسحت عينيها بمنديل مطرز لطيف، وتقدمت في جلستها إلى الأمام، وضمت يديها معًا كأنما تحاول أن تضبط عواطفها وقالت: لقد اختطف جواسيس نابليون جلالته ونحن في الطريق.
– اختطفوه؟!
وكان فريزن يحملق في الوجه اللطيف المحمرِّ أمامه، وكان من الصعب أن يعرف تمامًا إذا كان قد اضطرب ودُهش، أم أنه يشك في صدق قولها، وذكرت الآنسة له ما جرى لهما في الطريق بكلمات متقطعة، وما انتهت من حديثها حتى غطت وجهها بيديها وانخرطت في بكاء عنيف.
وعلى كلٍّ فقد كان الكونت فريزن يحس بشعور خفي أنها كانت كاذبة، ولكنه لم يقل شيئًا في ذلك الوقت، وانتظر قليلًا حتى إذا لاح له أن ألين قد هدأت نوعًا ما سألها بهدوء: وأين جلالته الآن؟
وقامت بمحاولة لكي تبتلع شهقاتها وتكفكف دموعها، ثم أجابت بصوت مرتعش: لست أعلم! لست أعلم! وإن هذا هو الذي يحزنني ويحطم فؤادي، لقد كان متعبًا، مريضًا، محتاجًا للراحة والعناية، لو كنت أعلم أنَّ هؤلاء القساة يعاملونه بشفقة.
– هؤلاء القساة! أي قساة؟!
– كيف؟! البوليس!
– من أين لك أن تعلمي أنهم كانوا من رجال البوليس؟!
وجاء جوابها سريعًا: إن بيتر سائق عربتي عرف بعضهم.
– كيف؟! في الظلام؟!
– لم يكن الظلام حالكًا، وأنا أذكر أنني قلت لك إننا كنا عند الغسق.
– وأين اتجهت العربة التي أقلت جلالته؟
– لقد سارت العربة بسرعة عظيمة متجهة نحو ستراسبورج.
كان فريزن مقتنعًا بكذبها، ولكنه لم يعرف تمامًا إذا كانت قد فعلت هذا لحساب آخرين ثم أُنقدت عليه، أم أنَّها تعمل هذا لمصلحتها هي، ورأى كلا الاحتمالين معقولًا. وفكر فريزن في الطريقة التي يمكنه بها أن يستخلص منها الحقيقة، ولم يكن قد بدا عليه شيء مما يدور بنفسه، ولكنه أراد أن يكسب الوقت ليقيس بذهنه كل شيء قبل أن يقدم عليه، فأخرج من جيبه صندوق سجائره وأخذ واحدة وهو يقول: هل تسمحين؟
– أوه! طبعًا.
ثم قامت لتحضر علبة الثقاب من آخر الغرفة، وتأملها السياسي وهي تروح وتجيء، وأوقدت له عودًا، ثم رجعت إلى كرسي كبير فغاصت فيه. وأخذ الكونت فريزن نفسين أو ثلاثة من سيجارته قبل أن يعود إلى الكلام، ثم استأنف سائلًا: ألا تستطيعين يا آنسة أن تكوني فكرة عن المكان الذي أخذوا جلالته إليه؟
فردت بجهالة: لا، أبدًا، مطلقًا، وهل تظن أني أبقى هنا ساكتة لو كنت أستطيع أن أعرف أين هو؟
فقال في هدوء: هذا حق.
وسكت لحظة أو اثنتين يدرس وجهها محاولًا أن يتعرف ما تخفيه وراء هذا الأسف المصطنع، ثم قال بصوت هادئ بطيء: إن بعض ذوي المراكز العالية سوف يقدرون تعبك، هل لي أن أقول إذا كشفت عن الموضوع؟
فجلست معتدلة كأنما دِيست كرامتها وقالت في تساؤل: ما الذي تظنه فيَّ يا سيدي المحترم؟
– سيدة صغيرة عظيمة المهارة.
وحدجته بنظرة حادة قابلها بمثلها وعلى فمه ابتسامة ساخرة، ثم قامت واقفة في مكانها بحركة واضحة تشعره بأن يفعل مثلها هو أيضًا، ولكنه تجاهل هذه الحركة، فقالت وهي تنظر إليه بأسف: لا يصح أن نتشاجر يا سيدي المحترم، لقد كنا أصدقاء في بادن بادن، فهل نصبح في عداء بالنسبة لهذا الموضوع الدقيق الذي يهتم به كلانا؟
ومدَّت إليه يدها، فلم يكن هناك بد من أن يقوم فيقبل أطرافها؛ فقد كان أكثر تهذيبًا وسياسة من أن يجهل أنه خسر الموقعة.
ودقت ألين سان أماند الجرس، فجاء خادم وفتح الباب على مصراعيه فخرج فريزن إلى الصالة، وساعده الخادم في لبس معطفه وأعطاه قبعته وعصاه، ثم تقدم ليفتح له الباب الخارجي.
وفي نفس اللحظة صدرت صيحة مثيرة من نفس المنزل وكانت من المرأة المليئة وقد ظهرت في الصالة وهي تعلن في لهفة وانفعال: سيدتي الآنسة، سيدتي الآنسة، لقد وصل ساعي البريد الآن وافدًا من قلعة دايك.
وعند باب حجرة الاستقبال رأت الآنسة سان أماند وقد بُهت وجهها واضطربت عيناها وهي تلهبها بنظرة جاحظة، فاختطفت الخطاب من يد المرأة التي وقفت مبهوتة حائرة، ونظر فريزن نحو ألين فتلاقت أعينهما في لمحة خاطفة كانت كافية لأن يفهم كل شيء، وفي ابتسامة هادئة انحنى لها وهو يهم بالخروج وقد امتزج بنفسه شعور بالنصر.
وعاد الكونت فريزن في نفس المساء إلى ستراسبورج وأخذ القطار السريع في الليل إلى باريس، ولقد كانت الرحلة طويلة ومتعبة، ولكن فريزن كانت لديه أشياء كثيرة يفكِّر فيها فقد تعقد الموقف بشكل محير حتى لقد قضى طول الليل ساهرًا، لقد أدرك أن قصة الآنسة ألين فيها شيء من الصحة، وأنَّ لويس قد اختُطف فعلًا — الشيء الذي لم يصدقه في أول الأمر — وأنه محجوز في قلعة دايك.
إنني كبير الأمل في النجاح فلا تيئسي، إنَّ جلالته في أمان وصحة جيدة، ومن المؤكَّد أن أتصل به في اليومين أو الثلاثة المقبلة، ولا زال لدينا أسبوع نستطيع أن ننتهي فيه من هذه المهمة بخير. لقد سافرت الليلة إلى باريس لمقابلة البرنس مترنيخ، فإن له ذهنًا عجيبًا في تصريف مثل هذه الأمور. إذا كنت تريدين الاتصال بي، فإن سكرتيري وهو لا يزال في فندق ستيفاني تحت أمرك، وسيرسل إليَّ خطابك مع الساعي الخاص الذي يحمل حقيبة بريد السفارة.
وتفضلوا بقبول عميق احترام.